من أنت لتدين؟
۱۹ نوفمبر ۲۰۱۹فخ إبليس
٤ ديسمبر ۲۰۱۹تعريف الإيمان القويم
يمكن القول بأن إشكاليَّة الأريوسيَّة في القرن الرابع الميلادي هي أكبر إشكاليَّة لاهوتيَّة واجهت الكنيسة عبر تاريخها. كبروتستانت، قد نعتقد أن الإشكاليَّات اللاهوتيَّة التي واجهت الإصلاح في القرن السادس عشر كانت الأكثر خطورة. ومع ذلك، وبدون التقليل من خطورة هذه الإشكاليَّات، تبقى إشكاليَّة الأريوسيَّة الأخطر لأنها تمس أمرًا أعمقًا. كان المصلحون يناقشون كيفيَّة قبولنا لبركات عمل المسيح؛ بينما كان رجال القرن الرابع يناقشون أمرًا أبسط بكثير — من هو المسيح. ما لم يتم وضع أساس صحيح حول هويَّة شخص الفادي، يكون الانتفاع قليل من النقاش حول بركات عمله.
نشأت إشكاليَّة الأريوسيَّة، ليست من قِبل أريوس نفسه، ولكن من قِبل مفكر مسيحي بازر في القرن السابق له، وهو أوريجانوس (185-254). قاوم أوريجانوس بقوة وبنجاح واحدة من أخطر التهديدات التي واجهت الإيمان القويم في القرن الثالث — وهي الشكلانيَّة (أو "السابيليَّة" نسبة لأحد أكبر دعاتها). حاولت الشكلانيَّة حل لغز كيفيَّة أن يكون الله واحد وفى نفس الوقت ثلاثة أقانيم من خلال إنكار وجود أي تمييز حقيقي ومطلق بين أقانيم الطبيعة الإلهيَّة. فالآب والابن والروح القدس هم فقط "أشكال" مختلفة لأقنوم أو شخص واحد ذات الطبيعة الإلهيَّة — مثلما يمكن أن يكون للإنسان الواحد ثلاثة أدوار مختلفة في الحياة (فهو زوج، ووالد، ومدير تنفيذي بأحد الشركات).
يُحسب لأوريجانوس بأنه قاوم بشدة اختزال أقانيم الثالوث في أقنوم واحد له ثلاثة "أشكال من النشاط". وأصر على أن هناك تمييزًا حقيقيًّا ومطلقًا بين الآب، والابن، والروح القدس. كيف، على سبيل المثال، يمكن أن يكون للمسيح علاقة حقيقيَّة وشخصيَّة مع أبيه السماوي إذا كان الاثنان هما في الواقع نفس الأقنوم في شكلين مختلفين؟
حتى الآن، الأمور جيدة وواضحة. ولكن تسبَّب أوريجانوس في تشويش والتباس كبير نتيجة للطريقة التي شرح بها التميز بين الآب والابن. استوحى أوريجانوس فكرته من الفلسفة اليونانيَّة في عصره، إذ قال إن هناك "درجات الألوهيَّة". يمتلك الآب الطبيعة الإلهيَّة الكاملة، مائة بالمائة، ولكن بولادة الابن الأزليَّة، فقدت هذه الطبيعة الإلهيَّة درجة من كمالها، مثلما أن يصبح النور باهتًا قليلًا عندما ينتقل من مصدره. لذلك فالابن مع كونه الله منذ الأزل، إلا أن طبيعته ليست مثل الآب تمامًا. الأمر كما لو أن الابن يمتلك الطبيعة الإلهيَّة بنسبة تسعة وتسعين فاصل تسعة في المئة.
قبلت الكنيسة في نصف الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الشرقيَّة الناطقة باليونانيَّة إلى حدٍ كبير لاهوت أوريجانوس كرد فعل مقنع على الشكلانيَّة. بالطبع، دافع أوريجانوس عن التمييز بين الأقانيم في الثالوث. ولكن مفهومه عن "درجات الألوهيَّة" تسبَّب في إشكاليَّة أكبر، سرعان ما تم الطعن فيها.
كان أريوس (256-336) أحد هؤلاء الأشخاص الذين طعنوا في مفهوم أوريجانوس. أثار أريوس، الذي كان واعظًا مثقَّفًا وبارزًا من ليبيا، زوبعة من الخلاف في كنيسة الإسكندريَّة (أهم كنيسة في الشرق) بهجومه على تعاليم أوريجانوس. أصر أريوس أنه لا يمكن أن تكون هناك درجات للألوهيَّة. فإما أن يكون الأقنوم هو الله أو ليس الله: إما الخالق أو المخلوق. بقوله هذا، كان أريوس أكثر أمانة من أوريجانوس من جهة الكتاب المقدس. لكن استخلص أريوس استنتاجات أثارت غضب أصحاب الإيمان القويم. فقد صرَّح بأن الآب وحده هو الله والخالق؛ والابن ليس سوى مخلوق، وبالتالي ليس حقًا الله. المسيح هو ببساطة أول وأعظم مخلوقات الله، وبواسطته خُلق كل شيء آخر.
كان ألكساندر (Alexander، الذي توفى عام 328)، وهو أسقف أوريجانوس، أيضًا غير راضٍ بنفس القدر عن مفهوم "درجات الألوهيَّة" لأوريجانوس. لكنه استخلص استنتاجات ضد ما قاله أريوس. أكد ألكساندر أن المسيح مساويًا للآب في امتلاكه الطبيعة الإلهيَّة. فالابن مئة في المئة هو الله. ما صارع ألكساندر في شرحه هو كيف، على حد فهمه، لا يكون الآب والابن إلهين. أصبح الأمر على عاتق سكرتير ألكساندر، أثناسيوس (296-373)، الذي خلف ألكساندر أسقفًا للإسكندريَّة في عام 328، أن يضع الأساس لتفسير اعتنقته الكنيسة بأكملها باعتباره حفظ للإيمان القويم.
في بداية الأمر، حاول أولئك الذين اعترفوا بألوهيَّة المسيح (الأغلبية) التعامل مع أريوس ومؤيديه من خلال الإجراءات التأديبيَّة. قام الأسقف ألكساندر بحرمان أريوس وطرده من الكنيسة. وعندما رفض الواعظ الليبي أن يقبل الهزيمة ويصمت، تم إيقاف حملته المزعجة ضد ألوهيَّة المسيح في مجمع نيقيَّة العظيم عام 325. كان هذا أول مجمع "مسكوني" يحضره كل الأساقفة والشيوخ، ولم يكن له أي علاقة بالحركة الحديثة التي تحمل نفس الاسم. تأتي كلمة "مسكوني" من كلمة يونانيَّة تعني "الأرض المأهولة". بمعنى آخر، مثَّل هذا المجمع جميع المسيحيِّين في كل مكان.
تجرع أريوس هزيمة عميقة في هذا المجمع، بالكاد ايَّده أي شخص. مزَّق أحد الأساقفة بغضب قانون إيمان أريوس واعتبره تجديف! أحيانًا يتم تصوير مجمع نيقيَّة اليوم على أنه "اخترع" عقيدة ألوهيَّة المسيح. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالأغلبيَّة الساحقة في مجمع نيقية رأوا أنفسهم كحماة للإيمان الرسولي القديم ضد بدع أريوس الشريرة. وبعد الكثير من النقاش، تم اقناع الآباء والأخوة المجتمعين بأن أفضل طريقة للقيام بذلك هي صياغة قانون للإيمان — المعروف باسم قانون إيمان نيقيَّة —كمعيار للإيمان القويم.
ينص قانون الإيمان هذا بشكل قاطع أن الابن "مساوي في الجوهر" (هوموؤسيوس) لله الآب. يشتق هذا المصطلح من الكلمة اليونانيَّة أوسيا، والتي يمكن ترجمتها بطرق مختلقة مثل "طبيعة، كينونة، جوهر، ذات". وهي تشير إلى الواقع الأعمق في صميم شيء ما. يشترك الآب والابن، كما أشار المجمع، في نفس الواقع الأعمق — فما يكونه الآب في عمق كينونته، فإن الابن كذلك أيضًا. لم يؤيد أريوس قانون الإيمان، لأن صميم لاهوته كان أن المسيح لا يشترك في الواقع الأعمق لله الآب. أحدهم هو الله، والأخر ليس كذلك؛ أحدهم هو الخالق، والأخر مخلوق. لذلك وجد أريوس نفسه مهزومًا تمامًا في المجمع، ومطرودًا من الخدمة.
كان يجب أن يكون هذا نهاية القصة. ولكن من الغريب أن الكنيسة ظلَّت منقسمة بسبب إشكاليَّة أريوس لمدة خمسين سنة أخرى، وهي من أكثر السنوات خزيًا وإثارة في تاريخها النابض بالحياة.
يرجع استمرار الخلاف إلى سببين رئيسيَّين. أولًا، كان عدد قليل من الأريوسيِّين سياسيِّين ماهرين، مثل الماكر يوسابيوس من نيقوميديا (Eusebius of Nicomedia، الذي توفى عام 342)، واكتسبوا نفوذًا في بلاط الإمبراطور. تبيَّن أن وجود أباطرة "مسيحيِّين" يشكِّل بركة مشوبة. بالفعل يتبادر إلى الذهن كلمة مختلفة، حيث لُعنت الكنيسة والإمبراطوريَّة بوجود سلسلة من الأباطرة الذين ايَّدوا بدعة أريوس. هذه هي الفترة التي حصلنا منها على الشعار المعروف باللغة اللاتينيَّة (Athanasius contra mundum) "أثناسيوس ضد العالم ". لم يقف أثناسيوس أبدًا بمفرده ضد العالم؛ على الرغم من ضعف شخصيات العديد من الأساقفة أمام الأباطرة الأريوسيِّين، بقيت القاعدة الشعبيَّة بالكنيسة موالية إلى حد كبير لإيمان مجمع نيقيَّة. لكن أثناسيوس وجد نفسه مرارًا وتكرارًا معزولًا إلى حد ما بين قادة الكنيسة، وقضى سبعة عشر عامًا في المنفى من فترة خمسة وأربعين عامًا أسقفًا لمدينة الإسكندريَّة، مختبئًا كثرًا في الصحراء، ومُطاردًا من جنود الإمبراطور.
والسبب الآخر لاستمرار هذا الإشكال هو أن الرأي المحافظ في الكنيسة، على الرغم من معارضته التامة للأريوسيَّة، استغرق وقتًا طويلًا للتخلُّص من تعاليم أوريجانوس الشائكة عن "درجات الألوهيَّة"، وقبول صحة المصطلح الرئيسي هوموؤسيوس. اعترض كثيرون على هذا المصطلح لعدم وجوده في الكتاب المقدس. ولكن علمتهم الخبرات القاسية في النهاية أن يستخدموا الكلمات والعبارات غير الموجودة في الكتاب المقدس لشرح معنى الكتاب المقدس والحماية من بدعة الأريوسيَّة. كانت مصطلحات الكتاب المقدس تنطلق من لسان أتباع الأريوسيَّة الأكثر تطرُّفًا، بعد أن يضيفوا عليها معاني مهرطقة خاصة بهم. ولكن لا يوجد أريوسي — على الأقل لا يوجد شخص أمين لما يقوله — يمكنه أن يصادق على تعبير هوموؤسيوس الموجود في قانون الإيمان. فهذا المصطلح يضع حدًا فاصلًا واضحًا بين الفهم الأريوسي للكتاب المقدس والفهم القويم. وهذا أخيرًا كان ميدان الجدال: ليس لغة الكتاب المقدس، ولكن فهم معناه.
تطلَّب الأمر مجمعًا مسكونيًّا ثانيًا لتسوية الخلاف: مجمع القسطنطينيَّة في عام 381، والذي تمكَّن عقده أخيرًا بسبب وجود إمبراطور مستقيم الإيمان هو الإمبراطور ثيودوسيوس (Theodosius). أصدر هذا المجمع قانون إيمان جديد، والذي نعرفه اليوم باسم قانون الإيمان النيقاوي. (المربك هو أن قانون الإيمان الذي تم إصداره في مجمع نيقيَّة عام 325 ليس هو قانون الإيمان النيقاوي، بل هو قانون إيمان نيقيَّة. أما قانون الإيمان النيقاوي فهو نسخة مطوَّلة صدرت عن مجمع القسطنطينيَّة عام 381).
كانت العقول وراء هذا الانتصار للإيمان القويم في القسطنطينيَّة هم الآباء الكبادوكيِّين — باسيليوس أسقف قيصرية (330-379)، وشقيقه غريغوريوس النيسي (335-394)، وصديق باسيليوس، غريغوريوس النازينزي (330-390). بنى الكبادوكيون على ما وضعه أثناسيوس من أساس، إذ صاغوا اللغة التي تعبر عن المفهوم القويم للثالوث والتي مازلنا نستخدمها اليوم. بالإضافة إلى مصطلح أوسيا والذي يُعبِّر عن الطبيعة الإلهيَّة، عرَّف الكبادوكيون مصطلح هيبوستاسيس (hypostasis) والذي يعبِّر عن حقيقة الأقانيم الإلهيَّة. عادة ما نترجم مصطلح هيبوستاسيس "أقنوم". ما قصده الكبادوكيون من مصطلح "أقنوم" هو الشكل الخاص والمتميِّز الذي توجد به الطبيعة الإلهيَّة في الآب، والابن، والروح القدس، مما يميزهم عن بعضهم البعض.
قضى كل من مجمع القسطنطينيَّة وقانون الإيمان النيقاوي على إشكاليَّة أريوس داخل الكنيسة. بتأييد الكنيسة للصياغة الكبادوكيَّة، اعترفت بأن إلهها هو ثلاثة أقانيم في جوهر واحد. كل أقنوم في الثالوث له طبيعة إلهيَّة مثل الاثنين الأخرين (لم يعد هناك "درجات الألوهيَّة")، ومع ذلك كل واحد منهم متميز عن الآخر، لأن كل واحد منهم يمتلك الطبيعة الإلهيَّة الواحدة بطريقة مختلفة.
كان هذا هو الرأي الذي انتقل من الكنيسة الأولى إلى العصور الوسطى، وأعاد تأكيده المُصلحون. وهو مُرسَّخ في إقرارات إيماننا المُصلحة. إذا أخذنا الكتاب المقدس وتاريخنا على محمل الجد، فسيكون هذا هو الرأي الذي نجد أنفسنا أيضًا نعتنقه ونقر به.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.