ما هي الوكالة؟
۳۰ مارس ۲۰۲۳ما هو الإيمان الذي للخلاص
٦ أبريل ۲۰۲۳في البدء…
تطرح الآية الأولى من آيات الكتاب المقدّس الإقرار الذي على أساسه يقوم كلّ شيء آخر: "فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ" (تكوين 1: 1). في الآية الأولى من الكتاب المقدّس تأكيدٌ على ثلاث نقاط أساسيّة هي: (1) يوجد بداية؛ (2) يوجد إله، و (3) يوجد خلق. قد يظنّ أحدُهم أنّه لو كان بالإمكان إثبات النقطة الأولى بإحكام، فستَثْبُت النقطتان الأُخريان بالضرورة المنطقيّة. بعبارةٍ أخرى، إنْ كان للكونِ بداية بالفعل، فلا بدّ من وجود شيء ما، أو شخص ما، مسؤول عن تلك البداية؛ وإنْ كانت البداية موجودة، فلا بدّ من وجود خلق من نوع ما.
إنّ الجزء الأكبر من الذين يتبنّون النظرة العلمانيّة، يقرّون بأنّ للكون بداية زمنيّة. مثلًا، يقول المدافعون عن نظريّة الانفجار الكبير، إنّ الكون نشأ منذ خمسة عشر إلى ثمانية عشر مليار سنة نتيجةً لانفجار ضخم. ولكن، إنْ كان الكون قد انفجرَ وأصبحَ موجودًا، فما الذي انفجر منه؟ هل انفجرَ من لا شيء؟ هذه فكرة عبثيّة. من السخرية بمكان أنّ معظم العلمانيّين يعترفون أنّ للكون بداية، ولكنّهم يرفضون فكرتَي الخلق ووجود الله.
يتّفق الجميع تقريبًا على وجود شيء اسمه الكون. قد يدافع البعض عن فكرة أنّ الكونَ، أو واقعَ العالم الخارجيّ - وحتّى وعيَنا الذاتيّ – ليست إلّا مُجرّد وهم. ومع ذلك، يحاول أكثر الأشخاص أنانيّة وجموحًا أنْ يتحاججوا بأنّه لا وجود لأيّ شيء. على المرء أنْ يكونَ موجودًا لكي يكون قادرًا على تقديم خُلاصة مفادها بأنّه لا يوجد شيء. وبما أنّ الحقيقة تُفيد بأنّ شيئًا ما موجود، وأنّ الكونَ موجود، كان سؤال الفلاسفة واللاهوتيّين عبر التاريخ: "لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟" ربّما يكون هذا أقدمُ الأسئلة الفلسفيّة على الإطلاق. وقد أدركَ الذين حاولوا الإجابةَ عنه، أنّ أمامَهم ثلاثة خيارات أساسيّة فقط لشرحِ الواقع الموجود كما نراه في حياتِنا.
الخيار الأوّل هو أنّ الكونَ موجود بذاته وهو أزليّ. ذكرتُ آنفًا أنّ الغالبيّة العظمى من العلمانيّين يعتقدون أنّ للكون بداية، وأنّه ليس أزليًّا. الخيار الثاني هو أنّ العالمَ الماديّ موجود بذاته وأزليّ، وقد دافع عن هذه الحجّة أناس في الماضي، وحتّى في يومنا هذا. في هذَيْن الخيارَيْن عُنصرٌ مشترك واحد مُهمّ ألا وهو: كلاهما يقول بأنّ شيئًا ما هو ذاتيّ الوجود وأزليّ.
الخيار الثالث هو أنّ الكون خلقَ نفسَه بنفسِه. يعتقد الذين يتمسّكون بهذا الرأي، أنّ الكون نشأ فجأة وبشكل دراماتيكيّ بقوّته الذاتيّة، على الرغم من أنّ مناصري هذا الرأي لا يستخدمون لغة الخلق الذاتي، لأنّهم يُدركون أنّ هذا المفهوم هو أمر منافٍ للمنطق. لكي يقدر شيء ما أنْ يخلقَ نفسَه بنفسِه، لا بدّ له أنْ يكونَ هو خالقُ نفسِه، وهذا يعني أنّه لا بدّ له أنْ يكونَ موجودًا قبلَ أنْ يكونَ موجودًا، ممّا يعني أيضًا أنّه لا بدّ له أنْ يكونَ وألّا يكونَ في الوقت نفسه، وفي العلاقة نفسها. وما هذا إلّا انتهاك للقانون الأساسيّ للمنطق والعقل، ألا وهو قانون عدم التناقض. بالتالي، إنّ مفهومَ الخلق الذاتيّ هو مفهوم عبثيّ ومتناقض وغير عقلانيّ. إنّ التمسّكَ بمثل هذه النظرة هو لاهوت وفلسفة وعلم فاسد، لأنّ الفلسفةَ والعلمَ يرتكزان على قوانين العقل الحازمة.
كان أحد الحيثيّات الرئيسيّة لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، هو الفرضيّة التي عُرفت باسم "فرضيّة وجود الله"، والتي أصبحت طريقة غير ضروريّة لشرح وجود الكون الخارجيّ. كانت الكنيسة حتّى ذلك الوقت، تتمتّع باحترام عالَم الفلسفة. لم يقدر الفلاسفة خلال العصور الوسطى دحضَ الضرورة المنطقيّة لوجودِ مُسبّب أوّل أزليّ. ولكن بحلول عصر التنوير، تطوّر العلم لدرجة أنّه أصبح بالإمكان اللجوء إلى تفسيرٍ بديل لشرح وجود الكون، بدون اللجوء إلى وجود علّة أولى متعالية وذاتيّة الوجود وأزليّة، أو إلى وجود الله.
سُمّيت هذه النظريّة باللغة الإنجليزيّة بـ Spontaneous Generation، والتي تقول إنّ العالم انبثق إلى الوجود من تلقاء نفسه. لا يوجدُ فرق بينها وبين التناقض الموجود في فكرة الخلق الذاتيّ. ولكن، عندما أصبحت نظريّة Spontaneous Generation نظريّة عبثيّة في العالم العلميّ، ظهرت مفاهيم بديلة لها. اعترف عالم فيزياء حائز على جائزة نوبل في مقالة له، أنّه في حين أنّ نظريّة الـ Spontaneous Generation هي استحالة فلسفيّة، فإنّ الحال ليس كذلك مع نظريّة Gradual Spontaneous Generation. لقد أتى بنظريّة مفادها أنّه لو أُعطي العدم الوقتَ الكافي، لاستطاع بطريقة ما، أنْ يزيدَ من طاقته لإخراج شيء ما إلى الوجود.
المصطلح المُستخدم عادة بدلًا من "الخلق الذاتيّ" هو "الخلق بالاحتمال". وهنا أيضًا، تَظهرُ مغالطة منطقيّة أخرى، ألا وهي مغالطة استخدام لغة الإبهام أو الغموض. تقع هذه المغالطة، عندما تُغيّر الكلمات الرئيسيّة المُستخدمة في حُجّة ما، وبمهارة بارعة، معناها. وقعت هذه المغالطة عند استخدام كلمة "احتمال". إنّ كلمة "احتمال" مُفيدة في التحقيقات العلميّة، لأنّها تصف إمكانيّات حسابيّة. مثلًا، إنْ كان في غرفة مُحكمة الإغلاق خمسون ألف ذبابة، فيُمكن استخدام الاحتمالات الإحصائيّة لإظهار احتماليّة وجود عدد مُعيّن من الذباب في أيّ مساحة إنشٍ مُربّع من تلك الغرفة وفي أيّ وقت كان. إذن، في محاولة للتكهّن بالأشياء بطريقة علميّة، يُعتبر الوصول إلى مُعادلات مُعقّدة للإمكانيّات المُحتملة عملًا مُهمًّا ومشروعًا.
ومع ذلك، يُعتبر استخدام مصطلح "احتمال" لوصف إمكانيّة حسابيّة أمرًا مُختلفًا عن تغيير استخدام المصطلح للإشارة إلى شيء يتمتّع بقوّة خلق فعليّة. لكي يكون للاحتماليّة أيّ تأثير على أيّ شيء في العالم، يجب أنْ يكون شيئًا يتمتّع بقوّة ما، أمّا "الاحتمال" ليسَ شيئًا. "الاحتمال" هو ببساطة مفهوم فكريّ يصفُ إمكانيّات حسابيّة أو رياضيّة. وبما أنّه ليس "كائنًا"، فهو لا يتمتّع بأيّ قوّة. لذلك، إنّ القولَ بأنّ الكون نشأ عن طريق "الاحتمالات" أو عن طريق "الصُدفة" – وبأنّ الاحتمالات استخدَمَت قوّة ما لتخلق الكون – هو قول يعيدنا فقط إلى فكرة الخلق الذاتيّ، لأنّ "الاحتمال" ليس شيئًا.
إنْ كان بإمكاننا استبعاد هذا المفهوم تمامًا، والمنطق يتطلّب منّا ذلك، فعندئذٍ نبقى أمام أحدِ الخيارَيْن الأوّلين: أنّ الكون ذاتيّ الوجود وأزليّ، أو أنّ العالم الماديّ ذاتيّ الوجود وأزليّ. كما ذكرت آنفًا، يتّفق كلا الخيارَيْن على أنّه إنْ كان أيّ شيء موجودًا الآن، فلا بدّ أن يكونَ شيء ما ذاتيّ الوجود موجود في مكان ما. وإنْ لم يكن الأمر كذلك، لا يُمكن أن يكون هنالك شيء موجود في الوقت الحاليّ. يوجد حقيقة مُطلقة في العِلْمِ تُعرف بـ ex nihilo nihil fit، أي: "من لا شيء، لا شيء ينبثق". إنْ كان كلّ ما لدينا هو "لا شيء"، فكلّ ما سنحصل عليه هو "لا شيء"، لأنّ "لا شيء" لا يمكنه أنْ يُنتجَ شيئًا. ولو كان هناك وقت لم يكن فيه شيء على الإطلاق، فيمكننا أنْ نكونَ على يقين تامّ أنّه اليوم، وفي هذه اللحظة بالذات، لن يكونَ هنالك شيء موجود على الإطلاق. لا بدّ أنْ يكونَ شيء ما ذاتيّ الوجود؛ لا بدّ أنْ يكونَ لشيء ما قوّة الوجود الذاتيّ بداخله، لكي يكون هنالك أيّ شيء موجود على الإطلاق.
يطرحُ هذان الخياران مشاكلَ عديدة. كما ذكرتُ آنفًا، يتّفق الجميع تقريبًا على أنّ الكونَ لم يكن موجودًا منذ الأزل، وبالتالي فإنّ الخيارَ الأوّل غير صالح. وبالمثل، بما أنّ كلّ ما نفحصه تقريبًا في العالم الماديّ يُظهر أنّه طارئ أو مُتغيّر، يكره الفلاسفة أنْ يؤكّدوا بأنّ هذا الجانب من الكون ذاتيّ الوجود وأزليّ، لأنّ ما هو ذاتيّ الوجود وأزليّ، لا يكون نتيجة أمر طارئ أو مُتغيّر. إذن، تقوم الحجّة على أنّه يوجد في مكان ما في أعماق الكون، جوهر خفيّ نابض، أو مصدر طاقة ذاتيّ الوجود وأزليّ، وكلّ شيء آخر في الكون يدينُ بأصلِ وجودِه لهذا الشيء. عند هذه المرحلة، يقول أتباعُ نظريّة الماديّة، إنّه لا حاجة لإله فائق لشرح وجود الكون الماديّ، لأنّه بإمكاننا العثور على جوهر الوجود الأزليّ النابض داخل الكون، بدلًا من عثورِنا عليه في الحياة الآخرة.
هذه هي النقطة التي يُرتَكب فيها الخطأ اللغويّ. عندما يتحدّث الكتاب المقدّس عن الله على أنّه فائق وسام، فإنّه بذلك لا يصف المكان الذي يتواجد فيه الله. إنّها لا تعني أنّ الله يعيش "هناك في الأعلى" أو "هناك في الخارج" في مكان ما. عندما نقول إنّ الله فوق الكون وخارجه، فإنّنا نقول إنّه فوق الكون وخارجه من حيث كينونته. إنّه فائق ومتعالٍ وجوديًّا. لا بدّ لنا أنْ نُميّزَ بين أيّ شيء يتمتّع بقوّة الوجود في داخله، وهو ذاتيّ الوجود، وبين أيّ شيء آخر ناتج عن شيء ما، أو يعتمد عليه. لذلك، إنْ كان شيء ما ذاتيّ الوجود في جوهر الكون، فلا بدّ أنّه يتجاوز بطبيعته كلّ شيء آخر. لا يهمّنا أين يعيشُ الله، بل ما يهمّنا هو طبيعته، ووجوده الأبديّ، واعتماد كلّ شيء آخر في الكون عليه.
النظرة المسيحيّة التقليديّة إلى الخلق، هي أنّ الله خلقَ العالم ex nihilo، أي "من العدم"، الأمر الذي يبدو أنّه يتناقض مع القانون المُطلق لـ ex nihilo nihil fit، أي "من لا شيء، لا شيء ينبثق". اعترضَ الناسُ على الخلق ex nihilo مُستندين إلى تلك الأسس بالذات. ومع ذلك، عندما يقول اللاهوتيّون المسيحيّون إنّ الله خلق العالم ex nihilo، فإنّ هذا ليس مثلَ القولِ بأنّه في لحظة ما، لم يكن هنالك وجود لأيّ شيء، ثمّ انبثق شيء من لا شيء. وجهة النظر المسيحيّة هي: "في البدء، الله..." الله ليس لا شيء، بل هو شيء. الله ذاتيّ الوجود وأزليّ في كيانه، ولديه وحده القدرة على خلق الأشياء من العدم. يستطيع الله أنْ يدعوَ عوالم وأكوان إلى الوجود. هذه هي قوّة الإبداع بمعناها المطلق، ولا أحد يمتلكها إلّا الله وحده. إنّه وحده القادر على خلق المادّة، لا أنْ يُعيدَ تشكيلَها من بعض المواد التي كانت موجودة مسبقًا.
يستطيع الفنّان أنْ يأخذَ كُتلة صخريّة مربّعة من الرخام وينحتها لتُصبح تمثالًا جميلًا، أو أنْ يأخذَ قطعة قماشيّة بسيطة ويحوّلها إلى لوحة خلّابة عن طريق ترتيب الألوان فيها، ولكن لم تكن هذه الطريقة التي خلق الله بها الكون. لقد دعا الله الكونَ إلى الوجود، وكان خلقُه مطلقًا، بمعنى أنّه لم يُعِد تشكيل الأشياء التي كانت موجودة مُسبقًا. لا يعطينا الكتاب المقدّس إلّا وصفًا موجزًا عن كيفيّة قيامه بذلك. نجد في الكتاب المقدّس "الأمرَ الإلهيّ"، حيث قام الله بعمليّة الخلق بقوّة وسلطان أمرِه. قال الله: "ليكن..." فكان. هذا هو الأمر الإلهيّ. لا شيءَ يستطيع أنْ يقاومَ أمرَ الله الذي أوجَد العالمَ وكلَّ ما فيه.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.