المحاضرة 5: النِعْمَةُ السِيَادِيَّةُ
بَيْنَمَا نُوَاصِلُ تَنَاوُلَنَا لِفِكْرِ الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسْ بِشَأْنِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، يَجِبُ أَنْ نُدْرِكَ فِي الْبِدَايَةِ وُجُودَ عُنْصُرٍ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فِي الْكَيْفِيَّةِ الَتِي تَحَدَّثَ بِهَا أُوغُسْطِينُوسْ عَنْ حَالَتِنَا الرُوحِيَّةِ. فَقَدْ مَيَّزَ، مَثَلًا، بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ. لَدَيْنَا إِرَادَةٌ حُرَّةٌ، لَكِنَّنَا نَفْتَقِرُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ. هَذِهِ مُفَارَقَةٌ بِامْتِيَازٍ. ثُمَّ تَابَعَ مُوَضِّحًا حَالَتَنَا السَاقِطَةَ بِكَلِمَاتٍ مِثْلِ: أَنَّنَا، بِحَسْبِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، عَبِيدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَعِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ أَوْ الْأَسْرِ، لَسْنَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الْحُرِّيَّةِ، بَلْ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ. وَمَعَ ذَلِكَ، قَالَ أُوغُسْطِينُوسْ إِنَّنَا عَبِيدٌ بِحُرِّيَّتِنَا. وَهُنَا تَكْمُنُ الْمُفَارَقَةُ الْقَوِيَّةُ فِي الْفِكْرَةِ الَتِي يَطْرَحُهَا.
وَكَيْ نَرَى هَذِهِ الْفِكْرَةَ بِمَزِيدٍ مِنَ الْوُضُوحِ، يُمْكِنُنَا تَطْبِيقُهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ عَنْ حَالَتِنَا كَمُؤْمِنِينَ. فَبُولُسُ، مَثَلًا، عِنْدَمَا كَانَ يُعَرِّفُ بِنَفْسِهِ فِي رَسَائِلِهِ، كَيْفَ اعْتَادَ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ؟ بِأَنَّهُ "دُولُوسْ" (doulos) لِلرَبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ. وَكَلِمَةُ "دُولُوسْ"، فِي بَعْضِ التَرْجَمَاتِ الْأَقْدَمِ، كَانَتْ تُتَرْجَمُ إِلَى "خَادِمٍ". أَمَّا التَرْجَمَاتُ الْأَحْدَثُ، فَتَسْتَخْدِمُ كَلِمَةَ "عَبْدٍ"، لِأَنَّ "دُولُوسْ" فِي الثَقَافَةِ الْقَدِيمَةِ لَمْ يَكُنْ خَادِمًا بِأَجْرٍ، بَلْ كَانَ عَبْدًا يُشْتَرَى، مِثْلَمَا كَانَ يَحْدُثُ فِي تِجَارَةِ الرَقِيقِ فِي أَمْرِيكَا، فِي تَارِيخِنَا الْقَدِيمِ، حَيْثُ كَانَ الْبَشَرُ يُعْرَضُونَ لِلْبَيْعِ فَوْقَ مِنَصَّةِ الْعَبِيدِ، عِنْدَ مَرْفَأِ بَالْتِيمُورْ وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، ثُمَّ يَصِيرُونَ مُلْكًا لِمُشْتَرِيهِمْ، وَيُحْرَمُونَ مِنْ كُلِّ حُقُوقِ أَوْ امْتِيَازَاتِ الشَخْصِ الْحُرِّ.
دَعَا بُولُسُ نَفْسَهُ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ، لَكِنَّهُ تَهَلَّلَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ الَتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ – الَتِي دَعَاهَا يَعْقُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ الْمُلُوكِيَّةِ. وَالْمَسِيحُ نَفْسُهُ قَالَ: "إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلَامِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلَامِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ"؛ و"حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ". لَكِنْ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، الْمُفَارَقَةُ هِيَ أَنَّنِي يَنْبَغِي أَنْ أَصْبِحَ عَبْدًا لِلَّهِ حَتَّى أَخْتَبِرَ قِمَّةَ الْحُرِّيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَطَالَمَا قَاوَمْتُ عَبُودِيَّتِي لِلَّهِ، ظَنًّا مِنِّي أَنَّنِي حُرٌّ، أَكُونُ فِي الْوَاقِعِ عَبْدًا لِأَهْوَائِي الشِرِّيرَةِ.
ثَمَّةَ وَسِيلَةٌ أُخْرَى لِلتَعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ أُوغُسْطِينُوسْ إِنَّ الْإِنْسَانَ خَاضِعٌ لِسَيْطَرَةِ أَهْوَائِهِ الشِرِّيرَةِ، وَبِالتَالِي هُوَ عَبْدٌ لِفَسَادِهِ. لَكِنَّهُ يَخْدِمُ سَيِّدَهُ طَوَاعِيَةً. كَيْ أَتَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، دَعُونِي أَلْفِتُ انْتِبَاهَكُمْ إِلَى بَعْضِ الْمَقَاطِعِ الْكِتَابِيَّةِ الَتِي كَانَ أُوغُسْطِينُوسْ بِالتَأْكِيدِ عَلَى دِرَايَةٍ بِهَا. وَرَدَ النَصُّ الْأَهَمُّ فِي رِسَالَةِ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ، فِي وَصْفِهِ لِحَالَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْأَصْحَاحِ الثَانِي. ذَكَرَ بُولُسُ فِي الْأَصْحَاحِ الثَانِي مِنْ رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ كَلِمَةَ: "أَحْيَانًا". وَالضَمِيرُ الْمُسْتَتِرُ هُنَا يُشِيرُ إِلَى اللهِ. "أَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الْآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالْأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا... أَحْيَانَا".
يَصِفُ بُولُسُ هُنَا حَالَةَ الْإِحْيَاءِ أَوْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ بِقُوَّةِ الرُوحِ الْقُدُسِ، لِلَذِينَ كَانُوا قَبْلًا أَمْوَاتًا. وَيَصِفُ بُولُسُ تِلْكَ الْحَالَةَ السَابِقَةَ، أَيِ الْحَالَةَ الطَبِيعِيَّةَ لِلْبَشَرِ السَاقِطِينَ، بِأَنَّهَا مَوْتٌ رُوحِيٌّ.
عَقَدَ أُوغُسْطِينُوسْ مُقَارَنَةً، بِالِاسْتِنَادِ إِلَى هَذَا النَصِّ، قَائِلًا إِنَّ الْإِنْسَانَ السَاقِطَ حَيٌّ بَيُولُوجِيًّا، لَكِنَّهُ مَيِّتٌ رُوحِيًّا. فَمُجَدَّدًا، هُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْتَارَ مَا يُرِيدُ، لَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أُمُورَ اللَّهِ الْبَتَّةَ، فَهُوَ مَيِّتٌ عَنْ أُمُورِ اللَّهِ، وَيَعِيشُ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ جَسَدِهِ.
اسْمَعُوا مَرَّةً أُخْرَى مَا يَقُولُهُ بُولُسُ هُنَا، فِي وَصْفِهِ لِحَالَتِنَا السَابِقَةِ: "الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ". تَذَكَّرُوا أَنَّ بُولُسَ قَالَ فِي رِسَالَةِ رُومِيَةَ: "لَيْسَ بَارٌّ وَلَا وَاحِدٌ... لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحًا لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ... الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا". فَقَدْ حِدْنَا عَنِ الْمَسَارِ الَذِي أَعَدَّهُ لَنَا اللَّهُ لِنَسْلُكَ فِيهِ، وَسَلَكْنَا بِحَسْبِ مَسَارٍ مُخْتَلِفٍ، وَهُوَ الْمَسَارُ الَذِي يُسَمِّيهِ بُولُسُ "دَهْرَ (مَسَارَ) هَذَا الْعَالَمِ"، أَيِ الْمَسَارَ الَذِي يَتْبَعُ رَئِيسَ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، وَالَذِي يَتْبَعُ شَهَوَاتِ جَسَدِنَا وَذِهْنِنَا. مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ يَقُلْ بُولُسُ إِنَّ النَاسَ لَا يَتَصَرَّفُونَ أَوْ يَخْتَارُونَ، بَلْ قَالَ إِنَّنَا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالْأَفْكَارِ.
لَا أَتَصَوَّرُ أَنَّ هُنَاكَ أَيَّ شَخْصٍ بَالِغٍ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَعِشِ الصِرَاعَ الْأَخْلَاقِيَّ الدَاخِلِيَّ. فَلَا أَحَدَ مِنَّا كَانَ ضَمِيرُهُ مَوْسُومًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ تَلَاشَى تَمَامًا. فَجَمِيعُنَا نَرْتَكِبُ الْأَخْطَاءَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ.
أَتَذَكَّرُ حِينَ كُنْتُ أَلْعَبُ الْكُرَةَ فِي الْمَرْحَلَةِ الثَانَوِيَّةِ، كَانَ لِسَانِي بِلَا ضَابِطٍ، وَكُنْتُ أَتَلَفَّظُ بِكَلَامٍ قَاسٍ. كُنْتُ أَشْعُرُ بِالسُوءِ حِيَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُعَلِّمِينَ كَانُوا يَنْتَقِدُونَنِي. وَذَاتَ مَرَّةٍ طَرَدَنِي الْحَكَمُ مِنَ الْمُبَارَاةِ لِقَوْلِي كَلَامٍ غَيْرِ لَائِقٍ. لَمْ أَكُنْ مُؤْمِنًا آنَذَاكَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَشْعُرُ بِبَعْضِ السُوءِ حِيَالَ هَذَا الضَعْفِ فِي شَخْصِيَّتِي. وَلَا أَعْلَمُ كَمْ مِنَ الْمَرَّاتِ وَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى الْوِسَادَةِ لَيْلًا وَقَطَعْتُ عَلَى نَفْسِي عَهْدًا قَائِلًا: "غَدًا، سَأَفْتَحُ صَفْحَةً جَدِيدَةً، وَلَنْ أَتَلَفَّظَ ثَانِيَةً بِكَلَامٍ بَذِيءٍ". وَفِي الْيَوْمِ التَالِي، بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ خَطَأٍ، يَخْرُجُ مِنْ فَمِيْ الْكَلَامُ الْبَذِيءُ. وَظَلَّ الْأَمْرُ يُزْعِجُنِي، إِلَى أَنْ تَعَامَلْتُ ذَاتَ يَوْمٍ مَعَ الْأَمْرِ بِجِدِّيَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَقُلْتُ: "لَنْ أَتَفَوَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ الْيَوْمِ". ومرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا دُونَ سِبَابٍ، فَكَانَ افْتِخَارِي بِنَفْسِي يَتَزَايَدُ. قُلْتُ: "أَخِيرًا أَمْكَنَنِي إِصْلَاحُ حَيَاتِي". وَذَاتَ مَرَّةٍ، كُنْتُ أَلْعَبُ مُبَارَاةً، فِي خَطِّ الْهُجُومِ، وَتَمَّ تَمْرِيرُ الْكُرَةِ إِلَيَّ، وَكَانَ حَرِيًّا بِي أَنْ أُسَدِّدَ رَكْلَةً وَأُسَجِّلَ هَدَفًا، فَقَدْ كَانَتِ التَسْدِيدَةُ شَدِيدَةَ السُهُولَةِ. رَكَضْتُ لِأَرْكُلَ الْكُرَةَ. وَحَوَّلْتُ نَظَرِي عَنْهَا لِلَحْظَةٍ، لِأَنْظُرَ إِلَى حَارِسِ الْمَرْمَى، ثُمَّ رَكَلْتُهَا، فَأَخْطَأَتُ التَصْوِيبَ. وَكَانَتْ هَذِهِ نِهَايَةَ ضَبْطِي لِنَفْسِي. هَذَا مِثَالٌ تَافِهٌ، لَكِنَّنَا جَمِيعًا خُضْنَا صِرَاعَ النَفْسِ هَذَا، حَيْثُ نَقُولُ: "لَمْ أَفْعَلْ هَكَذَا؟ لَسْتُ أُرِيدُ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَكِنَّنِي مَعَ ذَلِكَ أَفْعَلُهَا". فِي الْوَاقِعِ، إِنَّنِي أَفْعَلُهَا لِأَنَّ رَغْبَتِي فِي فِعْلِهَا تَفُوقُ رَغْبَتِي فِي عَدَمِ فِعْلِهَا. هَذِهِ هِيَ مُعْضِلَةُ هَذَا الِاخْتِبَارِ الَذِي نُسَمِّيهِ "حُرِّيَّةَ الْإِرَادَةِ"، وَهِيَ أَنَّنِي أَخْتَارُ بِحَسْبِ رَغَبَاتِي.
دَعُونِي أَتْرُكُ الْحَدِيثَ عَنْ أُوغُسْطِينُوسْ قَلِيلًا، مَعَ أَنَّ مَا سَأَقُولُهُ يَتَّفِقُ مَعَ فِكْرِهِ، وَسَيَدْفَعُنَا إِلَى التَفْكِيرِ فِي كَلَامِهِ. كُلُّ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَى هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ، أَوْ يُشَاهِدُهَا الْآنَ، وَكُلُّ مَنْ حَضَرَ إِلَى الْفَصْلِ الْيَوْمَ، جَاءَ إِلَى هُنَا لِأَنَّهُ اخْتَارَ ذَلِكَ. فَأَنْتَ مَوْجُودٌ هُنَا الْيَوْمَ لِأَنَّ رَغْبَتَكَ فِي الْمَجِيءِ فَاقَتْ رَغْبَتَكَ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ. رُبَّمَا تَقِفُ وَتَحْتَجُّ قَائِلًا: "مَهْلًا، لَمْ أَكُنْ أَنْوِي الْمَجِيءَ إِلَى هُنَا الْيَوْمَ". فَقَدْ تَنْظُرُ سْتَايْسِي إِلَيَّ قَائِلَةً: "لَقَدْ جَرَّنِي زَوْجِي وَأَنَا أَرْكُلُ وَأَصْرُخُ، رَغْمًا عَنِّي، وَأَجْبَرَنِي عَلَى الْمَجِيءِ. كُنْتُ أُفَضِّلُ الْقِيَامَ بِأُمُورٍ أُخْرَى، لَكِنِّي جِئْتُ عَلَى أَيِّ حَالٍ، بِالْإِكْرَاهِ". عِنْدَئِذٍ سَأُجِيبُ: "مَهْلًا سْتَايْسِي، فِي الظُرُوفِ الطَبِيعِيَّةِ، رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ لَدَيْكِ رَغْبَةٌ فِي الْمَجِيءِ إِلَى هُنَا الْيَوْمَ، لَكِنْ كَانَتْ لَدَيْكِ رَغْبَةٌ فِي إِرْضَاءِ زَوْجِكَ، أَوْ فِي عَدَمِ خَوْضِ شِجَارٍ مَعَهُ. لَكِنْ لَمْ تَكُنِ الظُرُوفُ طَبِيعِيَّةً. وَعِنْدَمَا وَاجَهْتِ الْمَوْقِفَ، فَكَّرْتِ قَائِلَةً: "حَسَنًا، أُفَضِّلُ الذَهَابَ إِلَى هُنَاكَ لِحُضُورِ تِلْكَ الْمُحَاضَرَةِ الْمُضْجِرَةِ عَلَى أَنْ أُضْطَرَّ لِمُوَاجَهَةِ مُشْكِلَةٍ عَائِلِيَّةٍ". أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ مَوْقِفٍ افْتِرَاضِيٍّ. أَنَا فَقَطْ أَمْزَحُ مَعَ سْتَايْسِي. فَهِيَ كَانَتْ تَنْتَظِرُ بِفَارِغِ الصَبْرِ لِتَأْتِيَ إِلَى هُنَا هَذَا الصَبَاحَ، وَرُبَّمَا هِيَ الَتِي أَرْغَمَتْ زَوْجَهَا عَلَى الْمَجِيءِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لَكِنَّ الْفِكْرَةَ هِيَ أَنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأُمُورِ الَتِي نَظُنُّ أَنَّنَا نَفْعَلُهَا دُونَ أَنْ نُرِيدَ، بَيْنَمَا إِنْ حَلَّلْنَا الْأُمُورَ بِعِنَايَةٍ، سَنَرَى أَنَّنَا نَفْعَلُ دَائِمًا مَا نُرِيدُهُ.
هَذِهِ طَبِيعَةُ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ. فَنَحْنُ نَخْتَارُ دَائِمًا بِحَسْبِ أَقْوَى رَغْبَةٍ لَدَيْنَا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ. وَفِي جُزْءٍ لَاحِقٍ مِنْ هَذِهِ السِلْسِلَةِ، سَنَرَى طَرْحَ جُونَاثَانْ إِدْوَارْدِزْ لِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمَزِيدٍ مِنَ التَفْصِيلِ. لَكِنِ الْآنَ، دَعُونِي أَقُولُ الْآتِي: لَسْنَا فَقَطْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَخْتَارَ بِحَسْبِ أَقْوَى رَغْبَةٍ لَدَيْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ حَتْمًا نَخْتَارُ بِحَسْبِ أَقْوَى رَغْبَةٍ لَدَيْنَا، وَنَحْنُ دَائِمًا مَا نَخْتَارُ بِحَسْبِ أَقْوَى رَغْبَةٍ أَوْ مَيْلٍ لَدَيْنَا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ.
قَدْ تَقُولُ: "حَسَنًا، إِنْ كَانَ الْحَالُ هَكَذَا، وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ إِنَّنِي لَا بُدَّ أَنْ أَخْتَارَ مَا أَخْتَارُهُ، أَلا يَقْضِي ذَلِكَ تَمَامًا عَلَى فِكْرَةِ الْحُرِّيَّةِ؟" حَسَنًا، لِنَفْحَصِ الْأَمْرِ مُجَدَّدًا. إِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَارَ أَكْثَرَ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ، فَهَلْ يَقْضِي هَذَا الْإِلْزَامُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ؟ كَلَّا، بَلْ هَذَا يُؤَكِّدُ حُرِّيَّةَ الْإِرَادَةِ، لِأَنَّ جَوْهَرَ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ هُوَ أَنْ تَتَمَتَّعَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تُرِيدُ. وَعِنْدَمَا أَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ فَقَطْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْتَارَ مَا تُرِيدُ، بَلْ إِنَّكَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَخْتَارَ مَا تُرِيدُ، أَقْصِدُ بِهَذَا أَنَّكَ أَنْتَ، الَذِي تَتَمَتَّعُ بِحُرِّيَّةِ إِرَادَةٍ، لَا يُمْكِنُكَ أَلَّا تَكُونَ حُرًّا. هَذَا نَقِيضُ الْحَتْمِيَّةِ، لِأَنَّ الْحَتْمِيَّةَ حَالَةٌ فِيهَا تُمْلَى وَتُفْرَضُ عَلَيْنَا قَرَارَاتُنَا، وَنُرْغَمُ عَلَى اتِّخَاذِهَا، مِنْ سُلْطَةٍ أَوْ قُوَّةٍ خَارِجِيَّةٍ، أَوْ شَخْصٍ خَارِجِنَا. هَذِهِ هِيَ الْحَتْمِيَّةُ. وَمَا نُسَمِّيهِ "حُرِّيَّةً"، بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَاصِرَةِ، هُوَ "حَقُّ تَقْرِيرِ الْمَصِيرِ". أَلَيْسَ هَذَا مَا نُرِيدُهُ لِنَكُونَ أَحْرَارًا؟ أَيْ أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ نُقَرِّرَ بِأَنْفُسِنَا مَاذَا نَخْتَارُ وَمَاذَا نَفْعَلُ؟ وَبَدَلًا مِنْ أَنْ يُقَرِّرَ شَيْءٌ آخَرُ مَصِيرَنَا، نُرِيدُ الْحَقَّ، أَوْ الْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ نُقَرِّرَ مَصِيرَنَا بِأَنْفُسِنَا.
إِنَّ أُوغُسْطِينُوسْ، وَجَمِيعَ الْمُفَكِّرِينَ الْعُظَمَاءِ عَبْرَ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَمَتَّعُ بِحَقِّ تَقْرِيرِ مَصِيرِهِ، بِقَدْرِ تَمَتُّعِهِ بِحُرِّيَّةِ إِرَادَةٍ. هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ الْقَرَارَاتِ الَتِي نَتَّخِذُهَا تِلْقَائِيَّةٌ وَغَيْرُ مَحْتُومَةٍ تَمَامًا، وَأَنَّهَا نَتَائِجُ بِلَا أَسْبَابٍ. لَكِنَّنِي أَقْصِدُ أَنَّ كُلَّ قَرَارٍ أَتَّخِذُهُ هُوَ، فِي الْوَاقِعِ، مَحْتُومٌ. وَإِنْ كُنْتُ مُرْغَمًا، يَكُونُ هَذَا الْقَرَارُ مَحْتُومًا بِشَيْءٍ خَارِجَ ذَاتِي، فَلَا أَكُونُ حُرًّا. لَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْقَرَارُ مَحْتُومًا مِنِّي، وَمِنْ رَغَبَاتِي، وَمِيُولِي، أَكُونُ بِهَذَا حُرًّا. هَذَا هُوَ حَقُّ تَقْرِيرِ الْمَصِيرِ. وَالْفِكْرَةُ الَتِي طَرَحَهَا أُوغُسْطِينُوسْ هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ السَاقِطَ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. لَكِنَّهُ مَيِّتٌ رُوحِيًّا. فَهُوَ عَبْدٌ، لَا لِلشَيْطَانِ، بَلْ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْوَائِهِ الشِرِّيرَةِ، وَلِشَهَوَاتِ أَفْكَارِهِ وَجَسَدِهِ. فَهُوَ يَتْبَعُ مُيُولَ وَرَغَبَاتِ قَلْبِهِ. وَفِي هَذَا تَكْمُنُ حُرِّيَّتُهُ، وَفِي هَذَا تَكْمُنُ أَيْضًا عُبُودِيَّتُهُ.
كَانَتِ الْقَضِيَّةُ الرَئِيسِيَّةُ لَدَى أُوغُسْطِينُوسْ وَخُصُومِهِ آنَذَاكَ هِيَ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ لَيْسَ فَقَطْ إِلَى حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ، بَلْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ، الَتِي تُعْرَفُ بِأَنَّهَا الْقُدْرَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ عَلَى اخْتِيَارِ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَاخْتِيَارِ الصَوَابِ، وَاخْتِيَارِ أُمُورِ اللَّهِ، لِأَنَّ أُوغُسْطِينُوسْ قَالَ إِنَّهُ بِمَا أَنَّ قَلْبَ الْإِنْسَانِ هُوَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَيْسَتْ لَدَيْهِ رَغْبَةٌ سَلِيمَةٌ، لَكِنَّهُ بِالطَبِيعَةِ ابْنُ الْغَضَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ، إِذَا تُرِكَ لِنَفْسِهِ، لَنْ يَخْتَارَ أَبَدًا أُمُورَ اللَّهِ. وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْتَارَ أُمُورَ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَنَّهُ بِلَا إِرَادَةٍ، بَلْ لِأَنَّهُ بِلَا رَغْبَةٍ فِي اخْتِيَارِ أُمُورِ اللَّهِ. فَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ. وَنَحْنُ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَفْعَلَ مَا لَا نُرِيدُهُ. هَذَا هُوَ الْعَجْزُ الْأَخْلَاقِيُّ الَذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ أُوغُسْطِينُوسْ.
إِذَنْ، بِحَسْبِ أُوغُسْطِينُوسْ، تَحَرُّرُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَالَةِ الْعُبُودِيَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ هَذِهِ يَتَطَلَّبُ حَتْمًا تَدَخُّلًا مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ. وَتِلْكَ النِعْمَةُ لَيْسَتْ فَقَطْ تُسَهِّلُ الْحُرِّيَّةَ، لَكِنَّهَا شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ لِنَوَالِ الْحُرِّيَّةِ.
نَعُودُ مُجَدَّدًا إِلَى كَلَامِ يَسُوعَ، عِنْدَمَا نَاقَشَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ الْفَرِّيسِيِّينَ، قَائِلًا: "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي". "لَا أَحَدَ"، هَذَا نَفْيٌ شَامِلٌ. "يَقْدِرُ" تَصِفُ الْقُدْرَةَ أَوْ الْإِمْكَانِيَّةَ. لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ - أَنْ يَفْعَلَ مَاذَا؟ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْمَسِيحِ، "إِنْ لَمْ..." تُشِيرُ "إِنْ لَمْ" إِلَى شَرْطٍ ضَرُورِيٍّ –أَوْ ضَرُورَةٍ مُطْلَقَةٍ– أَيْ إِلَى أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ حَتَّى تَتَحَقَّقَ نَتِيجَةٌ مَنْشُودَةٌ. قَالَ يَسُوعُ: "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي". يَسْتَلْزِمُ هَذَا عَمَلًا مِنَ اللَّهِ، وَعَطِيَّةً يَمْنَحُهَا اللَّهُ لِلْبَشَرِ مَجَّانًا، لِيُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الْعُبُودِيَّةِ. إِذَنْ، بِحَسْبِ أُوغُسْطِينُوسْ، الْعُنْصُرُ الْأَسَاسِيُّ وَالضَرُورِيُّ لِلِيبِرْتَاسْ -أَوْ الْحُرِّيَّةِ- هُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ الْمُحَرِّرَةُ.
لِنَعُدْ إِلَى أَفَسُسَ 2 الأَصْحَاحِ الثَانِي، حَيْثُ تَحَدَّثَ بُولُسُ عَنْ هَذَا الْوَضْعِ. تَذَكَّرُوا أَنَّهُ اسْتَهَلَّ الْأَصْحَاحَ الثَانِي بِقَوْلِهِ: "وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا ... أَحْيَانًا"، ثُمَّ قَالَ: "اللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ ..."، مَتَى أَحْيَانًا؟ هَلْ بَعْدَمَا صِرْنَا أَحْيَاءً؟ كَلَّا، بَلْ وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ، وَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ الرُوحِيِّ. "وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ –بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ– وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الْآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لِأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ".
السُؤَالُ الَذِي نَطْرَحُهُ الْآنَ هُوَ: "إِلَامَ يُشِيرُ الضَمِيرُ "هُوَ" فِي عِبَارَةِ "هُوَ عَطِيَّةُ اللَّهِ"؟ وَمَا هِيَ عَطِيَّةُ اللَّهِ؟ هِيَ الْإِيمَانُ. يَقُولُ أُوغُسْطِينُوسْ إِنَّهُ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ الْخُرُوجُ أَوِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالَةِ الْمَوْتِ الرُوحِيِّ وَالْفَسَادِ الْأَخْلَاقِيِّ هَذِهِ. لَكِنْ عِنْدَئِذٍ يَنْهَضُ الْبَعْضُ وَيَقُولُونَ: "حَسَنًا، هَلْ كُلُّ مَا عَلَيَّ فِعْلُهُ لِنَوَالِ الْحُرِّيَّةِ هُوَ أَنْ أُؤْمِنَ؟" يُجِيبُ أُوغُسْطِينُوسْ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِيجَابِ وَالنَفْيِ. فَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ نَاحِيَةٍ، لِأَنَّ الشَرْطَ الضَرُورِيَّ الَذِي يَجِبُ تَوَافُرُهُ حَتَّى نَتَحَرَّرَ مِنَ السُلُوكِ حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الْإِيمَانُ. لَكِنَّهُ إِمْكَانِيَّةٌ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُنْشِئَهَا فِي دَاخِلِنَا. وَلِهَذَا قَالَ إِنَّنَا نَخْلُصُ بِالنِعْمَةِ بِالْإِيمَانِ. وَالْإِيمَانُ نَفْسُهُ هُوَ عَطِيَّةُ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْإِيمَانَ، الَذِي هُوَ الشَرْطُ الضَرُورِيُّ الَذِي يَجِبُ تَوَافُرُهُ كَيْ نَتَحَرَّرَ. لِهَذَا، بِحَسْبِ أُوغُسْطِينُوسْ، عَمَلُ التَحْرِيرِ بِرُمَّتِهِ هُوَ عَمَلُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ عَمَلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ، لِأَنَّنَا فِيهِ يَجِبُ أَنْ نُقَامَ مِنَ الْمَوْتِ.
سَأُشَبِّهُ هَذَا بِإِقَامَةِ يَسُوعَ لِلِعَازَرَ، الَذِي كَانَ قَدْ وُضِعَ فِي الْقَبْرِ لِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ قَدْ أَنْتَنَ. فَعِنْدَمَا أَقَامَهُ الْمَسِيحُ مِنَ الْمَوْتِ، مَا الْمُسَاعَدَةُ الَتِي قَدَّمَهَا لِعَازَرُ؟ لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِ لِعَازَرَ فِعْلُ شَيْءٍ. فَهُوَ كَانَ مَيِّتًا، وَكَانَ سَلْبِيًّا تَمَامًا. وَالْقُوَّةُ الْإِيجَابِيَّةُ الَتِي عَمِلَتْ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ حَالَةِ الْمَوْتِ الْبَيُولُوجِيِّ إِلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ الْبَيُولُوجِيَّةِ كَانَتْ هِيَ قُوَّةَ الْمَسِيحِ. فَاللَّهُ وَحْدَهُ يَقْدِرُ أَنْ يُقِيمَ الْبَشَرَ مِنَ الْمَوْتِ الْبَيُولُوجِيِّ إِلَى الْحَيَاةِ الْبَيُولُوجِيَّةِ. وَبِالْمِثْلِ، تِلْكَ هِيَ الْفِكْرَةُ الَتِي يَطْرَحُهَا بُولُسُ هُنَا. يَنْطَبِقُ الْأَمْرُ ذَاتُهُ عَلَى الْمَوْتِ الرُوحِيِّ. فَإِنَّنَا نَأْتِي إِلَى هَذَا الْعَالَمِ أَمْوَاتًا - رُوحِيًّا. وَالشَيْءُ الْوَحِيدُ الْقَادِرُ أَنْ يُحَرِّرَنَا مِنْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ قُوَّةُ اللَّهِ الْمُبَاشِرَةُ وَالْفَعَّالَةُ، الَتِي تُغَيِّرُ الْقَلْبَ، وَتُغَيِّرُ مُيُولَ النَفْسِ. وَهَذَا الْعَمَلُ الْفَائِقُ لِلطَبِيعَةِ لِلنِعْمَةِ هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ أَنْ يُعْتِقَنَا مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ.
يُثِيرُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ قَضِيَّةَ الِاخْتِيَارِ وَالتَعْيِينِ الْمُسْبَقِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ أُوغُسْطِينُوسْ لَمْ يَغْفَلْ ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يَغْفَلْهُ خُصُومُهُ. لِأَنَّهُ بِحَسْبِ أُوغُسْطِينُوسْ، لَا يَمْنَحُ اللَّهُ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ لِلْجَمِيعِ، لَكِنْ، فِي سِرِّ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَصْدِهِ، يَمْنَحُ الْبَعْضَ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ، وَيَتْرُكُ الْبَاقِينَ لِأَنْفُسِهِمْ. فَالْبَعْضُ يَنَالُ الْعَدَالَةَ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ يَنَالُ النِعْمَةَ. لَكِنَّ حُجَّةَ أُوغُسْطِينُوسْ هِيَ أَنَّهُ بِالنِعْمَةِ، وَبِالنِعْمَةِ وَحْدَهَا، يُقَامُ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمَوْتِ الرُوحِيِّ إِلَى الْحُرِّيَّةِ.