المحاضرة 1: الإيمانُ بإلَهٍ وَاحِدٍ

سَنَبْدَأُ الْيَوْمَ سِلْسِلَةً جَدِيدَةً مِنَ الدِرَاسَاتِ. وَنَنْوِي تَقْدِيمَ سِتِّ رَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِعَقِيدَةِ الثَالُوثِ. فَمَفْهُومُ الثَالُوثِ بِرُمَّتِهِ مَلِيءٌ بِالصُّعُوبَاتِ وَالْجِدَالاتِ عَلَى مَرِّ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ، هُوَ بَرَزَ كَوَسِيلَةِ اخْتِبَارٍ لِلْحَقِّ، وَكَمَادَّةٍ غَيْرِ قَابِلَةٍ لِلتَفَاوُضِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ الْقَوِيمَةِ. لَكِنْ مَا زَالَ يُوجَدُ لَغَطٌ كَبِيرٌ حَوْلَ هَذَا الْمَفْهُومِ، إِذْ إِنَّنَا حَتَّى هَذَا الْيَوْمِ نَجِدُ أَشْخَاصًا يُسِيئُونَ فَهْمَهُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ. وَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ عَقِيدَةَ الثَالُوثِ تَعْنِي أَنَّنَا نُؤْمِنُ بِثَلاثَةِ آلِهَةٍ، وَهَذَا مَا نُسَمِّيهِ الإِيمَانَ بِثَلاثَةِ آلِهَةٍ، وَهْوَ أَمْرٌ رَفَضَتْهُ الْكَنِيسَةُ رَفْضًا قَاطِعًا عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ. وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ الأَمْرَ بِمَثَابَةِ وُقُوعِ الْكَنِيسَةِ فِي التَنَاقُضِ.

مُنْذُ فَتْرَةٍ لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ، كَانَ لِي حَدِيثٌ مَعَ رَجُلٍ حَائِزٍ عَلَى شَهَادَةِ دُكْتُورَاه فِي الْفَلْسَفَةِ، وَهْوَ اعْتَرَضَ عَلَى الْمَسِيحِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ أَنَّهُ فِي جَوْهَرِ الإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ تَكْمُنُ عَقِيدَةُ الثَالُوثِ، وَهِيَ تَنَاقُضٌ وَاضِحٌ، لأَنَّهَا تَقُولُ إِنَّ اللهَ ثَلاثَةٌ وَوَاحِدٌ. فَفَاجَأَنِي الأَمْرُ لأَنَّهُ بِمَا أَنَّهُ أُسْتَاذٌ فِي الْفَلْسَفَةِ افْتَرَضْتُ أَنَّهُ تَلَقَّى عَلَى الأَقَلِّ دُرُوسًا ابْتِدَائِيَّةً فِي الْمَنْطِقِ، وَأَنَّهُ يَعْرِفُ الْمُقَوِّمَاتِ الأَسَاسِيَّةَ لِقَانُونِ عَدَمِ التَنَاقُضِ، وَالَّتِي تُعْرَفُ تَارِيخِيًّا بِالْقَوْلِ "لا يُمْكِنُ لِلأَمْرِ أَنْ يَكُونَ نَفْسَهُ وَنَقِيضَهُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ وَفِي الإِطَارِ عَيْنِهِ". وَعِنْدَمَا نَرَى عَقِيدَةَ إِيمَانِنَا فِي الثَالُوثِ فَإِنَّ الْكَنِيسَةَ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ وَثَلاثَةُ أَقَانِيمَ؛ اللهُ وَاحِدٌ فِي إِطَارٍ مُعَيَّنٍ وَثَلاثَةٌ فِي إِطَارٍ آخَرَ. إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ وَثَلاثَةٌ فِي الْجَوْهَرِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ، أَوْ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَثَلاثَةُ أَقَانِيمَ فَهَذَا تَنَاقُضٌ أَيْضًا. لَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنَّ الثَالُوثَ غَامِضٌ، وَعَلَى قَدْرِ مَا أَنَّهُ يَفُوقُ قُدْرَتَنَا عَلَى فَهْمِهِ بالْكَامِلِ، إِنَّ الصِيغَةَ التَارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مُتَنَاقِضَةً.

لَكِنْ لِمَاذَا دَخَلَتِ الْكَنِيسَةُ فِي هَذِهِ الْمُنَاقَشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالثَالُوثِ فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ؟ وَأَظُنُّ أَنَّ مَا نَحْتَاجُ إِلَى فَهْمِهِ بِدَايَةً هُوَ تَطَوُّرُ مَفْهُومِ الْكَنِيسَةِ لِطَبِيعَةِ اللهِ اسْتِنَادًا إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَعِنْدَمَا نُرَاجِعُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، نَرَى مَا نُسَمِّيهِ فِي اللَاهُوتِ الإِعْلانَ التَدْرِيجِيَّ. مَا نَقْصِدُهُ بِالإِعْلَانِ التَدْرِيجِيِّ هُوَ أَنَّهُ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ يَكْشِفُ اللهُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ مُخَطَّطَهُ لِلْفِدَاءِ عَبْرَ التَارِيخِ، وَيَكْشِفُ عَنْ ذَاتِهِ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ مِنْ خِلالِ الإِعْلانِ. هَذَا التَدَرُّجُ فِي الإِعْلانِ لا يَعْنِي أَنَّ مَا يُعْلِنُهُ اللهُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، يُنَاقِضُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. الإِعْلانُ التَدْرِيجِيُّ لَيْسَ تَصْحِيحِيًّا، بِحَيْثُ إِنَّ آخِرَ مَا كَشَفَهُ اللهُ يُصَحِّحُ إِعْلانًا خَاطِئًا سَابِقًا. لا، لا، لا، مَا نَقْصِدُهُ بِالإِعْلانِ التَدْرِيجِيِّ هُوَ البِنَاءُ عَلى مَا تَمَّ كَشْفُهُ فِي الْمَاضِي وَالتَوْسِيعُ لِمَضْمُونِ ذَلِكَ الإِعْلانِ.

أَنَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ لأَنَّنَا لا نَرَى فِي الصَفْحَةِ الأُولَى مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ تَعْلِيمًا وَاضِحًا وَجَلِيًّا عَنِ اللهِ وَعَنْ طَبِيعَتِهِ الثَالُوثِيَّةِ. يُوجَدُ تَلْمِيحٌ إِلَى ذَلِكَ فِي بِدَايَةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، لَكِنَّنَا لا نَجِدُ مِقْدَارَ الْمَعْلُومَاتِ بِشَأْنِ طَبِيعَةِ اللهِ الثَالُوثِيَّةِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا نَجِدُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. إِذًا، عَلَيْنا تَتَبُّعُ هَذَا التَطَوُّرِ عَلَى مَرِّ تَارِيخِ الْفِدَاءِ لِنَرَى مَا يَقُولُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِشَأْنِ هَذِهِ الأُمُورِ.

الآنَ بِالطَبْعِ، وَقَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنِ الثَالُوثِ عَلَيْنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ أَوَّلًا عَنِ الْوَحْدَةِ، لأَنَّ الثَالُوثَ يَعْنِي الْوَحْدَةَ الثَالُوثِيَّةَ. وَمَا يَكْمُنُ وَرَاءَ مَفْهُومِ الْوَحْدَةِ هُوَ تَأْكِيدُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَلَى الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. وَأَظُنُّ أَنَّ مُعْظَمَنا مُطَّلِعٌ عَلَى هَذَا الْمُصْطَلَحِ "الإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ" أَوْ "مُونُوثِييزْم". وَكَلِمَةُ "مُونُو" تَعْنِي وَاحِدًا أَوْ مُفْرَدًا، وَكَلِمَةُ "ثِيِيزْم" تَعْنِي الْمُتَعَلِّقُ بِاللهِ. إِذًا، الْفِكْرَةُ هِيَ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَقَطْ. نَحْنُ نَسْمَعُ الآيَةَ الْعِبْرِيَّةَ فِي سِفْرِ التَثْنِيَةِ حَيْثُ يَتِمُّ النِدَاءُ "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ". ثُمَّ تَأْتِي الْوَصِيَّةُ الْعُظْمَى "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ".

لَكِنَّ هَذَا التَأْكِيدَ عَلَى الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ هُوَ بُعْدٌ مُذْهِلٌ فِي إِيمَانِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَدِيَانَتِهِ، نَظَرًا لِنَدْرَةِ تَأْكِيدَاتٍ مُمَاثِلَةٍ فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ. مُعْظَمُ حَضَارَاتِ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ الَتِي نَمْلِكُ سِجَلَّاتٍ تَارِيخِيَّةً عَنْهَا كَانَتْ تَتَضَمَّنُ دِيَانَاتٍ لا تُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ بِطَبِيعَتِها. وَقَدْ حَاوَلَ الْبَعْضُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، نَظَرًا لِعِبَادَتِهِمْ لـِ"رَعْ"، أَوْ "أَتُون" إِلَهِ الشَمْسِ. لَكِنْ يُوجَدُ تَمَيُّزٌ فِي نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ لَدَى إِسْرَائِيلَ وَالإِيمَانِ الْيَهُودِيِّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ.

بِمَا أَنَّ جُذُورَ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ تَعُودُ أَسَاسًا إِلَى قِصَّةِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الأَمْرَ خَلَقَ جَدَلًا كَبِيرًا فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ فِي مَجَالِ الدِيَانَةِ وَالْفَلْسَفَةِ. وَأَحَدُ الْفَلاسِفَةِ الأَكْثَرُ بُرُوزًا فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ كَانَ فْرِيدِريكْ هِيجِلْ. وَوَضَعَ هِيجِلْ فَلْسَفَةَ التَارِيخِ، وَهِيَ فَلْسَفَةُ تَارِيخٍ مُعَقَّدَةٌ جِدًّا وَمُتَضَارِبَةٌ يَكْمُنُ فِي صَمِيمِهَا مَفْهُومُ التطوُّرِ التَارِيخِيِّ أَوِ الارْتِقَاءِ. فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، رَأَيْنَا مُفَكِّرِينَ مُنْشَغِلِينَ بِمَفْهُومِ التَطَوُّرِ، لَيْسَ فِي إِطَارِ عِلْمِ الأَحْيَاءِ فَحَسْبُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِكْرَةَ أَصْبَحَتْ بِمَثَابَةِ كَلِمَةٍ طَنَّانَةٍ فِي الْعَالَمِ الأَكَادِيمِيِّ وَفِي الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ. وَلَمْ يَتِمَّ تَطْبِيقُهَا عَلَى تَطَوُّرِ الْحَيَوانَاتِ أَوِ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ فَحَسْبُ، بَلْ أَيْضًا عَلَى الْمُؤَسَّسَاتِ السِيَاسِيَّةِ. وَبَرَزَتْ دَارْوِينِيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تَمَّ تَطْبِيقُها عَلَى مَفْهُومٍ لِلتَارِيخِ مِنْ حَيْثُ النَمَاذِجُ الْحَضَارِيَّةُ وَالاجْتِمَاعِيَّةُ وَغَيْرُهَا.

آنَذاكَ، طَبَّقَ أَتْبَاعُ هِيجِل الأَفْكَارَ نَفْسَهَا عَلَى تَطَوُّرِ الْمَفَاهِيمِ الدِينِيَّةِ، وَكَانَ فِي صَمِيمِ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِالْمَدْرَسَةِ التَارِيخِيَّةِ الدِينِيَّةِ. وَمَدْرَسَةُ الْفِكْرِ التَارِيخِيَّةُ الدِينِيَّةُ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ عَمِلَتْ عَلَى ضَوْءِ الافْتِرَاضِ الآتِي: مِثْلَمَا هِيَ حَالُ جَمِيعِ الأَشْكَالِ الأُخْرَى لِلتَطَوُّرِ، هَكَذَا أَيْضًا تَتَطَوَّرُ الدِيَانَةُ تَارِيخِيًّا تَبَعًا لِلنَمَطِ نَفْسِهِ مِنَ التَطَوُّرِ فِي الْعَالَمِ الْبِيُولُوجِيِّ، وَهْوَ نَمَطُ التَطَوُّرِ مِنَ الْبَسِيطِ إِلَى الْمُعَقَّدِ. وَعِنْدَمَا تَمَّ تَطْبِيقُ هَذَا الافْتِراضِ عَلَى نَصِّ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، كَانَ الافْتِرَاضُ كَالآتِي: جَمِيعُ الدِيَانَاتِ تَتَطَوَّرُ بِالطَرِيقَةِ نَفْسِها، مُنْطَلِقَةً بِدَايَةً مِنَ الشَكْلِ الْبَسِيطِ لِحَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ. وَمُصْطَلَحُ "حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ" نَاتِجٌ عَنْ فِكْرَةِ وُجُودِ نُفُوسٍ حَيَّةٍ فِي مَا نَعْتَبِرُهُ عَادَةً أَجْسَامًا جَامِدَةً أَوْ غَيْرَ حَيَّةٍ، مِثْلَ النُفُوسِ أَوِ الأَرْوَاحِ الَتِي تَسْكُنُ الصُخُورَ، أَوِ النُفُوسِ أَوِ الشَخْصِيَّاتِ الَتِي تَسْكُنُ الأَشْجَارَ، أَوْ أَعْمِدَةَ الطُوطَمِ، أَوِ الأَصْنَامَ، وَغَيْرَهَا. وَبِالطَبْعِ، أَكَّدَ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ عَبْرَ دِرَاسَةِ مَوَاقِعِ الشُعُوبِ الْبِدَائِيَّةِ الَتِي لا تَزَالُ قَائِمَةً حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا.

عِنْدَمَا تَزُورُ الزَوَايَا النَائِيَةَ فِي الْعَالَمِ وَتَدْرُسُ دِيَانَةَ الشُعُوبِ الْبِدَائِيَّةِ، تَجِدُ أَنَّهُ لا يَزَالُ يُوجَدُ عُنْصُرٌ قَوِيٌّ مِنْ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ. إِذًا، كَانَ يَتِمُّ الافْتِراضُ أَنَّ جَمِيعَ الدِيَانَاتِ تَنْطَلِقُ مِنْ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بِطَرِيقَةٍ تَطَوُّرِيَّةٍ تَدْرِيجِيًّا إِلَى الْخُطْوَةِ التَالِيَةِ أَوْ إِلَى الْمَرْحَلَةِ التَالِيَةِ، أَلا وَهِيَ الشِرْكُ، أَيِ الإِيمَانُ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ. وَسَبَقَ أَنْ رَأَيْتُمْ دِيَانَاتِ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، مِثْلَ الأَدْيانِ النَرُوجِيَّةِ وَالدِيانَةِ الرُومَانِيَّةِ وَالدِيَانَةِ الْيُونَانِيَّةِ، حَيْثُ كَانَ يُوجَدُ إِلَهٌ أَوْ إِلَهَةٌ لِكُلِّ وَظِيفَةٍ بَشَرِيَّةٍ تَقْرِيبًا؛ إِلَهُ الْخُصُوبَةِ وَإِلَهُ الْحِكْمَةِ وَإِلَهُ الْجَمَالِ وَإِلَهُ الْحَرْبِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. نَحْنُ جَمِيعًا عَلَى دِرَايَةٍ بِذَلِكَ مِنْ خِلالِ أَسَاطِيرِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ، حِينَ كَانَ الشَعْبُ يُؤْمِنُ بِآلِهَةٍ عِدَّةٍ مَوْجُودَةٍ لِخِدْمَةِ وَظَائِفَ مُخْتَلِفَةٍ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ.

وَالْمَرْحَلَةُ التَالِيَةُ مِنَ التَطَوُّرِ الدِينِيِّ بَعْدَ الإِيمَانِ بِآلِهَةٍ عِدَّةٍ تُعْرَفُ بِالْهِينُوثِيَّةِ. وَالْهِينُوثِيَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْخَلِيطِ بَيْنَ الإِيمَانِ بِآلِهَةٍ عِدَّةٍ وَالإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، إِنَّهَا مَرْحَلَةٌ انْتِقَالِيَّةٌ بَيْنَ الأَجْنَاسِ، إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ. وَالْهِينُوثِيَّةُ تُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. وَالْبَادِئَةُ "هِين" تَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ الَتِي تَعْنِي "وَاحِدًا"، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ "مُونُو". لَكِنَّ الْفِكْرَةَ هُنَا تَقْضِي بِوُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ شَعْبٍ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ وَيَسُودُ عَلَى الْمِنْطَقَةِ الْجُغْرَافِيَّةِ التَابِعَةِ لَهُ. وَبِالتَالِي، كَانَ يُوجَدُ إِلَهٌ لِلشَعْبِ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ يَهْوَه، وَإِلَهٌ لِلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَهُوَ دَاجُونُ، وَإِلَهٌ لِلْكَنْعَانِيِّينَ وَهُوَ بَعْلُ، إِلَى آخِرِهِ. وَبِالتَالِي كَانَ لِكُلِّ مَجْمُوعَةٍ عِرْقِيَّةٍ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ إِلَهُهَا الْخَاصُّ بِهَا، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُؤْمِنُ بِوُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ بَلْ كَانَتْ تَعْتَرِفُ بِوُجُودِ آلِهَةِ الأُمَمِ الأُخْرَى. وَأَحْيانًا كَثِيرَةً، كَانَتِ الْمَعَارِكُ الَتِي تُخَاضُ بَيْنَ الأُمَمِ تُعْتَبَرُ مَعَارِكَ بَيْنَ آلِهَةِ الشُعُوبِ. وَسَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ كَيْفَ كَانَ الشَعْبُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، لأَنَّكَ تَقْرَأُ عَنْ صِرَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ صَعِدَ ضِدَّ الْبَعْلِ، أَوْ ضِدَّ الإِلَهَةِ عَشْتَرُوتْ، أَوْ ضِدَّ إِلَهِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنْ أَصْبَحَتْ هَذِهِ مَرْحَلَةً انْتِقَالِيَّةً إِلَى أَنْ تَطَوَّرَ بالْكَامِلِ الإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ.

عَلَى ضَوْءِ افْتِرَاضِ هَذا الإِطَارِ التَطَوُّرِيِّ، اعْتَرَضَ نُقَّادُ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ عَلَى فِكْرَةِ كَوْنِ الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ ثَابِتًا عَلَى مَبْدَأِ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. كَانَ يُوجَدُ جِدَالٌ دَائِمٌ بِشَأْنِ الْوَقْتِ الَذِي ظَهَرَ فِيهِ الإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ فِي إِسْرَائِيلَ. رُبَّمَا الأَكْثَرُ تَحَفُّظًا مِنْ بَيْنِ هَؤُلاءِ النُقَّادِ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَمَّ التَلْمِيحُ إِلَى الأَمْرِ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ كَثِيرُونَ بَيْنَهُمْ إِنَّ الإيمانَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَ الْيَهُودِ إِلَّا فِي عَهْدِ مُوسَى. وَرَفَضَ كَثِيرُونَ حَتَّى فِكْرَةَ كَوْنِ مُوسَى يُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، مُعْتَبِرِينَ أَنَّ الإِيمَانَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْدَأْ إِلَّا مَعَ أَنْبِيَاءِ الْقَرْنِ الثَامِنِ لا سِيَّمَا مَعَ خِدْمَةِ إِشَعْيَاءَ. حَتَّى إِنَّ الأَكْثَرَ تَشَكُّكًا حَاوَلُوا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ الإِيمَانَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْدَأْ إِلَّا بَعْدَ السَبْيِ، وَكَانَ بِالأَحْرَى تَطَوُّرًا حَدِيثًا لِلدِيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ.

وَبِالتَالِي، كَانَ عَلَى الْعِلْمِ الْقَوِيمِ أَنْ يَخُوضَ تِلْكَ الْمَعْرَكَةَ طَوَالَ السَنَوَاتِ الْمِئَةِ الأَخِيرَةِ وَنَيِّفٍ، فِي مُحَاوَلَةٍ لِلإِثْبَاتِ أَنَّ مَفْهُومَ وَحْدَةِ اللهِ وَتَفَرُّدِ اللهِ تَعُودُ جُذُورُهُ إِلَى بِدَايَةِ تَارِيخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَمَثَلًا، فِي الآيَةِ الأُولَى مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ نَقْرَأُ "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ". إِذًا، فِي قِصَّةِ الْخَلْقِ، نَرَى تَأْكِيدًا عَلَى أَنَّ اللهَ الَذِي تَمَّ تَقْدِيمُهُ فِي الصَفْحَةِ الأُولَى مِنْ أَسْفَارِ مُوسَى الْخَمْسَةِ هُوَ إِلَهٌ يَسُودُ مُلْكُهُ عَلَى الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ مَحْصُورًا بِالْحُدُودِ الْجُغْرَافِيَّةِ لإِسْرَائِيلَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، بَلْ إِنَّهُ إِلَهُ السَمَاءِ وَالأَرْضِ. الْمُصْطَلَحُ الآخَرُ الَذِي تَمَّ اسْتِخْدَامُهُ غَالِبًا لِلإِشَارَةِ إِلَى اللهِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هُوَ "اللهُ الْعَلِيُّ".

غَيْرَ أَنَّ أَحَدَ الأَسْبَابِ الَتِي جَعَلَتِ النُقَّادَ يُلاحِظُونَ غِيَابَ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ حَتَّى فِي قِصَّةِ الْخَلْقِ هُوَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ، يُوجَدُ تَأَرْجُحٌ بَيْنَ اسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لله. فَمِنْ نَاحِيَةٍ، يُشَارُ إِلَى اللهِ عَلَى أَنَّهُ يَهْوَه، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، تَمَّتْ تَسْمِيَةُ اللهِ "إِلُوهِيمَ". وَهَذَا الاسْمُ – إِلُوهِيمُ – لافِتٌ لِلنَظَرِ، لأَنَّ اللَاحِقَةَ "هِيمَ" فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ فِي الاسْمِ الْعِبْرِيِّ، وَبِالتَالِي يُمْكِنُ تَرْجَمَةُ تَسْمِيَةِ "إِلُوهِيمَ" بِكَلِمَةِ "آلِهَةٍ". فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، يُوجَدُ الْمَزِيدُ مِنَ اللَغَطِ فِي تَسْمِيَةِ إِلُوهِيمَ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّ لاحِقَتَهُ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، إِنَّ الْفِعْلَ الَذِي يُرَافِقُهُ يَرِدُ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. إِذًا، مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكَاتِبَ يَقُولُ أَمْرًا لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِبَسَاطَةٍ بِأَنَّهُ يَعْنِي عِدَّةَ آلِهَةٍ. لَكِنْ مُجَدَّدًا، إِنَّ شَخْصِيَّةَ "إِلُوهِيمَ" أَوْ "يَهْوَه" الْمُعْلَنَةَ لَنَا فِي الأَصْحَاحَاتِ الأُولَى مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، تُبَيِّنُ أَنَّهُ سَيِّدٌ فَوْقَ الْكُلِّ. إِذًا، أَظُنُّ أَنَّكَ تَقْفِزُ إلى اسْتِنْتَاجَاتٍ سَرِيعَةٍ إنِ افْتَرَضْتَ مِنْ خِلالِ تَسْمِيَةِ "إِلُوهِيمَ" أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ تَعَدُّدُ آلِهَةٍ.

أَحْيَانًا يُصْبِحُ الأَمْرُ مُنَافِيًا لِلْعَقْلِ. أَذْكُرُ أَنِّي حِينَ كُنْتُ فِي مَعْهَدِ اللَاهُوتِ أَسْتَمِعُ إِلَى أُسْتَاذٍ يَقُولُ إِنَّ الدِيَانَةَ الْيَهُودِيَّةَ انْطَلَقَتْ مِنْ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ نَظَرًا لاخْتِبَارِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ الْتَقَى مَلائِكَةً عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرا. وَقَالَ الأُسْتَاذُ "أَتَرَوْنَ مَا كَانَ يَجْرِي هُنَا؟ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَتَحَدَّثُ مَعَ هَؤُلاءِ الَذِينَ يُفْتَرَضُ أَنَّهُمْ ثَلاثَةُ مَلائِكَةٍ عِنْدَ الْبَلُّوطَاتِ". قَالَ: "مَا يَجْرِي هُنَا هُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ الآلِهَةِ فِي الأَشْجَارِ". لَكِنْ مَهْلًا، لا يُوجَدُ أَيُّ دَلِيلٍ فِي النَصِّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يُؤْمِنُ بِمَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ. لَكِنَّ تُهْمَةَ الإِيمَانِ بِمَبْدَإِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ ظَلَّتْ قَائِمَةً، لأَنَّهُ فِي قِصَّةِ السُقُوطِ تَعَرَّضَ آدَمُ وَحَوَّاءُ لِلتَجْرِبَةِ مِنْ خِلالِ حَيَّةٍ مُتَّخِذَةٍ صِفَاتِ إِنْسَانٍ. كَانَ بِمَقْدُورِهَا التَفْكِيرُ وَالْكَلامُ وَكَانَتْ تَتَمَتَّعُ بِإِرَادَةٍ. إِذًا، نَسْبُ صِفَاتِ الإِنْسَانِ إِلَى حَيَّةٍ هُوَ بِحَسَبِ بَعْضِ النُقَّادِ مَثَلٌ عَنْ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ.

وَيُمْكِنُ قَوْلُ الأَمْرِ نَفْسِهِ لاحِقًا عَنِ اخْتِبَارِ حِمَارِ بَلْعَامَ، حِينَ تَكَلَّمَ هَذَا الْحِمَارُ. وَقَالُوا: "يُوجَدُ رَوحٌ فِي الْحِمَارِ، مِثْلَمَا كَانَ يُوجَدُ رُوحٌ فِي الْحَيَّةِ". وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ، إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ. ثُمَّ تَمَّ اتِّهَامُهَا بِالْهِينُوثِيَّةِ، لأَنَّهُ، وَكَمَا ذَكَرْتُ، يَأْتِي الْعَهْدُ الْقَدِيمُ عَلَى ذِكْرِ قِيَامِ صِرَاعٍ كَبِيرٍ بَيْنَ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ وَآلِهَةِ الشُعُوبِ الأُخْرَى. وَبِالتَالِي، يَبْقَى السُؤَالُ: هَلْ كَانَ الإِيمانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ قَائِمًا مُنْذُ الْبَدْءِ؟

لَكِنْ كَمَا ذَكَرْتُ، تُؤَكِّدُ قِصَّةُ الْخَلْقِ عَلَى أَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ الأَشْيَاءِ، السَماءِ وَالأَرْضِ. وَبِالانْتِقَالِ إِلَى سِفْرِ الْخُرُوجِ، إِلَى قِصَّةِ إِعْطَاءِ الشَرِيعَةِ، الْوَصِيَّةُ الأُولَى الَتِي تَسَلَّمَها مُوسَى عِنْدَ جَبَلِ سَيْنَاءَ تَدْعُو بِشِدَّةٍ إِلَى الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: "لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي". وَيَقُولُ الْبَعْضُ "هَذَا حَتْمًا نَوْعٌ مِنَ الْهِينُوثِيَّةِ، لأَنَّ اللهَ يَقُولُ إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى، مَا دَامَتْ لا تَفُوقُنِي رُتْبَةً وَما دُمْتُمْ تَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ أَكُونَ أَنَا الإِلَهَ الأَوَّلَ، وَالرَئِيسَ، لا يُمْكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يَفُوقَنِي. إِيَّاكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا آخَرَ أَمَامِي". إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَكَلَّمُ اللهُ قَائِلًا: "لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي" فَهُوَ يَقْصِدُ الْقَوْلَ بِـ"أَمَامِي"، "فِي مَحْضَرِي". وَبِالطَبْعِ، حُضُورُهُ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، إِنَّهُ كُلِّيُّ الْوُجُودِ. إِذًا، مَا يَقْصِدُهُ اللهُ بِقَوْلِهِ "لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى (فِي مَحْضَرِي)" هُوَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَسَاسًا إِنَّهُ لا تَجُوزُ عِبَادَةُ أَيِّ أَحَدٍ سِوَاهُ، سَوَاءَ كُنْتَ مُقِيمًا فِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ كُنْتَ مُقِيمًا فِي كَنْعَانَ، أَوْ كُنْتَ مُقِيمًا فِي فَلَسْطِينَ، أَنْتَ تَقُومُ بِعِبَادَةِ الأَوْثانِ لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَقَطْ. وَالْوَصِيَّةُ الثَانِيَةُ تَدْعَمُ الْوَصِيَّةَ الأُولَى، عَبْرَ حَظْرِهَا الْعَلَنِيِّ لِشَتَّى أَنْوَاعِ عِبَادَةِ الأَوْثانِ.

عِنْدَمَا تَصِلُ إِلَى الأَنْبِيَاءِ، تَقْرَأُ دَائِمًا تَقْرِيبًا عَنْ تَهَجُّمٍ لاذِعٍ عَلَى الآلِهَةِ الْمُزَيَّفَةِ التَابِعَةِ لِلأَدْيَانِ الأُخْرَى. وَلَمْ يَتِمَّ اعْتِبَارُهَا آلِهَةً مُنَافِسَةً، بَلْ أَوْثانًا عَدِيمَةَ الْفَائِدَةِ. فِي الْوَاقِعِ، يَقُومُ الأَنْبِيَاءُ عَلَى نَحْوٍ خَاصٍّ بِالسُخْرِيَةِ مِنَ الأَشْخَاصِ الَذِينَ يَعْبُدُونَ الأَشْجَارَ، وَالَذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، وَيَعْبُدُونَ تِلْكَ الأَشْيَاءَ الَتِي صَنَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ الْخَاصَّةِ. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الأَشْخَاصِ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ تِلْكَ الْكُتْلَةَ الْخَشَبِيَّةَ تَسْكُنُهَا كَائِنَاتٌ ذَكِيَّةٌ عَاقِلَةٌ، كَمَا لَوْ أَنَّ تِلْكَ الْكُتْلَةَ الْخَشَبِيَّةَ تَقْدِرُ أَنْ تَسْمَعَ، أَوْ كَمَا لَوْ أَنَّ تِلْكَ الْكُتْلَةَ الْخَشَبِيَّةَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى. وَبِالتَالِي هُمْ سَخِرُوا مِنْ فِكْرَةِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ بِرُمَّتِها، وَفِكْرَةِ تَعَدُّدِ الآلِهَةِ بِرُمَّتِهَا دَائِمًا خِلالَ نَقْدِهِمْ.

إذًا، أَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ مَا تَمَّ إِثْبَاتُهُ بِشَكْلٍ رَاسِخٍ فِي دِيَانَةِ إِسْرَائِيلَ وَفِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، هُوَ مَفْهُومُ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، أَيْ وُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ. وَتَحْدِيدًا نَظَرًا لِتَعْلِيمِهِمْ الْوَاضِحِ عَنِ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، طَرَحَتْ مَسْأَلَةُ الثَالُوثِ إِشْكَالِيَّةً كَبِيرَةً. لأَنَّنَا عِنْدَمَا نَصِلُ إِلَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، فَإِنَّ كَنِيسَةَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ تُؤَكِّدُ أَنَّ اللهَ الآبَ إِلَهٌ، وَاللهَ الابْنَ إِلَهٌ، وَاللهَ الرُوحَ الْقُدُسَ إِلَهٌ. لَكِنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ لا يَزَالُ يُحَافِظُ بِشِدَّةٍ عَلَى مَفْهُومِ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. إِذًا، نَوْعًا مَا، عَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ الْفَرْقَ ضِمْنَ شَخْصِ اللهِ لَيْسَ جَوْهَرِيًّا. لَسْتُ أَقْصِدُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ جَوْهَرِيٍّ أَنَّهُ عَدِيمُ الأَهَمِّيَّةِ، بَلْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْهَرِ، وَلا يُشَارُ بِذَلِكَ إِلَى تَجْزِئَةِ أَوْ تَقْسِيمِ كِيَانِ اللهِ. وَيُتَابِعُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ التَأْكِيدَ عَلَى أنَّ اللهَ وَاحِدٌ كَمَا سَنَرَى فِي الرَسَائِلِ الْمُقْبِلَةِ، عَلَى مَا أَرْجُو.

لَكِنْ إِلَيْكُمُ الْمُشْكِلَةَ. إِنَّ مَسْأَلَةَ الثَالُوثِ بِرُمَّتِهَا رَاسِخَةٌ بِدَايَةً فِي التَأْكِيدِ الْكِتَابِيِّ عَلَى الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وَبِالتَالِي، كَانَ الصِرَاعُ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ حِفَاظِنَا عَلَى عَقِيدَةِ الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مَعَ تَأْكِيدِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الْوَاضِحِ عَلَى طَبِيعَةِ اللهِ الثَالُوثِيَّةِ. كَانَ أُوغُسْطِينُوسُ مَنْ قَالَ ذَاتَ مَرَّةٍ إِنَّ الْجَدِيدَ، أَيِ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ، مُسْتَتِرٌ فِي الْقَدِيمِ، وَالْقَدِيمُ مُعْلَنٌ فِي الْجَدِيدِ. وَهَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُنا، أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ فِي هَذَا التَدَرُّجِ فِي الْفِكْرِ وَالإِعْلانِ الإِلَهِيِّ، تُوجَدُ وَحْدَةٌ رَاسِخَةٌ فِي الْفِكْرِ.