المحاضرة 16: أَرْبَعَةُ احْتِمَالاتٍ

في هذه المحاضرة يقدم لنا د. سبرول عرضًا حول كيفية المضي قدمًا في الطريقة الكلاسيكية لمحاولة إثبات وجود الله. للقيام بذلك، يتبع طريقة، في شكلها الأساسي، أنشأها القديس أوغسطينوس لأول مرة. ينظر د. سبرول باستخدام هذه الطريقة إلى "أربعة احتمالات"، أو الخيارات النظرية، ثم يختبرها لمعرفة ما إذا كانت تنجح في اختبار العقلانية أو تفشل في اختبار العقلانية.

تَنَاوَلْنَا فِيمَا سَبَقَ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي اتَّبَعَهَا اللَّاهُوتِيُّونَ وَالدِّفَاعِيُّونَ الْمَسِيحِيُّونَ لِلدِّفَاعِ عَنْ مِصْدَاقِيَّةِ ادِّعَاءَاتِ الْمَسِيحِيَّةِ. وَتَحَدَّثْنَا عَنِ الْأَزْمَةِ الَّتِي نَشَأَتْ بِسَبَبِ نَقْدِ إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ، وَعَنْ لُجُوءِ الْبَعْضِ إِلَى أَسَالِيبَ تَارِيخِيَّةٍ وَإِثْبَاتِيَّةٍ لِإِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ. حَاوَلَ آخَرُونَ تَأْسِيسَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ عَلَى قَفْزَةِ إِيمَانٍ. وَعَرَضْنَا مُقَدِّمَةً وَجِيزَةً عَنِ الْمَدْرَسَةِ الِافْتِرَاضِيَّةِ فِي الدِّفَاعِيَّاتِ. وَوَعَدَتُكُمْ فِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ بِالْبَدْءِ فِي عَرْضِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَعْمَلُ بِهَا الْمَنْهَجِيَّةُ الْكْلَاسِيكِيَّةُ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ. وَهَذَا مَا سَنَفْعَلُهُ فِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ.

لِإِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ، أُحِبُّ اتِّبَاعَ مَنْهَجِيَّةٍ كَانَ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ أَوَّلَ مَنْ قَدَّمَهَا فِي شَكْلِهَا الْبِدَائِيِّ مُنْذُ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ. ثُمَّ قُمْتُ بِتَعْدِيلِهَا قَلِيلًا مُسْتَخْدِمًا أَفْكَارًا مُتَعَدِّدَةً مُسْتَمَدَّةً مِنْ فَلَاسِفَةٍ وَدِفَاعِيِّينَ عَبْرَ التَّارِيخِ. لَكِنَّ الْمَنْهَجِيَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي اسْتَخْدَمَهَا أُوغَسْطِينُوسُ هِيَ مُحَاوَلَةُ تَقْدِيمِ سَبَبٍ كَافٍ لِتَفْسِيرِ الْوَاقِعِ الَّذِي نَرَاهُ. وَمَا نَقْصِدُهُ بِالسَّبَبِ الْكَافِي هُوَ السَّبَبُ الْقَادِرُ أَنْ يُؤَدِّيَ مُهِمَّتَهُ، أَيْ أَنْ يُقَدِّمَ تَفْسِيرًا مَنْطِقِيًّا لِلْعَالَمِ الَّذِي نَرَاهُ. كَذَلِكَ، تَنَاوَلَ أُوغُسْطِينُوسُ هَذِهِ اَلْمَسْأَلَةَ بِاسْتِخْدَامِ عَمَلِيَّةِ اِسْتِبْعَادٍ، أَيْ دِرَاسَةِ بَدَائِلَ نَظَرِيَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ، ثُمَّ اخْتِبَارِهَا لِرُؤْيَةِ مَا إِذَا كَانَتْ تَنْجَحُ أَمْ تَرْسُبُ فِي اِخْتِبَارِ الْمَعْقُولِيَّةِ.

يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّنَا نَبْدَأُ بِأَرْبَعَةِ احْتِمَالَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ لِتَفْسِيرِ الْوَاقِعِ الَّذِي نَرَاهُ. الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ أَنَّ خِبْرَتَنَا عَنِ الْوَاقِعِ وَهْمٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا. هَذَا أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ أَنَّ الْوَاقِعَ الَّذِي نَرَاهُ مَخْلُوقٌ ذَاتِيًّا. وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ هُوَ أَنَّ الْوَاقِعَ الَّذِي نَرَاهُ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ. وَالِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ هُوَ أَنَّ شَيْئًا ذَاتِيَّ الْوُجُودِ خَلَقَهُ.

أَعْلَمُ أَنَّهُ فِي تَارِيخِ الْفَلْسَفَةِ وَالدِّفَاعِيَّاتِ، وُجِدَتْ مَنْهَجِيَّاتٌ فَرْعِيَّةٌ لِإِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ، لَا تَنْدَرِجُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ وَدَقِيقٍ ضِمْنَ هَذِهِ الْفِئَاتِ. لَكِنَّنِي اسْتَخْدَمْتُ هَذِهِ الْفِئَاتِ الْأَرْبَعَ كَفِئَاتٍ عَامَّةٍ يُمْكِنُ، بِرَأْيِي، أَنْ نُدْرِجَ تَحْتَهَا شَتَّى أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْأُخْرَى. أَيْ إِنَّ شَتَّى أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْأُخْرَى الَّتِي تُثْبِتُ أَوْ تَدْحَضُ وُجُودَ اللَّهِ، أَوْ تُفَسِّرُ الْكَوْنَ الَّذِي نَعْرِفُهُ، يُمْكِنُ إِدْرَاجُهَا ضِمْنَ فِئَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْفِئَاتِ.

فَعَلْتُ ذَلِكَ مَعَ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْمُسْتَمِعِينَ - مَعَ أَسَاتِذَةٍ، وَعُلَمَاءَ، وَفَلَاسِفَةٍ، وَحَتَّى الْآنَ، لَمْ أَلْتَقِ بِأَحَدٍ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى أَنَّ بَدِيلَهُ الْمُفْتَرَضَ لِأَيٍّ مِنْ هَذِهِ الْفِئَاتِ الْأَرْبَعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَرِجَ، بَعْدَ إِعَادَةِ فَحْصِهِ، ضِمْنَ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفِئَاتِ الْأَرْبَعِ. إِذَنْ، لِحَسْمِ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ، سَأَقُولُ إِنَّهُ، بِرَأْيِي، هَذِهِ الْفِئَاتُ الْأَرْبَعُ تُمَثِّلُ قَائِمَةً شَامِلَةً وَعَامَّةً لِكُلِّ التَّفْسِيرَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْوَاقِعِ الَّذِي نَرَاهُ.

سَأَعُودُ إِلَى الْوَرَاءِ لِلَحْظَةٍ، وَأَقُولُ إِنَّنِي ذَكَرْتُ كَثِيرًا أَنَّ أَبْسَطَ حُجَّةٍ تُؤَيِّدُ وُجُودَ اللَّهِ هِيَ: إِنْ كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا، فَاَللَّهُ مَوْجُودٌ. هَذَا اخْتِصَارٌ شَدِيدٌ لِلْحُجَّةِ، وَقَدْ تَجَاوَزْتُ خُطُوَاتٍ كَثِيرَةً دُونَ أَنْ أَقُولَ. لَكِنْ مَا سَأُحَاوِلُ أَنْ أُبَيِّنَهُ لَكُمْ هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا، فَلَا بُدَّ لِشَيْءٍ مَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا بِالضَّرُورَةِ - أَيْ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِقُوَّةِ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ. وَبِدِرَاسَةِ هَذِهِ الْفِئَاتِ الْأَرْبَعِ، سَأُحَاوِلُ أَنْ أُبَيِّنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا، أَوْ إِذَا كَانَ أَيُّ شَيْءٍ مَوْجُودًا، فَالْمَنْطِقُ يَقْتَضِي فِي النِّهَايَةِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَا ذَاتِيَّ الْوُجُودِ.

دَعُونِي أَذْكُرُ أَمْرًا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعَةِ. فَمِنْ بَيْنِ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى السَّبُّورَةِ، يَحْمِلُ خِيَارَانِ فِكْرَةً ذَاتِيَّةَ الْوُجُودِ. فَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ يَقُولُ إِنَّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ هُوَ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ. فَمَثَلًا، أَنَا أُمْسِكُ بِطَبْشُورَةٍ. وَلْنَفْتَرِضْ، عَلَى سَبِيلِ الْجَدَلِ، أَنَّ هَذِهِ الطَّبْشُورَةَ لَيْسَتْ مِنْ نَسْجِ خَيَالِي، وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ بِالْفِعْلِ - أَيْ إِنَّهَا حَقِيقِيَّةٌ. سَيَتَوَجَّبُ عَلَيَّ إِثْبَاتُ ذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ، لَكِنْ لِنَتَجَاوَزِ الْآنَ هَذَا الْجُزْءَ، وَنَتَّفِقْ مَعًا عَلَى وُجُودِ طَبْشُورَةٍ هُنَا. هَذِهِ الطَّبْشُورَةُ هِيَ إِمَّا وَهْمٌ، وَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِعْلًا، وَإِمَّا هَذِهِ الطَّبْشُورَةُ خَلَقَتْ نَفْسَهَا، أَوْ هِيَ ذَاتِيَّةُ الْوُجُودِ، أَوْ وُجِدَتْ نَتِيجَةَ عَمَلِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. إِذَنْ، لِتَقْدِيمِ سَبَبٍ كَافٍ لِوُجُودِ هَذِهِ الطَّبْشُورَةِ الَّتِي أَحْمِلُهَا، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ اَلْمَبَادِئِ اَلْأَرْبَعَةِ صَحِيحًا. يُفِيدُ مَبْدَآنِ بِضَرُورَةِ وُجُودِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. وَإِنْ كَانَ ذَاتِيَّ الْوُجُودِ، فَسَيَكُونُ أَزَلِيًّا، كَمَا أَرْجُو أَنْ أُوَضِّحَ أَيْضًا.

إِذَنْ، يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْبَرَ مُشْكِلَةٍ نُوَاجِهُهَا هِيَ مَعَ الْخِيَارَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَهُمَا أَنَّ الْوَاقِعَ وَهْمٌ، أَوْ أَنَّ الْعَالَمَ الَّذِي نَعْرِفُهُ مَخْلُوقٌ ذَاتِيًّا بِشَكْلٍ مَا. قَبْلَ أَنْ أُتَابِعَ، دَعُونِي أَقُولُ ذَلِكَ: الْبَعْضُ قَالُوا إِنَّ كُلَّ خِبْرَةٍ عَنِ الْوَاقِعِ هِيَ وَهْمِيَّةٌ، أَيْ إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَهْمٌ. سَأَتَحَدَّثُ عَنْ ذَلِكَ، وَأُخَصِّصُ لَهُ مُحَاضَرَةً كَامِلَةً، عَلَى مَا أَرْجُو. لَكِنَّ الْمَبْدَأَ الثَّانِيَ، أَيِ الْفِكْرَةَ الْقَائِلَةَ إِنَّ الْكَوْنَ مَخْلُوقٌ ذَاتِيًّا، هِيَ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ الْبَدِيلُ الْأَكْثَرُ شَعْبِيَّةً وَالَّذِي يَحْظَى بِأَشَدِّ تَأْيِيدٍ لِلْخَلْقِ الْإِلَهِيِّ.

إِذَا كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ، قُلْتُ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ الدَّوْرَةِ إِنَّنِي قَضَيْتُ بَعْضَ الْوَقْتِ أُعَلِّمُ مُقَرَّرًا عَنِ الْإِلْحَادِ، وَأَصْرَرْتُ أَنْ يَقْرَأَ الطُّلَّابُ الْمَصَادِرَ الْأَوَّلِيَّةَ لِأَبْرَعِ الْعُقُولِ فِي الْفِكْرِ النَّظَرِيِّ الْغَرْبِيِّ، الَّذِينَ هَاجَمُوا فِكْرَةَ وُجُودِ اللَّهِ. وَحَلَّلْنَا الْحُجَجَ الَّتِي قَدَّمُوهَا ضِدَّ وُجُودِ اللَّهِ، وَحُجَجَهُمْ اَلْبَدِيلَةَ لِتَفْسِيرِ هَذَا الْكَوْنِ الَّذِي نَعْرِفُهُ. وَحَاوَلْتُ أَنْ أُبَيِّنَ، كَمَا أُحَاوِلُ أَنْ أُبَيِّنَ لَكُمُ الْآنَ، أَنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ تَوَصَّلُوا إِلَى اسْتِنْتَاجِ أَنَّهُ بَدَلًا مِنْ وُجُودِ إِلَهٍ يُفَسِّرُ الْأَشْيَاءَ، وَيُمَثِّلُ سَبَبًا كَافِيًا لِوُجُودِ أَيِّ شَيْءٍ، هَذَا الْكَوْنُ، بِشَكْلٍ مَا، خَلَقَ نَفْسَهُ. مُجَدَّدًا، سَأَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِمَزِيدٍ مِنَ التَفْصِيلِ.

أَوَدُّ الْقَوْلَ إِنَّهُ الْيَوْمَ، مَا يَقْرُبُ مِنْ خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ بِالْمِئَةِ مِنَ الْمُلْحِدِينَ، الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَفْسِيرَ الْعَالَمِ الَّذِي نَعْرِفُهُ، يُؤَيِّدُونَ شَكْلًا مِنْ أَشْكَالِ الْخَلْقِ الذَّاتِيِّ، فِي حِينِ يَقُولُ آخَرُونَ إِنَّ الْكَوْنَ أَوْ هَذِهِ الطَّبْشُورَةَ الَّتِي حَمَلْتُهَا أَمَامَكُمْ، هِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا ذَاتِيَّةُ الْوُجُودِ وَأَزَلِيَّةٌ - أَيْ لَمْ تَكُنْ لِلْكَوْنِ بِدَايَةٌ. تَسْمَعُونَ كَثِيرًا عَنْ فِكْرَةِ الِانْفِجَارِ الْكَبِيرِ، أَوْ عَنْ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنْ عُلُومِ الْكَوْنِيَّاتِ وَعُلُومِ نَشْأَةِ الْكَوْنِ، الَّتِي تَقُولُ إِنَّهُ مُنْذُ نَحْوِ اثْنَي عَشْرَ إِلَى خَمْسَةَ عَشْرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشْرَ مِلْيَارِ سَنَةٍ، وَقَعَ الِانْفِجَارُ الْكَبِيرُ، فَبَدَأَ الْكَوْنُ الَّذِي نَعْرِفُهُ. لَكِنْ لَا تَزَالُ نِسْبَةٌ صَغِيرَةٌ تُؤَيِّدُ أَزَلِيَّةَ الْمَادَّةِ. وَسَيَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا تَنَاوُلُ ذَلِكَ حِينَ نَصِلُ إِلَيْهِ فِي دِرَاسَتِنَا.

لَكِنَّ الْغَالِبِيَّةَ، حَتَّى مِنْ بَيْنِ مُؤَيِّدِي ذَاتِيَّةِ وُجُودِ الْكَوْنِ، يُوَافِقُونَ عَلَى الْأَقَلِّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. وَسَيَكُونُ عَلَيْنَا أَنْ نُحَدِّدَ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ الْأَزَلِيُّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ كَائِنًا رُوحِيًّا وَفَائِقًا وَلَا مَادِّيًّا يُدْعَى اللَّهَ، أَمْ هُوَ الْمَادَّةُ نَفْسُهَا. لَكِنْ مُجَدَّدًا، أُذَكِّرُكُمْ بِأَنَّهُ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْفِئَاتِ الْأَرْبَعِ، تُؤَيِّدُ فِئَتَانِ مَبْدَأَ ذَاتِيَّةِ الْوُجُودِ.

قَدْ يَقُولُ الْبَعْضُ "مَهْلًا! أَعْتَقِدُ أَنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ سَتُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ، لَكِنَّ كُلَّ مَا تَفْعَلُهُ الْآنَ هُوَ التَّحَدُّثُ عَنْ شَيْءٍ مَا ذَاتِيِّ الْوُجُودِ". هَذَا صَحِيحٌ. فَمَا أُحَاوِلُ إِثْبَاتَهُ هُوَ أَنَّ الْمَنْطِقَ يَقْتَضِي تَأْيِيدَ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، لِتَفْسِيرِ وُجُودِ أَيِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَكُونَ مَنْطِقِيًّا وَمُتَّسِقًا إِذَا رَفَضْتَ ضَرُورَةَ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. هَذَا مَا أُحَاوِلُ أَنْ أُوَضِّحَهُ، بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْمِ يَقْتَضِي وُجُودَ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، لِتَفْسِيرِ وُجُودِ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ.

وَطَبِيعَةُ ذَلِكَ الْكَائِنِ الْأَزَلِيِّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ - أَيْ مَا إِنْ كَانَ عَاقِلًا أَمْ غَيْرَ عَاقِلٍ، حَكِيمًا أَمْ أَحْمَقَ، صَالِحًا أَمْ شِرِّيرًا - تَظَلُّ مَحَلَّ نِقَاشٍ. لَكِنَّ الْفِكْرَةَ الرَّئِيسِيَّةَ الَّتِي سَنُعْنَى بِهَا الْآنَ هِيَ الْوُجُودُ أَوْ الْجَوْهَرُ الْفِعْلِيُّ لِكَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. وَمُجَدَّدًا، ذَكَرْتُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَنْهَجِيَّةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ لِلدِّفَاعِيَّاتِ، وَمَا يُعْرَفُ بِالدِّفَاعِيَّاتِ الْإِثْبَاتِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْمَدْرَسَةَ الْإِثْبَاتِيَّةَ تُحَاوِلُ تَقْدِيمَ حُجَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ بِنَاءً عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمَادِّيَّةِ، أَوْ مَا نُسَمِّيهِ بِالْأَدِلَّةِ التَّجْرِيبِيَّةِ، أَيِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَاحَةِ لِلْحَوَاسِّ الْخَمْسِ. نَعْلَمُ أَنَّهُ ثَمَّةَ مَحْدُودِيَّةٌ ضِمْنِيَّةٌ لِلْقِيمَةِ الْإِثْبَاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ التَّجْرِيبِيَّةِ. فَهِيَ لَا تُقَدِّمُ الْبَتَّةَ مَا نُسَمِّيهِ فِي الْفَلْسَفَةِ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، أَوْ الدَّلِيلِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُطْلَقِ، كَالَّذِي يُقَدَّمُ فِي مَجَالِ الرِّيَاضِيَّاتِ، مَثَلًا، وَهُوَ مَجَالٌ قَاطِعٌ تَمَامًا (اثْنَانِ زَائِدُ اثْنَيْنِ يُسَاوِي أَرْبَعَةً). هَذِهِ مُعَادَلَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ، وَتَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ اَلْإِلْزَامِ الْمَنْطِقِيِّ.

سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ أَنَّ الْمَنْهَجِيَّةَ الْكْلَاسِيكِيَّةَ تُحَاوِلُ تَقْدِيمَ دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْكَائِنِ الْأَزَلِيِّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، وَالذَّهَابَ إِلَى أَبْعَدِ مِنْ مُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِيَّةِ، وَبِالتَّالِي فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَمَّا نُسَمِّيهِ بِالْمَنْهَجِيَّةِ الْإِثْبَاتِيَّةِ. أَعْنِي أَنَّهُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ تَقْدِيمِ إِثْبَاتٍ - جَيِّدٍ وَقَوِيٍّ - وَتَقْدِيمِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ. إِذَنْ، نَقُولُ هُنَا إِنَّ مَا نُحَاوِلُ تَقْدِيمَهُ لَكُمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ إِثْبَاتٍ، بَلْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. وَكَيْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنِي الْبَدْءُ بِالطَّبْشُورَةِ، لِأَنَّنِي إِنِ افْتَرَضْتُ وُجُودَ الطَّبْشُورَةِ، أَسَلِّمُ بِالْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، وَبِالْحَقِيقَةِ الْمَادِّيَّةِ لِهَذِهِ الطَّبْشُورَةِ، مِمَّا يُلْقِي بِي فِي الْحَالِ دَاخِلَ دَائِرَةِ مَا هُوَ تَجْرِيبِيٌّ وَحِسِّيٌّ، أَيْ مَا أُدْرِكُهُ بِالْحَوَاسِّ. وَهَذَا لَنْ يُوَصِلَنِي الْبَتَّةَ إِلَى دَلِيلٍ فَلْسَفِيٍّ قَاطِعٍ، بَلْ إِلَى مُجَرَّدِ إِثْبَاتٍ.

لِذَا، عَلَيْنَا أَنْ نَجِدَ نُقْطَةَ بِدَايَةٍ مَنْطِقِيَّةً بَحْتَةً. وَنُقْطَةُ الْبِدَايَةِ الَّتِي سَأُحَاوِلُ إِيجَادَهَا هِيَ وَعْيِي الذَّاتِيُّ. مُجَدَّدًا، سَنَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فِي دِرَاسَةٍ مُنْفَصِلَةٍ. لَكِنْ قَبْلَ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، دَعُونِي أُوَضِّحُ مُجَدَّدًا أَنَّنِي لَا أُحَاوِلُ هُنَا تَقْدِيمَ إِثْبَاتٍ، بَلْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَهُنَاكَ فَرْقٌ. فَالدَّلِيلُ الْمَنْطِقِيُّ يُجْبِرُ الشَّخْصَ الْعَقْلَانِيَّ عَلَى الْإِذْعَانِ لَهُ. دَعُونِي أُكَرِّرُ ذَلِكَ: الدَّلِيلُ الْمَنْطِقِيُّ يُجْبِرُ الشَّخْصَ الْعَقْلَانِيَّ عَلَى الْإِذْعَانِ أَوْ الِاسْتِسْلَامِ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ الْمَنْطِقِيِّ.

قَبْلَ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، يَجِبُ أَنْ أَصْنَعَ تَفْرِقَةً مُهِمَّةً جِدًّا، صُنِعَتْ فِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ طَوَالَ قُرُونٍ. وَكَانَ جُونْ كَالْفِنْ هُوَ قَطْعًا مَنْ نَشَرَهَا، وَهِيَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْإِقْنَاعِ - الدَّلِيلُ وَالْإِقْنَاعُ (لَا أَذْكُرُ إِنْ كُنْتُ قَدْ تَنَاوَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ بِالتَّفْصِيلِ. لَا أَظُنُّ. رُبَّمَا ذَكَرْتُهُ بِشَكْلٍ عَابِرٍ). لَكِنْ أَوَدُّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْوَقْتِ لَهُ الْآنَ - الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْإِقْنَاعِ.

الدَّلِيلُ شَيْءٌ مَوْضُوعِيٌّ، بَيْنَمَا الْإِقْنَاعُ شَيْءٌ شَخْصِيٌّ. يُمْكِنُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُقَدِّمَ دَلِيلًا نَظَرِيًّا قَاطِعًا، وَمُقْنِعًا مَنْطِقِيًّا، وَأَكِيدًا عَقْلِيًّا، لَكِنْ يَرْفُضُ آخَرُ قَبُولَهُ. أَسْتَطِيعُ أَنْ أُثْبِتَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَمِيعُ الْبَشَرِ فَانِينَ، وَكَانَ سُقْرَاطُ إِنْسَانًا، فَدُونَ أَدْنَى شَكٍّ، سَيَكُونُ الِاسْتِنْتَاجُ مِنْ هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَنَّ سُقْرَاطَ فَانٍ. هَذَا اسْتِنْتَاجٌ قَاطِعٌ مَنْطِقِيًّا، فِي ضَوْءِ فَرَضِيَّتَيْهِ. فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْبَشَرِ فَانِينَ، وَكَانَ سُقْرَاطُ إِنْسَانًا، فَلَا مَجَالَ لِلشَّكِّ فِي الِاسْتِنْتَاجِ بِأَنَّ سُقْرَاطَ، بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَبِحُكْمِ مَا دَعَاهُ لُوثَرُ بِالْمَنْطِقِ الَّذِي لَا يُقَاوَمُ، فإنَّهُ فَانٍ. لَكِنْ رُبَّمَا أُثْبِتُ ذَلِكَ بِالْمَنْطِقِ وَالْمُعَادَلَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: "أَنَا مِنْ مَيْزُورِي، وَلَا يُهِمُّنِي كَمْ يَبْدُو ذَلِكَ مَعْقُولًا أَوْ مَنْطِقِيًّا. لَسْتُ أُصَدِّقُ ذَلِكَ. وَلَسْتُ مُقْتَنِعًا. لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، لَيْسَ الْمَنْطِقُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ".

رَوَى جُونْ مُونْتْجُومِرِي قِصَّةً أَعْتَبِرُهَا قِصَّةً تَوْضِيحِيَّةً تُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ. وَهِيَ قِصَّةُ تْشَارْلِي الَّذِي ذَاتَ صَبَاحٍ طَلَبَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ النُّهُوضَ مِنَ الْفِرَاشِ، فَقَالَ لَهَا: "لَا يُمْكِنُنِي النُّهُوضُ وَالذَّهَابُ إِلَى الْعَمَلِ الْيَوْمَ، لِأَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ مِنَ الْفِرَاشِ". فَسَأَلَتْهُ: "لِمَاذَا؟ مَا خَطْبُكَ؟" أَجَابَهَا: "أَنَا مَيِّتٌ". فَقَالَتْ: "تْشَارْلِي، لَا تَكُنْ سَخِيفًا. أَنْتَ تُكَلِّمُنِي الْآنَ. وَأَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَاكَ. فَعَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَانِ، وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ. تَبْدُو لِي بِخَيْرٍ. كَفَاكَ تَكَاسُلًا، وَانْهَضْ مِنَ الْفِرَاشِ، وَارْتَدِ ثِيَابَكَ، وَاذْهَبْ إِلَى الْعَمَلِ". فَأَجَابَهَا: "لَا أَسْتَطِيعُ. فَأَنَا مَيِّتٌ، وَالْمَوْتَى لَا يَعْمَلُونَ، أَلَا تَفْهَمِينَ ذَلِكَ؟" وَهَكَذَا، ظَلَّ تْشَارْلِي مُصِرًّا عَلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ. فَتَصَرَّفَتْ زَوْجَتُهُ بِعَقْلَانِيَّةٍ، وَاسْتَدْعَتِ الطَّبِيبَ. فَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَأَخْرَجَ اَلسَّمَّاعَةَ، وَاسْتَمَعَ إِلَى ضَرْبَاتِ قَلْبِ تْشَارْلِي، ثُمَّ قَالَ: "تْشَارْلِي، عَلَامَاتُكَ الْحَيَوِيَّةُ طَبِيعِيَّةٌ. فَإِنَّ قَلْبَكَ يَنْبُضُ، وَنَبْضَكَ طَبِيعِيٌّ، وَضَغْطَ الدَّمِ جَيِّدٌ. كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّكَ تَمُرُّ بِيَوْمٍ سَيِّءٍ. عَلَيْكَ أَنْ تَنْهَضَ وَتَذْهَبَ إِلَى الْعَمَلِ". فَأَجَابَ: "لَا أُصَدِّقُ هَذِهِ السَّمَّاعَةَ، وَلَا أُصَدِّقُ كَلَامَ هَذَا الطَّبِيبِ. لَا يُمْكِنُنِي الذَّهَابُ إِلَى الْعَمَلِ. فَأَنَا مَيِّتٌ". وَبِرَغْمِ الْجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ الطَّبِيبُ لِيُثْبِتَ لِتْشَارْلِي أَنَّهُ لَيْسَ مَيِّتًا وَأَنَّهُ حَيٌّ، رَفَضَ تْشَارْلِي تَصْدِيقَهُ. وَأَخِيرًا، اسْتَسْلَمَ وَقَالَ لِزَوْجَةِ تِشَارْلِي: "سَيِّدَتِي، لَا يُمْكِنُنِي الْوُصُولُ إِلَى شَيْءٍ مَعَ تْشَارْلِي. يَتَطَلَّبُ الْأَمْرُ طَبِيبًا مِنِ اخْتِصَاصٍ آخَرَ. عَلَيْكِ اِسْتِدْعَاءُ طَبِيبٍ نَفْسِيٍّ". وَهَكَذا، جَاءَ الطَّبِيبُ النَّفْسِيُّ، وَحَاوَلَ مُعَالَجَةَ تْشَارْلِي، وَإِقْنَاعَهُ بِأَنَّهُ مُتَوَهِّمٌ وَغَيْرُ عَقْلَانِيٍّ، وَبِأَنَّهُ حَيٌّ. لَكِنَّ تْشَارْلِي رَفَضَ كُلَّ ذَلِكَ. فَوَضَعَ الطَّبِيبُ النَّفْسِيُّ خُطَّةً، وَقَالَ: "تْشَارْلِي، أَوَدُّ أَنْ تُرَافِقَنِي. سَنَذْهَبُ إِلَى وَسَطِ الْمَدِينَةِ". فَسَأَلَهُ: "إِلَى أَيْنَ؟ وَلِمَاذَا؟" أَجَابَهُ: "سَأَصْطَحِبُكِ إِلَى الْمَشْرَحَةِ، لِأُعْطِيَكَ دَرْسًا عَنِ الْمَوْتَى". فَاصْطَحَبَ تْشَارْلِي إِلَى الْمَشْرَحَةِ، وَقَالَ: "تْشَارْلِي، أَوَدُّ أَنْ تَفْهَمَ أَمْرًا. حِينَ يَمُوتُ النَّاسُ، تَتَوَقَّفُ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَفَقَانِ، وَلَا يَنْزِفُونَ بَعْدُ". ثُمَّ أَخْرَجَ إِحْدَى الْجُثَثِ مِنَ الصُّنْدُوقِ، وَأَمْسَكَ دَبُّوسًا، وَغَرَسَهُ فِي إِصْبَعِ قَدَمِ الْجُثَّةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا دَمٌ. وَقَالَ: "أَرَأَيْتَ يَا تْشَارْلِي؟ الْمَوْتَى لَا يَنْزِفُونَ". فَأَجَابَ تِشَارْلِي "هَذَا مُذْهِلٌ، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ذَلِكَ". فَسَأَلَهُ الطَّبِيبُ: "هَلْ أَنْتَ مُتَأَكِّدٌ؟ وَهَلْ فَهِمْتَ مَا فَعَلْتُهُ لِتَوِّيَ؟" قَالَ تْشَارْلِي: "نَعَمْ، فَهِمْتُ. فَأَنَا رَجُلٌ ذَكِيٌّ، وَأَفْهَمُ مَا فَعَلْتَهُ؟" فَقَالَ الطَّبِيبُ النَّفْسِيُّ: "عَظِيمٌ". ثُمَّ أَضَافَ: "وَالْآنَ يَا تْشَارْلِي، أَعْطِنِي إِبْهَامَ يَدِكِ لِلَحْظَةٍ". فَأَبْرَزَ تْشَارْلِي إِبْهَامَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ اَلطَّبِيبُ دُبُّوسَهُ وَوَخَزَ إِبْهَامَ تْشَارْلِي. وَفِي اَلْحَالِ، ابْتَدَأَ إِبْهَامُ تْشَارْلِي يَنْزِفُ. فَقَالَ اَلطَّبِيبُ "أَتَرَى يَا تْشَارْلِي؟ مَا رَأْيُكَ؟" فَأَجَابَ تْشَارْلِي: "يَا لَلْعَجَبِ! الْمَوْتَى يَنْزِفُونَ فِي النِّهَايَةِ!" تُعْجِبُنِي تِلْكَ الْقِصَّةُ لِأَنَّنَا الْتَقَيْنَا جَمِيعًا بِأَشْخَاصٍ يَرْفُضُونَ الْإِذْعَانَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ الْمَنْطِقِ وَكُلِّ الْأَدِلَّةِ، لِأَسْبَابٍ عَاطِفِيَّةٍ، أَوْ بِسَبَبِ تَحَيُّزٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ لِأَيِّ سَبَبٍ آخَرَ.

هَذَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ جُونْ كَالْفِنْ فِي بِدَايَةِ كِتَابِ "أُسُسُ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ"، فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَهُوَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُقَدِّمُ أَدِلَّةً مَوْضُوعِيَّةً تَسُدُّ أَفْوَاهَ أَشَدِّ الْمُشَاكِسِينَ، وَبِأَنَّهُ فِي الْوَاقِعِ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَبِأَنَّ الْمُؤَشِّرَاتِ أَوْ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَصْلِهِ الْفَائِقِ لِلطَّبِيعَةِ وَاضِحَةٌ جَلِيًّا. لَكِنْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُعَادٍ لِأُمُورِ اللَّهِ، صَارَ لَدَيْهِ تَحَيُّزٌ شَدِيدٌ ضِدَّ حَقِّ اللَّهِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَنْ يَقْتَنِعَ الْبَتَّةَ، مَا لَمْ يُغَيِّرِ اللَّهُ الرُّوحُ الْقُدْسُ مُيُولَ قَلْبِهِ. وَقَالَ كَالْفِنْ إِنَّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، لَيْسَتِ الْمُشْكِلَةُ فِكْرِيَّةً بَلْ أَخْلَاقِيَّةٌ.

أَعْتَرِفُ أَنَّ هَذَا تَحْدِيدًا مَا نُوَاجِهُهُ مَعَ مَسْأَلَةِ وُجُودِ اَللَّهِ. فَوُجُودُ اللَّهِ لَيْسَ مَسْأَلَةً يُمْكِنُ التَّعَامُلُ مَعَهَا بِحِيَادِيَّةٍ. فَكَمَا رَأَيْنَا قَبْلًا فِي هَذَا الْمُقَرَّرِ، الْكَثِيرُ عَلَى الْمِحَكِّ هُنَا، لِأَنَّنَا إِذَا اسْتَطَعْنَا إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ، أَيْ أَنَّ إِلَهَ الْكَوْنِ السَّرْمَدِيَّ مَوْجُودٌ بِلَا شَكٍّ، فَهَذَا يَعْنِي، كَمَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ، أَنَّنِي سَأُقَدِّمُ لَهُ حِسَابًا عَنْ سُلُوكِي وَحَيَاتِي. وَمِنْ أَسْبَابِ رَغْبَةِ الْبَعْضِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ فَرَضِيَّةِ وُجُودِ اللَّهِ هُوَ أَنْ يَتَحَرَّرُوا مِنَ الشُّعُورِ بِالذَّنْبِ وَمِنَ الْمُسَاءَلَةِ.

إِذَنْ، يَرْغَبُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِشِدَّةٍ أَلَّا تَكُونَ الْحُجَّةُ قَاطِعَةً. وَبِالتَّالِي، حَتَّى وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ قَاطِعَةً مِثْلَ الْحُجَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللَّهِ، كَمَا رَأَيْنَا فِي رُومِيَةَ الأصْحَاحِ الأَوَّلِ، حَيْثُ أَعْلَنَ اللَّهُ عَنْ وُجُودِهِ بِوُضُوحٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ. لَكِنْ، لَا تَقْتَضِي مُهِمَّتِي إِقْنَاعَ أَحَدٍ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ. فَلَسْنَا مَدْعُوِّينَ إِلَى إِقْنَاعِ النَّاسِ، بَلْ إِلَى تَقْدِيمِ سَبَبٍ لِلرَّجَاءِ الَّذِي فِينَا. وَنَحْنُ مَدْعُوُّونَ إِلَى أَنْ نَكُونَ أُمَنَاءَ تُجَاهَ هَذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةِ. وَهَذَا مَا سَنُحَاوِلُ فِعْلَهُ فِيمَا نُوَاصِلُ دِرَاسَةَ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي الْمُحَاضَرَةِ الْمُقْبِلَةِ.