المحاضرة 4: الثِقَةُ فِي الْمَسِيحِ

نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ ثِقَتِنا، وَفِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ سَنَتَحَدَّثُ عَنْ ثِقَتِنا فِي الْمَسِيحِ. قَدْ تَحَدَّثْنا قَبْلًا فِي الْمُحَاضَرَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ ثِقَتِنا فِي اللهِ كَوْنَهُ كُلِّيَّ الْقُدْرَةِ. وَشَاهَدْنَا تِلْكَ الإِعْلاناتِ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَوَصَلْنَا فِي النِّهَايَةِ إلى أَنَّ اللهَ سُرَّ بِإِعْلانِ قُوَّتِهِ فِي الابْنِ. وَبما أَنَّنَا مُتَّحِدُونَ بِالْمَسِيحِ-مِنْ عَقِيدَةِ الاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ الرَّائِعَةِ-جُلِبْنَا لِنَتَشارَكَ فِي مِلْءِ الْبَرَكَاتِ الَّتِي يَنَالُهَا الْمَسِيحُ وَتِلْكَ الَّتِي لَهُ. ويَرُوقُ لَنَا الابْتِهاجُ بِهَذَا.

فِي الْحَقِيقَةِ، إِنْ نَظَرْتُمْ مَعِي فِي الآيَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الأَصْحَاحِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ إِلَى أَهْلِ فِيلِبِّي، سَنَرَى أَنَّ النِّصْفَ الأَوَّلَ مِنَ الآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِيجَابِيٌّ لِلْغَايَةِ؛ إِذْ يُفَسِّرُ مَعْنَى الْكَيْنُونَةِ فِي الْمَسِيحِ وَمَعْنَى مُشَارَكَتِهِ فِي كُلِّ مَا صَنَعَهُ. لِذَا هُنَا نَقْرَأُ بُولُسَ يُخْبِرُنَا "لِأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ". لَكِنْ إِنْ كَانَ قَدْ تَوَقَّفَ هُنَا، لَكَانَتْ آيَةً فِي غَايَةِ الرَّوْعَةِ. إنَّما لِلآيَةِ بَقِيَّةٌ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَيَسْتَرْسِلُ لِيُخْبِرَنَا أَمْرًا عَلَيْنَا جَمِيعًا التَّفْكِيرُ فِيهِ. فَهْوَ يَسْتَرْسِلُ لِيُخْبِرَنَا بِأَمْرٍ لا لِشَيْءٍ سِوَى التَّوَقُّفِ لِبُرْهَةٍ وَاسْتِخْلاصِ آثارِهِ كَافَّةً. يَسْتَرْسِلُ بُولُسُ قَائِلًا: "وَشَرِكَةَ آلَامِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ". نَعَمْ، تَرُوقُ لَنَا عِبَارَةُ الاتِّحادِ بِالْمَسِيحِ، الأَمْرُ الَّذِي يَعْنِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا، وَالانْتِصارَ عَلَى أَعْدَائِنَا كَافَّةً بِمَا فِيهِمِ الْمَوْتُ. وَتَرُوقُ لَنَا قِيامَتُنا إِلَى جِدَّةِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ. لَكِنَّ الاتِّحَادَ بِالْمَسِيحِ يَعْنِي أَيْضًا أَنَّنَا سَنُشَارِكُهُ آلامَهُ، وَكَمَا يَقُولُ بُولُسُ هُنَا "سَنَتَشَبَّهُ بِمَوْتِهِ". فَمَاذَا يَعْنِي هَذَا؟ خَاصَّةً وَأَنَّنِي أُرِيدُ التَّمَعُّنَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِآثارِ هَذَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا.

إِذَا أَمْكَنَنَا الْعَوْدَةُ جِيلًا إِلَى الْوَرَاءِ، دَعُونَا نَعُودُ إِلَى بِدَايَةِ جِيلِ السَّبْعِينِيَّاتِ. فَإِنْ عُدْنَا إِلَى هَذَا الْجِيلِ، مِنَ السَّبْعِينِيَّاتِ إِلَى الْعُشْرِيَّةِ الأُولَى مِنَ الأَلْفِيَّةِ الثَّالِثَةِ، سَنُلاحِظُ قِيَامَ "حَرَكَةِ شَعْبِ يَسُوعَ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَتَتَذَكَّرُونَ عَلامَةَ هَذِهِ الْحَرَكَةِ، عَلامَةَ "الطَّرِيقِ الْوَاحِدِ". فَنَرَى بِدَاياتِ الْمُوسِيقَى الْمَسِيحِيَّةِ، وَالْمُوسِيقَى الْمَسِيحِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ فِي سَبْعِينِيَّاتِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ. كَمَا نَرَى بَدَايَةَ انْقِشَاعِ تِلْكَ الْغَمَامَةِ الَّتِي خَيَّمَتْ عَلَى الْمَسِيحِيَّةِ جَرَّاءَ مُحَاكَمَةِ قِرْدِ سْكُوبْس. فَإِنْ عُدْنَا إِلَى عَامِ 1925 وَإِلَى قَضِيَّةِ قِرْدِ سْكُوبْس كُنَّا قَدْ خَرَجْنَا مِنْهَا وَلنا ذَيْلٌ بَيْنَ أَرْجُلِنَا وَنُخَنْخِنُ كالْقِرَدَةِ. لَكِنْ وَفَجْأَةً فِي عَامِ 1976، أَعْلَنَتْ مَجَلَّةُ تَايْم – غَيْرُ المُحَافِظَةِ عَلَى الإِطْلاقِ- أَنَّ عامَ 1976، هُوَ "عَامُ الإِنْجِيلِيِّينَ". لَقَدْ وَصَلْنَا. كُنَّا-أَتَتَذَكَّرُونَ هَذَا مِنَ الْمَدْرَسَةِ الإِعْدَادِيَّةِ؟ كُنَّا نَقُولُ إِحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِي الْمَدْرَسَةِ الإِعْدَادِيَّةِ مِثْلِ أَنِّي جَلَسْتُ إِلَى "طَاوِلَةِ الرَّائِعِينَ". أَتَتَذَكَّرُونَ طَاوِلَةَ الرَّائِعِينَ؟ مِثْلَمَا أَرَادَ الْجَمِيعُ الْجُلُوسَ إِلَى طَاوِلَةِ الرَّائِعِينَ، كُنَّا نَجْلِسُ إِلَى طَاوِلَةِ الرَّائِعِينَ في الْمُجْتَمَعِ. الآنَ، بِاسْتِرْجَاعِ هَذَا-نَرَى الْبَعْضَ نَظَرُوا إِلَى هَذَا وَتَحَدَّثُوا، لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ عَنْ تَأْثِيرِ الْمَسِيحِيِّينَ، لَكِنَّهُمْ تَحَدَّثُوا بَعْضَ الشَّيْءِ عَنْ أُسْطُورَةِ تَأْثِيرِ الْمَسِيحِيِّينَ فِي ذَلِكَ الْجِيلِ الْمَاضِي. لَكِنَّنَا اسْتَمْتَعْنا حَقًّا بِامْتِيَازِ الجُلُوسِ إِلَى الطَّاوِلَةِ.

فِي هَذَا الْجِيلِ الْحَالِيِّ، نَجِدُ أَنْفُسَنَا -مُتَطَلِّعِينَ إِلَى الْعُشْرِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الأَلْفِيَّةِ الثَّالِثَةِ- فِي ثَقَافَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. نَرَى أَنَّ طاوِلَةَ الرَّائِعِينَ لا تَرْغَبُ فِي جُلُوسِنَا إِلَيْهَا. لِذَا نَطْرَحُ أَسْئِلَةً جَدِيدَةً حَوْلَ مَا يَعْنِيهِ أَنْ نَكُونَ مَسِيحِيِّينَ وَسَطَ الثَّقَافَةِ. مِنْ نَواحٍ عِدَّةٍ، أَعْتَقِدُ -وَنَحْنُ نَتَوَقَّعُ إِلَى أَيْنَ سَتَؤُولُ الأُمُورُ خَاصَّةً الثَّقافِيُّ مِنْهَا، وَمَاذَا يَعْنِي الأَمْرُ لِلثَّابِتِينَ بِحَقٍّ عَلَى قَنَاعَتِهِمْ بالْكِتَابِ المقدَّس- أَنَّنَا أَكثَرُ وِفاقًا مَعَ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ مِنَ الأَجْيَالِ السَّابِقَةِ؛ خَاصَّةً، وَأَنَا أَقْصِدُ هُنَا، نَحْنُ ككَنِيسَةٍ أَمْرِيكِيَّةٍ أَوِ كَنِيسَةٍ غَرْبِيَّةٍ. إِذْ إِنَّ كَثِيرِينَ مِنْ إِخْوَتِنَا وَأَخَوَاتِنَا فِي الْمَسِيحِ حَوْلَ الْعَالَمِ يَخْتَبِرُونَ -حَقًّا- الاخْتِبَارَاتِ الَّتِي يَقْرَؤُونَها فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَيَظْهَرُ صَدَاهَا مُبَاشَرَةً فِي حَيَاتِهِمْ وَفِي مَا يَخْتَبِرُونَهُ. بِالنِّسْبَةِ لَنَا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الثَّقَافَةِ يُلَقِّبُها عُلَمَاءُ الاجْتِماعِ "بِالتَّهْمِيشِيَّةِ". فَهِذِه "الثَّقَافَةُ التَّهْمِيشِيَّةُ" قَدْ تُعَدُّ شَيْئًا جَدِيدًا بَعْضَ الشَّيْءِ عَلَيْنا، فَهْيَ تَعْنِي مُوَاجَهَةَ الأَلَمِ وَمُواجَهَةَ الاضْطَهَادِ وَهْيَ تُعَدُّ الْمِياهَ الْجَدِيدَةَ الَّتِي نُدْخِلُهَا إِلَى هَذَا السِّياقِ الثَّقَافِيِّ الَّذِي نَجِدُ أَنْفُسَنَا فِيهِ. وَمَرَّةً أُخْرَى، فِي ذِهْنِي فِي الْغَالِبِ الْكَنِيسَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ أَوِ الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ. وَنَحْنُ نَتَوَغَّلُ أَكْثَرَ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِاطِّرادٍ ثَقَافَةُ "مَا بَعْدَ الْمَسِيحِيَّةِ"، هَلْ سَنَجِدُ أَنَّ صَدَى عِبَارَةِ "شَرِكَةِ آلامِهِ" أَوْسَعُ بَعْضَ الشَّيْءِ مِمَّا نَخْتَبِرُهُ نَحْنُ؟ وَمَاذَا يَعْنِي "التَّشَبُّهُ بِمَوْتِهِ"؟ فَحِينَ نَنْظُرُ إِلَى مَا عَنَاهُ مَوْتُ الْمَسِيحِ فِي عَصْرِهِ، فقد كَانَ يَعْنِي الْعَارَ. فَقَدْ قَالَ دِيتْرِتْش بِنْهُوفَر ذَاتَ مَرَّةٍ: "الْمَلِكُ الْمَائِتُ عَلَى الصَّلِيبِ هُوَ مَلِكٌ لِمَمْلَكَةٍ فَرِيدَةٍ حَقًّا". وَنَحْنُ الآنَ نَصِيغُ الصَّلِيبَ فِي شَكْلِ حُلِيٍّ جَمِيلَةٍ، وَنَسْتَخْدِمُ لِصُنْعِهِ مَعَادِنَ نَفِيسَةً وَغَالِيَةَ الثَّمَنِ. لَكِنَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الأَوَّلِ عَلامَةَ الإِعْدَامِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فَحَسْبُ، بَلْ لإِعْدَامِ أَدْنَى الْوُضَعَاءِ. فَفِي الثَّقَافَةِ الرُّومَانِيَّةِ، كانَ الصَّلِيبُ بِبَسَاطَةٍ رَمْزًا لِلْعَارِ. إِذْ مَثَّلَ الصَّلِيبُ أَوْضَعَ الْمَنْبُوذِينَ مِنَ الْمُجْتَمَعِ الَّذِين لَمْ يُهَمَّشُوا فَحَسْبُ، بَلْ قُطِعُوا مِنَ الْمُجْتَمَعِ. وَهَذَا صَارَ فِي الْمَرْكَزِ، صَارَ هَذَا الرَّمْزُ فِي مَرْكَزِ هُوِيَّتِنَا نَحْنُ الْكَنِيسَةَ. هَذَا رَمْزُ الْعَارِ، هَذَا رَمْزُ الضَّعْفِ. لِذَا حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنْ وَضْعِ ثِقَتِنَا فِي الْمَسِيحِ، أُرِيدُ النَّظَرَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الثِّقَةِ ذَاتِ عِدَّةِ أَبْعَادٍ. إِذْ مِنْ جِهَةٍ، نَرَى أَنَّ الْمَسِيحَ فِي الْحَاضِرِ مَلِكًا مَالِكًا. نَتَحَدَّثُ عَنِ الْمَسِيحِ شَاغِلًا أَدْوَارَهُ الثَّلاثَةَ -نَبِيًّا وَكَاهِنًا وَمَلِكًا. وكمَلِكٍ هو يَمْلِكُ. ويَمْلِكُ عَلَى جَمِيعِ الأَشْيَاءِ. وَهَذَا بِكُلِّ تَأْكِيدٍ أَسَاسٌ لَنَا لِنَضَعَ ثِقَتَنا فِيهِ. الْمَسِيحُ مَلِكٌ. الْمَسِيحُ يَمْلِكُ. فَالأَمْرُ لَيْسَ أنَّهُ سَيَمْلِكُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ بَلْ يَمْلِكُ الآنَ. وَهَذَا أَسَاسُ قَاعِدَةِ الثِّقَةِ.

لَكِنْ يَقْبَعُ أَسَاسٌ آخَرُ لِلثِّقَةِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَفْهُومِ مَا يُمَثِّلُهُ الصَّلِيبُ؛ إِنَّ قَبُولَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْمُنَافِيَةِ تَمَامًا للمَنْطِقِ -مِثْلَ قَبُولِ الأَلَمِ وَالْخِزْيِ- الَّذِي يَبْدُو مُخَالِفًا جِدًّا لِلْمَنْطِقِ، إِنَّمَا أَعْتَقِدُ أَنَّ صَفَحَاتِ الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ تُعَلِّمُ فِي الْوَاقِعِ أَنَّهُ فِي صُلْبِ هُوِيَّتِنا وَمَرْكَزِهَا. أَتَتَذَكَّرُونَ، فِي مَرْحَلَةٍ مَا، حِينَ قَالَ الْمَسِيحُ لِتَلامِيذِهِ: "هَلِ التِّلْمِيذُ أَفْضَلُ مِنْ مُعَلِّمِهِ؟" فَهَذَا مَا قَاسَاهُ الْمَسِيحُ. فَهَلْ تَلامِيذُ الْمَسِيحِ أَفْضَلُ مِنْ مُعَلِّمِهِمْ؟

حَسَنًا، لِنَتَمَعَّنَ فِي هَذَا، أَمَامَنَا هُنَا فِي الرِّسَالَةِ إِلَى أَهْلِ فِيلِبِّي، لَكِنْ أَيْضًا مَعَنَا ما يُعَدُّ أَحَدَ أَرْوَعِ مَقَاطِعِ بُولُسَ وَهْوَ الأَصْحَاحُ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ. الَّذِي يُعَدُّ مِنْ سِيرَةٍ ذَاتِيَّةٍ تَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِبُولُسَ. فَقَدْ كُنَّا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنَ الأَصْحَاحِ الأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ إِشَعْيَاءَ بِأَنَّ إِشَعْيَاءَ النَّبِيَّ قَدَّمَ فِيهِ بَعْضَ السُّخْرِيَةِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الأَصْنَامِ الْخَشَبِيَّةِ الَّتِي صُنِعَتْ مِنْ أَجْلِ التَّحَلِّي بِالثِّقَةِ بِيَدِ صَانِعٍ حَاذِقٍ كَيْ لا تَسْقُطَ. وَهُنَا أَيْضًا نَقْرَأُ بَعْضَ التَّهَكُّمِ. نَرَى تَلْمِيحًا بَسِيطًا عَنْهَا فِي الآيَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الأَصْحَاحِ السَّابِقِ، حِينَ اسْتَخْدَمَ بُولُسُ تَعْبِيرَ "فَائِقِي الرُّسُلِ". وَهَذَا مُؤَشِّرٌ لَنَا عَلَى أَنَّ بُولُسَ مُتَهَكِّمٌ بَعْضَ الشَّيْءِ، بِاسْتِخْدَامِهِ الْمُبَالَغَةَ لإِيصَالِ رُؤْيَتِهِ. فَهَذَا هُوَ بُولُسُ. فَمَاذَا يَحْدُثُ هُنَا؟ عَلَى مَا يَبْدُو أَنَّ بُولُسَ لَمْ يَكُنْ خَطِيبًا بَارِعًا حَقًّا. هَذَا بِحَسَبِ سِيَاقِ الْقَرْنِ الأَوَّلِ الْمِيلادِيِّ. إِذْ كَانَتْ رُومَا ذَاتَ ثَقَافَةٍ تُمَجِّدُ الْقُوَّةَ، وَالْبُنْيَةَ الْجِسْمَانِيَّةَ، وَخَاصَّةً الْبُنْيَةَ الْجِسْمَانِيَّةَ الْمِثَالِيَّةَ. وَعَلَى مَا بَدَا أَنَّ بُولُسَ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِذَلِكَ. لِذَا فُهِمَ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ "شَوْكَةٍ فِي الْجَسَدِ" أَنَّهَا رُبَّمَا عِلَّةٌ فِي ظَهْرِهِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَقَدْ تَحَطَّمَتْ بِهِ سَفِينَتَانِ، وَأُنْزِلَ مِنْ عَلَى سُورٍ فِي سُلٍّ، وَرُبَّما، كَمَا تَعْلَمُونَ، قَدْ سَقَطَ بِقُوَّةٍ عَلَى الأَرْضِ. لِذَا رُبَّمَا أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ فِي ظَهرِهِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لِذَا مِنَ الْمُحْتَمَلِ كَانَ بُولُسُ -بَعْدَمَا أَخَذْنَا انْطِباعًا عَنْهُ- أَقَلَّ مِنَ الْمَعَايِيرِ الرُّومَانِيَّةِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْدُوَ عَلَيْهِ الْقَائِدُ. لِذَا فَنَحْنُ أَمَامَ نَوْعِيَّةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي طَلِيعَةِ حَرَكَتِنَا. لِذَا أَطْلَقَ بُولُسُ عَلَيْهِمْ "فَائِقِي الرُّسُلِ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الآيَةِ الأُولَى مِنَ الأَصْحَاحِ 12: "إِنَّهُ لَا يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ". إِنَّهُ رَبْطٌ مُبَاشِرٌ بِالأَصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ، إِذْ بِاسْتِطَاعَتِكَ الْقَفْزُ خَلْفًا عِدَّةَ آيَاتٍ حِينَ يَقُولُ: "إِنْ كَانَ يَجِبُ الِافْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَمَا سَنَتَمَعَّنُ فِيهِ الآنَ فِي الأَصْحَاحِ 12 هُوَ افْتِخَارُهُ بِضَعْفِهِ. فَمَا يَفْعَلُهُ هُنَا أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلثَّقَافَةِ، فَإِنْ كُنْتُ مُدِيرَ عَلاقَاتِهِ الْعَامَّةِ، كُنْتُ سَأَنْصَحُهُ بِنَهْجِ سُلُوكٍ آخَرَ إِنْ كَانَ يُحَاوِلُ كَسْبَ أَهْلِ كُورِنْثُوسَ. فَنَجِدُهُ يَقُولُ: "إِنَّهُ لَا يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلَانَاتِهِ. أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ" -فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ لِتَعْرِيفِ الشَّخْصِ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ هَذَا بُولُسُ يَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهِ، فَهْوَ يُؤَطِّرُ تَعْرِيفَ نَفْسِهِ بِهَذَا الأُسْلُوبِ: "أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً" - سَنَعُودُ إِلَى هَذَا لأَهَمِّيَّةِ تَسَلْسُلِ الأَحْدَاثِ.

أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هَذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هَذَا الْإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لَا يُنْطَقُ بِهَا، وَلَا يَسُوغُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا. مِنْ جِهَةِ هَذَا أَفْتَخِرُ. وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لَا أَفْتَخِرُ إِلَّا بِضَعَفَاتِي. فَإِنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لَا أَكُونُ غَبِيًّا، لِأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ.

وَإِنْ تَقَدَّمْتُمْ إِلَى الْمَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّلاثِينَ، سَتَرَوْنَ مَا افْتَخَرَ بِهِ بُولُسُ. لَقَدِ افْتَخَرَ بِعَدَدِ مَرَّاتِ سَجْنِهِ. لَقَدِ افْتَخَرَ بِعَدَدِ مَرَّاتِ جَلْدِهِ. لَقَدِ افْتَخَرَ بِعَدَدِ مَرَّاتِ تَحَطُّمِ السُّفُنِ بِهِ. أَنْصِتُوا، إِنْ أَرَدْتُمْ مُنَافَسَةَ بُولُسَ الرَّسُولِ، لا تُحَاوِلُوا حَتَّى. لا يُمْكِنُكُمْ مُنَافَسَةُ هَذَا الرَّجُلِ. فَإِنْ أَرَادَ الافْتِخَارَ، بِاسْتِطَاعَتِهِ الافْتِخَارُ. لَكِنَّهُ لَنْ يَفْعَلَ هَذَا. فَيُتَابِعُ قَائِلًا:

"لِأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ. وَلَكِنِّي أَتَحَاشَى لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِي فَوْقَ مَا يَرَانِي أَوْ يَسْمَعُ مِنِّي. وَلِئَلَّا أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الْإِعْلَانَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلَاكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلَّا أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي:

-مَا قَالَهُ هُنَا حَدَثَ قَبْلًا لَكِنَّ بُولُسَ كَانَ يَتَذَكَّرُهُ جَلِيًّا كَمَا لَوْ أَنَّهُ حَدَثَ فِي أَثْنَاءِ كِتَابَتِهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ-

"فَقَالَ لِي: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لِأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ". فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالِاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ. لِأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ".

"لِأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ". حَسَنًا، ثَلاثَةُ أُمُورٍ أَذْهَلَتْنِي فِي هَذَا الْمَقْطَعِ. فِي الْوَاقِعِ، كَثِيرَةٌ هِيَ الأُمُورُ الَّتِي أَذْهَلَتْنِي، لَكِنَّنَا لَنْ نَتَحَدَّثَ سِوَى عَنْ ثَلاثَةِ أُمُورٍ. الأَمْرُ الأَوَّلُ، مَا الَّذِي يَسْتَعِينُ بُولُسُ بِهِ لِيَتَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ؟ وَهوَ لا يَسْتَعِينُ بِمَا كُنَّا لِنَسْتَعِينَ نَحْنُ بِهِ. إِنْ كُنْتُمْ مَكَانَهُ، أَوْ إِنْ كَانَ الأَمْرُ بِيَدِي، لَكُنَّا اسْتَعَنَّا بِمَنْبَرِ الرُّؤْيَا. فَمَا يَحْدُثُ هُنَا أَنَّ سُلْطَتَهُ الرُّوحِيَّةَ تَتَعَرَّضُ لِلطَّعْنِ. سُلْطَتُهُ الرَّسُولِيَّةُ كَانَتْ تَتَعَرَّضُ لِلطَّعْنِ مِنْ أَهْلِ كَنِيسَةِ كُورِنْثُوسَ. وَهُنَا لَيْسَ بُولُسُ فَحَسْبُ مَنْ كَانَ عَلَى الْمِحَكِّ، بِلْ كَانَ الإِنْجِيلُ نَفْسُهُ. فَيُمْكِنُنَا بِسُهُولَةٍ فَتْحُ قَضِيَّةٍ قَائِلِينَ: "سَوْفَ أَقْضِي عَلَى هَذَا الآنَ. مَهْلًا، دَعُونِي أُخْبِرْكُمْ بِالرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُهَا. رُؤْيَا الْفِرْدَوْسِ. وَسَأَكْتُبُ كِتَابِي، وَسَنُحَقِّقُ نَجَاحًا، وَسَنَعْقِدُ نَدَوَاتٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ كَانَتْ دَقَائِقِي الثَّلاثُ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ إِنْ كُنَّا مَكَانَهُ -فَلْتَضْحَكُوا لا بَأْسَ- إِنْ كُنَّا مَكَانَهُ، دَعُونَا أَلَّا نَخْدَعَ أَنْفُسَنَا، لَكُنَّا اسْتَغْلَلْنا الرُّؤْيَا لِنَقُولَ: اسْمَعُونِي! لَدَيَّ أَمْرٌ مُهِمٌّ لأَقُولَهُ. لَكِنَّ بُولُسَ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا. لَقَدِ اسْتَعَانَ بُولُسُ "بِشَوْكَةِ جَسَدِهِ" بُرْهَانًا عَلَى سُلْطَتِهِ. فَيَقُولُ: "اسْمَعُوا لِي بِسَبَبِ ضَعْفِي". يَبْدُو أَنَّ مُجَاوَبَةَ الاتِّهامِ لَمْ يَكُنْ فَحَسْبُ غَيْرَ مُتَوَقَّعٍ، بَلْ إِنَّهُ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلثَّقَافَةِ بِحَسَبِ تَقْدِيرِهِمْ فِي الْقَرْنِ الأَوَّلِ. كانَ الضَّعْفُ هو الْمَنْبَرُ لا الرُّؤْيَا. فَمِنْ عَلَى مِنْبَرِ ضَعْفِهِ تَحَدَّثَ بُولُسُ.

أَمَّا الأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي أَرَاهُ مُثِيرًا لِلاهْتِمَامِ هُنَا يَتَمَثَّلُ فِي تَسَلْسُلِ الأَحْدَاثِ. إِذْ يَقُولُ: "قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً". لَقَدِ اسْتَعَنْتُ بِعَرَّافٍ -وَهَذَا الْعَرَّافُ هُوَ "الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ الدِّرَاسِيُّ المُصْلَحُ"- وَمِنْهُ عَلِمْتُ أَنَّ الرِّسَالَةَ الثَّانِيَةَ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ كُتِبَتْ عَامَ 55 بَعْدَ الْمِيلادِ. فَإِنْ طَرَحْنَا مِنْهَا 14 عَامًا، سَنَجِدُ أَنْفُسَنا فِي الْعَامِ 41 بَعْدَ الْمِيلادِ. وَاسَتَعَنْتُ بِالْعَرَّافِ ثَانِيَةً، وَأَعْلَمَنِي أَنَّ بُولُسَ آمَنَ بَيْنَ عَامَيْ 33 وَ36 تقريبًا، ويرُجَّحُ أَنَّهُ فِي عَامِ 34 بَعْدَ الْمِيلادِ. أَلَيْسَ هَذَا مُثِيرًا لِلاهْتِمَامِ؟ لَقَدْ تَعَلَّمَ بُولُسُ هَذَا الدَّرْسَ عَقِبَ إِيمَانِهِ. أَتَرَوْنَ هَذَا؟ بَعْدَ 7 أَعْوَامٍ مِنْ إِيمَانِهِ، أُعِيدَ بُولُسُ إِلَى حَلْقَةِ التَّعْلِيمِ لِغَايَةِ تَعَلُّمِ دَرْسٍ فِي غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ. وَكَانَ الدَّرْسُ: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي". فَمَا يُخْبِرُنِي بِهِ تَسَلْسُلُ الأَحْدَاثِ هُوَ أَنَّ الأَمْرَ لا يَتَعَلَّقُ بِالتَّشَدُّقِ بِضَعْفِنَا حَتَّى نُدْرِكَ اتِّكَالَنَا الْكَامِلَ عَلَى الْمَسِيحِ، وَحَتَّى تُغْفَرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُنْسَبَ لَنَا بِرُّه، وَحَتَّى نَقِفَ أَمَامَ إِلَهٍ قُدُّوسٍ. هَذَا لَيْسَ عَنِ الإِيمانِ. هَذَا عَنْ عَيْشِ الْحَيَاةِ الْمَسِيحِيَّةِ. هَذَا عَنْ عَيْشِ الْحَيَاةِ الْمَسِيحِيَّةِ. كَمَا أَنَّ مِفْتَاحَ الآيَةِ هُنَا لَيْسَ تَسَلْسُلَ الأَحْدَاثِ فَحَسْبُ. بَلْ مُفْتَاحُهَا فِي الْفِعْلِ "تَكُونُ" (الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرًا فِي تَرْجَمَتِها الْحَرْفِيَّةِ "نِعْمَتِي [تَكُونُ] كَافِيَةً"). كَمَا أَنَّ كَلِمَةَ نِعْمَةٍ بَدِيعَةً. أَعْشَقُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. يَا لَهَا مِنْ كَلِمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِثْلُهَا جُمْلَةُ "تَكْفِيكَ" جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ أَيْضًا. وَمِثْلُهُمَا جُمْلَةُ "نِعْمَتِي"، نِعْمَةُ اللهِ، جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ أَيْضًا. فَالْكَلِمَةُ الْمِفْتَاحِيَّةُ هِيَ "تَكُونُ". فَنِعْمَةُ اللهِ "تَكُونُ كَافِيَةً لَكَ". "لِأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ". فَهَذِهِ الآيَةُ لَيْسَتْ بِبَسَاطَةٍ عَنِ الإِيمانِ. لَيْسَتْ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَبُولِ الْمَسِيحِ مُدْرِكِينَ نِهَايَةَ أَنْفُسِنَا وَعَجْزَنَا الْمُطْلَقَ، فَلِذَا نَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى الْمَسِيحِ لأَنَّهُ هَذَا مَا بِوِسْعِنَا فِعْلُهُ، لأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِدْخَالَنا إِلَى عَلاقَةٍ مَعَ اللهِ الْقُدُّوسِ. أَمْرٌ آخَرُ يَجْرِي هُنَا. هَكَذَا نَعِيشُ الْحَيَاةَ الْمَسِيحِيَّةَ، بِإِدْرَاكِ ضَعْفِنَا وَأَنَّ قُوَّتَنَا وَقُدْرَتَنا تَنْبُعُ مِنَ الْمَسِيحِ.

فَالأَمْرُ الآخَرُ الَّذِي يَحْدُثُ هُنَا يَتَمَثَّلُ فِي أَنَّ ضَعْفَنَا وَنَحْنُ بِذَوَاتِنَا نَتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ. يَا لَهُ مِنْ أَمْرٍ مُثِيرٍ حِينَ تُفَكِّرُونَ فِيهِ. فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّجَسُّدِ يُشِيرُ عَكْسَ ما كَانَ يُقَدِّرُهُ الْقَرْنُ الأَوَّلُ الْمِيلادِيُّ. فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّجَسُّدِ يُعَدُّ مُخَالِفًا لِلْمَنْطِقِ. بَادِئُ ذِي بَدْءٍ، يَنْبَغِي لَنَا الْبَدْءُ قَبْلَ مِيلادِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمَ، الْحَادِثَةُ الَّتِي بِحَدِّ ذَاتِهَا مُذْهِلَةٌ. مَرْيَمُ لَيْسَتْ خَيَارًا صَائِبًا. عَلَى مَا بَدَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَغَيْرَ مَعْرُوفَةٍ، يُمْكِنُنَا الْقَوْلُ إِنَّهَا فَتَاةٌ "مُهَمَّشَةٌ اجْتِمَاعِيًّا". وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ عِنْدِهَا بَدَأَتْ قِصَّةُ التَّجَسُّدِ. نَرَى هَذَا الضَّعْفَ الْبَشَرِيَّ، وَهَذَا التَّهْمِيشَ لَدَى مَرْيَمَ فِي بَدَاءَةِ التَّجَسُّدِ.

ثُمَّ، يَحْدُثُ الْمِيلادُ. لَمْ يُولَدِ الْمَسِيحُ فِي مَكَانٍ عَظِيمٍ، بَلْ فِي مِزْوَدٍ خَلْفِيٍّ لِعَدَمِ تَوَافُرِ غُرْفَةٍ فِي النُّزُلِ. وَعاشَ الْمَسِيحُ بَدَاءَةَ حَيَاتِهِ فِي غُمُوضٍ نِسْبِيٍّ. أَتَى مِنْ عائِلَةٍ تَنْتَمِي إِلَى طَبَقَةٍ دُنْيَا، وَمِنْ طَبَقَةٍ عَامِلَةٍ. هَذَا السِّيَاقُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، إِنْ كُنَّا نَحْنُ مَنْ يُدَوِّنُ، كُنَّا على الْأرْجَحِ لِنُدخِلَ الإلَهَ-الإِنْسَانَ إِلَى الْعَالَمِ عَلَى نَحْوٍ مُخْتَلِفٍ تَمَامًا. لَكِنَّنَا نَتَعَلَّمُ شَيْئًا هُنَا.

ثُمَّ التَّلامِيذُ. أَتَعْلَمُونَ، مِنْ حِينٍ إِلَى آخَرَ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ التَّلامِيذَ أَدْرَكُوا هَذَا. أَتَتَذَكَّرُونَ بُطْرُسَ؟ حِينَمَا كَانَ التَّلامِيذُ مَعًا وَيَسْأَلُهُمُ الرَّبُّ يَسُوعُ: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الْإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ: ... إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: هذا وَآخَرُونَ: ذَاكَ. قَالَ لَهُمْ: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟"". فَأَجَابَ بُطْرُسُ: حَسَنًا، هَذَا جَلِيٌّ.  أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ. فَأَجَابَ الرَّبُّ يَسُوعُ: "بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ يَا بُطْرُسُ. إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. ثُمَّ أَرْدَفَ: مِنْ ثَمَّ؟ لا بُدَّ أَنْ أَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، لأَنِّي يَنْبَغِي أَنْ أَمُوتَ. فَيَقُولُهُ لَهُ بُطْرُسُ: لا! لا يُمْكِنُكَ فِعْلُ هَذَا. فَيَرُدُّ عَلَيْهِ الرَّبُّ يَسُوعُ قَائِلًا: "أَخْطَأْتَ الْقَوْلَ يَا بُطْرُسُ". فِي الْوَاقِعِ، سَتَحْزَنُ إِنِ الْتَفَتَ نَحْوَكَ شَخْصٌ مَا وَقَالَ لَكَ: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ!" إِذْ بِبَسَاطَةٍ تَمْتَلِكُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ قُدْرَةً عَلَى تَثْبِيطِكُمْ بَعْدَ حَالَةِ النَّشْوَةِ الَّتِي اعْتَرَتْ بُطْرُسَ لِسَمَاعِ بِالصَّوابِ أَجَبْتَ مَرَّةً أُخْرَى. فَحَتَّى التَّلامِيذُ -الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ الأَقْرَبِينَ إِلَى الْمَسِيحِ- لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ اسْتِيعَابِ فِكْرَةِ الصَّلِيبِ. الْمَلِكُ الْمَائِتُ عَلَى الصَّلِيبِ هُوَ مَلِكٌ لِمَمْلَكَةٍ فَرِيدَةٍ حَقًّا.

أَتَعْلَمُونَ، فِي نِهَايَةِ مَوْسُوعَةِ "أُسُسُ الدِّين المَسِيحيّ" لِجُون كَالْفِن، فِي الْكِتَابِ الرَّابِعِ -أَنَا فِي رَاحَةٍ عَظِيمَةٍ لأَنَّ بِحَوْزَتِي هُنَا مَوْسُوعَةُ "أُسُسُ الدِّين المَسِيحي" كُلَّمَا أَحْتَاجُ إِلَيْهَا؛ اجْعَلُوهَا بِالْقُرْبِ مِنْكُمْ دَائِمًا. فِي نِهَايَةِ الْكِتَابِ الرَّابِعِ، يَتَحَدَّثُ كَالْفِنْ عَنِ الدَّوْلَةِ. فِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْكِتَابِ الرَّابِعِ، فِي الْجُزْءِ الأَخِيرِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ، يَتَحَدَّثُ عَنِ الْعَلاقَةِ مَعَ الدَّوْلَةِ. فَيَقُولُ الآتِي:

فِي الْحَقِيقَةِ، يَنْبَغِي لِلْمَسِيحِيِّينَ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وُلِدُوا لِيَتَحَمَّلُوا الافْتِراءَ وَالإِيذَاءَ؛ وَمُتَوَقِّعِينَ خُبْثَ الأَشْرَارِ وَخِدَاعَهُمْ وَاسْتِهْزَاءَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، يَنْبَغِي لَهُمْ تَحَمُّلُ كُلَّ هَذِهِ الشُّرُورِ بِطُولِ أَنَاةٍ. أَيْ، يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّوْا بِهَذِهِ السَّكِينَةِ الرُّوحِيَّةِ الْمُثْلَى بِأَنَّهُم حِينَ يُهَانُونَ، يَسْتَعِدُّونَ لِتَلَقِّي الْمَزِيدِ، وَلا يُكَرِّسُونَ أَنْفُسَهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ سِوَى لِحَمْلِ صَلِيبٍ إِلَى الْمُنْتَهَى.

يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مَا بِإِدْرَاكِ اتِّحادِنَا بِالْمَسِيحِ، وَوَضْعِ ثِقَتِنَا فِيهِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ النَّاتِجِ الْخَارِجِيِّ، وَبَعِيدًا عَنْ تِلْكَ التَّوَقُّعَاتِ الثَّقَافِيَّةِ وَأَوْلَوِيَّاتِها، وَحَتَّى إِنْ كَانَتْ فِي تَعَارُضٍ. مَاذا تَعْنِي مُشَارَكَةُ آلامِهِ؟

أَلْقَى لُوثَرُ عِظَتَهُ الأَخِيرَةَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ يَنَايِرَ عَامَ 1546، فِي سْلُوْشْكِيرْكَ (Schlosskirche)، كَنِيسَةِ الْقَلْعَةِ. وَعَقِبَهَا، عَلِمَ بِوُقُوعِ أَزْمَةٍ فِي أَيْسْلَيْبِنْ. كَانَ هَرِمًا. لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْيَوْمِ عَيْنِهِ، كَتَبَ رِسَالَةً قَالَ فِيهَا: "أَنَا رَجُلٌ مُسِنٌّ وَمُتْعَبٌ وَبَطِيءٌ وَمُرْهَقٌ وَبَارِدٌ، وَفَوْقَ ذَلِكَ، رَجُلٌ لا يَرَى سِوَى بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ" -كَانَ مُصَابًا بِإِظْلامِ عَدَسَةِ الْعَيْنِ. كَانَتْ عَيْنُهُ مُغَطَّاةً بِالْكَامِلِ. فَلَمْ يَكُنْ يَرَى- "رَجُلٌ عَلَى شَفَا الْمَوْتِ مِثْلِي، يُحَبِّذُ أَنْ أُتْرَكَ فِي سَلامٍ". مَعْذِرَةً يَا لُوثَرُ. لَنْ نَتْرُكَكَ فِي سَلامٍ. فَلْنَسْتَدْعِهِ إِلَى أَيْسْلَيْبِنْ. رِحْلَةٌ مَرِيرَةٌ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا. فَالْجَلِيدُ يَطْفُو عَلَى النَّهْرِ. والصَّفِيحَةُ الجَلِيدِيَّةُ الْتَصَقَتْ بِرَصِيفِ الإِنْزَالِ، فَلَمْ يَقْدِرِ الْقَارِبُ عَلَى الاقْتِرَابِ كِفَايَةً مِنَ الرَّصِيفِ. فَاضْطُرُّوا إِلَى التَّرَجُّلِ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَبِمُجَرَّدِ أَنْ نَزَلُوا، ابْتَلَّ كُلُّ شَيْءٍ، وَشَعَرُوا بِالْبُرُودَةِ أَكْثَرَ. يَا لَهُ مِنْ صَقِيعٍ فِي أَلْمَانْيَا. شِتَاءٌ قَارِسٌ. وَلُوثَرُ رَجُلٌ مُسِنٌّ. مُصَابٌ بِالْتِهَابٍ رِئَوِيٍّ. يَصِلُ إِلى أَيْسْلَيْبِنْ. يُفْحَصُ طِبِّيًّا. يَعِظُ. يُسَاعِدُ الْبَلْدَةَ. يُصَالِحُهُمْ. يَحُلُّ الأَزْمَةَ. يَتَفَاقَمُ عَلَيْهِ الْمَرَضُ، شَارَفَ عَلَى الْمَوْتِ. فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، كَاتِي تَسْمَعُ عَنْ هَذَا. تَتَوَتَّرُ. وَتُصَابُ بِالذُّعْرِ. فَيَرُدُّ عَلَيْها كَاتِبًا: "بِصُحْبَتِي رَاعٍ أَفْضَلَ مِنْكِ" فَهْوَ لا يُحَاوِلُ أَنْ يَكُونَ فَظًّا. عَلَيْكَ إِنْهَاءُ الأَمْرِ. "بِصُحْبَتِي رَاعٍ أَفْضَلَ مِنْكِ وَمِنْ جَمِيعِ الْمَلائِكَةِ، يَرْقُدُ فِي مِزْوَدٍ وَيَرْضَعُ وَمِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ. لَكِنَّهُ الْجَالِسُ عَنْ يَمِينِ اللهِ الآبِ الْقَدِيرِ". بِاسْتِطَاعَتِنَا الثِّقَةُ فِي الْمَسِيحِ لأَنَّ إِدْوَارْدْز -دَعُونِي أَرَى مَا إِذَا كُنْتُ أَقْتَبِسُهَا بِدِقَّةٍ- تَحَدَّثَ عَنِ "اقْتِرانِ الْجَلالِ الإِلَهِيِّ الرَّائِعِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ". أَتَعْلَمُونَ مَاذَا يَعْنِي هَذَا؟ يَعْنِي أَنَّهُ الْمَلِكُ الْمُتَوَّجُ الْمَالِكُ عَلَى كُلِّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ الرَّضِيعُ الْعَاجِزُ فِي الْمِذْوَدِ. فَفِي الْمَسِيحِ نَضَعُ ثِقَتَنا، كَيْ نَعْرِفَهُ وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَأَيْضًا كَيْ نُشَارِكَهُ آلامَهُ وَنُدْرِكَ مَلِيًّا مَعْنَى الصَّلِيبِ.

لِذَا كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَنِ الثِّقَةِ فِي الْمَسِيحِ. سَنَعُودُ فِي الْمُحَاضَرَةِ الْقَادِمَةِ لِنَتَحَدَّثَ عَنْ ثِقَتِنا فِي الإِنْجِيلِ.