المحاضرة 4: مَا هِيَ الصُدْفَةُ؟

بَيْنَمَا نُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِعِلْمِ الْكَوْنِيَّاتِ، وَالْعَلَاقَةِ بَيْنَ اللَاهُوتِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَالْعِلْمِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، الْأَمْرُ الَذِي أَثَارَ الْكَثِيرَ جِدًّا مِنَ الْجَدَلِ، أَعْتَقِدُ أَنَّهُ ثَمَّةَ أَهَمِّيَّةٌ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ أَنْ أُوَضِّحَ أَمْرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنِّي لَسْتُ فِيزْيَائِيًّا، أَوْ عَالِمَ فَلَكٍ. فَأَنَا مُتَخَصِّصٌ فِي اللَاهُوتِ وَالدِفَاعِيَّاتِ. لَكِنِّي أَجْرُؤُ عَلَى التَحَدُّثِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ لِسَبَبَيْنِ. أَوَّلًا، مَعَ أَنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنِ التَخَصُّصِ الشَدِيدِ فِي الْمَجَالَاتِ الْأَكَادِيمِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ دِرَاسَةُ أَيِّ مَجَالٍ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ دُونَ الِاصْطِدَامِ بِمَجَالَاتِ بَحْثٍ أُخْرَى، لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ طَبِيعَةُ الْمَعْرِفَةِ بِرُمَّتِهَا. وَبِصِفَتِي لَاهُوتِيًّا، أَنَا مُهْتَمٌّ بِشِدَّةٍ بِالنَظَرِيَّاتِ الَتِي تُوضَعُ بِشَأْنِ مَسَائِلَ كَالْخَلْقِ، أَيْ مَسَائِلَ تَخُصُّ طَبِيعَةَ الْكَوْنِ وَأَصْلَ الْكَوْنِ. إِذَنْ، اهْتِمَامِي بِالْفِيزْيَاءِ وَعِلْمِ الْفَلَكِ قَاصِرٌ عَلَى أَوْجُهِ تَدَاخُلِ هَذَيْنِ الْمَجَالَيْنِ مَعَ اللاهُوتِ. لَكِنَّ السَبَبَ الْآخَرَ لِانْخِرَاطِي فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ بِقَدْرِ شُعُورِي بِأَنِّي غَيْرُ مُؤَهَّلٍ لِتَقْيِيمِ الْبَحْثِ الِاسْتِقْرَائِيِّ وَالْمُعْطَيَاتِ الَتِي يَسْتَكْشِفُهَا عُلَمَاءُ الطَبِيعَةِ وَيُحَلِّلُونَهَا، لَكِنِّي مُهْتَمٌّ بِفَهْمِ طَرِيقَةِ صِيَاغَةِ هَذِهِ الْأَفْكَارِ. وَاهْتِمَامِي مُجَدَّدًا هُوَ بِالْجَانِبِ الشَكْلِيِّ مِنَ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ، أَيْ جَانِبِ الِاسْتِنْبَاطِ. لَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكُونَ عَالِمَ فِيزْيَاءَ أَوْ أَحْيَاءَ أَوْ كِيمْيَاءَ لِأَتَمَكَّنَ مِنْ تَقْيِيمِ حُجَّةِ الِاسْتِنْتَاجَاتِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ مُعْطَيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. يَأْتِي بِنَا ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْتُ، إِلَى الْجَانِبِ الشَكْلِيِّ، وَهُوَ الْجَانِبُ الَذِي يَنْطَوِي عَلَى اسْتِخْدَامِ الْمَنْطِقِ وَاللُغَةِ، كِلَيْهِمَا. وَنَحْنُ مَعْنِيُّونَ جَمِيعًا بِالسَعْيِ إِلَى التَحَدُّثِ بِطَرِيقَةٍ مُرَتَّبَةٍ وَمُقْنِعَةٍ عَنِ الْأُمُورِ الَتِي نَدْرُسُهَا.

مِنَ الْمُهِمِّ أَنْ نَفْهَمَ شَيْئًا عَنِ الْمَنْطِقِ. الْمَنْطِقُ، وَهُوَ الْجَانِبُ الشَكْلِيُّ مِنَ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ، لَيْسَ لَهُ مُحْتَوى. فَهُوَ لَا يُقَدِّمُ أَيَّ مَعْلُومَاتٍ. وَمَا مِنْ مُعْطَيَاتٍ دَاخِلَ الْمَنْطِقِ. كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْمَنْطِقُ هُوَ قِيَاسُ الْعَلَاقَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ بَيْنَ التَصْرِيحَاتِ. مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، أَرِسْطُو، الَذِي لَمْ يَخْتَرِعِ الْمَنْطِقَ، بَلْ عَرَّفَهُ وَاكْتَشَفَهُ، قَالَ إِنَّ الْمَنْطِقَ نَفْسَهُ لَيْسَ عِلْمًا، بَلْ هُوَ مَا دَعَاهُ "الْأُورْجَانُونْ" (organon)، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ الَتِي مَعْنَاهَا "أَدَاةُ" أَوْ "آلَةُ" كُلِّ عِلْمٍ. دَعُونِي أُكَرِّرُ هَذَا. قَالَ أَرِسْطُو إِنَّ "الْمَنْطِقَ هُوَ ‘أَدَاةُ’ الْقِيَامِ بِكُلِّ بَحْثٍ عِلْمِيٍّ". مَا قَصْدُهُ؟ قَصْدُهُ أَنَّ الْمَنْطِقَ ضَرُورِيٌّ لِإِجْرَاءِ أَيِّ حَدِيثٍ مَفْهُومٍ. إِذَا قُلْتُ لَكُمْ مَثَلًا إِنَّ الطَبْشُورَةَ الَتِي أُمْسِكُهَا بِيَدِي الْآنَ لَيْسَتْ طَبْشُورَةً. إِنْ قُلْتُ: "هَذِهِ الطَبْشُورَةُ لَيْسَتْ طَبْشُورَةً"، فَإِنِّي لَمْ أَقُلْ كَلَامًا مَفْهُومًا. بَلْ نَاقَضْتُ فِي الْفَرْضِيَّةِ الثَانِيَةِ تَصْرِيحِي فِي الْفَرْضِيَّةِ الْأُولَى. إِذَنْ، يُشْبِهُ الْمَنْطِقُ شُرْطِيًّا يَقِفُ فِي الزَاوِيَةِ، وَيَأْتِي بِهِرَاوَتِهِ الْكَبِيرَةِ، فَيَضْرِبُنِي عَلَى رَأْسِي قَائِلًا: "لَا، لَا، لَا، لَا. هَذَا غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ. التَصْرِيحَاتُ الَتِي أَدْلَيْتَ بِهَا غَيْرُ مُتَنَاغِمَةٍ مَعًا مَنْطِقِيًّا". وَإِنْ كُنَّا دَارِسِينَ لِلْمَنْطِقِ، وَبِالتَالِي لِلُّغَةِ، يَجِبُ أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ تَقْيِيمِ التَصْرِيحَاتِ الَتِي يُدْلِي بِهَا الْآخَرُونَ، بِغَضِّ النَظَرِ عَنِ الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ الَذِي يَتَكَلَّمُونَ انْطِلَاقًا مِنْهُ. فَإِنَّنَا مَعْنِيُّونَ بِتَحْلِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ.

نُمَارِسُ جَمِيعًا جَانِبًا آخَرَ مِنَ الْعِلْمِ، يُسَمَّى عِلْمَ التَصْنِيفِ. T-A-X-O-N-O-M-Y. التَصْنِيفَ. إِنْ كُنْتُمْ تَتَذَكَّرُونَ، فِي الْمَرْحَلَةِ الثَانَوِيَّةِ، دَرَسْتُمْ هَذَا الْمُصْطَلَحَ فِي عِلْمِ الْأَحْيَاءِ. أُؤَكِّدُ لَكُمْ أَنَّكُمْ دَرَسْتُمُوهُ. رُبَّمَا نَسِيتُمُ الْمُصْطَلَحَ، لَكِنَّ كَلِمَةَ "تَصْنِيفٍ" تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ أَوْ مَجَالِ التَقْسِيمِ. هَلْ تَذْكُرُونَ مَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فِي عِلْمِ الْأَحْيَاءِ عَنِ الْمَمَالِكِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالرُتَبِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالشُعَبِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ نُقَسِّمُ الْعَالَمَ إِلَى حَيَوَانَاتٍ وَنَبَاتَاتٍ، وَفَقَارِيَّاتٍ وَلَا فَقَارِيَّاتٍ، وَثَدْيِيَّاتٍ وَزَوَاحِفَ، إِلَى آخِرِهِ. وَهَذَا التَقْسِيمُ هُوَ الشُغْلُ الشَاغِلُ لِعِلْمِ التَصْنِيفِ. بَدَأَ هَذَا الْعَمَلُ، بِحَسَبِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، فِي جَنَّةِ عَدْنٍ. فَأَوَّلُ مُهِمَّةٍ عِلْمِيَّةٍ كُلِّفَ بِهَا آدَمُ وَحَوَّاءُ تَعَلَّقَتْ بِالتَصْنِيفِ. فَقَدْ دُعِيَا لِفِعْلِ مَاذَا؟ لِتَسْمِيَةِ الْحَيَوَانَاتِ. وَأَمْكَنَهُمَا فِعْلُ ذَلِكَ بِبَسَاطَةٍ شَدِيدَةٍ. "هَذَا خُلْدُ الْمَاءِ، وَهَذِهِ زَرَافَةٌ، وَهَذَا فِيلٌ، وَهَذَا وَحِيدُ الْقَرْنِ"، إِلَى آخِرِهِ. فَقَدْ وَضَعَا أَسْمَاءً أَوْ تَصْنِيفَاتٍ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ. رُبَّمَا أُبَالِغُ، لَكِنِّي مُقْتَنِعٌ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِرُمَّتِهِ هُوَ فِي النِهَايَةِ لَيْسَ أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ مِنْ عِلْمِ تَصْنِيفٍ بِدَرَجَاتِ دِقَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَحِينَ نَعْرِفُ الْمَزِيدَ وَالْمَزِيدَ عَنِ الْوَاقِعِ، نُمَيِّزُ عَلَى نَحْوٍ أَفْضَلَ وَأَدَقَّ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَشْيَاءِ. وَنَقِيسُ وَنُلَاحِظُ وَنُجَرِّبُ، حَتَّى نَفْهَمَ أَوْجُهَ الشَبَهِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. فَعَلَى الطَبِيبِ الْمُتَمَرِّسِ فِي تَشْخِيصِ الْأَمْرَاضِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَلَمٍ عَادِيٍّ فِي الْبَطْنِ وَسَرَطَانٍ قَاتِلٍ. قَدْ يَكُونُ الِاثْنَانِ، مِنْ حَيْثُ الْأَعْرَاضُ، مُتَشَابِهَيْنِ لِلْوَهْلَةِ الْأُولَى، لَكِنَّهُ يُجْرِي الْمَزِيدَ وَالْمَزِيدَ مِنَ الْفَحْصِ، لَيْسَ فَقَطْ لِتَمْيِيزِ أَوْجُهِ الشَبَهِ بَيْنَ الْأَمْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّمَا أَيْضًا لِاكْتِشَافِ أَوْجُهِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا. هَذَا عِلْمُ تَصْنِيفٍ. وَعِلْمُ الْمَعْرِفَةِ الدَقِيقَةِ.

مَا عَلَاقَةُ ذَلِكَ بِدِرَاسَتِنَا عَنِ الْخَلْقِ؟ أُكْرِّرُ، يَفْعَلُ الْمَنْطِقُ وَعِلْمُ التَصْنِيفِ أَمْرَيْنِ. فَأَوَّلًا، كَمَا ذَكِرْتُ، لَيْسَ لِلْمَنْطِقِ مُحْتَوَى أَوْ مُعْطَيَاتٌ. فَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ فِعْلِيًّا إِثْبَاتَ شَيْءٍ، بَلْ يَسْتَطِيعُ الدَحْضَ. فَهُوَ الشُرْطِيُّ عِنْدَ الزَاوِيَةِ. فَإِنِ اسْتَخْلَصْتُ اسْتِنْتَاجَاتٍ مِنْ مُعْطَيَاتِي، وَكَانَتْ مُتَنَاقِضَةً، يَرِنُّ جَرَسُ إِنْذَارِ الْمَنْطِقِ، وَيَقِفُ الشُرْطِيُّ حَامِلًا هِرَاوَتَهُ، قَائِلًا: "اسْتِنْتَاجُكَ خَاطِئٌ". فَانْتِهَاكَاتُ الْمَنْطِقِ تَدْحَضُ التَصْرِيحَاتِ. وأُكَرِّرُ، مَا يُهِمُّنَا فِي عِلْمِ التَصْنِيفِ هُوَ الْآتِي: خِلَالَ عَمَلِيَّةِ التَصْنِيفِ، نَهْتَمُّ فِعْلِيًّا بِإِظْهَارِ التَفَرُّدِ. التَفَرُّدِ. لِنَأْخُذْ كَلِمَةً مِثْلَ "الْكُرْسِيِّ". إِنْ طَرَحْتُ سُؤَالًا بَسِيطًا: "مَا هُوَ الْكُرْسِيُّ؟" مَا الَذِي سَيَخْطُرُ فِي بَالِكَ؟ قَدْ تَقُولُ: "أَتَخَيَّلُ كُرْسِيًّا مَحْشُوًّا بِالْقُطْنِ. أَوْ أَتَخَيَّلُ كُرْسِيًّا خَشَبِيًّا، أَوْ أَتَخَيَّلُ كُرْسِيًّا بِهِ مَسْنَدَانِ لِلْيَدَيْنِ، أَوْ كُرْسِيًّا مِنَ الْحَدِيدِ، أَوْ كُرْسِيًّا لَهُ مَسْنَدٌ مَنْسُوجٌ"، وَشَتَّى أَنْوَاعِ الْكَرَاسِي فِي الْعَالَمِ. وَمَعَ ذَلِكَ، كَلِمَةُ "كُرْسِيٍّ" تَفْصِلُ شَتَّى أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ عَنْ شَتَّى أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى. نُدْرِكُ وُجُودَ فَرْقٍ بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْفِيلِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجُلُوسُ عَلَى الْفِيلِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ. إِذَنْ، ثَمَّةَ بَعْضُ أَوْجُهِ الشَبَهِ بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْفِيلِ. وَكَيْفَ نَفْرِزُ كُرْسِيًّا مُعَيَّنًا، بِاعْتِبَارِهِ فَرِيدًا وَخَاصًّا؟ يَنْطَوِي ذَلِكَ عَلَى النَظَرِ إِلَى الشَيْءِ، وَمُلَاحَظَةِ أَوْجُهِ الشَبَهِ أَوَّلًا، مُقَسِّمِينَ الْأَشْيَاءَ وَفْقَ أَوْجُهِ الشَبَهِ بَيْنَهَا. هَذَا كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ التَصْنِيفِ. ثُمَّ بَعْدَ تَقْسِيمِهَا وَفْقَ أَوْجُهِ الشَبَهِ بَيْنَهَا، مَاذَا نَفْعَلُ؟ نَفْصِلُ بَيْنَهَا وَفْقَ أَوْجُهِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا. وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِطَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا بِسُهُولَةٍ، فَتُصْبِحُ لُغَتُنَا مُبْهَمَةً، وَأَحْيَانًا غَيْرَ مَنْطِقِيَّةٍ.

مَا أَوَدُّ التَحَدُّثَ عَنْهُ الْيَوْمَ هُوَ اللُغَةُ الَتِي تُسْتَخْدَمُ فِي الْمُجْتَمَعِ الْحَدِيثِ لِلْحَدِيثِ عَنِ "الصُدْفَةِ". ذَكَرَتُ أَنَّ الصُدْفَةَ لَيْسَتْ شَيْئًا. فَهِيَ بِلَا قُوَّةٍ، لِأَنَّهَا بِلَا كَيْنُونَةٍ. وَمَعَ ذَلِكَ، نَجِدُ أُنَاسًا يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ "الصُدْفَةِ" كَثِيرًا وَكَأَنَّ "الصُدْفَةَ" شَيْءٌ، وَلَيْسَتْ فَقَطْ شَيْئًا، بَلْ شَيْءٌ قَوِيٌّ بِمَا يَكْفِي لِخَلْقِ الْكَوْنِ بِأَكْمَلِهِ. إِذَنْ، السُؤَالُ الَذِي أَطْرَحُهُ الْيَوْمَ هُوَ: مَا مَعْنَى "صُدْفَةٍ"؟ قُلْتُ بِاخْتِصَارٍ فِي مُحَاضَرَتِنَا السَابِقَةِ إِنَّ كَلِمَةَ "الصُدْفَةِ" (chance) هِيَ كَلِمَةٌ مَشْرُوعَةٌ وَنَافِعَةٌ فِي مُفْرَدَاتِنَا وَفِي لُغَتِنَا لِوَصْفِ الِاحْتِمَالَاتِ الْحِسَابِيَّةِ. فَمِنَ الْمُهِمِّ فَهْمُ الِاحْتِمَالَاتِ الْإِحْصَائِيَّةِ فِي الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنْ نَوَاحِي حَيَاتِنَا. فَإِنَّنَا نَسْأَلُ: "مَا احْتِمَالَاتُ حُدُوثِ هَذَا الْأَمْرِ أَوْ ذَاكَ؟" هَذَا سُؤَالٌ مَشْرُوعٌ. أَوْ نَسْتَخْدِمُ كَلِمَةَ "صُدْفَةٍ" (chance) مَثَلًا فِي أَحَادِيثِنَا الْعَادِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَحْدَاثٍ مُعَيَّنَةٍ تَقَعُ دُونَ سَبَبٍ مُحَدَّدٍ مَعْرُوفٍ. فَنَتَحَدَّثُ عَنْ "لِقَاءٍ بِالصُدْفَةِ"، أَوْ "مُقَابَلَةٍ بِالصُدْفَةِ". فِي الْعَامِ الْمَاضِي، دَخَلْتُ مَحَطَّةَ الْقِطَارِ، مَحَطَّةَ يُونْيُونْ سْتَايْشَنْ بِشِيكَاغُو، فِي التَاسِعَةِ صَبَاحًا. وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَتَمَشَّى دَاخِلَ مَحَطَّةِ الْقِطَارِ، بَيْنَ حُشُودِ النَاسِ النَازِلِينَ مِنَ الْقِطَارَاتِ وَالصَاعِدِينَ إِلَيْهَا، تَعَرَّفْتُ فَجْأَةً عَلَى رَجُلٍ يَحْمِلُ حَقِيبَةً، لَمْ أَكُنْ قَدْ رَأَيْتُهُ مُنْذُ 15 سَنَةً. فَقُلْتُ: "آلْ، كَيْفَ حَالُكَ؟" كَانَ هَذَا هُوَ مَنْ صَمَّمَ رَسْمَ مِسْتِرْ بِينَاتْ (Peanut). وَاعْتَدْنَا تَسْمِيَتَهُ رَجُلَ مِسْتِرْ بِينَاتْ. قُلْتُ: "آلْ، كَيْفَ حَالُكَ؟" فَقَالَ "آرْ. سِي.!" وَكَانَ لِقَاؤُنَا بِالصُدْفَةِ وِدِّيًّا وَلَطِيفًا. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَمَلِهِ، وَذَهَبْتُ لِأُمْضِيَ الْيَوْمَ فِي شِيكَاغُو. وَإِذْ كُنْتُ مُسَافِرًا إِلَى لُوسْ أَنْجِلُوسْ فِي تِلْكَ اللَيْلَةِ فِي الْقِطَارِ الْمَسَائِيِّ، عُدْتُ إِلَى مَحَطَّةِ شِيكَاغُو نَحْوَ السَاعَةِ الْخَامِسَةِ، وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَتَمَشَّى فِي الْمَحَطَّةِ، بِمَنْ الْتَقَيْتُ بِرَأْيِكُمْ؟ بِالرَجُلِ نَفْسِهِ. كَانَ عَائِدًا مِنْ عَمَلِهِ إِلَى ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ. كَانَ اللِقَاءُ بِالصُدْفَةِ، لَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ بِلَا سَبَبٍ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّنِي لَمْ أَذْهَبْ إِلَى يُونْيُونْ سْتَايْشِنْ بِشِيكَاغُو بِهَدَفِ الِالْتِقَاءِ بِآلْ يَانْجْرِنْ (Al Jungren). وَهُوَ لَمْ يَأْتِ إِلَى يُونْيُونْ سْتَايْشَنْ بِشِيكَاغُو بِهَدَفِ الِالْتِقَاءِ بِي. وَلِأَنَّ أَيًّا مِنَّا لَمْ يُخَطِّطْ لِلتَوَاجُدِ فِي الْمَكَانِ نَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ التَارِيخِ، نَقُولُ إِنَّ اللِقَاءَ كَانَ "صُدْفَةً"، لِأَنَّ أَيًّا مِنَّا لَمْ يُخَطِّطْ لَهُ. لَكِنَّ هَذَا لَا يُسَاوِي قَوْلَنَا إِنَّ وُجُودَنَا فِي الْمَكَانِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ بِلَا سَبَبٍ أَوْ هَدَفٍ. بَلْ بِبَسَاطَةٍ، كَانَ لِقَاؤُنَا تَقَاطُعًا بَيْنَ أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

إِذَنْ، يَجِبُ أَنْ نَحْرِصَ عَلَى إِدْرَاكِ وُجُودِ اسْتِخْدَامٍ مَشْرُوعٍ لِكَلِمَةِ "صُدْفَةٍ". وَلِلْأَسَفِ، مَا يَحْدُثُ فِي مَجَالِ الْمَنْطِقِ هُوَ أَنَّ خَطَأً مَاكِرًا يُرْتَكَبُ، وَهُوَ مُغَالَطَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمَنْطِقِ، نُسَمِّيهَا مُغَالَطَةَ الِالْتِبَاسِ اللَفْظِيِّ. يَحْدُثُ الِالْتِبَاسُ اللَفْظِيُّ فِي حُجَّةٍ مَا حِينَ يَتَغَيَّرُ مَعْنَى اللَفْظِ، بِشَكْلٍ غَيْرِ مَلْحُوظٍ تَمَامًا، فِي وَسَطِ الْكَلَامِ. الْمِثَالُ الْمُفَضَّلُ لَدَيَّ لِهَذَا - سَرِيعًا - هُوَ الْقِيَاسُ الِاقْتِرَانِيُّ الْقَدِيمُ الَذِي يُثْبِتُ أَنَّ لِلْقِطَّةِ تِسْعَةَ أَذْيَالٍ. أَسْأَلُ النَّاسَ: "هَلْ لِلْقِطَّةِ تِسْعَةُ أَذْيَالٍ؟" فَيُجِيبُونَ: "لَا". فَأَقُولُ: "حَسَنًا، يُمْكِنُنِي أَنْ أُثْبِتَ لَكُمْ أَنَّ لِلْقِطَطِ تِسْعَةَ أَذْيَالٍ". فَيَقُولُونَ: "لِنَرَ كَيْفَ". فَأَقُولُ: "حَسَنًا، هَلْ لِلْقِطَطِ ثَمَانِيَةُ أَذْيَالٍ؟" فَيُجِيبُونَ: "لَا". فَأَقُولُ: "حَسَنًا، هَلْ لِأَيَّةِ قِطَّةٍ ثَمَانِيَةُ أَذْيَالٍ؟" فَيُجِيبُونَ: "لَا". فَأَقُولُ: "إِذَنْ، أَوَّلُ فَرَضِيَّةٍ هِيَ ‘لَا قِطَّةَ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَذْيَالٍ’". فَيُوَافِقُ الْجَمِيعَ. ثُمَّ أَقُولُ: "حَسَنًا، لَدَيَّ صُنْدُوقَانِ هُنَا. أَحَدُهُمَا فَارِغٌ، وَالْآخَرُ يَحْوِي قِطَّةً. كَمْ يَزِيدُ عَدَدُ الْأَذْيَالِ فِي الصُنْدُوقِ الَذِي يَحْوِي الْقِطَّةَ عَنْ عَدَدِ الْأَذْيَالِ فِي الصُنْدُوقِ الْفَارِغِ؟" هَذِهِ عَمَلِيَّةٌ حِسَابِيَّةٌ بَسِيطَةٌ. مَا الْجَوَابُ؟ كَمْ يَزِيدُ عَدَدُ الْأَذْيَالِ فِي هَذَا الصُنْدُوقِ عَنْ هَذَا الصُنْدُوقِ؟ قِطَّةٌ هُنَا، وَلَا قِطَّةَ هُنَا. ذَيْلٌ وَاحِدٌ إِضَافِيٌّ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ إِذَنْ، لَدَى قِطَّةٍ وَاحِدَةٍ ذَيْلٌ وَاحِدٌ أَكْثَرُ مِنْ "لَا قِطَّةٍ". وَإِنْ كَانَ لَا قِطَّةَ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَذْيَالٍ، وَلَدَى قِطَّةٍ وَاحِدَةٍ ذَيْلٌ وَاحِدٌ أَكْثَرُ مِنْ لَا قِطَّةٍ. نَكُونُ قَدْ أَثْبَتْنَا الْمَطْلُوبَ إِثْبَاتُهُ، أَنَّ لَدَى قِطَّةٍ وَاحِدَةٍ تِسْعَةَ أَذْيَالٍ. مَاذَا حَدَثَ الْآنَ؟ أَتُصَدِّقُونَ ذَلِكَ؟ أَتُصَدِّقُونَ مَا حَدَثَ؟ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ الْخَادِعَةِ هُوَ أَنَّ عِبَارَةَ "لَا قِطَّةَ" تَغَيَّرَ مَعْنَاهَا فِي مُنْتَصَفِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا مَا يَحْدُثُ مَعَ كَلِمَةِ "الصُدْفَةِ".

أَوَدُّ التَنْوِيهَ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْفَلْسَفِيِّ مِمَّنْ لَدَيْهِمْ مَا يَقُولُونَهُ عَنْ لُغَةِ الصُدْفَةِ. أَوَّلًا، أَدْلَى بُولْ جَانِي بِهَذَا التَعْلِيقِ: "الصُدْفَةُ كَلِمَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَعْنَى، مِنْ صُنَعِ جَهْلِنَا". سَأَعْتَرِضُ قَلِيلًا عَلَى جَانِي، لِأَنَّ كَلِمَةَ "صُدْفَةٍ" لَيْسَتْ خَالِيَةً مِنَ الْمَعْنَى. سَبَقَ أَنْ رَأَيْنَا أَنَّ لَهَا مَعْنًى. فَهِيَ كَلِمَةٌ مُلَائِمَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْلِ الِاحْتِمَالَاتِ. لَكِنْ مَا يَقْصِدُهُ بُولْ جَانِي هُنَا هُوَ أَنَّ الصُدْفَةَ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَعْنَى إِنْ قَصَدْنَا بِهَا "شَيْئًا يُمَارِسُ قُوَّةً فِعْلِيَّةً". وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهَا مِنْ صُنْعِ جَهْلِنَا. يَقُولُ جَاكْ بُوسْوَيْهْ (Jacques Bossuet): "دَعُونَا نَكُفُّ عَنِ التَحَدُّثِ عَنِ الصُدْفَةِ، أَوْ الْحَظِّ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ لِنَتَحَدَّثَ عَنْهَا فَقَطْ لِإِخْفَاءِ جَهْلِنَا". دَافِيدْ هِيُومْ، الْفَيْلَسُوفُ الْاسْكُوتْلَنْدِيُّ الْعَظِيمُ، أَدْلَى بِهَذَا التَعْلِيقِ: "لَيْسَتِ الصُدْفَةُ سِوَى جَهْلِنَا بِالْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ". هَؤُلَاءِ الثَلَاثَةُ عَبَّرُوا فِعْلِيًّا عَنِ الْفِكْرَةِ نَفْسِهَا، وَاسْتَخْدَمُوا الْكَلِمَةَ نَفْسَهَا لِوَصْفِ الِاسْتِعْمَالِ الْخَاطِئِ لِكَلِمَةِ "صُدْفَةٍ". وَمَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ؟ كَلِمَةُ "جَهْلٍ". فَحِينَ نَقُولُ إِنَّ الصُدْفَةَ تَسَبَّبَتْ فِي شَيْءٍ مَا، نَقْصِدُ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ سَبَبَهُ، وَأَنَّنَا نَجْهَلُ سَبَبَ حُدُوثِهِ. فَإِنَّنَا نُعَبِّرُ لَيْسَ عَنْ شَكْلٍ جَدِيدٍ مِنَ السَبَبِيَّةِ السِحْرِيَّةِ، بَلْ نُعَبِّرُ عَنْ جَهْلِنَا.

كَيْفَ يَحْدُثُ ذَلِكَ؟ وَمَا مُشْكِلَتِي مَعَ اللُغَةِ الْغَامِضَةِ الَتِي تَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ الْأَوْسَاطِ فِي مُجْتَمَعِنَا؟ حِينَ تَمَّ إِطْلَاقُ التِلِسْكُوبِ الْفَضَائِيِّ "هَابِلْ" مُنْذُ بِضْعِ سَنَوَاتٍ، كُنْتُ أَقُودُ سَيَّارَتِي عَلَى الطَرِيقِ السَرِيعِ، وَانْدَهَشْتُ لِسَمَاعِي الْمُذِيعِ يَقْتَبِسُ كَلِمَاتِ عَالِمِ فِيزْيَاءَ شَهِيرٍ جِدًّا فِي أَمْرِيكَا، وَهُوَ عَالِمُ فِيزْيَاءَ فَلَكِيَّةٍ، مُعَبِّرًا بِطَرِيقَةٍ شَاعِرِيَّةٍ عَنْ آمَالِهِ بِشَأْنِ مَا قَدْ يُحَقِّقُهُ التِلِسْكُوبُ، ثُمَّ أَدْلَى بِهَذَا التَعْلِيقِ: "مُنْذُ ما بَيْنَ 15-18 مِلْيَارَ سَنةٍ، تَفَجَّرَ الْكَوْنُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ". وَبِصِفَتِي مُهْتَمًّا بِالْوُجُودِيَّاتِ، وَبِعِلْمِ الْوُجُودِ وَالْفَلْسَفَةِ وَاللَاهُوتِ، كِدْتُ أَتَعَرَّضُ لِحَادِثِ سَيَّارَةٍ. قُلْتُ: "مَاذَا يَقُولُ؟" هَذَا عَالِمُ فِيزْيَاءَ فَلَكِيَّةٍ بَارِعٌ، لَكِنَّهُ غَفَا هُنَا. قَالَ: "مُنْذُ ما بَيْنَ 15-18 مِلْيَارَ سَنَةٍ، تَفَجَّرَ الْكَوْنُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ". حَسَنًا، وَمِمَّ تَفَجَّرَ؟ مِنَ الْعَدَمِ؟ أَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الِانْفِجَارِ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الِانْفِجَارِ، فَمَا الَذِي انْفَجَرَ؟ أَتَفْهَمُونَ مَا أَقُولُ؟ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِيزْيَائِيًّا، أَوْ عَالِمَ فَلَكٍ، لِتَرَى أَنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِلَا مَعْنى. فَسَيَأْتِي الشُرْطِيُّ مِنَ الزَاوِيَةِ وَيَقُولُ: "مَهْلًا، أَدْلَيْتَ لِتَوِّكَ بِتَصْرِيحٍ خَاطِئٍ تَحْلِيلِيًّا".

دَعُونِي أُعْطِيكُمْ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ الْأُخْرَى. أَدْلَى عَالِمٌ حَاصِلٌ عَلَى جَائِزَةِ نُوبِلْ بِتَعْلِيقٍ مَفَادُهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَهَذَا الْعَصْرِ، لَمْ يَعُدْ بِإِمْكَانِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالتَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ. سُرِرْتُ لَدَى سَمَاعِي ذَلِكَ. ثُمَّ تَابَعَ قَائِلًا إِنَّ الْعِلْمَ الْيَوْمَ يَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نُؤْمِنَ بِتَوَلُّدٍ تِلْقَائِيٍّ تَدْرِيجِيٍّ. وَمُجَدَّدًا، أَصَابَنِي الذُهُولُ. قُلْتُ: "تَوَلُّدٌ تِلْقَائِيٌّ تَدْرِيجِيٌّ؟" فَلَا يُمْكِنُ لِشَيْءٍ أَنْ يُوجَدَ فَجْأَةً وَبِسُرْعَةٍ وَتِلْقَائِيًّا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. فَكَيْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، يَسْتَغْرِقُ الْأَمْرُ وَقْتًا. وَأَيَّدَ حَاصِلٌ آخَرُ عَلَى جَائِزَةِ نُوبِلْ هَذَا الِاقْتِرَاحَ مُدْلِيًا بِالتَعْلِيقِ التَالِي: "لَيْسَ عَلَيْنَا سِوَى الِانْتِظَارِ. فَالْوَقْتُ يَصْنَعُ الْمُعْجِزَةَ. وَالْمُسْتَحِيلُ يَصِيرُ مُمْكِنًا. وَالْمُمْكِنُ مُحْتَمَلًا. وَالْمُحْتَمَلُ أَكِيدًا. وَمَا يَبْدَأُ مُسْتَحِيلًا يُصْبِحُ أَكِيدًا بِمُعْجِزَةٍ. وَالْمُعْجِزَةُ يَصْنَعُهَا عَامِلُ الْوَقْتِ الْمُسَبِّبِ". وَمَا هُوَ الْوَقْتُ؟ مَا وَزْنُهُ؟ وَمَا أَبْعَادُهُ؟ وَمَا هِيَ حَالَتُهُ الْوُجُودِيَّةُ؟ لَيْسَ الْوَقْتُ شَيْئًا. وَلَيْسَ لِلْوَقْتِ قُوَّةٌ. وَلَيْسَ لِلْوَقْتِ كَيْنُونَةٌ. لَكِنَّنَا نَعُودُ هُنَا مُجَدَّدًا إِلَى السِحْرِ لِأَنَّ هَذَا الرَجُلَ يُخْبِرُنَا بِأَنَّهُ يُمْكِنُ لِلتَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ أَنْ يُحْدِثَ إِذَا أُتِيحَ لَهُ مَا يَكْفِي مِنَ اللَا شَيْءِ. أَرَى الْأَمْرَ كَالتَالِي: الْمَكَانُ زَائِدُ الْوَقْتِ زَائِدُ الصُدْفَةِ. لَا أَعْلَمُ عَدَدَ الْأَشْخَاصِ، الَذِينَ يُفْتَرَضُ أَنَّهُمْ بَارِعُونَ، الَذِينَ سَمِعْتُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ هَذِهِ الْمُعَادَلَةَ لِلْخَلْقِ. الْمَكَانُ زَائِدُ الْوَقْتِ زَائِدُ الصُدْفَةِ يُسَاوِي الْكَوْنَ. هَذَا فَقَطْ مَعْنَاهُ أَنْ لَا شَيْءُ زَائِدُ لَا شَيْءٍ زَائِدُ لَا شَيْءٍ يُسَاوِي كُلَّ شَيْءٍ. بَلَغَ الْأَمْرُ الْحَضِيضَ حِينَ تَلَقَّيْتُ رِسَالَةً مِنْ عَالِمٍ قَرَأَ كِتَابِي بِعُنْوَانِ "Not a Chance"، حَيْثُ اعْتَرَضَ عَلَى انْتِقَادِي لِفِكْرَةِ اللَا شَيْءِ، وَأَخْبَرَنِي فِي رِسَالَتِهِ بِأَنَّ الْعِلْمَ صَارَ بِإِمْكَانِهِ تَحْدِيدُ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ اللَا شَيْءِ. أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ: "بِمَ يَتَمَتَّعُ النَوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ اللَا شَيْءِ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنِ النَوْعِ الثَانِي فِي تَصْنِيفَاتِ اللَا شَيْءِ؟ وَبِمَ يَتَمَتَّعُ النَوْعُ الثَانِي مِنَ اللَا شَيْءِ لَكِنَّ النَوْعَ الْأَوَّلَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ؟ مَا الْجَوَابُ؟ لَا شَيْءَ. إِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: "لَدَيْنَا خَمْسَةُ تَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلَّا شَيْءِ"، فَهَذَا تَصْرِيحٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّ التَحَدُّثَ بِكُلِّ رَزَانَةٍ عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ اللَا شَيْءِ إِنَّمَا يُظْهِرُ إِخْفَاقَ الْجَانِبِ الِاسْتِنْبَاطِيِّ مِنَ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ فِي أَنْ يَسُودَ فِي يَوْمِنَا هَذَا.