
التعلُّم من القضاة
۲٤ أكتوبر ۲۰۲۵
التعزية التي لنا في صلاة يسوع
۷ نوفمبر ۲۰۲۵ربٌّ واحد
قبل ثماني عشرة سنة، أصابتني دهشةٌ شديدة حين كنتُ حاضرًا في أول مساقٍ في العهد القديم في مسيرتي الأكاديميّة. درستُ في جامعة علمانيّة، ولذا لم أتوقَّع الحصول على الكثير من التعليم الكتابي الصحيح. ولكنّني رجوتُ أن يُعامَل الكتاب المُقدَّس بصورة عادلة لأنّ أستاذ ذلك المساق كان يهوديًّا أورثوذكسيًّا. ولذا يمكنك تخيُّل مشاعر المفاجأة لديّ حين قال أستاذي إنّ الأمناء من بني إسرائيل القدماء لم يكونوا ينكرون وجود آلهة أخرى، وإنّهم كانوا يعبدون يهوه دون الآلهة الأخرى، ولكنّهم كانوا يؤمنون أنّ الآلهة الأخرى حقيقيّة أيضًا.
تقبل دوائر "النقد العالي" الليبراليّة رأي أستاذي، الذي يُدعى "الهينوثيّة" (henotheism؛ الاعتقاد بوجود آلهة عديدة لكن حصر العبادة على إله واحد) باعتباره أمرًا مؤكَّدًا ومسلَّمًا به. ويعتقد هؤلاء النقّاد أنّ التوحيد الحقيقيّ، وهو الاعتقاد بوجود إلهٍ واحد، قد أتى لاحقًا في تاريخ شعب إسرائيل. ودفاع هؤلاء عن فكرة "عبادة الاستيحاد" يعتمد بصورةٍ كبيرة على قراءة الإشارات إلى "الآلهة الأخرى" في أسفار موسى الخمسة باعتبارها دليلًا على أنّ موسى نسب وجودًا حقيقيًّا لآلهة الشعوب الأخرى، ولكنّه كان يؤمن أنّ على إسرائيل أن يعبدوا يهوه وحده (مثل خروج 20: 3).
ينبغي للباحثين غير المؤمنين أن يركِّزوا على التفصيلات الدقيقة وأن يتجاهلوا السياقات الأوسع من أجل أن "يجدوا" الهينوثيّة في الكتاب المُقدَّس. يظهر تأكيد موسى على وجود إله واحد فقط بصورة واضحة في الأصحاح الأول من الأسفار الخمسة. فبخلاف روايات الخلق في الشرق الأدنى القديم، لا نقرأ عن معارك بين الآلهة أدَّت إلى مجيء الأرض إلى الوجود. فسفر التكوين يقدِّم إلهًا واحدًا "خَلَقَ ... السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" (تكوين 1: 1). فيهوه، العامل الفاعل الوحيد في القصّة، صنع الكون بكلمته.
وعلى الرغم من انتشار تعدد الألهة في الشرق الأدنى القديم، يؤكِّد كُتّاب الكتاب المُقدَّس على أنّه لا يوجَد سوى إلهٍ واحد. وقبل "الشِّماع" وتأكيدها على التوحيد الإلهي، نقرأ أنّه "لَيْسَ سِوَاهُ" (تثنية 4: 39)، أي ليس سواه ربًّا. يهوه هو الوحيد الذي تجاوَب في المواجهة التي حدثت بين إيليا وأنبياء البعل، لأنّ يهوه موجود والبعل غير موجود (1ملوك 18: 20-40). ويقول النبي إشعياء: "لاَ إِلهَ غَيْرِي" (إشعياء 44: 6)، ويُشير إلى حماقة خدمة وعبادة الآلهة التي تمثِّلها أصنام مصنوعة من خشب (إشعياء 44).
وقد أعلن الرسل الإيمان بالتوحيد بأقصى قوّة حين واجهوا الوثنيّة اليونانيّة. ففي رومية 1، يسير بولس في خطّ إنكار العهد القديم لوجود آلهة أخرى، موضِّحًا أنّ الوثنية نشأت نتيجة حجز وكظم معرفتهم للإله الحقيقي الوحيد، وخلْقهم آلهةً يستطيعون التحكُّم بها (رومية 1: 18-23). والرسول بولس أيضًا يُذكِّر تيموثاوس، الذي كان يخدم في سياق وثنيّ، بأنّه: "يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ" (1تيموثاوس 2: 5). وفي سفر الرؤيا، يُشير يوحنا إلى بطلان وعبثية الديانة الرومانيّة، ويصف السقوط النهائي لأيِّ مدّعٍ بأنَّ له حقَّ الجلوس على عرش الربّ القدير.
إله الكتاب المُقدَّس يعلِن نفسه، بل ينبغي أن يعلِن نفسه لنتمكَّن من معرفته.
وحقيقة أنَّ الإله الوحيد يُعلِن نفسه لخليقته تمثِّل، بحسب الكتاب المُقدَّس، الأساسَ الداعم للتوحيد. فما فائدة أن تعرف أنّه يوجد إله واحد من دون أن تعرف أيَّ شيءٍ آخر عنه؟ فهذا الإله سيكون غائبًا من الناحية الوظيفيّة والعمليّة، ممّا يتركنا في حالة جهاد لمعرفة إرادته، هذا إن كان يهتمّ بأن نتبعها. ولكنّ إلهَ الكتاب المُقدَّس يُعلِن نفسه، بل ينبغي أن يُعلِن نفسه لنتمكَّن من معرفته. ويأتي هذا الإعلان من خلال الخليقة نفسها (مزمور 19؛ رومية 1: 18-32)، ولكنّ المعرفة المُخلِّصة للخالق غير ممكنة إلا من خلال الإعلان الخاصّ المُدوَّن في الكتاب المُقدَّس (متّى 11: 27؛ 2 تيموثاوس 3: 16-17).
إذًا، ما المغزى؟
ليس التوحيد الكتابي تخمينًا مجرَّدًا فقط، بل له أربع عواقب عملية في الحياة والخدمة:
اليقين: يُعلِن الله نفسَه حقًّا وبصورة واضحة، ولذا فإنّنا لسنا متروكين للتخمين بشأن ما يتوقّعه منّا. كثيرًا ما يرى الناس أنفسهم "باحثين" يبذلون أفضل جهودهم لفهم الله. ومع هذا، فإنّ مجرَّد التخمين أساسٌ متزعزع وغير ثابت لمصير الإنسان الأبديّ.
الشجاعة: لم يُلقَ بالمؤمنين الغربيّين بعدُ إلى الأُسود. لكنْ إن حدث أن واجهنا ألمًا حقيقيًّا، فلن نثبت إنْ لم نكن مقتنعين بأنَّ إله الكتاب المُقدَّس هو الإله الوحيد. سننكر المسيح عند أوّل ظهور لضيق إنْ تردَّدنا أمام حقيقة أنَّ الإله الواحد تعني مُخلِّصًا واحدًا للعالم. من دون هذا الأساس، سنركع أمام النسبيّة الدينيّة. فالتزام دانيال بالتوحيد قوّاه ليقاوم الوثنية. وبنعمة الله، نستطيع نحنُ أن نتبع مثاله. فلن نخاف ممّا يستطيع أعداؤنا أن يعملوه لأموالنا أو أقربائنا أو حياتنا الفانية. فإن كان هناك إله واحد، وهو معنا، فلن يكون الاضطهاد سوى ضيق خفيف وبسيط إذا قورِن بثقل المجد الأبدي المحفوظ لنا (2 كورنثوس 4: 7-18).
الاقتناع: الاقتناع والشجاعة أمران يعتمدان الواحد على الآخر بصورة متبادَلة غير قابلة للفصل. تمكِّننا الشجاعة من أن نثبت ونثابر في محبّة الإله الحقيقي الوحيد، ويمكّننا الاقتناع من أن نثبت في موقفنا حتى حين نتعرّض للضيق. فإنّ كان إيماننا مبنيًّا على حقيقة أنَّ هناك إلهًا واحدًا، وبالتالي على حقّ واحد، فإنَّ كرازتنا وتعليمنا ووعظنا وانخراطنا الثقافي ستكون قويّة. وعندئذٍ سنواجه حصون البشريّة الساقطة، وسيستخدم الروح القدس كلماتنا لِلَمْس قلوب الخطاة. لدى الكنيسة احتياجٌ شديد إلى رجالٍ ونساء لديهم اقتناع تقيّ، وهذا الاقتناع يبدأ بالالتزام الثابت بالتوحيد الكتابي.
الوضوح: يساعدنا فهم التوحيد الإلهي في أن نكون واضحين بشأن ما نؤمن به وما علينا أن نعلّمه. نحنُ لا نؤمن بإلهٍ واحدٍ معروفٍ بأسماء عديدة ويقدِّم طُرقًا عديدةً للخلاص. ولا ننادي بأنّه يكفي أن نؤمن بوجود إله واحد. فنحنُ نقرّ ونعترف أنّ علينا أن نثق بإله الكتاب المُقدَّس، الذي هو ليس معبود حتّى أصحاب النيّات الطيّبة من المسلِمين أو المورمون أو شهود يهوه أو الإرواحيّين أو اليهود المعاصرين.
لا التوحيديّة المُطلَقة
في ما يتعلَّق بالوضوح، ليس التوحيد الكتابي توحيدًا مُطلَقًا. فيُظهِر كمال شهادة "الشِّماع" على وحدانيّة الله في تعليم الكتاب المُقدَّس بأنّ وحدانيّته ليست وحدانيّة لا تمايُز فيها. فوحدانيّته تختصّ بجوهره الإلهيّ، ولكن هذا الجوهر الإلهيّ الواحد يشترك فيه بصورة كاملة ومتساوية ثلاثة أقانيم متميّزة. فألوهيّة الآب والابن والروح القدس كاملة ومتساوية، ولكنّ الآب ليس الابن، الذي هو أيضًا ليس الروح القدس (يوحنا 1: 1؛ يوحنا 14: 16-17؛ 2 كورنثوس 13: 14).
الخلاص عمل الله الثالوث. فالآب أرسل الابن، والابن كفَّر عن الخطايا، والروح القدس يجعل هذه الكفّارة جزءًا من كياننا وحياتنا. الروح القدس يلد شعبه ولادةً ثانية، وبالتالي يثقون بالابن وحده، والابن يقدِّم ملكوت مختاري الربّ إلى الآب "كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (يوحنا 3: 5، 16؛ 1 كورنثوس 15: 20-28؛ عبرانيّين 1: 1-4).
لسنا مضطرين لأن نفهم الثالوث فهمًا تامًّا لننال الخلاص، إذْ هذا الفهم غير ممكن للخلائق. ولكنْ كما يقول قانون الإيمان الأثناسيّ، لا يمكن لأحد أن يخلص إن كان ينكِر حقيقة أنّنا نعبد إلهًا واحدًا في ثالوث، وثالوثًا في وحدانيّة.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

