المحاضرة 1: الكل يؤمن بهذه العقيدة
عَلَى يَقِينٍ أَنَّكُمْ تَعْرِفُونَ أنَّ أَحَدَ الْمبادِئِ المَوْروثةِ في الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ هو ألَّا نتكلَّمَ في الدِّينِ أوِ السِّياسَة. لكنْ كلَّما التقى اثنانِ منَّا، يتطرَّقُ الحديثُ تِلْقائِيًّا إِلَى مسائِلَ دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ. وفي أيَّةِ مُناقَشَةٍ دينيَّةٍ، في الغالبِ سريعًا ما يدورُ الحديثُ حوْلَ أحدِ عناصِرِ عقيدةِ التَّعيينِ المُسبَقِ؛ إِحْدى العقائدِ التي تحيِّرُنا، وفي الوقتِ نفسِهِ تُحَفِّزُ عقولَنا. وتشجِّعُنا هذِهِ الحَيْرةُ أمامَ مفهومِ التَّعيينِ المُسبَقِ على الغوصِ أكْثَرَ في عِلْمِ اللَّاهوتِ. فهْيَ مِنَ العقائِدِ الَّتي تثيرُ الكثيرَ من الاهتمامِ والنقاشِ، والجَدَلِ أيضًا.
تناوُلُ المَوْضوعِ بِحَذَرٍ:
وحينَ نرى تاريخَ الدِّراساتِ المَسيحِيَّةِ، نَجِدُ أنَّ كُلَّ مُعَلِّمٍ مسيحِيٍّ عظيمٍ، وكُلَّ لاهوتِيٍّ أنْجَبَتْهُ الكنِيسَةُ، تَحَتَّمَ عَلَيْهِ في وَقْتٍ ما التعرُّضُ لِمَوْضُوعِ التَّعيِينِ المُسْبَق. وَبالرَّغْمِ مِنَ التبايُنِ الكَبِيرِ في تَفْسِيرِ هذه العَقِيدَةِ، هُناكَ شيءٌ واحدٌ يتَّفِقُ عليهِ أيُّ لاهوتيٍّ، وَهْوَ ضَرُورةُ التَّعامُلِ مَعَ هذه العَقِيدَةِ بِحَذَرٍ شدِيدٍ.
فَهْوَ مَوْضُوعٌ خَطِيرٌ، لأَنَّنَا كُلَّمَا دَرَسْنَاهُ، نَجِدُهُ يثيرُ أسْئِلَةً أكْثَرَ مِنَ الَّتِي يَجِيبُها. وأَنَا مُقْتَنِعٌ أنَّهُ مِنْ بَينِ كُلِّ العَقَائِدِ الَّتِي نُواجِهُها فِي الْمَسِيحِيَّةِ، لا توجَدُ عقيدَةٌ مُحاطَةٌ بِسُوءِ الْفَهْمِ والْخَلْطِ أَكْثَرَ مِنْ عَقِيدَةِ التَّعْيِينِ السَّابِقِ. وهذا نَفْسُهُ يَدْعونا إِلى نَوْعٍ من الحَذَرِ والتعقُّلِ في تناوُلِ المَوْضوع.
وأُضِيفُ إلى تحذيرِ اللَّاهوتِيِّينَ اعْتِقادِي بأنَّ هذه العقيدةَ تتطلَّبُ مزيدًا من المحبَّةِ في صراعِنا معَها، ومزيدًا مِنَ الصَّبرِ تُجاهَ بعضِنا بعضًا، ومَنْ يخْتَلِفُونَ معَنا، لأنَّ الكثيرَ حولَها على المِحَكّ. وقَدْ تَتَأَجَّجُ المشاعِرُ ونحْنُ نُناقِشُها، لذا علينا الحِرْصُ على إِظْهارِ ثمَرِ الرُّوحِ في وَسَطِنا.
أعلمُ أنَّ كلَّ ما أقولُهُ لَنْ يُفيدَ بِشيءٍ، فبمجرَّدِ الغَوْصِ في الموضوعِ، مَنْ يعْرِفُ ما قَدْ يَحْدُثُ.
دَعُونِي أقولُ كمُقدِّمَةٍ، وهذا ضروريٌّ، إنَّنا سنَصْرِفُ ستَّ محاضراتٍ في هذا الْمَوْضوع. ربَّما يبدو هذا الوقتُ كبيرًا بالنِّسبةِ لعقيدةٍ واحدَةٍ كالتَّعيينِ المُسْبَقِ، لكنْ أُؤَكِّدُ لكُمْ مِنَ البِدايَةِ أنَّ سِتَّ مُحاضَراتٍ، كُلٌّ مِنْها حوالي نصفِ ساعَةٍ، لَنْ تعْرِضَ سوى الْقُشور. فالْعديدُ مِنَ الْأمورِ الْمُتَّصِلَةِ بالْموضوعِ تثارُ عندَ دِراسَةِ هذه العقِيدَة، حتَّى أنَّني مقتنعٌ أنَّ هذا قد يتطلَّبُ دراسَةً متعمِّقَةً تستغرقُ سنواتٍ وسنواتٍ، حتى ننتَهِيَ مِنْهَا. ولهذا، أعتبرُ هذهِ المادَّةَ مجرَّدَ مُقَدِّمَةٍ لعقيدةِ التَّعْيِينِ المُسْبَق.
الْكَثِيرُ مِنْ عَقائِدِ التَّعيينِ الْمُسْبَق:
ظَلَلْتُ أقولُ عقيدةَ التَّعيينِ الْمُسبق، كما لَوْ أنَّها واحِدَةٌ، أَوْ كأنَّهُ لا توجَدُ سوى واحِدَةٍ صَحِيحَةٍ.
هناكَ مَنْ يُصَنِّفونَ الْعقيدَةَ في فئاتٍ، ويَسْأَلونَ (في محادثاتٍ مسيحيَّةٍ): "هَلْ تُؤْمِنُ بالتَّعيينِ المُسْبَق؟" يُجيبُ البعضُ إِمَّا "نَعَمْ، أُؤْمِنُ بالتَّعيينِ الْمُسْبَقِ"، أو "لا، لا أُؤْمِنُ بِالتَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ"، وكَأَنَّ الْكُلَّ يفهَمُ مَعْناها.
لَكِنْ ربَّما يفاجِئُكُمْ أنَّ كلَّ طائفةٍ عَبْرَ التاريخِ أعْرِفُها قدْ صاغَتْ إقرارَ إيمانٍ يَحْوِي عقيدَتَها عنِ التَّعيينِ الْمُسْبَق. فهناكَ عقيدةُ تعيينٍ مسبَقٍ كاثوليكِيَّةٌ، وأُخْرَى لوثِرِيَّةٌ، وَمَشْيَخِيَّةٌ، وَمِيثُودِيَّةٌ، وَهَكَذا. فيَسْتَلْزِمُ التوضِيحُ مِنَ البِدايَةِ بِوُجودِ الكثيرِ مِنْ عقائِدِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ المُخْتَلِفَةِ.
لا توجَدُ إِذَنْ عقيدَةُ تَعْيِينٍ مُسْبَقٍ واحِدَةٌ، مع أنَّنِي أَظُنُّ أنَّهُ حينَ يخْتَزِلُها الناسُ إِلَى عَقِيدَةٍ واحِدَةٍ، فَهُمْ يقْصِدونَ ماذا؟ النُّسخةَ المشيخيَّةَ، أو ما تُسَمَّى عادةً عقيدَةَ التَّعيينِ المُسبَقِ الكالْفِينِيَّةَ. فيبدو أنَّ جون كالفن والتَّعيينَ المُسبَقَ في ثقافَتِنا مُترادِفَانِ، وكأنَّ أوَّلَ لاهوتِيٍّ في التَّاريخِ تَحَدَّثَ عنْ هذه العقيدةِ هُوَ جون كالفن. لكِنْ، سنرى في عَرْضِنا التاريخيِّ أنَّ هذا غيرُ صحيحٍ.
كَلِمَةٌ كِتَابِيَّةٌ:
لَكِنْ ما سنَتَناوَلُهُ في هذِهِ الدِّراسَةِ هوَ عَقِيدَةُ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ الكتابِيَّة، ونُحاوِلُ إِبْرازَها. لدى الكثيرِ مِنَ الطَّوائِفِ عقائِدُ تَعْيِينٍ مُسْبَقٍ لأَنَّ الكتابَ المقدَّسَ تحدَّثَ عَنِ التَّعيينِ المُسْبَقِ، وكُلُّ المؤمِنينَ الَّذينَ يتعامَلُونَ مع الْكتابِ الْمُقَدَّسِ بشكلٍ جادٍّ عَلَيْهِمْ تناوُلُ مَفْهومِ التعيينِ الْمُسْبَقِ بِجِدِّيَّةٍ، لأنَّهُ مفهومٌ وتعليمٌ بارِزٌ في العَهْدِ الْجَدِيد.
فَلْنَقْرَأْ بَعْضَ النُّصوصِ الَّتي تَعْرِضُ فِكْرَةَ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ كَيْ أُنْعِشَ ذَاكِرَتَكُمْ. سَأَقْرَأُ الآنَ مِنَ أفَسُس 1: 3-5، حيثُ يقولُ بولُسُ في تَحِيَّتِهِ الافتتاحِيَّةِ: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ".
وَحِينَ نَنْتَقِلُ إِلى الآيةِ الحاديةَ عَشْرَةَ نَقْرَأُ: "الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ".
لَيْسَ هذا بِالتأكِيدِ هُوَ النَّصُّ الْكِتابِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نَجِدُ فِيهِ مَفْهُومَ التَّعْيِينِ الْمُسْبقِ، لَكِنَّنِي قرأتُ النصَّ حتَّى يَرَى الْجَمِيعُ أنَّ كَلمةَ "تَعْيينٍ مُسْبَقٍ" كتابِيَّةٍ. ولأنَّها كتابِيَّةٌ، حاوَلَ جَمِيعُ الدَّارسينَ الْمُجْتهدينَ لِلْكتابِ المقدَّسِ فَهْمَ ما يَقْصِدُهُ الكتابُ المقدَّسُ بالتَّعيينِ الإِلَهِيِّ الْمُسْبَق.
ثَلاثَةُ مذاهِبَ لاهُوتِيَّةٍ أَساسِيَّةٍ:
قَبْلَ أنْ نَتَمَعَّنَ فِي هذا، دَعونِي أُقَدِّمُ الْمَزِيدَ مِنَ الْخَلْفِيَّاتِ التَّاريخِيَّة. تَكْثُرُ المذاهِبُ اللَّاهوتيَّةُ في تاريخِ الْكَنِيسةِ بِعَدَدِ الطَّوائِفِ. لكِنْ، يُمْكِنُ أنْ نقولَ إِنَّهُ توجَدُ ثلاثَةُ أنواعٍ أَساسيَّةٍ وعامَّةٍ مِنَ الْمَذاهبِ اللَّاهوتِيَّةِ في التارِيخ. يَقْسِمُها اللَّاهوتِيُّونَ إلى: البِيلاجِيَّةِ، وشِبْهِ البِيلاجِيَّةِ، وَالأُوغُسْطِينِيَّة.
يعودُ هذا التَّقْسيمُ الثلاثِيُّ إِلى القرْنِ الرابِعِ الْمِيلادِي، حِينَ خاضَتِ الكَنِيسَةُ صِراعاتٍ ضارِيَةً حَوْلَ الْكَثِيرِ مِنَ الْقضايَا اللَّاهوتِيَّةِ المُهِمَّة.
وَالشَّخْصُ الَّذي كانَ مَعْرُوفًا، والَّذِي يُوصَفُ بأنَّهُ أَعْظَمُ لاهُوتِيٍّ، على الأقَلِّ في الأَلْفِ سَنَةٍ الأُولَى مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كُلِّ التَّارِيخِ الْمَسِيحِي، مَنْ دافَعَ عَنِ الإِيمانِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، هُوَ قَطْعًا الْقِدِّيسُ أوغُسْطِينُوس. وَكانَ خَصْمُهُ الرَّئِيسِيُّ في العديدِ مِنَ الْجِدالاتِ فِي تِلْكَ الْفَترَةِ راهِبًا يُدعَى بِيلاجْيُوس.
وَمِنَ الموضوعاتِ المُهِمَّةِ الَّتي تَجادَلا حولَها هو مدَى أهمِّيَّةِ أوْ ضرُورَةِ نِعْمَةِ اللهِ في خلاصِ الإِنْسان. رأَى بيلاجيوس أنَّ نِعْمَةَ اللهِ تُساعِدُ الْبَشَرَ عَلَى الخَلاصِ، لكِنَّها غيرُ ضَرورِيَّةٍ عَلَى الإِطْلاق. وكانَ افْتِراضُهُ الأَساسِيُّ أنَّ الإِنْسانَ الطَّبِيعِيَّ لدَيْهِ القُدْرَةُ على حِفْظِ وصايا اللهِ لدَرَجَةِ نَيْلِ الفِداءِ، دُونَ أيِّ عونٍ مِنْ نعمَةِ الله.
بينما أوغسطينوسُ شدَّدَ على اتِّكالِ الخاطِئ ِالسَّاقِطِ الْمُطْلَقِ على نِعْمَةِ اللهِ لأجْلِ خلاصِهِ، ورَفَضَ الْبيلاجِيَّةَ، بِصِفَتِها نسخَةً أَقْدَمَ مِنَ المَذْهَبِ الإنساني. ولَمْ تُعْتَبَرِ البيلاجِيَّةُ أحَدَ مذاهِبِ الفِكْرِ الْمَسِيحِي فَحَسْبٍ، بَلْ دُونَ الْمَسِيحِيَّةِ، وَلا تَسْتَحِقُّ أنْ تُحْسَبَ مَسِيحِيَّةً.
بِقَوْلِي إِنَّهُ يُوجَدُ ثَلاثَةُ فُروعٍ رَئِيسيَّةٍ وعامَّةٍ مِنَ الفكْرِ اللاهُوتِيِّ في الْكَنِيسةِ عَبْرَ التارِيخِ وأثَّرَتْ فِيها، فَأَنَا أَتَّفِقُ معَ هذا التَّقْسيمِ. أَنا لَمْ أَبْتَدِعْ هذا التَّقْسيمَ، بَلْ أَتَّفِقُ فقطْ مَعَهُ.
فَأَرَى أَنَّ الْبِيلاجِيَّةَ هِيَ أُمُّ اللِّيبِرَالِيَّةِ، فَقَدْ ظَهَرَتِ السُّوسِينْيانِيَّةُ في الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، واللِّيبِرالِيَّةُ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَر. وَبِما أَنَّكُمْ تَعْرِفُونَنِي، فَأَنا أَرى الْبِيلاجِيَّةَ غَيْرَ مَسِيحِيَّةٍ، وَضِدَّهَا، وَلَيْسَتْ خَيارًا أمامَ أيِّ مُفَكِّرٍ مَسِيحِيٍّ.
أَمَّا الْمُجادَلاتُ فِي الْكَنِيسَةِ بَينَ شِبْهِ الْبِيلاجِيَّةِ والأُوغُسْطِينِيَّةِ، والَّتِي ظَهَرَتْ لاحِقًا في الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ فِي جَدَلٍ بَيْنَ الرِّيمُونْسِتْرانْتِيِّين والْكالْفِينِيِّين، والْمِيثُودِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ أَعْتَبِرُهَا مُجادَلاتٍ داخِلَ دائِرَةِ الإِيمانِ.
الجَدَلُ الأَساسِيُّ:
تَقُولُ شِبْهُ البيلاجِيَّةِ إِنَّ الإِنْسانَ لا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُصَ دونَ نِعْمَةِ اللهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا، حَتَّى فِي حالتِهِ السَّاقِطَةِ، بأنْ يتعاوَنَ مَعَ نعمَةِ اللهِ ويقبَلَها، حتَّى يخلِّصَهُ اللهُ. يعْني هَذا أنَّهُ لا خلاصَ دونَ النِّعمةِ، لكِنْ يبْقَى على الإِنْسانِ، في النِّهايَةِ، إمَّا أنْ يتعاوَنَ مَعَ نِعْمَةِ اللهِ أَوْ يرْفُضَها، وَهذا هُوَ ما يُحَدِّدُ إنْ كانَ سيَخلُصُ أَم لا.
تقولُ الأُوغُسْطِينِيَّةُ إنَّ الإنسانَ ساقطٌ تمامًا لِدَرَجَةِ أنَّهُ يَعْتَمِدُ كُلِّيًّا على نِعْمَةِ اللهِ، حَتَّى في استجابَتِهِ الأُولَى للإِنْجِيلِ، وتَعاوُنِهِ وقبولِهِ لإنجيلِ المَسيحِ مِنَ الأَساس.
ترَوْنَ مِنَ الْبِدايَةِ أنَّ أَصْلَ الْجَدَلِ يعودُ إِلى قُدْرَةِ الإنسانِ على الاسْتِجابةِ للإنجيلِ في حالَتِهِ السَّاقِطَةِ. يُمْكِنُ أَنْ أَقُولَ فِي بدايَةِ أيِّ دراسَةٍ للتَّعيينِ الْمُسْبَقِ إِنَّ وراءَ الْكوالِيسِ يوجَدُ دائِمًا هذا الْجدلُ الأساسيُّ بينَ شِبْهِ البيلاجيِّينَ والأوغسطينيِّين.
أيضًا لا بُدَّ أنْ أُنَبِّهَكُمْ مِنَ الْبِدايَةِ أنَّنِي أتَبَنَّى الرَّأْيَ الأُوغسطيني عَنِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ، وسَأَعْرِضُهُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْمُحَاضَراتِ. سَأَشْرَحُهُ، وَأتَوَلَّى تَوْضِيحَ سُوءِ الْفَهْمِ الْكَبِيرِ حَوْلَهُ، والإِجابَةَ عَنِ اعتراضاتِ الإِخْوَةِ والأخواتِ شِبْهِ البيلاجيِّينَ عليْهِ، وسأُبَرْهِنُ أمامَكُمْ أنَّ الرَّأْيَ الأوغسطينيَّ هو الرَّأْيُ البُولُسِي، وَبالتَّالِي الْكِتابِيُّ، وَبِالتَّالي الصَّحِيحُ.
لَكِنْ بِالتَّأْكِيدِ، لا يُؤْمِنُ الْكُلُّ بِهَذَا الرَّأْيِ، أَوْ يَتَّفِقُ مَعَهُ، وَأَعْتَقِدُ، مرَّةً أُخْرى، أنَّنا لا بُدَّ أنْ نكونَ أُمَناءَ مِنَ الْبِدايَةِ، ونَعْتَرِفَ أَنَّ بَعْضَ أَهَمِّ الْقادَةِ الْمَسِيحِيِّينَ الَّذِينَ كانَ لهُمْ تَأثِيرٌ ضَخْمٌ في مَلَكُوتِ اللهِ لَمْ يتبَنَّوْا الرَّأيَ الذي سأُقدِّمُهُ هنا.
الجدْوَلُ: الأوغُسْطينيُّونَ
دَعوني أرْسُمْ لكُمْ هذا الجدوَلَ، وأحاوِلْ أنْ أكونَ مُنصِفًا، وواسِعَ الأُفُقِ. سأَضَعُ في هذا الجانِبِ لاهوتِيِّينَ في تاريخِ الكنيسةِ بحسبِ رأيي يقَعُونَ ضمنَ مُعَسْكَرِ الرَّأيِ الأُوغُسْطِينيِّ في عقيدةِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ. ثُمَّ لأُوازِنَ الأَمْرَ، سأُحاوِلُ ذِكْرَ أسماءِ اللاهوتِيِّينَ الَّذينَ يقعونَ على الجانِبِ الآخَرِ.
سَنَرى الآنَ الجانِبَ الْمُؤيِّدَ لِلرَّأْيِ الأُوغُسْطِينِي. تَذَكَّروا أَنَّنَا لَمْ نُعَرِّفْ هذا الرَّأْيَ بعد، بل فقط نَعْرِضُ خَلْفِيَّةً، وَسَنَتَعَمَّقُ لاحِقًا في تَعْرِيفِهِ.
مِنْ بَيْنِ الَّذينَ يتْبَعونَ أوغسطينوسَ في عقيدَةِ التَّعْيِينِ المُسْبَقِ، ربَّما يفاجِئُكُمْ هذا، بَلْ وقد تعترِضونَ. لِنَضَعْ أوَّلًا أوغسطينوسَ نَفْسَهُ، لأنَّهُ آمَنَ بِما علَّمَهُ. سنضَعُ أوغسطينوسَ في أَعْلَى الْقَائِمَةِ.
ثمَّ ربَّما يأتِي أبرَزُ تلاميذِ أوغسْطِينوس، في اللاهوتِ بوَجْهٍ عامٍّ، وفي هذه العقائدِ بوَجْهٍ خاصٍّ، بحَسَبِ رأْيِي، في هذا الْجانِبِ، وهْوَ القدِّيسُ توما الأكْوِينِي.
أكادُ أسْمَعُ الآنَ فْرانْسِيس شِيفِر يصْرُخُ في وجْهِي مِنَ السَّماءِ لأنَّهُ بالتأكيدِ لنْ يتَّفقَ معي على انتماءِ الأَكْوِيني لهذِهِ الْفِئَة. لَكِنْ تذكَّرُوا أنَّ الأكوينيَّ نفسَهُ قالَ إِنَّهُ مديونٌ لأوغُسْطِينوسَ أكثرَ من أيِّ لاهوتيٍّ آخرَ في تاريخِ الكنِيسَةِ. لكِنْ لأنَّ القدِّيسَ توما الأكْوِيني هُوَ اللاهوتيُّ الأبْرَزُ للكنيسةِ الكاثوليكِيَّةِ، ولأنَّ اللَّاهوتَ الكاثوليكيَّ المعاصِرَ يرْفُضُ الرأْيَ الأُوغُسْطِينيَّ عنِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ، يَفْتَرِضُ البروتستانت أنَّ توما الأَكْوِيني أيضًا يرفُضُهُ. لكُمُ الْحُرِّيَّةُ أنْ تَعْتَرِضوا. سأتركُ هذَا مفتوحًا للنِّقاشِ.
التالي، لا جِدالَ عليهِ، وَيَقَعُ قَطْعًا بِجانِبِ أوغسطينُوس، وَهْوَ مُصْلِحُ المُصْلِحينَ، وأكَثَرُ شَخْصٍ ركَّزَ علَى التَّعيينِ الْمُسْبَقِ في الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، في عَصْرِ الإصلاحِ. مَن هُوَ؟ لا، ليسَ جون كالفن. كانَ جون كالفن شريكَهُ الأصغرَ. أكثرُ مَنْ دافعَ عَنِ الرَّأْيِ الأوغسطينيِّ عَنِ التَّعيينِ الْمُسْبقِ بكلِّ إصرارٍ هُوَ مارتِنْ لُوثَر.
قَدْ يُفاجِئُكُمْ هذا لأنَّهُ في العَصْرِ الحالي، تتعارضُ اللُّوثِرِيَّةُ مَعَ المَشْيَخِيَّةِ في هذهِ العَقيدَةِ بالذَّات. هذا بِسَبَبِ انْعطافٍ بَسيطٍ فِي تارِيخِ الْكَنِيسةِ، فَعَقِبَ مَوْتِ لُوثَر، سَلَكَ الْكِيانُ اللُّوثَرِيُّ، بقِيادَةِ فِيلِيب ميلانْكْثون، مُنْعَطَفًا آخرَ، ولَمْ يتبَعوا مارتِن لُوثَر في رأْيِهِ عنِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ.
لكنْ أعتقدُ أنَّنا يُمْكِنُ أنْ نقولَ إِنَّ لوثَر كتبَ عنِ التَّعيينِ المُسبقِ أكثرَ ممَّا كانَ كالْفِن يحلُمُ أَنْ يَكْتُبَ، ولا شيءَ علَّمَهُ جون كالفن عَنْ هذهِ العقيدَةِ لَمْ يُعَلِّمْهُ لوثَر أوَّلًا، وأَوْسَعَ نِطاقًا.
والآنَ، نَستطِيعُ وضْعَ كالفِن هنا – جون كالفن. ثمَّ أستطيعُ إضافَةَ جوناثان إدواردز.
تذكَّرُوا أنَّنا سنكونُ أُمناءَ وَمُنْصِفينَ وَمُنْفَتِحِينَ. إِنْ سأَلَنِي أحَدٌ: "في رأيِكَ، مَنْ هُمْ أَعْظَمُ خمْسَةِ لاهوتيِّينَ عَلَى الإِطْلاق؟" لنْ أجِدَ صعوبَةً أنْ أُجيبَ. فَهُمْ: أُوغُسْطِينوس، والأَكْوِيني، ولُوثَر، وكَالْفِن، وَإِدْوَارْدْز. هُمْ مُتَقَدِّمُونَ كثيرًا عنِ الْخمسةِ الَّذِينَ بعدَهُم، أيًّا كانُوا.
بِقَدْرِ ما قَدْ يَبْدُو هَذا تحيُّزًا، لَكِنْ رُبَّما يُمْكِنُ أنْ نَقولَ إِنَّنا إِنْ سأَلْنا مِئَةَ لاهوتيٍّ مِنْ طوائِفَ مُخْتَلِفَةٍ مَنْ هُمْ أَعْظَمُ عَشَرَةِ لاهوتِيِّينَ فِي التَّارِيخِ، سَيَذْكُرُ 98 (ثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ) مِنْهُمْ على الأقلِّ هؤلاءِ الْخَمْسَةَ ضِمْنَ الْعَشَرَة. فَبِإِقرارٍ عامٍّ، هؤلاءِ خمسَةُ عمالِقَةٍ في الإيمانِ الْمَسِيحِي.
وإنِ اتَّفَقَ جميعُهُمْ على الرَّأْيِ الأوغُسْطِينيِّ عنِ التَّعيينِ المُسْبَقِ، فهَلْ يعني هذا أنَّهُ الرأيُ الصَّحِيحُ؟ بِالطَّبْعِ لا، لأنَّ هؤلاءِ الْخَمْسَةَ قدِ اخْتَلَفُوا معًا في أمورٍ كثيرةٍ، واتِّفاقُهُمْ في هذه العقيدةِ بالتَّحديدِ لا يضْمَنُ صِحَّةَ رأيِهِم. لسْنا نؤيِّدُ عِصْمَةَ التقليدِ الْبَشَرِيِّ، أو عِصْمَةَ أوغُسْطِينُوسَ، أوِ الأَكْوِينِي، أَوْ لوثَر، أَوْ كالْفِن، أَوْ إِدْواردْز مِنَ الْخَطَإِ.
لكنْ أقولُ إِنَّهُ حينَ يتَّفِقُ هؤلاءِ الْخَمْسَةُ على شَيْءٍ، فَهَذا يَلْفِتُ انْتِباهِي. وقد قُلْتُ هذا لأنَّهُ كثيرًا ما يُرفَضُ ما يُسمَّى "بالرأيِ المُصْلَحِ" عنِ التَّعيينِ المُسبقِ بكلِّ سهولةٍ، ويُحسَبُ انحرافًا كالفينيًّا فَريدًا في تاريخِ الكَنِيسَة، وهذا غيرُ صحيحٍ تارِيخِيًّا.
الجَدْوَلُ: غيرُ الأُوغُسْطِينيِّين
لننظرِ الآنَ على الجانبِ الآخرِ، لنرَى اللاهوتيِّينَ العُظَماءَ الواقِفِينَ عليه، أمثالَ بيلاجْيُوس، وإيرازْمُوس، وفيني، وِيسْلِي، وأَرْمِينْيُوس. هذهِ أسماءٌ بارِزَةٌ في تاريخِ الْكَنِيسَة.
أسمَعُ الآنَ شَخْصًا يرفُضُ الرَّأْيَ الأُوغُسْطِينِيَّ، يصرُخُ مُعْتَرِضًا: "لَيسَ عدْلًا أنْ تضعَ هؤلاءِ الْخَمْسَةَ فِي مُقابِلِ الْخَمْسَةِ الآخَرِين!" أنا مستعدٌّ أنْ أكْتُبَ آخَرِينَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي أسماءَ بَعْضِ اللاهوتيِّينَ العُظَماءِ الَّذينَ تبنَّوْا الرَّأْيَ الآخَر. ضَعُوا في اعتبارِكُمْ أيْضًا أنَّ الغالبِيَّةَ العُظْمَى من المسيحيِّينَ الإِنْجِيليِّينَ في العالَمِ اليومَ يَقَعونَ في هذا الجانِبِ. وهذا الجانِبُ يُمَثِّلُ أقَلِّيَّةً في الْمَشْهَدِ الْمُعَاصِر.
لَكِنْ ما يُذْهِلُنِي أنَّهُ مِن حَيثُ قُوَّةِ الدِّراساتِ اللَّاهوتِيَّةِ، لنْ تَجِدَ الْعَمالِقَةَ هناكَ، بَلْ هُنا. لكنْ إنْ نظَرْنا إلى المشهَدِ المُعاصِرِ، ربَّما يختلفُ الأمْرُ.
المشهَدُ المُعاصِرُ:
مِنْ مُؤيِّدِي الرَّأيِ الأُوغُسْطِينِيِّ الْيَوْمَ، ربَّما نَضعُ – لَن أصْرِفَ الْوَقْتَ فِي الْكِتابَة -رُبَّما نضعُ فْرَانسِيس شِيفِر، وجُورْدون كْلارْك، وكُورْنِيلْيوس فان تيل، وجميعَ اللَّاهوتيِّينَ المَشْيَخِيِّينَ، بِالإضافَةِ إِلَى بَعْضِ الأَنْجلِيكانِ والأُسْقُفِيِّينَ مِثْلَ جي. آي. باكِر، وَرُوجِيه نيكول (الْمَعْمَدانِيِّ بالطَّبع).
على الجانبِ الآخَرِ، مِنْ بَيْنِ مَنْ لا يؤمنونَ بالرأيِ الأوغسطيني كلارْك بِينُوك، وجُون وارْوِيك مُونْجامِري، ونُورْمان جاسْلِير من كلِّيَّةِ دالاس للَّاهوت. وهناكَ بعضٌ من أرْوَعِ القادَةِ في العالمِ الإنجيليِّ المُعاصِرِ – بيلي جْراهام، معْ أنَّهُ ليسَ لاهوتِيًّا، لكنَّهُ قائدٌ مسيحِيٌّ مُؤَثِّرٌ، يقعُ على الجانِبِ غيرِ الأُوغُسْطِيني، لكنْ أعتقدُ أنَّ زوجَتَهُ روث تقعُ في الجانبِ الآخَر.
على أيَّةِ حالٍ، كُلُّ ما أحاوِلُ قولَهُ إنَّ المؤمنينَ منقَسِمُونَ، وأريدُ أن ألْفِتَ انتباهَكُمْ إلى أنَّهُ إنْ عارضَ أحدُهُمْ الرَّأْيَ الأُوغُسْطِينيَّ عَنِ التَّعيينِ الْمُسْبَق، ففِي ضَوْءِ معلِّمِي الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ تَبَنَّوْه، أعتقدُ أنَّنا بحاجَةٍ إلى دِراستِهِ بجِدِّيَّةٍ، قَبْلَ رفضِه. أعتقدُ أنَّ هؤلاءِ يطالبونَنا بِاحترامٍ يَكْفِي لسماعِ ما حاوَلُوا أنْ يعلِّمُوهُ لِلْكَنِيسَةِ في هذا الأَمْر.
التَّعيينُ الْمُسبَقُ والْخَلاصُ:
حسنًا، فلْنَذْكُرْ سريعًا بعضَ التَّعريفاتِ. تتكوَّنُ كلِمَةُ التَّعْيِينِ المُسْبَقِ في اللُّغةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ predestination مِنْ بادِئَةٍ وجَذْر. الْبَادِئَةُ "pre" تعني "قَبْلَ"، ونعرفُ جيِّدًا كلمَةَ "destination" أيْ "وِجْهَة".
جاءَ كثيرونَ مِنْكُمْ هذا الأُسْبُوعَ إِلَى ليجونير لأنَّها كانَتْ وِجْهَتَكُمْ، أيِ الْمَكانَ الَّذِي أنْتُمْ ذاهِبُون إِلَيْه. كُلَّمَا حَجَزْتَ رِحْلَةً مَعَ وكيلِ سَفْرِيَّاتٍ، سيَطْلُبُ أَنْ يَعْرِفَ وِجْهَتَكَ، أيْ إِلَى أَيْنَ ستتَّجِهُ وتَصِلُ؟
حينَ نَتحدَّثُ عنْ عقيدَةِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ، لسْنَا نَقْصِدُ إِنْ كانَ اللهُ هُوَ مَنْ تَسَبَّبَ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ في حادِثِ السَّيَّارَةِ أَمْ لا، أْو إِنْ كانَ مقدَّرًا لكَ أَنْ تَجْلِسَ على هذا الْكُرْسِيِّ أمْ لا.
لكِنَّ هذه الْعقيدةَ تتعلَّقُ بالأخَصِّ بِوِجْهَتِنا الأَخِيرَة. تُوجَدُ وِجهَتانِ فَقَطْ لِلْبَشَرِ – السَّماءُ أَوِ الْجَحِيمُ، أيْ أنْ نكونَ مُخلَّصِينَ أوْ مُدانِينَ.
لا تتعَلَّقُ عقِيدَةُ التَّعيينِ المُسبقِ الأساسِيَّةُ بِما إذَا كانَ مِنَ المُعَيَّنِ مُسبقًا أنْ أُلْقِيَ بالطَّبْشُورِ على الأرضِ أمْ لا. يندرِجُ هذا تَحْتَ موضوعِ العِنايَةِ الإِلَهِيَّة. هذهِ الأسئِلَةُ مَشْروعَةٌ في عِلْمِ اللَّاهوت – إِلَى أيِّ حدٍّ يتدخَّلُ سلطانُ اللهِ في حياتِنا الْيَوْمِيَّة.
لكِنَّ عقِيدةَ التَّعيينِ الْمسبقِ الأساسيَّةَ تتعلَّقُ بالخلاصِ، وبشيءٍ يحْدُثُ قَبْلَ وصولِنا إِلى تِلْكَ الْوِجْهَةِ. فَهْيَ تتعلَّقُ بِدَوْرِ اللهِ في الْمَصِيرِ النِّهائيِّ لِحياتِنا.
جوهَرُ الْقَضِيَّةِ:
رُبَّما يُفَاجِئُكُمْ هذا. يتَّفِقُ كلٌّ من الأُوغُسْطِينِيِّينَ وَشِبْهِ الْبِيلاجِيِّينَ مَعًا عَلَى أنَّ التَّعيينَ الْمُسْبَقَ هو عَمَلُ الله. فَهْوَ مُرْتَبِطٌ باختيارِ اللهِ لِلْخَلاصِ، أيْ خلاصِ البَشَر.
ربَّما يفاجِئُكُمْ أيْضًا أنَّ كِلا الطَّرفيْنِ يتَّفقانِ على أنَّ اللهَ هُوَ مَنْ يختارُ وِجْهَتَنا النهائِيَّةَ قبْلَ أنْ نولَد، بَلْ قَبْلَ تأْسِيسِ الْعَالَمِ، كما قَرَأْنا في رِسالةِ أفَسُس 1: 3-5 أنَّه اخْتارَ البعضَ قَبْلَ تأْسِيسِ الْعالَمِ. قد يفاجِئُكُم هذا. فقد آمنَ جون ويسلي بهذا، وفيليب مِيلانْكْثون أيْضًا (كُنْتُ أودُّ أنْ أضُمَّ فيليب ميلانْكثون للقائِمَةِ السَّابقة).
على أيَّةِ حالٍ، تقعُ نُقْطَةُ الخلافِ في مسألةٍ حيوِيَّةٍ، وَهْيَ: على أيِّ أساسٍ يختارُ اللهُ أنْ يخلِّصَكَ مِنْ قَبْلِ تأسيسِ الْعالَمِ؟
هَلِ اخْتِيارُ اللهِ بأنْ يخلِّصَكَ مؤسَّسٌ على سابِقِ معْرفتِهِ بشيءٍ رأَى أنَّكَ ستَفْعَلُهُ في الْمُستقبَلِ؟ فحِينَ نظرَ اللهُ إِلى الْمُسْتَقْبَلِ، هل عَرَفَ، مَثلًا، أَنَّ "ديك" سَيَقْبَلُ الإِنجِيلَ، ويَخْتارُ المسيحَ حِينَ تُتاحُ لَهُ الْفُرْصَةُ؟ وحينَ عرفَ أنَّهُ سيختارُ المَسيحَ، اختارَهُ لِلْخَلاصِ؟ فقدْ أسَّسَ اختيارَهُ على سابِقِ مَعْرِفَتِهِ بقرارِ دِيك. هَلْ هذا واضِحٌ؟ إِذَنْ، يختارَكَ اللهُ للخَلاصِ، لكنَّهُ يختارُكَ بسببِ شيءٍ رآهُ مُسْبَقًا فِي حياتِكَ.
على النقيضِ، يقولُ الرأيُ الأوغسطِيني إِنَّ ما يراهُ اللهُ مُسْبَقًا في حياتِكَ ليسَتْ لَهُ صِلَةٌ بِاخْتِيارِهِ لكَ، بَلْ هذا الاختيارُ هُوَ بحسَبِ مَسَرَّةِ مشيئَتِهِ، دُونَ أدْنَى اعتبارٍ لشيءٍ قد تَفْعَلُهُ أو لا تفعلُهُ في المُستقبلِ.
هذا هُوَ جوْهَرُ القضِيَّةِ، إنْ كانَ الاختيارُ متوقِّفًا أمْ لا على ردِّ فِعلِكَ تجاهَ الكرازةِ بالإنجيلِ.
هناكَ أشياءُ أُخْرَى مشتركةٌ بينَنا، وكمَا نتَّفِقُ في بعضِ الأفْكارِ، نختَلِفُ في غيرِها. فأوَّلُ ما يتَّفِقُ عليهِ كُلُّ مؤمِنٍ هو أنَّ الإلهَ الَّذِي نَعبُدُهُ كلِّيُّ السِّيادَةِ. لكنَّ كيْفِيَّةَ ظهورِ هذه السِّيادةِ في الْخلاصِ هو ما نختَلِفُ عَلَيهِ. وفي المحاضرةِ التَّالِيَةِ، سنتناوَلُ مفهومَ سِيادَةِ الله.
تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.