المحاضرة 6: المبادرة الإلهية
في هذهِ الْمُحاضَرَةِ، أُرِيدُ التَّعمُّقَ فِي دراسَةِ ما نُسَمِّيهِ في عِلْمِ اللَّاهوتِ بِالْمُبادَرَةِ الإِلَهِيَّةِ، إِشارَةً إِلَى خُطْوَةِ الْخلاصِ الأُولَى الَّتي يتَّخِذُها اللهُ، أُحادِيًّا وَحَصْرِيًّا، فِي حياتِنا بِقُوَّتِهِ. ونَرَى هذا في نَصِّ أَفَسُسَ 2، الَّذي كُنْتُ أَشَرْتُ إلَيْهِ أحْيانًا، وأُرِيدُ أَنْ نَصْرِفَ الْمَزِيدَ مِنَ الْوَقْتِ فِيهِ الآنَ.
الْفَسادُ الْمُتَأَصِّلُ:
لِنَنْظُرِ الآنَ إِلَى الأصْحاحِ الثَّانِي مِنْ رِسالَةِ أَفَسُسَ، حَيْثُ يَقولُ بولُسُ: "وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الْآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالْأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا" (أفسس 2: 1-3).
نَجِدُ فِي هَذَا النَّصِّ كَلِماتٍ تَصِفُ الطَّبِيعَةَ الْفاسِدَةَ الْمُتَجَذِّرَةَ فِي الإِنْسانِ. تَحَدَّثْنا قَبْلًا عَنِ الْعَجْزِ الأَخْلاقِيِّ. وَتَجَنَّبْنا اسْتِخدامَ اللُّغَةِ الْكالْفِينِيَّةِ، الَّتِي تَصِفُ حَالَةَ الإِنْسانِ بأنَّها "فَسادٌ كامِلٌ".
وَهْوَ مُصْطَلَحٌ صارَ جَدَلِيًّا بِشِدَّةٍ في الدَّوائِرِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَهْوَ جُزْءٌ مِنَ الاخْتِصارِ الشَّهِيرِ الّذِي يَسْتَخْدِمُهُ الْكالْفِينِيُّونَ لِشَرْحِ ما يُسمَّى بِالنِّقاطِ الْخَمْسَةِ لِلْكالْفِينِيَّةِ – TULIP. T-U-L-I-P. حيثُ "T" هِيَ اخْتِصارٌ لِلْفَسادِ الْكامِلِ، وَ"U" لِلاخْتِيارِ غَيْرِ الْمَشْرُوطِ، وَ"L" لِلْكفَّارَةِ الْمَحْدُودَةِ، وَ"I" لِلنِّعْمَةِ الَّتي لا تُقاوَمُ، وَ"P" مُثَابَرَةُ الْقِدِّيسِين. لَكِنْ لا نتجاوَزُ عادَةً T حَتَّى يُثارَ الْجَدَلُ. وَهذا مِثالٌ فيهِ سَبَّبَتِ الاخْتِصاراتُ، الَّتِي هِيَ أَدَواتٌ بَسِيطَةٌ لِتَنْشِيطِ الذَّاكِرَةِ، ضَرَرًا أَكْثَرَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، لأَنَّ "الْفَسادَ الْكامِلَ" مُصَطَلَحٌ مُضَلِّلٌ لِلْغايَةِ.
يَخْلِطُ الناسُ بَيْنَ "الْفسادِ الْكامِلِ" وَمَا قَدْ نُسَمِّيهِ "الْفَسادَ الْمُطْلَقَ"، أَيْ أَنَّ الإِنْسانَ شِرِّيرٌ بِقَدْرِ ما يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ. لا أَعْرِفُ أَحَدًا يُؤْمِنُ بِهَذَا. بِغَضِّ النَّظرِ عَنْ مَدَى فسادِنا، يمكنُنا تَصَوُّرُ أَنْفُسِنا وكَأَنَّنا نَرْتَكِبُ خطايا أَبْشعَ مِنَ الَّتي ارتكبْناها بِالْفِعْلِ، بَلْ أَكْثَرَ ممَّا نَظُنُّهُ حقًّا. إِذَنْ، لا أحَدَ مِنَّا فاسِدٌ بِالْكامِلِ.
صِيغَ مُصْطَلحُ "الْفسادِ الْكامِلِ" لِيَعْنِيَ أنَّ الْخطِيَّةَ تُؤَثِّرُ فِي الشَّخْصِ كَكُلٍّ، وأَنَّ جَوْهَرَ بَشَرِيَّتِنا بِرُمَّتِهِ فاسِدٌ. فإنَّ أذْهانَنا فَاسِدَةٌ، وإرادَتَنا فاسِدَةٌ، وأجسادَنا فَاسِدَةٌ–الإنْسانُ كَكُلٍّ عَالِقٌ فِي الْفَسادِ.
أُفَضِّلُ أَنْ أُسَمِّيَ هذا "الْفسادَ الْمُتأَصِّلَ". الْمُشْكِلَةُ أَنَّ هذا سَيُحوِّلُ TULIP إلى RULIP، ويَقْضِي على الاخْتِصارِ. لكِنِّي أُحِبُّ مُصْطلحَ "الْفسادِ الْمُتَأصِّلِ" لأَنَّ كَلِمَةَ "مُتَأَصِّلٍ" اشْتُقَّتْ قَدِيمًا مِنَ الْكَلِمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ radix، الَّتِي تَعْنِي "أَصْل". وَمَعْنَى الْفَسادِ الْمُتَأَصِّلِ هُوَ أنَّ فسادَنا لَيْسَ مُجَرَّدَ شيْءٍ سَطْحِيٍّ، أوْ شَيْءٍ فَرْعِيٍّ، أَوْ مُجَرَّدَ خَلَلٍ عَرَضِيٍّ علَى سَطْحِ بَشَرِيَّتِنا، بَلْ أَنَّ الْخَطِيَّةَ تَنْخُرُ فِي جَوْهَرِ وُجُودِنا، مُتَوَغِّلَةً فِي جَذْرِ الشَّجَرَة.
صورَةٌ كَئِيبَةٌ:
في هذا النَّصِّ، أَدْلَى بُولُسُ بِبَعْضِ التَّصْرِيحاتِ الَّتِي تُوَضِّحُ خُطورَةَ فَسادِنا، فقالَ: "كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا" (أفسس 2: 1). وفي مَوْضِعٍ آخَرَ، قالَ إِنَّنا تَحْتَ سُلْطانِ الْخَطِيَّةِ، وَعَبِيدٌ لِلْخَطِيَّةِ، أبناءُ الْغَضَبِ، وَأَبْناءُ إِبْلِيسَ. هَذِهِ لَيْسَتْ صُورَةً جَذَّابَةً لِلإِنْسانِ السَّاقِطِ الطَّبِيعِيِّ.
لَكِنَّهُ، مَرَّةً أُخْرَى، يَقولُ إِنَّ هَذِهِ كانَتْ حالَتَنا السَّابِقَةَ، إِنَّنا كُنَّا "أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا". وَكَيْفَ سَلَكْنا؟ سَلَكْنا حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ. فَقَدْ سلَكْنا كَمَا يَسْلُكُ الْعالَمُ، وَهَذا الطَّرِيقُ لَيْسَ ما يُرِيدُنا اللهُ أنْ نَسْلُكَ فِيهِ.
قَبْلَ هَذَا، تَحَدَّثَ بُولُسُ عَنْ حَقِيقَةِ أنَّنا جَمِيعًا أَخْطَأْنا، وَأَعْوَزَنَا مَجْدُ اللهِ. "لَيْسَ بَارٌّ وَلَا وَاحِدٌ". بَلْ لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاحًا. "لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ". جمِيعُنا فَسَدْنا تَمامًا، وَزُغْنا (رومية 3: 10-12). هَلْ تَتَذَكَّرُونَ أنَّ الْمَسيحِيِّينَ كانُوا فِي الْبِدايَةِ يُسمَّوْنَ أَتْباعَ الطَّرِيقِ؟ لَكِنَّ طَرِيقَنا الطَّبِيعيَّ لَيْسَ طَرِيقَ اللهِ.
فَقَدْ سَلَكْنا حَسَبَ دَهْرِ هذا الْعالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ (أفسس 2: 2). مَنْ هُوَ الَّذِي نُطِيعُهُ ونُخْلِصُ لَهُ؟ الشَّيْطانُ. فَهْوَ رَئِيسُ سُلْطَانِ الْهواءِ. وَقَدْ سَلَكْنا حَسَبَ "الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الْآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالْأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا" (أفسس 2: 2-3). هَذِهِ صُورَةٌ كَئِيبَةٌ لِلْغَايَةِ عَنْ فَسادِ الإِنْسانِ.
"لَكِنَّ اللهَ":
أَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَلِمَةَ التَّالِيَةَ هِيَ أَهَمُّ كَلِمَةٍ فِي الْعَهْدِ الْجديدِ فِي عَقِيدَةِ نِعْمَةِ اللهِ السِّيادِيَّةِ. أَرَى أَنَّها مُهِمَّةٌ لِلْغَايَةِ. وَقَدْ تَحَدَّثْتُ عَنْها كَثِيرًا، لِدَرَجَةِ أَنَّ فِي أَحَدِ الصُّفُوفِ الَّتِي عَلَّمْتُ فِيها، بَذَلَتْ سَيِّدَةٌ جَهْدًا كَبِيرًا لِتَصْنَعَ لافِتَةً علَيْها هذِهِ الْكَلِمَةُ. كَلِمَةُ "لَكِن".
فإنَّ الإِنجيلَ يَصِيرُ خَبَرًا سَارًّا فَقَطْ حِينَ نَفْهَمُ الْخَبَرَ السَّيِّئَ. وَالإِنْجِيلُ هُوَ إِنْجيلٌ فَقَطْ حِينَ نَفْهمُ أَوَّلًا النَّاموسَ، وحالَتُنا تَحْتَ النَّامُوسِ. فإنَّنا أَمْواتٌ بِالذُّنوبِ وَبِالْخطايَا، نَسْلُكُ حَسَبَ الْجَسَدِ وشَهَواتِهِ، وهَكَذا، نَسْلُكُ كالَّذينَ تَحْتَ رُوحِ الْمَعْصِيَةِ. وَنَحْنُ أَبْناءُ الْغَضَبِ–لَكِنَّ اللهَ، اللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ لَمْ يَقُلْ: لَكِنْ نَحْنُ الَّذينَ بَقِيَ فينَا قَدْرٌ مِنَ الْبِرِّ، اسْتَطَعْنا أخِيرًا أَنْ نَنْتَشِلَ أَنْفُسَنا مِنْ مِحْنَتِنَا، وَنَدْفَعَ أَنْفُسِنا إِلَى تَغْيِيرِ طُرُقِنا. أَوْ: لَكِنَّ الإِنْسانَ الْقَوِيَّ أخْلاقِيًّا قالَ: "لا" لِهذَا الْمسارِ الشِّرِّيرِ، وَأَحْيَا نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتِ. لَمْ يَقُلِ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ هَذَا، بَلْ يَقُولُ: "اللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، أحيانا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا" (أفسس 2: 4-5).
مَيْتٌ أَمْ حَيّ؟
حينَ أَسْمَعُ مُؤْمِنينَ إنْجِيلِيِّينَ يَتَحَدَّثُونَ عَمَّا يَحْدُثُ فِي التَّجْدِيدِ، كَثِيرًا ما أَسْمَعُ تَشْبِيهَيْنِ، أَوْ مِثالَيْنِ يَنْقُلانِ ما يَحْدُثُ. رُبَّما سَمِعْتُمْ بِهِما.
حالَةٌ خَطِيرَةٌ:
الأَوَّلُ هُوَ: الإِنْسانُ السَّاقِطُ لَيْسَ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ. فَهْوَ مَرِيضٌ جِدًّا. بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ، لَدَيْهِ مَرَضٌ مُمِيتٌ، وَهْوَ فِي جَناحِ الأَمْراضِ الْخَطِيرَةِ فِي الْمَشْفَى. لا يُوجَدُ ما بِوِسْعِ هذا الشَّخْصِ فِعْلُهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ. ويكادُ يَكونُ فِي غَيْبُوبَةٍ. وَمَوْتُهُ حَتْمِيٌّ. ما لَمْ يُعْطَ دَوَاءٌ لِهَذا الشَّخْصِ، سَيَمُوتُ حَتْمًا.
لِهَذَا، يُدَبِّرُ اللهُ الدَّواءَ، وَتَسْكُبُ الْمُمَرِّضَةُ الدَّواءَ فِي الْمِلْعَقَةِ. أَوِ اللهُ نَفْسُهُ يَسْكُبُ الدَّوَاءَ فِي الْمِلْعَقَةِ، وَاللهُ نَفْسُهُ يأْتِي لِهَذَا الشَّخْصِ الَّذِي تَشَقَّقَتْ شَفَتاهُ، وَيَرْقُدُ فِي شِبْهِ غَيْبُوبَةٍ، يُحْتَضَرُ، وَيَضَعُ الْمِلْعَقَةَ عِنْدَ شَفَتَيْهِ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، يُمْكِنُ لِلشَّخْصِ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الدَّواءَ أَوْ يَرْفُضَهُ. إِنْ فَتَحَ فَمَهُ، سَيَسْكُبُ اللهُ الدَّواءَ فِي فَمِهِ وَيُخَلِّصَهُ. لَكِنْ إِنْ أَبْقَى شَفَتَيْهِ مُغْلَقَتَيْنِ بِقُوَّةٍ، لَنْ يَأْخُذَ الْعِلاجَ اللَّازِمَ.
يُبَيِّنُ هَذَا التَّشْبِيهُ إِذَنْ أَنَّ الإِنْسانَ فِي حَالَةٍ خَطِيرَةٍ جِدًّا، لَكِنَّهُ لا يزالُ حيًّا.
لَكِنَّنِي أَسْمَعُ اللهَ يَقُولُ إِنَّهُ يَدْخُلُ الْغُرْفَةَ بَعْدَ إِعْلانِ الطَّبِيبِ وَفاةَ هَذَا الرَّجُلِ! أَسْمَعُ بُولُسَ يَقُولَ هنا إِنَّ اللهَ يُحْيِينا وَنَحْنُ أَمْواتٌ.
جُثَّةٌ فِي قاعِ الْبَحْرِ:
سيَكُونُ التَّشبيهُ الأَفْضلُ هوَ أنَّ الإنسانَ قدْ غاصَ في المياهِ تمامًا، وهْوَ الآنَ في قاعِ الْبَحْرِ، واللهُ يَغُوصُ فِي الْمِياهِ، وَيَرْفَعُ هَذَا الرَّجُلَ الْمَيْتَ، تِلْكَ الْجُثَّةَ مِنْ قاعِ الْبَحْرِ، وَيُخْرِجَهَا إِلَى الْيَابِسَةِ، وَيَمِيلُ فَوْقَهُ، وَيُعْطِيهِ قُبْلَةَ الْحَياةِ، وَيَنْفُخُ حَياتَهُ فِي هذا الشَّخْصِ، فيَعودَ مِنَ الْمَوْتِ.
هَذَا ما يقولُهُ الكتابُ الْمُقدَّسُ عَنِ الْمُبادَرَةِ الإِلَهِيَّةِ، اللهُ هُوَ مَنْ يَتَّخِذُ الْخُطْوَةَ الأُولَى لِلإِحْياءِ مِنَ الْمَوْتِ، مِنَ الْجَسَدِ إِلَى الرُّوحِ، وَالانْتِقالِ منْ سُلْطانِ الظُّلْمَةِ إِلَى مَلَكوتِ النُّورِ، وَلَيْسَ الإِنْسانَ.
وَبِالتَّأْكيدِ، بَعْدَ أَنْ يُحْيِيَنا اللهُ، نُخْتَارُ، وَنُؤْمِنُ، وَنَقْبَلُ الْمَسِيحَ، وَنَتُوبُ. وَنَحْنُ نَفْعَلُ كُلَّ هَذَا لأَنَّنا الآنَ أَحْيَاءُ لأُمُورِ اللهِ.
لَكِنَّ الْخُطْوَةَ الأُولَى، وَهْيَ الْمُبادَرَةُ، وَالإِحْياءُ مِنَ الْمَوْتِ، هُوَ عَمَلُ اللهِ، عَمَلُ اللهِ وَحْدَهُ. "لِأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لِأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا" (أفسس 2: 8-10).
فِي مِحْوَرِ الاهْتِمامِ:
حَسَنًا، مِنْ أَعْمَقِ الأَسْئِلَةِ الَّتِي تُطْرَحُ حِينَ نُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْمُبادَرَةِ الإِلَهِيَّةِ هُوَ: إِنْ كانَ اللهُ هُوَ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْقِذَ هَذَا الْمَيْتَ مِنْ قَاعِ الْبَحْرِ، وَإِنْ كانَ اللهُ هُوَ مَنْ يَنْبَغِي لَيْسَ فَقَطْ أَنْ يُعْطِيَ الدَّواءَ، بَلْ أَنْ يُقِيمَ الْجُثَّةَ، إِذَنْ مَا الْهَدَفُ مِنَ الْكِرازَةِ؟ أَلَيْسَ هَذَا سُؤالًا نُفَكِّرُ فِيهِ وَنَطْرَحُهُ جَمِيعًا؟ فَفِي ضَوْءِ سِيادَةِ اللهِ، وَفِي ضَوْءِ الْمَفْهُومِ الْكَامِلِ لِلتَّعْيينِ الْمُسْبَقِ، وَإِنْ كانَ اللهُ قَدْ قَضَى مُنْذُ الأَزَلِ بِخلاصِ الْبَعْضِ، فَهْوَ بِالتَّأْكِيدِ سَيُخَلِّصُ هَؤُلاءِ، بِشَهادَتِي أَوْ بِدُونِها، وَبِكِرازَتِي بِالإِنْجِيلِ أَوْ بِدُونِها. لِماذَا إِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ نَهْتَمَّ بِالْكِرازَةِ؟
إِلَيْكُمْ قِصَّتِي الْمُفَضَّلَةَ عَنْ هَذَا. حِينَ كُنْتُ فِي كُلِّيَّةِ اللَّاهُوتِ، وَكانَ يُدَرِّسُنِي د. جون جيرستنر فِي كُلِّيَّةِ بيتسبرج للَّاهوتِ، وَهْوَ أَبْرَعُ مَنْ يَشْرَحُ عَقِيدَةَ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ، وَكُنَّا حَوالِي 20 فِي الْفَصْلِ، نَجْلِسُ فِي نِصْفِ دائِرَة.
فقالَ: "حَسَنًا، أَيُّها السَّادَةُ، إِنْ كانَ اللهُ يُعَيِّنُ مُسْبَقًا بِسِيادَتِهِ عَدَدًا مُحَدَّدًا مِنَ الْبَشَرِ لِلْخَلاصِ، وَهَذَا قَضاءٌ لا يَتَغَيَّرُ، فَلِماذا يَنْبَغِي أَنْ نَكْرِزَ؟"
تَرَكَ السُّؤالَ بِلا إِجَابَةٍ، وَبَدَأَ يَطْلُبُ مِنَ الطُّلَّابِ أنْ يُجِيبُوا السُّؤالَ. لَنْ أَنْسَى أبَدًا مَدَى ارْتِياحِي لأَنَّنِي كُنْتُ فِي أَقْصَى يَمِينِ نِصْفِ الدَّائِرَةِ، وَهْوَ بَدَأَ يَسْأَلُ مِنَ الْيَسارِ. وَفَكَّرْتُ هَكَذَا: "كَمْ أَنَا سَعِيدٌ لأنَّني لَنْ أُضْطَرَّ أَنْ أُجِيبَ!"
فَنَظَرَ إِلَى الطَّالِبِ الأَوَّلِ، وقالَ: حَسَنًا، سَيِّدَ فُلانٍ، مَا رَدُّكَ؟" أَجَابَ: "حَسَنًا د. جيرستنر، لا أَعْرِفُ. لَطالَما سَأَلْتُ نَفْسِي هذا السُّؤالَ". وهَكَذَا فَشِلَ في الإِجابَةِ. فَانْتَقَلَ إِلَى الشَّابِّ التَّالِي، فَأجابَهُ: "لا أَعْرِفُ". ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى التَّالِي، وحَتَّى نِهايَةِ الصَّفِّ، وَبَدَأَ الْخَطَرُ يَقْتَرِبُ مِنِّي.
وَبَدَأَ إِحْساسٌ مِنَ التَّوَقُّعِ يَزْدادُ فِي الْفَصْلِ. شَعَرْتُ أَنَّنِي سُقْراطُ فِي إحْدَى مُناظَراتِ أَفْلاطُونَ، حَيْثُ بَعْدَ أَنْ يُقَدِّمَ الْجَمِيعُ، هَؤُلاءِ الْبَشَرُ الْعادِيُّونِ، إِجابَاتٍ لِلأَسْئِلَةِ الْعَمِيقَةِ، تَبْدُو جَيِّدَةً، يَتَحَدَّثُ سُقْراطُ، فَيَهْزِمَ الْجَمِيعَ. وَفَكَّرْتُ هَكَذَا: "سَأَكُونُ مِحْوَرَ الاهْتِمامِ".
بِالتَّأْكِيدِ، سُئِلَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْغُرْفَةِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَ سُؤالَ د. جِيرْسْتنِر، فَوَصَلَ إِلَيَّ. كُنْتُ أَتَلَوَّى. وَحَاوَلْتُ أَنْ أُجِيبَ، وَقُلْتُ: "حَسَنًا، يَا د. جِيرْسْتنِر، لَيْسَ هَذَا بِالتَّأْكِيدِ ما تَبْحَثُ عَنْهُ. أَعْرِفُ أَنَّ الْجَوابَ أَعْمَقُ مِنْ هذا. لَكِنْ هُناكَ سَبَبٌ بَسِيطٌ لاشْتِراكِنا فِي الْكِرازَةِ، وَهْوَ، حَسَنًا، أَنَّ يَسُوعَ أَوْصانا بِأَنْ نَكْرِزَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟"
وَبَدَأَ جِيرْسْتنِر في الضَّحِكِ بِطَرِيقَتِهِ الْوَحْشِيَّةِ، وَقالَ: "بِالطَّبْعِ، يَا سَيِّد سْبْرول. أَيُّ سَبَبٍ لِلْكِرازَةِ أَقَلُّ أَهَمِّيَّةٍ مِنْ أَنَّ يَسوعَ يُوصِينا بِهذا، وَمِنْ أَنَّ مُخلِّصَ نُفُوسِنا، وَالرَّبَّ الإلَهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَعْطانا وَصِيَّةً؟ أَتَعْتَقِدُ أنَّ هذا رُبَّما يَكونُ سَبَبًا بَسِيطًا يَدْعُونَا إِلَى أنْ ..." وَكُلَّما تابعَ الْحَدِيثَ، كُنْتُ أَتَضاءَلُ فِي الْمَقْعَدِ أكْثَرَ. فَقُلْتُ: "انْتَظِرْ لَحْظَةً". لَكِنَّنِي لَنْ أَنْسَى الإِجابَةَ أَبَدًا.
ثُمَّ قالَ: "السَّبَبُ الرَّئِيسِيُّ الَّذِي لأجْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَكْرِزَ، فِي ضَوْءِ سِيادَةِ اللهِ، هُوَ سِيَادَةُ اللهِ. فَهْوَ لَمْ يَقْضِ سِيادِيًّا بِالْغايَةِ فَقَطْ، أَيْ بِالْهَدَفِ مِنْ فِداءِ الْبَشَرِ، بَلْ قَضَى سِيادِيًّا أَيْضًا بِالْوَسِيلَةِ لِتَحْقِيقِ الْغايَةِ. فَقَدِ اخْتَارَ جَهالَةَ الْكِرازَةِ كَوَسِيلَةٍ بِهَا يَقْتادُ الْبَشَرَ إِلَى الْخَلاصِ، وَقَدْ أَوْصَى كَنِيسَتَهُ بِتَنْفِيذِ بَرْنَامَجِ الْكِرازَةِ. وقالَ: "انْتَبِهُوا جَيِّدًا. سَأَتَوَلَّى أَمْرَ الاخْتِيارِ، وَأَنْتُمْ تَوَلَّوْا أَمْرَ الْكِرازَةِ. تَوَلَّوْا أَمْرَ الشَّهادَةِ. هَذِهِ مَسْؤولِيَّتُكُمْ".
إِذَنْ، هَلْ يَحْتاجُ إِلَيَّ؟ لا هو لا يَحْتاجُ إِلَيَّ. هُوَ لا يَحْتاجُ إِلَيَّ. لا يَحْتَاجُنِي اللهُ لِتَنْفِيذِ خِطَّتِهِ. كانَ بِإِمْكانِهِ فِعْلُ هَذا بِدُونِي. هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا بِدُونِي. مَفْهُومٌ؟ لَكِنَّهُ اخْتارَ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا مَعِي، وَبِي، وَمِنْ خِلالِي، وَمَعَكُمْ، وَبِكُمْ، وَمِنْ خِلالِكُمْ.
نَرَى إِذَنْ أَنَّ التَّبْشيرَ، أَوَّلًا، وَاجِبٌ.
"هذا رائِعٌ":
لَكِنْ ثَانِيًا، وَيَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ هَذَا: التَّبْشِيرُ امْتِيازٌ لا يُعَبَّرُ عَنْهُ.
قَرَأْتُ ذاتَ مَرَّةٍ كِتابًا عَنْ جَمْعِ التَّبَرُّعاتِ (أَقْرَأُ كُتُبًا كَهَذِهِ مِنْ آنٍ لآخَرَ، وَهْيَ مُمِلَّةٌ وَبَلِيدَةٌ لِلْغَايَةِ). كانَ الْمُؤَلِّفُ رَئِيسًا لِحَمْلَةِ جَمْعِ تَبَرُّعاتٍ لِصَالِحِ جَامِعَةِ هَارْفارْد.
وقالَ: "يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ بَعْضَ الْمَبادِئِ الأَسَاسِيّةِ عَنْ جَمْعِ التَّبَرُّعاتِ". وقالَ: "الْقاعِدَةُ الأُولَى هِيَ: عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ إِنْسانٍ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ بِدَوْرٍ مُهِمٍّ فِي مَشْرُوعٍ مُهِمٍّ. فَإِنْ أَطْلَعْتَ النَّاسَ عَلَى رُؤْيَتِكَ لِمَا تَفْعَلُهُ، وَسَمَحْتَ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا جُزْءًا مِنْهَا، سَيَتَجاوَبُونَ مَعَكَ لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أنْ يَكونُوا جُزْءًا مِنْ قَضِيَّةٍ مُهِمَّةٍ، إِنْ جازَ التَّعْبِيرُ. إِذَنْ، كانَ الْمُؤَلِّفُ يَقُولُ: "اسْتَغِلَّ ذَلِكَ، اسْتَغِلَّ ذَلِكَ، وَضَعْهُ فِي اعْتِبارِكَ".
أَعْتَقِدُ أَنَّ هذا صَحِيحٌ. أَلا نُرِيدُ أَنْ تَكُونَ لِحياتِنَا قِيمَةٌ؟ لا نُحِبُّ أَنْ نَكُونَ نَكِرَةً بِلا هَدَفٍ فِي هَذَا الْعالَمِ. نُرِيدُ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ.
أَلَنْ يَكُونَ جَيِّدًا إِنِ اسْتَطَعْنا أَنْ نَقُولَ أَوْ إِنْ نَظَرْتُ إِلَى يَدِي الْيُسْرَى، وَقُلْتُ: "أَتَرَوْنَ هَذَا الْخاتِمَ؟ هَذَا دَلِيلٌ أَنَّنِي لَعِبْتُ فِي دَوْرِي الأَبْطَالِ لِعامِ 1975. سَيَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيَّ وَيَقُولونَ: "حَقًّا؟" هَذَا مُذْهِلٌ! هَذَا رَائِعٌ!"
لَيْسَ لَدَيَّ خَاتِمٌ كَهذا. كُلُّ ما أَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِي – لَسْتُ أَلْعَبُ فِي فَرِيقِ بيتسبرج لِلْكُرَةِ، وَلَسْتُ عُضْوًا فِي مَجْلِسِ الْوُزراءِ–كُلُّ ما أَفْعَلُهُ هُوَ أَنَّنِي أَعْمَلُ يَوْمِيًّا لِصَالِحِ مَلِكِ الْمُلُوكِ. هَذَا كُلُّ مَا أَفْعَلُهُ. هَلْ هُناكَ ما هُوَ أَبْسَطُ مِنْ هَذا؟ كُلُّ ما أَفْعَلُهُ، وَأَتَلَقَّى أَجْرًا عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّنِي أَعْمَلُ فِي أَهَمِّ مَشْرُوعٍ أسَّسَهُ اللهُ؛ هَذَا الْعَمَلُ لأَجْلِ بِناءِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَالْكِرازَةِ بِالإِنْجِيلِ، وَالْعِنايَةِ بِالْقِدِّيسِينَ هُوَ أسْمَى دَعْوَةٍ فِي الْكَوْنِ.
لِهذا السَّببِ انْزعَجْتُ يَوْمًا ما حينَ قالَ لي أحَدُ الطُّلَّابِ، بَعْدَما كُنْتُ قَدْ خَدَمْتُ كَرَاعِي كَنِيسَةٍ لِعَامَيْنِ، ثُمَّ صِرْتُ أَصْرِفُ الْمَزِيدَ مِنَ الْوَقْتِ فِي التَّعْلِيمِ فِي كُلِّيَّةِ اللَّاهُوتِ، وَالتَّجَوُّلِ فِي أَنْحاءِ الْبِلادِ لإِقامَةِ مُؤْتَمَراتٍ، وَكُلُّ هذا. نَظَرَ إِلَيَّ الطَّالِبُ فِي إِعْجابٍ. كانَ مُنْبَهِرًا. فَقَدِ الْتَقَى بِشَخْصٍ سَمِعَهُ يَعِظُ فِي مُؤْتَمَرٍ ما، وَرَأَى صُورَتَهُ عَلَى كِتابٍ، أَوْ ما إِلَى ذَلِكَ، وَبَدَا وكَأَنَّ كُلَّ طُموحِهِ تَجَسَّدَ أَمامَهُ، فَكانَ مَصْعُوقًا، وَقالَ: عَجَبًا، بِمَ كُنْتَ تَشْعُرُ حِينَ كُنْتُ مُجَرَّدَ رَاعِي كَنِيسَةٍ؟"
فَقُلْتُ: "مَاذَا تَقْصِدُ؟! مُجَرَّدَ رَاعِي كَنِيسَة؟!!! أَتَعْرِفُ لِماذا لَسْتُ راعِي كَنِيسَةٍ؟ لأَنَّ لَيْسَ لَدَيَّ ما يَلْزَمُ لأَكُونَ راعِي كَنِيسَةٍ. فَأَنْ أَتَجَوَّلَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى، كَيْ أَعِظَ، ثُمَّ أَهْرُبَ، أَسْهَلُ مِنَ الْبقاءِ معَ الأشخاصِ أنفسِهِمْ عامًا بَعْدَ الآخَرِ، لأَنْتَقِلَ بِهِمْ مِنَ الْمُسْتَوى الأَوَّلِ إِلَى المسْتَوى الثَّاني، وَإِلَى الْمُسْتَوَى الثَّالِثِ، مُعْتَنِيًا بِهِمْ، وَمُمْسِكًا بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ يَمُوتُونَ، وَكُلُّ هَذا، وَأَنْ تَسْمَحَ لَهُمْ بِاسْتِنْزافِكَ كُلَّ أُسْبوعٍ، وَعَلَيْكَ تَحَمُّلُ هذا". قُلْتُ: "لَمْ أَتَحَمَّلْ".
لا أَكِنُّ سِوى الاحْتِرامِ وَالإِعْجابِ الشَّديدِ بِراعِي الْكَنِيسَةِ، لأَنَّنِي أَرَى أنَّ هذهِ أَسْمَى دَعْوَةٍ فِي الْعالَمِ. هذا امْتِيازٌ، وَلَيْسَ وَاجِبًا فَقَطْ. فَهْوَ امْتِيازٌ أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ إِنْفاقِ حَيَاتِنَا فِي خِدْمَةِ الْمَسِيحِ.
ادْعُ بِاْسِمِه:
لاحِظْ ما يَقولُهُ بُولُسُ فِي الأصحاحِ 10 مِنْ رسالَةِ رُومِيَةَ. يَقُولُ فِي الآيَةِ 11: "لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: «كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُخْزَى»". يا لَهُ مِنْ تَصْرِيحٍ!
حِينَ نَأْتِي إِلَى الإِيمانِ، وَنَضَعُ إِيمانَنَا، أَوْ ثِقَتَنا، فِي الْمَسِيحِ مُخَلِّصًا لَنا–نَعْرِفُ جَمِيعًا مَعْنَى أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا فِي شَيْءٍ أَوْ شَخْصٍ، وَيَخْذُلَنا. هَذَا مُدَمِّرٌ. لَكِنْ كُلُّ مَنْ يَضَعُ إِيمانَهُ أَوْ ثِقَتَهُ فِي الْمَسِيحِ لَنْ يَخْزَى الْبَتَّةَ!
"لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لِأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ" (رومية 10: 12). ثُمَّ الآيَةُ 13: "لِأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ»".
ذَكَرْنَا بِالْفِعْلِ طَوالَ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ أَنْ لا أَحَدَ، لا أَحَدَ سَيَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَّا حِينَ يُحْيِيهِ الرَّبُّ أَوَّلًا، لَكِنْ لأَجْلِ ماذا يُحْيِينَا اللهُ؟ لأَجْلِ أَنْ نَصْرُخَ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ، وَنَدْعُوَ بِاسْمِ الرَّبِّ. وَكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا، كُلُّ مَنْ يَدْعُو. لا تَعْرِفُ إِنْ كُنْتَ مُخْتارًا أَوْ لا. لَكِنْ هَلْ تُرِيدُ الْمَسِيحَ؟ ادْعُ بِاسْمِهِ.
اتْرُكْ سِرَّ الاخْتِيارِ جَانِبًا لِلَحْظَةٍ. ما هِيَ حالَةُ قَلْبِكَ الآنَ؟ إِنْ كُنْتَ فِي قَلْبِكَ تُرِيدُ مُخَلِّصًا، إِنْ كُنْتَ فِي قَلْبِكَ تُرِيدُ الْمَسِيحَ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ، ادْعُ بِاسْمِهِ، وَإِنْ دَعَوْتَ بِاسْمِهِ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ أَكِيدٍ تَحْتَ الشَّمْسِ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ سَيَسْمَعُ نِداءَكَ، وَسَيَسْتَجِيبُ لَهُ، وَستَخْلُصُ.
لَكِنْ يَسْأَلُ بُولُسُ: "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟" (رومية 10: 14).
قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ شَخْصًا لِيَفْدِيَكَ، لا بُدَّ أنَ يَكُونَ لَدَيْكَ قَدْرٌ مِنَ الثِّقَةِ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى تَنْفِيذِ الْمُهِمَّةِ. لَنْ أَطْلُبَ مِنْ آرشي بانْكِر أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسِي لأَنَّنِي لا أَظُنُّ أنَّ لَدَيْهِ الْقُدْرَةَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسِي. لا بُدَّ أَوَّلًا أَنْ أُؤْمِنَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ.
"كَيْفَ يَسْمَعُونَ؟"
"فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟" أليسَ هذا مَنْطِقًا بَسِيطًا؟ "وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلَا كَارِزٍ؟" (رومية 10: 14).
لَنْ تَدْعُوَ مُخَلِّصًا كَيْ يُخَلِّصَكَ إِنْ كُنْتَ لا تُؤْمِنُ بِأَنَّهُ الْمُخَلِّصُ. وَلا يُمْكِنُكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّهُ الْمُخَلِّصُ إِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ سَمِعْتَ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ! وَلَنْ تَسْمَعَ عَنْهُ مَا لَمْ يُخْبِرْكَ أَحَدٌ.
ثُمَّ تَابَعَ قَائِلًا: "وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟" (رومية 10: 15). رُبَّما لَسْتَ مَوْهُوبًا فِي الْكِرازَةِ، لَكِنْ يُمْكِنُكَ الْمُساهَمَةُ فِي إِرْسَالِ الكارِزِ. (بِالْمُناسَبَةِ، فَقَط 4% مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ، الْمَسِيحِيِّينَ الإِنْجِيلِيِّينَ فِي الْولاياتِ الْمُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ يَدْفَعُونَ الْعُشُورَ). هَلْ تَتَساءَلُ لِماذا لا تَتَحَقَّقُ الإِرْسالِيَّةُ الْعُظْمَى، لَيْسَ لأَنَّ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ يَعُوقُهَا أَوْ يُحْبِطُها. بَلْ ما يَعُوقُها وَيُحْبِطُها هُوَ عِصْيَانُ شَعْبِ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَمْوالِهِمْ. إِنَّ 4%، أَيْ أَرْبَعَةً مِنْ بَيْنِ مِئَةِ إِنْجِيلِيٍّ مُعْتَرِفٍ بِإِيمانِهِ يَدْفَعُ الْعُشورَ لإِتْمامِ هذا الْعَمَلَ.
لَكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَفْهَمُوا اقتِباسَ بولُسَ هُنا مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. يَقولُ: "إِذًا الْإِيمَانُ". قَبْلَ هَذَا: "وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلَامِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ»" (رومية 10: 15).
مَا أَجْمَلَ الأَقْدَام:
هذا تَعْبِيرٌ غَرِيبٌ. سَمِعتُ أُناسًا سَمِعُوا بِيلِي جْراهام أَوْ كارِزينَ عُظماءَ آخَرِينَ، وَقالُوا: "ما أَرْوَعَ صَوْتَهُ". هُناكَ ما هُوَ أَسْوَأُ. تَصِلُنِي رَسائِلُ عَنْ تَسْرِيحَةِ شَعْرِي أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي تَصِلُني عَنْ فِكْرِي اللَّاهُوتِي. يَقولُ الْبَعْضُ: "لِماذَا تَرْتَدِي هَذِهِ النَّظَّارَةَ؟" أَوْ "لِماذَا تَرْتَدِي رَبْطَةَ الْعُنُقِ هَذِهِ؟" أَوْ "لِماذَا تَرْتَدِي الْبِنْطالَ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ طَوالَ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ؟" الآنَ لَفَتُّ انْتِباهَكُمْ! حَسَنًا.
يُلاحِظُ النَّاسُ هَذِهِ الأَشْياءَ. لَكِنْ هَلْ سَمِعْتُمْ قَبْلًا عَنْ شَخْصٍ فِي الْكَنِيسَةِ يَنْظُرُ إِلَى الْوَاعِظِ وَيَقُولُ: "عَجَبًا، مَا أَجْمَلَ قَدَمَيْهِ!" هَلْ تَحَدَّثَ أَحَدٌ قَبْلًا عَنْ قَدَمَيْ بِيلِي جْراهام؟ هُوَ أَعْظَمُ كَارِزٍ فِي عَصْرِنا، وَلَمْ أَسْمَعْ شَخْصًا وَاحِدًا يَتَحَدَّثُ عَنْ قَدَمَيْهِ.
لَكِنْ فِي الْعالَمِ الْقَدِيمِ، كَانَتْ كَلِمَةُ "إِنْجِيلَ" تَعْنِي "رِسالَةً مُفْرِحَةً"، أَوْ "خَبَرًا سارًّا"، وَكَانَتِ الْمُناداةُ بِالأَحْداثِ الْمُهِمَّةِ مَسْأَلَةً أَسَاسِيَّةً فِي الْعَصْرِ الْقَدِيمِ. كَانَتِ الْجُيوشُ تَخْرُجُ لِلْحَرْبِ، وَلا تَعودُ قَبْلَ عَامَيْنِ، وَكانَ النَّاسُ يَنْتَظِرونَ طوالَ عامَيْنِ، وَلا يَعْرِفُونَ هَلْ رَبِحُوا أو خَسِرُوا.
إِذَنْ، كُلَّمَا وَقَعَتْ مَعْرَكَةٌ حاسِمَةٌ، سواءَ رَبِحَتِ الْقُوَّاتُ أَوْ خَسِرَتْ، كَانُوا يُرْسِلُونَ رَسُولًا، عَدَّاءً، يَرْكُضُ لأَرْضِ الْوَطَنِ. وَبَيْنَمَا يَرْكُضُ فِي الْمَدِينَةِ، كانَ يُعْلِنُ نَتِيجَةَ الْمَعْرَكَةِ الْحاسِمَةَ لِلشَّعْبِ.
كانَ سُكَّانُ الْمُدُنِ يَضَعُونَ نُقَطَ حِراسَةٍ فِي أَماكِنَ مُرْتَفِعَةٍ لِمُراقَبَةِ مَجِيءِ الرَّسُولِ. وَكانُوا يَرَوْنَ أَتْرِبَةً تَتَطايَرُ قَبْلَ وَقْتٍ طَوِيلٍ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ لأَحَدٍ. كانَ هَذَا يَلْفِتُ انْتِباهَهُمْ، فَيُحَدِّقُونَ عَلَى مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَنْظُروا سَبَبَ الأَتْرِبَةِ.
كَانُوا يُراقِبُونَ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَرَوْنَهُ هُوَ كَيْفِيَّةُ حَرَكَةِ الْقَدَمَيْنِ وَهُمَا تَصْعَدانِ الْجَبَلَ، وَتَنْزِلانِ مِنَ الْجِهَةِ الأُخْرَى. وَالْماهِرُونَ فِي الْمُراقَبَةِ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا قَبْلَ وُصُولِ الرَّسُولِ إِنْ كانَ الْخَبَرُ سَارًّا أَو سَيِّئًا، لأَنَّ الَّذِي يَرْكُضُ لإعْلانِ النَّصْرِ كانَ يَجْرِي فَخُورًا، وَعضَلاتُ ذِراعَيْهِ مَشْدُودَانِ، وَابْتِسامَةٌ عَلَى وَجْهِهِ، وقدَماهُ قَدْ لا تَلْمِسانِ الأَرْضَ.
أَمِنْكُمْ مَنْ يُمارِسُ الْهَرْوَلَةَ؟ هَلْ تَعْرِفُونَ مَعْنى "جَرِّ الْقدَمَيْنِ"؟ هُوَ حِينَ تَجْرِي هَكَذا، وَقَدَماكَ لا تَرْتَفِعانِ حَتَّى عَنِ الأَرْضِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ رُبَّما تَقُولُ: "أَنَا أَرْكُضُ، لا زِلْتُ أَرْكُضُ". هَذَا مَا يُسَمَّى "جَرُّ الْقَدَمَيْنِ". وَقَدْ جَرَّبْتُ هذا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. كانَ هذا حَالُ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ أَخْبارًا سَيِّئَةً وَهُمْ يَقْتَرِبونَ مِنْ بَوَّاباتِ الْمَدِينَةِ، بَائِسينَ، وَمُحْبَطِينَ، وَمُكْتَئِبِينَ.
لَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، تَرَى شَخْصًا تَطِيرُ قَدَماهُ، وَكَأَنَّها مُشْتَعِلَةٌ بِالنَّارِ، مِنْ مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ حَامِلًا الْبِشارَةَ، فَيَرْمِي الْمُراقِبُ قُبَّعَتَهُ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقُولُ: "انْتَصَرْنا!". وَهَكَذا، يَقولُ النَّبِيُّ: "مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلَامِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ" (إشعياء 52: 7).
أَعْلَمُ جَيِّدًا أَنَّ اللهَ هُوَ مَنْ جاءَ بِي إِلَى الْمَسِيحِ، لَكِنَّهُ اسْتَخْدَمَ شَخْصًا كَرَزَ لِي بِالإِنْجِيلِ، وَلَنْ أَنْساهُ أَبَدًا. وَبِغَضِّ النَّظَرِ عمَّا يَفْعَلُهُ هَذَا الرَّجُلُ، سَأَظَلُّ أُحِبُّهُ لأَنَّهُ، بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، اهْتَمَّ بِأَنْ يَكُونَ أَدَاةً سُرَّ اللهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَها لِيَأْتِيَ بِي إِلَى يَسوعَ الْمَسِيحِ.
ما أَرْوَعَ أَنْ تَعْرِفَ أنَّ اللهَ استخدَمَ شهادَتَكَ، أَوْ عَمَلَ رَحْمَتِكَ، أَوْ كِرازَتَكَ لِقَرِيبِكَ كَعَامِلٍ مُحَفِّزٍ فِي الْخلاصِ الأَبَدِيِّ لِهذا الشَّخْصِ؟
لِماذَا نَكْرِزُ؟ لأَنَّها وَصِيَّةٌ، ولأَنَّها أَسْمَى امْتِيازٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ لَنَا.
تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.