المحاضرة 7: دَمَارُ أُورُشَلِيمَ
أَعْتَقِدُ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَكْثَرِ الْفُصُولِ إِذْهَالًا فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ بِرُمَّتِهِ يَتَضَمَّنُ بِالطَبْعِ الْأَحْدَاثَ الْمُحِيطَةَ بِدَمَارِ أُورُشَلِيمَ. وَلَيْسَ لَدَيْنَا سَرْدٌ كِتَابِيٌّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْبَالِغِ الْأَهَمِّيَّةِ الَذِي تَمَّ فِي عَامِ 70 مِيلَادِيًّا، لَكِنَّنَا نَمْلِكُ تَقْرِيرًا مُذْهِلًا لِشَاهِدِ عِيَانٍ، مُفَصَّلًا بِدِقَّةٍ لِحِصَارِ أُورُشَلِيمَ وَكَافَّةِ الْأُمُورِ الَتِي حَدَثَتْ أَثْنَاءَ دَمَارِهَا، بِقَلَمِ الْمُؤَرِّخِ الْيَهُودِيِّ الشَهِيرِ يُوسِيفُوسْ. أَحَدُ الْأُمُورِ الَتِي تُفَاجِئُنِي هُوَ أَنَّ قِلَّةً مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ اسْتَغْرَقُوا وَقْتًا لِقِرَاءَةِ تَارِيخِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ الَتِي سَرَدَهَا يُوسِيفُوسْ. وَكُلُّ شَخْصٍ أَعْرِفُهُ مِمَّنْ كَرَّسُوا وَقْتًا لِقِرَاءَةِ حُرُوبِهِ الْيَهُودِيَّةِ أَفَادَ بِأَنَّهُ كَانَ مَأْخُوذًا تَمَامًا بِقِرَاءَةِ هَذَا التَارِيخِ لِأَنَّهُ مُذْهِلٌ جِدًّا. لِذَا، مَا أُرِيدَ فِعْلَهُ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْيَوْمَ هُوَ إِلْقَاءُ نَظْرَةٍ وَجِيزَةٍ عَلَى بَعْضِ النِقَاطِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي التَقْرِيرِ الَذِي وَصَلَنَا عَبْرَ التَارِيخِ بِقَلَمِ فْلَافْيُوسْ يُوسِيفُوسْ.
وُلِدَ يُوسِيفُوسْ فِي عَامِ 37 مِيلَادِيًّا أَثْنَاءَ حُكْمِ الْإِمْبِرَاطُورِ كَالِيجُولَا، وَلَا نَعْلَمُ تَحْدِيدًا السَنَةَ الَتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، لَكِنَّنَا نَعْرِفُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَ عَامِ 100. كَمَا نَعْرِفُ أَيْضًا أَنَّ يُوسِيفُوسَ وُلِدَ فِي عَائِلَةٍ مِنَ الْكَهَنَةِ الْيَهُودِ، لَكِنْ عِنْدَمَا كَبِرَ، لَمْ يُصْبِحْ كَاهِنًا بَلْ عُضْوًا فِي حِزْبِ الْفَرِّيسِيِّينَ. وَفِي حَدَاثَتِهِ، أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا كَحَاكِمٍ، كَحَاكِمٍ إِقْلِيمِيٍّ لِمِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ، كَمَا أَنَّهُ عُرِفَ كَاسْتِرَاتِيجِيٍّ عَسْكَرِيٍّ وَكَانَ بِمَثَابَةِ جِنِرَالٍ فِي الْجَيْشِ الْيَهُودِيِّ. كَمَا أَنَّنَا نَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ مُؤَرِّخًا، أَيْضًا عَمِلَ أَثْنَاءَ حِصَارِ أُورُشَلِيمَ كَوَسِيطٍ بَيْنَ الْجُيُوشِ الرُومَانِيَّةِ وَالْقِيَادَةِ الرَسْمِيَّةِ مِمَّنْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ فِي أُورُشَلِيمَ. أَمَّا كَيْفَ حَدَثَ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا سَنَرَاهُ بَعْدَ قَلِيلٍ.
لَكِنْ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، تَعَرَّضَتْ مِصْدَاقِيَّةُ يُوسِيفُوسَ التَارِيخِيَّةُ لِهُجُومٍ عَنِيفٍ مِنْ قِبَلِ الْعُلَمَاءِ النُقَّادِ فِي الْمَدْرَسَةِ اللِيبِرَالِيَّةِ. لَطَالَمَا كَانَ يُوسِيفُوسُ وَاحِدًا مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الْأَكْثَرِ احْتِرَامًا فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، لَكِنِ اتَّهَمَهُ نُقَّادُ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ التَفَاصِيلِ، وَبِالْقِيَامِ بِنَوْعٍ مِنْ تَعْظِيمِ الذَاتِ فِي كِتَابَاتِهِ، بِحَيْثُ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَتَفَاخَرُ بِنَفْسِهِ. لَكِنَّ جُزْءًا مِنَ الْأَمْرِ يَعُودُ إِلَى رُوحِ النَقْدِ الْعَامَّةِ تُجَاهَ الْكُتَّابِ الْقُدَامَى. وَعَلَى الرَغْمِ مِنْ عَدَمِ تَأَكُّدِنَا مِنْ دِقَّةِ التَفَاصِيلِ الدَقِيقَةِ الَتِي أَخْبَرَنَا بِهَا يُوسِيفُوسُ، فَنَحْنُ نَسْتَفِيدُ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ وُجُودِ شَاهِدِ عِيَانٍ، كَانَ كَاتِبًا مَشْهُورًا فِي أَيَّامِهِ وَكَانَ يَتَمَتَّعُ بِمَكَانَةٍ فَرِيدَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَنْ يَرْوِيَ مَا جَرَى عِنْدَ طَرَفَيْ النِزَاعِ. وَبِالتَالِي، فَإِنَّ الْكِتَابَاتِ الَتِي زَوَّدَنَا بِهَا بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ بِالنِسْبَةِ إِلَيْنَا لِمُحَاوَلَةِ فَهْمِ أَهَمِّيَّةِ مَا حَدَثَ فِي عَامِ 70 مِيلَادِيًّا.
لَقَدْ كَانَ يُوسِيفُوسُ مُلِمًّا جِدًّا بِكِتَابَاتِ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ نَفْسُهُ رَأَى دَمَارَ أُورُشَلِيمَ تَتْمِيمًا لِنُبُوَّةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. فِي الْوَاقِعِ، بِسَبَبِ بَعْضِ سِمَاتِ كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ، قَدْ يَجِدُ الْبَعْضُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْغُرُورِ مُعْتَبِرًا نَفْسَهُ نَبِيًّا. لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْءُ مُهْتَمًّا بِالْأَهَمِّيَّةِ الدِينِيَّةِ لِمَا جَرَى فِي أُورُشَلِيمَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَإِنْ أَرَادَ تَكْوِينَ فِكْرَةٍ عَنِ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الرُومَانِيَّةِ، وَعَنِ الْعَتَادِ وَالْاسْتِرَاتِيجِيَّاتِ وَالْمُخَطَّطَاتِ، فَإِنَّ كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ هِيَ كَنْزٌ فِي هَذَا الصَدَدِ. فَهُوَ يُقَدِّمُ وَصْفًا مُفَصَّلًا لِآلَةِ الْكَبْشِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَالْمَنْجَنِيقِ وَالْأَنْوَاعِ الْأُخْرَى مِنَ الْأَسْلِحَةِ الَتِي أَتْقَنَهَا الرُومَانُ فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ، فَكَانُوا دَائِمًا نَاجِحِينَ جِدًّا فِي مَعَارِكِهِمْ الْعَسْكَرِيَّةِ.
لَمْ يَتِمَّ دَمَارُ أُورُشَلِيمَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحَاهَا، بَلْ إِنَّهُ بَدَأَ فِي فَتْرَةٍ مُبَكِّرَةٍ مَعَ اجْتِيَاحِ الرُومَانِ لِفِلَسْطِينَ فِي أَوَاخِرِ السِتِّينِيَّاتِ، بِقِيَادَةِ أَحَدِ أَعْظَمِ جِنِرَالَاتِهِمْ وَيُدْعَى فِسْبَازْيَانَ (Vespasian). وَفِي عَامِ 68، أَيْ فِي الْعَامِ الَذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الْإِمْبِرَاطُورُ نِيرُونُ، وَعَقِبَ وَفَاةِ نِيرُونَ، حَدَثَتْ فَتْرَةُ صِرَاعٍ دَاخِلِيٍّ كَبِيرٍ أَوْ حَرْبٍ أَهْلِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ دَاخِلَ رُومَا. فَكَانَ تَوَالٍ سَرِيعٌ لِلْأَبَاطِرَةِ لِلتَرَبُّعِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ وَفَاةِ نِيرُونَ. فَمُبَاشَرَةً بَعْدَ نِيرُونَ، حَكَمَ رَجُلٌ يُدْعَى جَالْبَا (Galba)، الَذِي لَمْ يَبْقَ عَلَى الْعَرْشِ إِلَّا لِشُهُورٍ قَلِيلَةٍ إِلَى أَنْ تَمَّ اغْتِيَالُهُ، ثُمَّ حَلَّ أُوثُو (Otho) مَكَانَ جَالْبَا، وَأُوثُوَ بِدَوْرِهِ حَكَمَ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ وَتَعَرَّضَ لِلِاغْتِيَالِ فِي عَامِ 69، ثُمَّ حَلَّ مَكَانَهُ فِيتِلِيُوسْ (Vitellius). أَمَّا فِيتِلِيُوسْ فَاخْتَارَهُ مَجْلِسُ الشُيُوخِ فِي رُومَا لِيَكُونَ إِمْبِرَاطُورًا فِي سُلَالَةِ الْأَبَاطِرَةِ. لَكِنَّ الْجَيْشَ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ رَفَضَ فِيتِلِيُوسْ وَاسْتَدْعَى فِسْبَازْيَانَ، الْجِنِرَالَ الْمُفَضَّلَ لَدَيْهِ، لِيَعُودَ إِلَى الدِيَارِ بَعْدَ اجْتِيَاحِ فِلَسْطِينَ لِكَيْ يَتَوَلَّى مَنْصِبَ الْإِمْبِرَاطُورِ. فَفَعَلَ فِسْبَازْيَانُ ذَلِكَ، حَيْثُ تَرَكَ سَاحَةَ الْمَعْرَكَةِ، وَعَادَ إِلَى الدِيَارِ وَتَمَّتِ الْمُنَادَاةُ بِهِ إِمْبِرَاطُورًا لِرُومَا، فَأَرْسَى مُجَدَّدًا نَوْعًا مِنَ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُومَانِيَّةِ، وَحَكَمَ كَإِمْبِرَاطُورٍ مِنْ عَامِ 69 حَتَّى عَامِ 79، ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ تِيطُسُ.
عِنْدَمَا غَادَرَ سَاحَةَ الْمَعْرَكَةِ، بَعْدَ الْمَرَاحِلِ الْأُولَى مِنِ اجْتِيَاحِ فِلَسْطِينَ، حَيْثُ تَمَّ اسْتِدْعَاؤُهُ إِلَى رُومَا، سَلَّمَ فِسْبَازْيَانُ مُهِمَّةَ قِيَادَةِ الِاجْتِيَاحِ لِابْنِهِ تِيطُسَ، وَبِالتَالِي، كَانَ تِيطُسُ مَنْ تَرَأَّسَ عَمَلِيَّةَ اجْتِيَاحِ أُورُشَلِيمَ. إِذَنْ، كَانَ تِيطُسُ مَنْ تَرَأَّسَ حَمْلَةَ غَزْوِ أُورُشَلِيمَ. لَكِنْ مَا حَدَثَ هُوَ أَنَّهُ عِنْدَمَا قَامَ الرُومَانُ بِالِاجْتِيَاحِ، دَخَلُوا إِلَى فِلَسْطِينَ وَحَاصَرُوهَا وَسَيْطَرُوا عَلَيْهَا مَدِينَةً تِلْوَ الْأُخْرَى، وَبَلْدَةً تِلْوَ الْأُخْرَى، وَشَقُّوا طَرِيقَهُمْ إِلَى الْمَعْقِلِ الْأَسَاسِيِّ لِلْقُوَّةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَيْ بِالطَبْعِ فِي أُورُشَلِيمَ. وَيُعَدُّ غَزْوُ مَدِينَةِ يُودِفْتَ (Jotapata) الَتِي تَقَعُ فِي شَمَالِ الْبِلَادِ وَكَانَ يَحْكُمُهَا الْجِنِرَالُ يُوسِيفُوسُ، أَحَدَ النِزَاعَاتِ الرَئِيسِيَّةِ الَتِي حَدَثَتْ خِلَالَ الِاجْتِيَاحِ فِيمَا كَانَ فِسْبَازْيَانُ لَا يَزَالُ يَتَوَلَّى الْقِيَادَةَ. وَوَفْقًا لِتَقَارِيرِ يُوسِيفُوسْ، تَمَّ ذَبْحُ أَكْثَرَ مِنْ 400 أَلْفٍ مِنْ أَبْنَاءِ بَلْدَتِهِ أَثْنَاءَ دَمَارِ يُودِفَتْ، وَكَانَ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى الْمُقَاوَمَةِ الضَارِيَةِ الَتِي أَبْدَاهَا جُنُودُهُ وَشَعْبُهُ فِي وَجْهِ الْغَزْوِ الرُومَانِيِّ، وَهَذَا جُزْءٌ مُذْهِلٌ جِدًّا مِنَ التَارِيخِ.
بَدَا الْأَمْرُ مِثْلَ الرِوَايَاتِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكَافُؤٌ بَيْنَ الْيَهُودِ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ الصَغِيرَةِ وَالْجُيُوشِ الرُومَانِيَّةِ الْمُقْتَحِمَةِ، لَكِنَّهُمْ اسْتَخْدَمُوا شَتَّى أَنْوَاعِ الطُرُقِ الْبَارِعَةِ وَالْمُبْدِعَةِ لِصَدِّ الْغُزَاةِ، وَفِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، لَمْ يَنْجُ إِلَّا شَخْصَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا، وَمِنْ بَيْنِهِمْ يُوسِيفُوسُ الَذِي كَانَ مُخْتَبِئًا فِي بِئْرٍ أَوْ فِي حُفْرَةٍ، وَتَعَرَّضَ لِلْخِيَانَةِ وَتَمَّ تَسْلِيمُهُ لِلْأَعْدَاءِ، وَكَانَ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَتِمَّ إِعْدَامُهُ بِسُرْعَةٍ. لَكِنَّ يُوسِيفُوسُ يَقُولُ إِنَّ فِسْبَازِيَانِ عَفَا عَنْهُ، لِأَنَّ فِسْبَازِيَانَ كَانَ يَكُنُّ احْتِرَامًا وَإِعْجَابًا بِالشَجَاعَةِ التِي أَبْدَاهَا يُوسِيفُوسُ أَثْنَاءَ دِفَاعِهِ عَنْ يُودِفَتْ. إِذَنْ، مَا حَدَثَ هُوَ أَنَّهُ تَمَّ أَخْذُ يُوسِيفُوسَ كَرَهِينَةٍ، أَخَذَهُ فِسْبَازْيَانُ أَسِيرًا، حَيْثُ كَانَ تَقْرِيبًا تَحْتَ الْإِقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي مَقَرِّ سَكَنِ فِسْبَازْيَانَ نَفْسِهِ، مِمَّا أَثَارَ شَتَّى أَنْوَاعِ التَسَاؤُلَاتِ لَدَى الْأَجْيَالِ الْمُقْبِلَةِ، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ يُوسِيفُوسَ جَعَلَ كَثِيرِينَ يَعْتَبِرُونَهُ خَائِنًا أَوْ مُتَوَاطِئًا مَعَ الرُومَانِ، لِأَنَّ فِسْبَازْيَانَ وَمُعَاوِنِيهِ كَانُوا يَسْتَجْوِبُونَهُ دَائِمًا.
لَكِنَّ الْأَمْرَ الَذِي يَتَبَيَّنُ مِنْ خِلَالِ كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ هُوَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ كَانَ يُحِبُّ أُورُشَلِيمَ وَكَانَ مُولَعًا بِهَا. كَمَا كَانَ يَهُودِيًّا مِنَ الطِرَازِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ. وَآخِرُ أَمَرٍ أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ حُدُوثَهُ هُوَ دَمَارُهَا، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ إِذَا تَمَّ تَدْمِيرُ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلِ. وَمِنْ ثَمَّ، فَإِنَّ فَسْبَازْيَانَ، وَقَبْلَ أَنْ يَتِمَّ اسْتِدْعَاؤُهُ إِلَى رُومَا لِيَحُلَّ تِيطُسُ مَكَانَهُ، كَانَ يَسْتَخْدِمُ يُوسِيفُوسَ كَمُفَاوِضٍ وَوَسِيطٍ، وَيُدْخِلُهُ تَحْتَ رَايَةِ الْهُدْنَةِ إِلَى دَاخِلِ الْمَدِينَةِ لِيُكَلِّمَ الشُيُوخَ الَذِينَ كَانُوا يُقَاوِمُونَ أَثْنَاءَ حِصَارِ أُورُشَلِيمَ، وَدَامَ الْحِصَارُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا. فَبَذَلَ يُوسِيفُوسُ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ لِيُقْنِعَ الْقَادَةَ فِي الْمَدِينَةِ بِالِاسْتِسْلَامِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقْتَنِعًا بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى الْجُيُوشِ فِي أُورُشَلِيمَ أَنْ يَصْمُدُوا أَمَامَ الْحِصَارِ الرُومَانِيِّ الْمُسْتَمِرِّ. فَكَانَ يُفَضِّلُ رُؤْيَةَ الْمَدِينَةِ تَسْتَسْلِمُ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، كَانَ يَلْتَمِسُ مِنْ تِيطُسَ أَنْ يُبْقِيَ الْهَيْكَلَ وَيَصْفَحَ عَنِ الْمَدِينَةِ إِنْ اسْتَسْلَمَ الْجُنُودُ الذِينَ كَانُوا يَحْمُونَ أُورُشَلِيمَ. فَكَرَّسَ يُوسِيفُوسُ نَفْسَهُ لِمُهِمَّةِ مُحَاوَلَةِ التَفَاوُضِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ، وَلِهَذَا السَبَبِ، اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ خَائِنًا، لِأَنَّهُ دَعَا إِلَى اسْتِسْلَامِ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ وَهُوَ يَهُودِيٌّ. لَكِنْ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَدَفَهُ كَانَ حِمَايَةَ الْهَيْكَلِ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدَمَارِ الَذِي حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَيْضًا فِي كِتَابَاتِهِ وَفِي وَصْفِهِ لِلْأَحْدَاثِ الْمُرَافِقَةِ لِدَمَارِ أُورُشَلِيمَ، رَأَى يُوسِيفُوسُ يَدَ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تِلْكَ الْكَارِثَةِ، وَحَذَّرَ شَعْبَهُ قَائِلًا لَهُمْ إِنَّ دَيْنُونَةَ اللَّهِ سَتَنْسَكِبُ عَلَيْهِمْ. هَذَا أَمْرٌ مُذْهِلٌ فِي ضَوْءِ تَنَاوُلِنَا لِلْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدَلَالَاتِ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَبَلِ الزَيْتُونِ، لِأَنِّي حَاوَلْتُ أَنْ أُثْبِتَ أَنَّ نِهَايَةَ الْجِيلِ الَتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا يَسُوعُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْجَبَلِ لَا تُشِيرُ إِلَى نِهَايَةِ الْعَالَمِ بَلْ إِلَى نِهَايَةِ الْجِيلِ الْيَهُودِيِّ، وَهُوَ كَانَ يُحَذِّرُ بَنِي جِيلِهِ مِنْ دَيْنُونَةِ اللَّهِ الْوَشِيكَةِ وَالْأَكِيدَةِ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلِ. وَمِنْ وُجْهَةِ نَظَرٍ يَهُودِيَّةٍ، وَجَّهَ يُوسِيفُوسُ التَحْذِيرَ نَفْسَهُ لِشَعْبِهِ مُسْتَشْهِدًا بِنُصُوصٍ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَبِكَلَامِ أَنْبِيَاءَ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، لِيُحَذِّرَ الشَعْبَ قَائِلًا إِنَّ هَذِهِ الدَيْنُونَةَ مَوْعُودٌ بِهَا بِسَبَبِ شُرُورِ ذَلِكَ الْجِيلِ. وَمِنَ اللافِتِ لِلنَظَرِ أَيْضًا بَيْنَمَا تَقْرَأُونَ ذَلِكَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِي بَعْضِ التَفَاصِيلِ أَنَّهُ حِينَ تَكَلَّمَ يَسُوعُ عَنْ ذَلِكَ الْجِيلِ بِالذَاتِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، اعْتَبَرَهُمْ أَشْرَارًا لِدَرَجَةٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا مَثِيلٌ. وَقَيَّمُ يُوسِيفُوسُ بَنِي جِيلِهِ بِالطَرِيقَةِ نَفْسِهَا قَائِلًا إِنَّهُمْ الْأَكْثَرُ شَرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالْآنَ، أَوَدُّ أَنْ أَسْتَغْرِقَ بَعْضَ الْوَقْتِ لِلتَأَمُّلِ فِي بَعْضِ هَذِهِ النُبُوَّاتِ أَوِ التَصْرِيحَاتِ أَوْ الْأَوْصَافِ الْمُحَدَّدَةِ الْوَارِدَةِ فِي كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ، وَهِيَ لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ فَحَسْبُ، بَلْ أَيْضًا فِي كِتَابَاتِ الْمُؤَرِّخِ الرُومَانِيِّ تَاسِيتُوسْ (Tacitus). وَيُؤَكِّدُ تَاسِيتُوسُ فِي حَالَاتٍ عِدَّةٍ وَمِنْ وُجْهَةِ نَظَرٍ رُومَانِيَّةٍ عَلَى سَرْدِ الْأَحْدَاثِ الَتِي وَصَلَتْنَا مِنْ يُوسِيفُوسَ. وَأَحَدُ التَقَارِيرِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا السَرْدِ مَوْجُودٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ يُوسِيفُوسَ وَعُنْوَانُهُ "الْحُرُوبُ الْيَهُودِيَّةُ" (Jewish Wars)، الَذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ إِلَى الْهُجُومِ عَلَى أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ الَذِي تَمَّ مِنْ خِلَالِ اسْتِعْمَالِ الْحِجَارَةِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ بَيْضَاءُ كَبِيرَةٌ وَضَخْمَةٌ جِدًّا تَمَّ قَذْفُهَا بِالْمَنْجَنِيقِ نَحْوَ الْأَسْوَارِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَسْوَارُ سَمِيكَةً جِدًّا، فَصَمَدَتْ أَمَامَ هُجُومِ تِلْكَ الصُخُورِ الضَخْمَةِ الَتِي تَمَّ قَذْفُهَا عَلَيْهَا، كَمَا صَمَدَتْ أَمَامَ الْكِبَاشِ الْمُدَمِّرَةِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا.
عَلَى هَامِشِ ذَلِكَ، نَتَذَكَّرُ أَنَّ أَسْوَارَ الْهَيْكَلِ كَانَتْ مَصْنُوعَةً مِمَّا يُسَمِّيهِ الْمُؤَرِّخُونَ الْآنَ بِالْحِجَارَةِ الهِيرُودُسِيَّةِ، فَكَانَ الْهَيْكَلُ يُعْرَفُ بِالْهِيرُودُسِيِّ، وَالْحِجَارَةُ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا لِتَشْيِيدِ الْهَيْكَلِ كَانَتْ ضَخْمَةً جِدًّا، وَكَانَ حَجْمُهَا هَائِلًا جِدًّا. إِذَا أَلْقَيْتُمْ نَظْرَةً عَلَى غُرْفَةِ الْجُلُوسِ لَدَيْكُمْ، وَنَظَرْتُمْ إِلَى الْجِدَارِ مِنْ حَيْثُ عَرْضُهُ وَارْتِفَاعُهُ وَتَخَيَّلْتُمْ أَنَّ عُمْقَ الْحَجَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَسُمْكَهُ يَبْلُغَانِ حَوَالَيْ أَرْبَعَةِ أَوْ سِتَّةِ أَقْدَامٍ، عِنْدَئِذٍ تُكَوِّنُونَ فِكْرَةً عَنْ مَدَى ضَخَامَةِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ الَتِي تَمَّ اسْتِخْدَامُهَا لِبِنَاءِ أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلِ. لِذَا، لَا عَجَبَ فِي صُمُودِ تِلْكَ الْأَسْوَارِ أَمَامَ هَجَمَاتِ الرُومَانِ. وَبِالطَبْعِ، تِلْكَ الْحِجَارَةُ الَتِي تَمَّ قَذْفُهَا مِنْ خِلَالِ الْأَدَوَاتِ الْمِيكَانِيكِيَّةِ لَمْ يَتِمَّ قَذْفُهَا عَلَى الْأَسْوَارِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ يَتِمُّ قَذْفُهَا أَيْضًا فَوْقَ الْأَسْوَارِ، فَأَحْدَثَتْ ضَرَرًا كَبِيرًا فِي الْمَبَانِي دَاخِلَ الْمَدِينَةِ، وَأَدَّتْ إِلَى إِصَابَاتٍ فِي صُفُوفِ الشَعْبِ الَذِينَ تَعَرَّضُوا لِجُرُوحٍ أَوْ قُتِلُوا بِفِعْلِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ ضِمْنَ الْكَمِّيَّةِ الْمُذْهِلَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ الَتِي وَصَفَهَا يُوسِيفُوسُ بِأَنَّهَا وَابِلٌ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَلَقَدْ كَانَتْ صُخُورًا بَيْضَاءَ.
ذَكَرَ يُوسِيفُوسُ أَنَّهُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ، رَأَى الْيَهُودُ الصُخُورَ مُقْبِلَةً نَحْوَهُمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ بَيْضَاءَ اللَوْنِ، وَبِالتَالِي، فَلَمْ يُلَاحِظُوهَا نَظَرًا لِلضَجِيجِ الْكَبِيرِ الَذِي أَحْدَثَتْهُ فَحَسْبُ، بَلْ لَاحَظُوهَا بِوُضُوحٍ قَبْلَ سُقُوطِهَا نَظَرًا لِبَرِيقِهَا. وَهَكَذَا، كَانَ الْحُرَّاسُ الْجَالِسُونَ عَلَى الْأَبْرَاجِ يُوَجِّهُونَ إِنْذَارًا لِلشَعْبِ لَدَى تَشْغِيلِ الْأَدَوَاتِ الْمِيكَانِيكِيَّةِ وَانْطِلَاقِ الْحِجَارَةِ مِنْهَا، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَالٍ لِيُحَذِّرُوا الشَعْبَ قَائِلِينَ: "الْحِجَارَةُ آتِيَةٌ". إِنَّهُ تَحْذِيرٌ بَسِيطٌ: "الْحِجَارَةُ آتِيَةٌ". وَبِالتَالِي كَانَ الْأَشْخَاصُ الْوَاقِفُونَ فِي طَرِيقِهَا يَتَحَرَّكُونَ وَيَرْتَمُونَ عَلَى الْأَرْضِ لِكَيْ يَحْمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَكَانَتْ الْحِجَارَةُ تَقَعُ دُونَ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ.
كَشَفَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ عَنْ وُجُودِ اخْتِلَافٍ فِي تَرْجَمَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَأَنَّهُ وَرَدَتْ فِي بَعْضِ الْمَخْطُوطَاتِ بَدَلًا مِنْ عِبَارَةِ "الْحِجَارَةُ آتِيَةٌ"، وَرَدَتْ عِبَارَةُ "الِابْنُ آتٍ". وَيَعْتَبِرُ الْبَعْضُ أَنَّ الْأَمْرَ مُرْتَبِطٌ بِتَقْلِيدٍ كَانَ مُنْتَشِرًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ بِحَسْبِ أَحَدِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَهُوَ أَنَّ الرَسُولَ يَعْقُوبَ، الَذِي كَانَ أَخَا الْمَسِيحِ، كَانَ يَشْهَدُ عَلَنًا فِي الْهَيْكَلِ قَائِلًا: "سَيَأْتِي ابْنُ الْإِنْسَانِ عَلَى سَحَابِ السَمَاءِ"، وَدَفَعَ ثَمَنَ هَذِهِ الشَهَادَةِ بِدَمِهِ. كَتَبَ أَحَدُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُ يَبْدُو مِنَ الْمُحْتَمَلِ جِدًّا أَنَّ الْيَهُودَ وَفِي إِطَارِ تَجْدِيفِهِمْ الْجَامِحِ وَالْمُتَهَوِّرِ عِنْدَمَا رَأَوْا تِلْكَ الْحِجَارَةَ الْكَبِيرَةَ الْبَيْضَاءَ تَتَطَايَرُ فِي الْجَوِّ، صَرَخُوا: "الِابْنُ آتٍ"، لِيَسْخَرُوا مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ الَذِينَ كَانُوا قَدْ تَنَبَّأُوا بِعَوْدَةِ يَسُوعَ. عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، فَقَدْ كَثُرَتِ الْمُنَاقَشَاتُ الْجَدَلِيَّةُ حَوْلَ هَذَا الْجُزْءِ. وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذِهِ التَفَاصِيلِ، يَقُولُ لَنَا يُوسِيفُوسُ إِنَّ مَجَاعَةً شَدِيدَةً ضَرَبَتِ السُكَّانَ، فَمَاتَ كَثِيرُونَ فِي أُورُشَلِيمَ جُوعًا بِسَبَبِ الْحِصَارِ الطَوِيلِ.
إِنْ كُنْتَ قَدْ ذَهَبْتَ يَوْمًا إِلَى فِلَسْطِينَ، فَرُبَّمَا تَكُونُ قَدْ قُمْتَ بِزِيَارَةِ جَبَلِ الزَيْتُونِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ جَبَلِ الزَيْتُونِ حَيْثُ يَقَعُ بُسْتَانُ جَثْسَيْمَانِي، وَهُوَ بُسْتَانٌ يَتَضَمَّنُ مَعْصَرَةَ زَيْتُونٍ، حَيْثُ ذَهَبَ يَسُوعُ وَصَلَّى مُتَأَلِّمًا فِي اللَيْلَةِ الَتِي تَمَّتْ خِيَانَتُهُ فِيهَا. لَكِنَّ ذَلِكَ الْمُنْحَدِرَ عَبْرَ الْوَادِي انْطِلَاقًا مِنْ أُورُشَلِيمَ عِنْدَ النَاحِيَةِ الْأُخْرَى مِنْ بَيْتِ عَنْيَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ غَابَةٍ كَبِيرَةٍ وَكَثِيفَةٍ جِدًّا تَتَضَمَّنُ أَشْجَارَ زَيْتُونٍ هَائِلَةً وَضَخْمَةً عُمْرُهَا حَوَالَيْ ثَلَاثِمَائَةِ أَوْ أَرْبَعِمَائَةِ سَنَةٍ. وَإِنْ ذَهَبَتَ إِلَى هُنَاكَ الْيَوْمَ فَلَنْ تَرَى أَيَّ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ فِي جَبَلِ الزَيْتُونِ، هَذَا لِأَنَّهُ أَثْنَاءَ الْحِصَارِ الَذِي دَامَ فَتْرَةً طَوِيلَةً قَامَ الرُومَانُ بِقَطْعِ كُلِّ شَجَرَةٍ فِي ذَلِكَ الْمُنْحَدِرِ، وَاسْتَخْدَمُوا خَشَبَهَا كَحَطَبِ وَقُودٍ لِيَسْتَدْفِئُوا بِهِ. وَهَذِهِ وَاحِدَةٌ أُخْرَى مِنَ التَفَاصِيلِ الَتِي تَعَلَّمْنَاهَا مِنْ كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ.
لَكِنْ بِالطَبْعِ، عِنْدَمَا اشْتَدَّتِ الْمَجَاعَةُ، لَجَأَ النَاسُ بِالْفِعْلِ إِلَى أَكْلِ لُحُومِ الْبَشَرِ. وَيُخْبِرُنَا يُوسِيفُوسُ بِقِصَّةِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُرْضِعُ طِفْلَهَا، وَلَمَّا بَدَأَتْ تَتَضَوَّرُ جُوعًا عَمَدَتْ إِلَى شَوْيِ طِفْلِهَا وَأَكَلَتْهُ، وَأُدْرِجَ هَذَا النَوْعُ مِنَ الْأُمُورِ فِي خَانَةِ الْأَعْمَالِ الْوَحْشِيَّةِ الَتِي حَدَثَتْ.
لَكِنْ أَيْضًا، رُبَّمَا الْمُشْكِلَةُ الْأَصْعَبُ الَتِي وَاجَهْنَاهَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَبَلِ الزَيْتُونِ وَتَطْبِيقِهِ عَمَلِيًّا عَلَى دَمَارِ الْهَيْكَلِ تَكْمُنُ فِي تَنَبُّؤَاتِ يَسُوعَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَلَامَاتِ فِي السَمَاءِ وَالِاضْطِرَابَاتِ فِي الْأَجْرَامِ السَمَاوِيَّةِ. وَرُبَّمَا وَاحِدٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُذْهِلَةِ مِنَ السَرْدِ التَارِيخِيِّ لِمَا جَرَى مَوْجُودٌ فِي كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ وَتَاسِيتُوسَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. فَتَاسِيتُوسُ يُشِيرُ مَثَلًا إِلَى ظُهُورِ عَلَامَاتٍ فِي السَمَاءِ تَمَثَّلَتْ بِظُهُورِ مُذَنَّبٍ قَبْلَ وُقُوعِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ. فَفِي عَامِ 60 تَقْرِيبًا، وَخِلَالَ حُكْمِ نِيرُونَ، ظَهَرَ مُذَنَّبٌ فِي السَمَاءِ لِفَتْرَةٍ مِنَ الْوَقْتِ، فَاعْتَبَرَهُ النَاسُ نَذِيرَ شُؤْمٍ يُنْبِئُ بِحُدُوثِ تَغْيِيرٍ جَذْرِيٍّ قَرِيبًا عَلَى السَاحَةِ السِيَاسِيَّةِ. وَيَقُولُ تَاسِيتُوسُ: "كَمَا لَوْ أَنَّ نِيرُونَ كَانَ قَدْ خُلِعَ عَنْ عَرْشِهِ بِالْفِعْلِ، فَبَدَأَ النَاسُ يَتَسَاءَلُونَ مَنْ سَيَكُونُ خَلَفَهُ". فَأَخَذَ نِيرُونُ تَهْدِيدَ الْمُذَنَّبِ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ، وَلَمْ يُخَاطِرْ أَبَدًا عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِ سُويْتُونْيُوسْ (Suetonius). "فَتَمَّ نَفْيُ جَمِيعِ أَوْلَادِ الرِجَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ مِنْ رُومَا، فَإِمَّا تَضَوَّرُوا جُوعًا حَتَّى الْمَوْتِ، أَوْ تَسَمَّمُوا فِي عَهْدِ نِيرُونَ. وَعَاشَ نِيرُونُ لِسَنَوَاتٍ عِدَّةٍ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُذَنَّبِ". ثُمَّ ظَهَرَ الْمُذَنَّبُ هَالِي (Halley) فِي عَامِ 66 مِيلَادِيًّا، وَبَعْدَ ذَلِكَ انْتَحَرَ نِيرُونُ، فَرَبَطَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ بَيْنَ ظُهُورِ الْمُذَنَّبِ هَالِي وَانْتِحَارِ نِيرُونَ.
وَرُبَّمَا الْحَدَثُ الْأَكْثَرُ غَرَابَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ الَذِي وَصَلَ إِلَيْنَا بِقَلَمِ يُوسِيفُوسَ وَرَدَ فِي مَقْطَعٍ سَأَخْتُمُ هَذِهِ الْمُحَاضَرَةَ بِقِرَاءَتِهِ لَكُمْ، لِأَنَّهُ مَقْطَعٌ غَرِيبٌ جِدًّا. كَتَبَ يُوسِيفُوسُ الْكَلِمَاتِ الْآتِيَةَ: "إِلَى جَانِبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، [إِشَارةً إِلَى الْمُذَنَّبَاتِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ]، بَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ عَلَى عِيدِ أَرْتِمِيسْيُوسَ (Artemisius)، وَفِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالْيَوْمِ الْعِشْرِينَ مِنَ الشَهْرِ، حَدَثَ أَمْرٌ اسْتِثْنَائِيٌّ وَمُذْهِلٌ. أَفْتَرِضُ أَنَّ سَرْدَهُ يَبْدُو أَشْبَهَ بِأُسْطُورَةٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُهُودُ عِيَانٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَحْدَاثُ الَتِي تَمَّتْ بَعْدَهُ مُهِمَّةً جِدًّا بِمَا يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَ مِثْلِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ. فَقَبْلَ مَغِيبِ الشَمْسِ، ظَهَرَتْ مَرْكَبَاتٌ وَجُيُوشٌ مُسَلَّحَةٌ تَطُوفُ بَيْنَ السَحَابِ وَتُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي لَيْلَةِ الْعِيدِ الَذِي نُسَمِّيهِ يَوْمَ الْخَمْسِينَ، وَفِيمَا كَانَ الْكَهَنَةُ يَدْخُلُونَ إِلَى الدَارِ الدَاخِلِيَّةِ لِلْهَيْكَلِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ لِيُمَارِسُوا أَعْمَالَهُمْ الْكَهْنُوتِيَّةَ الْمُقَدَّسَةَ، قَالُوا إِنَّهُمْ فِي الْأَوَّلِ، شَعَرُوا بِزَلْزَلَةٍ، وَسَمِعُوا ضَجِيجًا كَبِيرًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ، سَمِعُوا أَصْوَاتَ جُمُوعٍ غَفِيرَةٍ وَهِيَ تَصْرُخُ "دَعُونَا نَرْحَلُ مِنْ هُنَا"".
مَا يُسَجِّلُهُ يُوسِيفُوسُ فِي هَذَا الصَدَدِ يُشْبِهُ تَقْرِيبًا مَا اخْتَبَرَهُ النَبِيُّ أَلَيْشِعُ فِي دُوثَانَ حِينَ انْفَتَحَتْ عَيْنَا غُلَامِهِ، فَرَأَى آلَافَ الْمَلَائِكَةِ وَمَرَكَبَاتِ النَارِ تُحِيطُ بِأَلِيشَعَ. وَكَذَلِكَ انْسِكَابُ الدَيْنُونَةِ فِي سِفْرِ حِزْقِيَالَ الَتِي تَمَثَّلَتْ بِرَحِيلِ الرُوحِ الْقُدُسِ مِنْ مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ، وَكَلَامِ اللَّهِ لِلدَيْنُونَةِ "إِيخَابُودْ" أَيْ زَوَالِ الْمَجْدِ. "نَحْنُ رَاحِلُونَ". وَمَا أَجِدُهُ مُذْهِلًا فِي تَقْرِيرِ يُوسِيفُوسَ الْمُخْتَصَرِ هَذَا هُوَ تَحَفُّظُهُ فِي سَرْدِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا بِحَيْثُ إِنَّ النَاسَ سَيَعْتَبِرُونَهُ مَجْنُونًا بِسَبَبِ إِخْبَارِهِ تِلْكَ الْقِصَّةَ. لَكِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُ أُرْغِمَ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ، السَبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَشْخَاصِ شَهِدُوا ذَلِكَ الْحَدَثَ، وَالسَبَبُ الثَانِي هُوَ أَنَّهُ يَتَّسِقُ مَعَ خُطُورَةِ تِلْكَ اللَحْظَةِ التَارِيخِيَّةِ. إِذَنْ، فَلَقَدْ رَأَى فِي سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ وَدَمَارِ الْهَيْكَلِ انْتِقَامًا لِلَّهِ مِنْ شَعْبِهِ.