المحاضرة 4: جنون لوثر

أَوَدُّ أنْ أبدأَ هذه المحاضَرَةَ بسؤالٍ من تاريخِ الْكنيسَةِ. قولوا لي مَنْ هُوَ اللَّاهوتِيُّ الشَّهيرُ الَّذي وَصَفَهُ شخصٌ معاصِرٌ لهُ وأعْلَى سلْطَةً مِنْهُ ذاتَ مرَّةٍ بِالْخِنْزِيرِ الْبَرِّيِّ؟ ربَّما قفزَ الاسْمُ الآنَ إِلى ذِهْنِكُمْ. أتَحدَّثُ بالتَّأكيدِ عَن مارتِنْ لُوثَر؛ ومَنْ وَصَفَهُ بِالْخِنزِيرِ الْبَرِّيِّ هُوَ البابا لِيُو.

ففِي الْمَرْسُومِ الْبابويِّ الَّذِي عُزِلَ فيهِ لُوثَر، واسْمُهُ "اكْسُورْجِي دُومِينَا"، المَأْخُوذُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الافْتِتاحِيَّةِ لِهذا الْبَيانِ الْبَابَوِيِّ الَّذِي أُرْسِلَ مِنَ الفاتيكان، وكانَتِ الْكلماتُ الافتتاحِيَّةُ تَعْني: "قُمْ يا رَبُّ. دافِعْ عَنْ قَضِيَّتِكَ، لأَنَّهُ"، كما تابعَ البابا، "يُوجَدُ خِنْزِيرٌ بَرِّيٌّ حُرٌّ طَلِيقٌ فِي كَرْمِكَ".

وَبِحَسَبِ الرِّوايَةِ، كانَ لدى البابا لِيو أُمُورٌ أُخْرى لِيَقُولَها عَنْ لُوثَر بعْدَ أنْ نشرَ أُطْرُوحَتَهُ ذاتَ الْخَمْسِ وَالتِّسْعِينَ بَنْدًا، والَّتِي أثارَتْ ضجَّةً كبيرَةً في أنحاءِ ألْمانْيا، وانتشرَ الْجَدَلُ عَبْرَ أوروبَّا، حتى وَصَلَ إلى الفاتيكانِ في رُومَا. وحينَ عَلِمَ لِيُو بهذا، قالَ: "هذا ألْمانِيٌّ سِكِّيرٌ. وسَيُغَيِّرُ رَأْيَهُ حِينَ يَفِيقُ".

أقولُ هذا كَيْ أُنَبِّهَكُمْ إلى أنَّهُ فِي الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَر، كانَ مِنَ الْمَقْبُولِ فِي النِّزاعِ اللَّاُهوتِيِّ مُناقَشَةُ الْمَسائِلِ لَيْسَ فِي صُورَةِ حِوارٍ أَنِيقٍ ومُهذَّبٍ، بَلْ فِي صُورَةٍ لاذِعَةٍ مِنَ الْجِدالِ الْعِدائِيِّ. فَإِنْ قَرَأْتُمْ كِتاباتِ الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، لِكِلا طَرَفَيْ الْجَدَلِ، سَيَبْدُو لَكُمْ أَنَّ هَؤلاءِ كانُوا شَرِسِينَ في هُجُومِهِمْ على بَعْضِهِمْ الْبَعْضِ. لَكِنْ حَتَّى وَسَطَ زِحامِ الْجِدالِ الشَّرِسِ هَذَا، كانَ مارْتِنْ لُوثَر مُتَفَرِّدًا. فَقَدْ كانَ عَصَبِيًّا، وَمُتَحَذْلِقًا، وفَظًّا جدًّا فِي بَعْضِ الأَحْيانِ، حتَّى أنَّ الْبَعْضَ افْتَرَضُوا أنَّهُ يُعانِي مِنْ مُشْكِلَةٍ عَقْلِيَّةٍ.

مُخْتَلّ؟

هذا ما أُريدُ التَّحَدُّثَ عنْهُ في هذه الْمُحاضَرَةِ: أنَّ الحُكْمَ مِنْ مَنْظُورِ التَّحْلِيلِ النَّفْسِيِّ لِلْقَرنِ الْعِشْرِينَ هُوَ أنَّ مارْتِنْ لوثَر كانَ حقًّا مُخْتَلًّا عَقْلِيًّا. وَإِنْ كُنْتَ بْروتِسْتانْتِيًّا، وكانَ هذا الحُكْمُ صَحِيحًا، فهذا يعني أنَّ جذورَ قناعاتِكَ الدِّينِيّةِ ربَّما تَعودُ إلى قناعاتِ رَجُلٍ مُخْتَلٍّ.

مِنَ المُذْهِلِ أَنْ نَرَى كَيْفَ يَظُنُّ الْمُؤَرِّخونَ أنَّهُمْ يستطيعونَ الْعَوْدَةَ إِلَى الْماضِي لِفَحْصِ أَمْرٍ ما مِنْ مَنْظُورِ ألْفَيْ عامٍ بعدَه. لا حدودَ لِتفاؤُلِ بَعْضِ الْمُحَلِّلِينَ النَّفْسِيِّينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهُمْ يَسْتَطيعُونَ الْعَوْدَةَ إِلى صَفَحاتِ التَّارِيخِ، وأَنَّهُمْ قَادِرونَ مِنْ مسافَةٍ بعيدةٍ على تشخِيصِ الْحالَةِ النَّفْسِيَّةِ لشَخْصٍ عاشَ منذُ أَرْبَعِمائَةِ أوْ خَمْسِمَائَةِ عامٍ. وهناكَ مَنْ تَوَصَّلُوا بِالفِعْلِ إلى الاسْتِنْتَاجِ بِأَنَّ مارْتِنْ لوثَر كانَ مَجْنُونًا — أَيْ مُخْتَلًّا.

لَكِنْ أُريدُ أَنْ أَسْأَلَ: لِمَاذا؟ ماذا يرى النَّاسُ في لوثَر يدفَعُهُمْ إلى الاعتقادِ بأنَّهُ مُخْتَلٌّ؟

تحَدَّثْتُ بالفعلِ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ الاسْتِثْنائِيَّةِ للُوثَر. فَحِينَ تَقْرَأُونَ، عَلى سبيلِ الْمِثالِ، كِتابَهُ الشَّهِيرَ عُبودِيَّةُ الإِرادَةِ، الَّذِي كانَ رَدًّا عَلَى الْعَالِمِ الْمُحَنَّكِ فِي الْمَذْهَبِ الإِنْسَانِيِّ، إِيرَازْمُوسَ مِنْ رُوتِرْدَامَ، الَّذي كَتَبَ مَقالًا ضِدَّ لُوثَر بِعُنْوانِ "The Diatribe".

فحِينَ ردَّ لُوثَر على إيرازْمُوسَ، قالَ أشياءَ مِنْ قَبِيلِ: "يا إيرازْمُوس، أيُّها الأحْمَقُ، والأَبْلَهُ الْغَبِيُّ". وأيْضًا: "لماذا قَدْ أُضَيِّعُ وَقْتِي في الاسْتِماعِ إِلَى حُجَجِكَ الْوَاهِيَةِ؟" وأضافَ: "نَعَمْ أَنْتَ فَصِيحٌ. وقلَمُكَ عَظِيمٌ. لَكِنَّ قراءتي لما تَكتبُهُ تُشْبِهُ مُشاهَدَةَ شَخْصٍ يَسِيرُ فِي الشَّارِعِ حَامِلًا سَبائِكَ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ مُمْتَلِئَةً بِالرَّوْثِ". هكذا كانَ لوثر يدْخُلُ فِي جِدالٍ لاهُوتِيٍّ. لَنْ أُتَرْجِمَ تِلْكَ الْكَلِماتِ إِلَى لُغَتِنَا الْعَامِّيَّةِ، لَكِنْ أَظُنُّ أنَّكُمْ فَهِمْتُمُ الْفِكْرَةَ.

"أحْيانًا أُبْغِضُ اللهَ":

لَمْ يَكُنْ لُوثَرْ عَصَبِيًّا فِي حَدِيثِهِ فَحَسْب، لَكِنْ مِنَ الْوَاضِحِ أنَّهُ كانَ عُصابِيًّا، وخاصَّةً بشأنِ صِحَّتِهِ. فقَدْ كانَ مُصابًا بِوِسْواسِ الْمَرَضِ. وعانَى مِنْ قَلَقٍ عَصَبِيٍّ وَمِعْدَةٍ عَصَبِيَّةٍ طوالَ حَياتِهِ، وَيُمْكِنُنِي أَنْ أَشْعُرَ بِهِ. كما عانَى مِنْ حَصاوٍ بِالْكُلَى. وأَشْعُرُ بِهِ فِي هَذَا أَيْضًا. وَقَدْ تَوَقَّعَ مَوْتَهُ سِتَّ أَوْ سَبْعَ مَرَّاتٍ. فَكُلَّمَا كانَ لُوثَرْ يُعانِي مِنْ أَلَمٍ بِالْمِعْدَةِ، كانَ يَتَيَقَّنُ مِنْ أَنَّهُ مَرَضٌ قَاتِلٌ، وكانَ شديدَ الْقَلَقِ دَائِمًا، مُعْتَقِدًا أَنَّ حاصِدَ الأَروَاحِ عَلَى وَشَكِ الْقَفْزِ فَوْقَهُ وَإِدانَتِهِ.

وكانَتْ أَنْوَاعُ رُهابِهِ كَثِيرَةً وَخُرَافِيَّةً. فَقَدْ كانَ لَدَيْهِ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِنْ غَضَبِ اللهِ، حَتَّى أَنَّهُ فِي بِدايَةِ خِدْمَتِهِ، سأَلَهُ أحَدُهُمْ: "أيُّهَا الأَخُ مارتِن، أتحبُّ اللهَ؟" أتَعْلَمُونَ بِمَ أَجابَ؟ قالَ: "أُحِبُّ اللهَ؟ أَتَسْأَلُنِي إِنْ كُنْتُ أُحِبُّ اللهَ؟ أُحِبُّ اللهَ؟ أَحْيَانًا أُبْغِضُهُ. فَإِنَّنِي أَرَى الْمَسِيحَ دَيَّانًا آكِلًا لا يَنْظُرُ إِليَّ إلَّا لِتَقْيِيمِي وإِصابَتِي بِالْبَلايا". تَخَيَّلُوا مَعِي شابًّا يَسْتَعِدُّ لِلْخِدْمَةِ، يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يَمُرُّ بِفَتَراتٍ مِنَ الْبُغْضَةِ للهِ، وَهَذِهِ الْبُغْضَةُ مُتَّصِلَةٌ بِشِدَّةٍ بِالْخَوْفِ الْمُصِيبِ بِالشَّلَلِ، الَّذِي صَرَّحَ لُوثَرْ بأَنَّهُ يَشْعُرُ بِهِ تُجاهَ الله. 

مُواجَهَةٌ عَنْ قُرْبٍ مع صاعِقَةِ بَرْق:ٍ

نعلَمُ أنَّ والِدَ لوثَر كانَ لَدَيْهِ خُطَطٌ لَهُ كشابٍّ أنْ يكونَ مُحامِيًا بارِزًا، وقَدِ ادَّخَرَ هانْزْ لوثَر الشَّيْخُ، الَّذي كانَ عامِلًا بِمَنْجَمِ فَحْمٍ بألْمانْيا، النُّقودَ حتَّى يُمْكِنَ لابنِهِ دخولُ أفْضلِ كُلِّيَّاتِ الْحقوقِ في المِنْطَقَةِ، وحينَ صارَ لُوثَر طالِبًا بِالْحُقوقِ، تفوَّقَ بِسُرعَةٍ شديدةٍ كواحِدٍ منْ ألمعِ العقولِ الشابَّةِ في مجالِ التَّشريعِ في كُلِّ أوروبَّا.

لكنْ في وسَطِ كلِّ هذا، كانَ عائدًا يَوْمًا ما إلى بيْتِهِ، راكِبًا جَوادَهُ، وفجْأَةً هبَّتْ عاصِفَةٌ دونَ سابِقِ إِنْذارٍ. وَوَجَدَ لوثَر نَفْسَهُ مُحاصَرًا فِي الطَّريقِ في وَسَطِ عَاصِفَةٍ رَعْدِيَّةٍ عنيفةٍ. كانَ الْبَرْقُ يومِضُ، والرَّعْدُ يُدَوِّي، وفجأَةً جاءَتْ صاعِقَةُ بَرْقٍ وهَبَطَتْ عَلى مَقرُبَةٍ شديدةٍ مِنْ جَوادِهِ، حتَّى أنَّ لوثَر سَقَطَ مِنْ فَوْقِ الْجَوادِ على الأرْضِ، وظَلَّ يتحَسَّسُ جَسَدَهُ لِيتَأَكَّدَ إِنْ كانَ لا يزالُ حَيًّا.

وهناكَ، وفي وسطِ هذا الإِفلاتِ بأُعْجُوبةٍ مِنَ الْمَوْتِ، صرخَ: "يا قدِّيسَةَ آن، ساعدِيني! وسأُصْبِحُ راهِبًا". واعْتَبَرَ هذهِ الْمُناوَشَةَ معَ الْمَوْتِ تَنَبُّؤًا إِلَهِيًّا على حياتِهِ ودعوةً إلى الْخدمَةِ. وهكذا - وأمامَ استياءِ أَبيهِ الشَّديدِ – ترَكَ كلِّيَّةَ الْحُقوقِ، وانضَمَّ إلى الدَّيْرِ، وبَدَأَ في التدرُّبِ لِيَصيرَ قِسًّا. لا يُبْدِي كثيرونَ رَدَّ فِعْلٍ كهذا تُجاهَ مُواجَهَةٍ عنْ قُرْبٍ معَ صاعِقَةِ بَرْقٍ.

أتَذَكَّرُ منذُ بِضْعَةِ سنواتٍ فِي بُطولَةٍ لِلْجُولْفِ، خارجَ شِيكَاغُو، أصيبَ ثلاثةُ أعضاءٍ بارِزونَ مِنْ مؤسَّسَةِ الْجُولْفِ لِلْمُحْتَرِفينَ بِفِعْلِ صاعِقَةِ بَرْقٍ قَرِيبَةٍ، وَمِنْهُمْ لِي تْرِيفِينُو. وقد نَجَوْا مِنْ هذهِ التَّجربَةِ الصَّعْبَةِ، وبَعْدَ ذَلِكَ بِفترَةٍ قَصِيرةٍ ظهَرَ تْرِيفِينُو في برنامَجٍ حِواريٍّ – يُعْرَضُ في الْمساءِ - وسألَهُ الْمُذيعُ: "سيِّد تْريفِينو، ماذا تعلَّمْتَ مِنْ تجْرِبَةِ الاقترابِ مِنَ الْمَوْتِ بِصاعِقَةِ بَرْقٍ؟" فابْتَسَمَ تْرِيفِينُو، وأجابَ: "تعلَّمْتُ أنَّهُ حينَ يرْغبُ الْقديرُ في اللَّعِبِ، فَالأَفْضَلُ أنْ تَبْتَعِدَ عَنْ طريقِهِ". ثمَّ تابعَ تْرِيفِينُو ساخِرًا: "تَعَلَّمْتُ أيْضًا أنْ أتَّخِذَ احتياطاتي كلَّما دخلتُ في عاصِفَةٍ بَرْقِيَّةٍ". فقالَ له المُذيعُ: "حَسَنًا، ماذا ستفعلُ؟" قالَ: "إِنْ رأيتُ برقًا، سأُخْرِجُ مضْرَبَ الْجولْفِ الْحديديِّ في الْحالِ، وأسيرُ في الْمَلْعَبِ مُلَوِّحًا بهِ في الْهواءِ". فسألَهُ: "ولماذا قد تلوِّحُ بعَصًا مَعْدَنِيَّةٍ في الْهواءِ؟ ستكونُ كَمُمْتَصِّ الصَّواعِقِ". أجابَ: "لا، لا يَقْدِرُ اللهُ نَفْسُهُ أنْ يُصِيبَ مَضْرَبَ الْجُولْفِ".

استجابَ تريفينو لمناوشَتِهِ الْقريبةِ معَ الْمَوْتِ بِصاعِقَةِ برْقٍ بِالْمُزاحِ والتَّهكُّمِ، بينَما دُفِعَ لوثرُ لِتغْييرِ حياتِهِ بأَكْمَلِها، ودخولِ الدَّيْرِ، والتَّخلِّي عنْ مِهْنَتِهِ -لا بدافِعِ محبَّةٍ للهِ، بلْ بسبَبِ هوَسٍ رُهابِيٍّ بِغضبِ الله.

 

 

شُعورٌ بعَدَمِ الْجَدارةِ:

حَلَّ أخيرًا يومُ رَسامَةِ لوثر، وإقامَتِهِ مراسِمَ أوَّلِ قُدّاسٍ؛ وأخيرًا، قَبِلَ والدُهُ وعائِلَتُهُ قرارَ ابْنِهِمْ الْمُتَهَوِّرِ؛ وقرَّرَ هانز لوثر حُضورَ مراسِمِ الْقُدَّاسِ الأوَّلِ الَّذي كانَ ابْنُهُ سيُقيمُها. تعْلمونَ أنَّ لوثَرَ تفَوَّقَ في دِراسَتِهِ كعالِمٍ بارِزٍ ومُتَحَدِّثٍ بارِعٍ. وهكذا كانَ النَّاسُ يَنْتَظِرونَ بِلَهْفَةٍ أداءَهُ لِلْقُدَّاسِ الأَوَّلِ.

أرجو أنْ تفهَموا هذا: في الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ الرُّومانيَّةِ، في طَقْسِ الْقُدَّاسِ، كانَ الاعتقادُ هُوَ أنَّهُ فِي وَسَطِ الطَّقْسِ، تحدُثُ مُعْجِزَةٌ إلَهِيَّةٌ فَوْرِيَّةٌ، حَيْثُ فِي أثْناءِ صَلاةِ التَّقْدِيسِ، الَّتي لا يَتْلوهَا سِوَى شَخْصٍ اجتازَ بَعْضَ الطُّقوسِ الْمُقَدَّسَةِ، وتَمَّتْ رَسامَتُهُ كاهِنًا، تحْدُثُ الْمُعْجِزَةُ - الَّتِي تُسَمَّى "الاسْتِحالَةَ"، إِذْ على الرَّغْمِ مِنْ بقاءِ مظْهَرِ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ كَمَا هُوَ، وعَدَمِ مُلاحَظَةِ تَغْيِيرٍ فِي العَناصِرِ، كانَتْ روما تعتقدُ أنَّ تغيِيرًا جوْهَرِيًّا وأساسِيًّا يحدُثُ في هذه العناصِرِ يُسَمُّونَهُ الاسْتِحالَةَ. أيْ كانَتْ مادَّةُ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ تَتَغَيَّرُ إِلى مادَّةِ جَسَدِ ودَمِ الْمَسِيحِ بينَما الْمَظْهَرُ - أيِ السِّماتُ الْخارِجِيَّةُ لِلْخُبْزِ وَالخَمْرِ - تظلُّ كَمَا هِيَ.

هذه هِيَ الْمعجزةُ، وقَدْ أَعَدَّ نفْسَهُ في أثناءِ تدْرِيبِهِ لهذِهِ اللَّحْظَةِ، حِينَ يُصلِّي على الْعناصِرِ، فَيَحْدُثُ السِّرُّ الإِلَهِيُّ، إِذْ بَعْدَ التَّقْدِيسِ، وبينَ يَدَيْ ابْنِ عامِلِ الْمَنْجَمِ، لَنْ يُوجَدَ خُبْزٌ أَوْ خَمْرٌ، أَوِ الْعَناصِرُ الْمَعْروفَةُ، بَلْ شَيْءٌ لا يَقِلُّ عَنِ الْجَسَدِ والدَّمِ الْمُقَدَّسَيْنِ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.

وهَكذا، حانَتْ في الْقُدَّاسِ لَحْظَةُ تلاوَةِ الصَّلاةِ، وَانْتَظرَ الْجَمِيعُ أَنْ يَنْطُقَ لوثَر بِكلِماتِ التَّقْدِيسِ. وحينَ وَصَلَ إلى هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَاقْتَرَبَ هذا الشَّخْصُ الْمُتَعَجْرِفُ، وَالْبارِعُ في التَّحَدُّثِ عَلَنًا، مِنْ تِلْكَ اللَّحْظةِ، تسمَّرَ فَجْأةً، وابتدَأَ يَرْتَجِفُ، وتحَرَّكَتْ شَفَتاهُ، لَكِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهُمَا كَلِمات. وَبَدَا وَكَأَنَّ الْجَالِسينَ فِي الْكَنِيسَةِ يحاوِلونَ سَحْبَ الْكلماتِ مِنْ فَمِهِ، وأخْفى أبُوهُ وَجْهَهُ خَجَلًا منْ فَشَلِ ابْنِهِ في تخطِّي الطَّقْسِ الْبَسِيطِ لِلْقُدَّاسِ، الَّذِي حفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ آلافَ الْمَرَّاتِ.

ظنَّ الْجَمِيعُ فقطْ أنَّهُ نَسِيَ الْكَلِمَاتِ. لكنَّهُ لَمْ يَنْسَها. فَقَدْ تَمْتَمَ بِها في النِّهايَةِ وَأَنْهى الْقُدَّاسَ سَرِيعًا، ثُمَّ تركَ الْمَذْبَحَ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ.

لَكِنَّهُ لاحِقًا أَوْضَحَ أَنَّ هذه لمْ تَكُنْ غَفْوَةً عَقْلِيَّةً، بَلْ أنَّهُ بَدَأَ يُفَكِّرُ كَيْفَ لهذا الإِنْسانِ الْخاطِئِ أَنْ يتَجَرَّأَ ويُقدِمَ عَلى أنْ يُمْسِكَ بِيَدَيْهِ الْقَذِرَتَيْنِ جَسَدَ الْمَسِيحِ وَدَمَهُ الثَّمِينَيْنِ. فَقَدِ ابتُلِعَ لُوثَر داخِلَ شُعُورِهِ بِعَدَمِ جَدَارَتِهِ حَتَّى أَنَّهُ تَسَمَّرَ.

 

رجُلٌ عَجِيبٌ:

هناكَ قِصَصٌ أُخْرَى عن لوثَر تُبَيِّنُ غرابَةَ سُلُوكِهِ. نَتَذَكَّرُ أنَّهُ بَعْدَ انْطِلاقِ حَرَكَةِ الإِصْلاحِ، حَدَثَ نِزاعٌ بَيْنَ الكالفِينِيِّينَ وَاللُّوثِرِيِّينَ بِشَأْنِ طَقْسِ عَشاءِ الرَّبِّ، وبُذِلَتْ كُلُّ الْجُهُودِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى اتِّفَاقٍ بَيْنَ قُوَّتَيْنِ أَسَاسِيَّتَيْنِ فِي البْروتِسْتانْتِيَّةِ. فالْتَقَوْا معًا في جَلْسَةٍ هامَّةٍ، لمُناقَشَةِ خِلافاتِهِمْ.

أصرَّ لوثَر على الْحلولِ الجَسَدِي لِجَسَدِ الْمَسِيحِ فِي طَقْسِ عَشاءِ الرَّبِّ، وأَخَذَ يُلَوِّحُ بِقَبْضَتِهِ، ويَقْرَعُ عَلَى الْمِنْضَدَةِ كثِيرًا، قائلًا: "Hoc est corpus meum. Hoc est corpus meum". كما خلعَ نِيكِيتا خْرُوتْشُوف حِذاءَهُ فِي الأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ مُنْذُ بِضْعَةِ عُقودٍ، وَبَدَأَ يَقْرَعُ عَلَى الطَّاوِلَةِ لِيَلْفِتَ الانتباهَ. لَمْ يَتَنَاقَشْ لوثَر، بَلْ ظلَّ يُكَرِّرُ كَثِيرًا: "هَذَا هُوَ جَسَدِي".

كانَ رجلًا عجيبًا.

تحدِّي كُلِّ سُلْطَةٍ في هذا الْعَالَمِ:

ويُقالُ إِنَّ أكْثَرَ شَيْءٍ قَدْ يُثبِتُ جُنُونَهُ هُوَ تَقَيُّدُهُ الظَّاهِرِيُّ بِجُنُونِ الْعَظَمَةِ. فكيفَ نفسِّرُ استعدادَ شخصٍ لتحدِّي كلِّ سُلْطَةٍ في هذا العالَمِ، والْوُقوفِ ككاهِنٍ شابٍّ بِمُفْرَدِهِ تمامًا ضِدَّ جَمِيعِ سُلُطاتِ الْكنيسةِ، وضدَّ البابا، ومستشاري الكنيسةِ، وأَفْضَلِ عُلُماءِ اللَّاهوتِ عَلَى الأَرْضِ؟ فَقد مرَّ بِالْفِعْلِ بكلِّ هذه النقاشاتِ في لَيْبْزِيج. فقدْ تجادَلَ معَ مارْتِن إِيك، ومعَ الْكَارْدِينال كاجِيتَان. ثمَّ ذهَبَ وأَقْحَمَ نَفْسَهُ في الْمَتاعِبِ معَ الْبابا، وأخيرًا بلَغَ الأَمْرُ ذُرْوَتَهُ حِينَ دُعِيَ لِلْمُثولِ أمامَ الْبَرْلَمانِ الرُّومانِيِّ، كَيْ يُحاكَمَ؛ وطُلِبَ مِنْهُ التَّراجُعُ عَنْ كِتاباتِهِ.

وقدْ وَقَفَ يُحاكَمُ لا أمامَ السُّلُطاتِ الْكَنَسِيَّةِ فَحَسْب، بلْ أيضًا أمامَ السُّلُطاتِ الْعِلْمانِيَّةِ. ومُنِحَ جوازَ الْمرورِ بأمانٍ ليَصِلَ إلى هذه المحاكمَةِ الهامَّةِ؛ وَقَبْلَ وُصولِهِ إلَى هُناكَ، سَأَلُوهُ، كَالمُعتادِ: "حَسَنًا ماذَا ستقولُ حينَ تَصِلُ إلى البَرْلَمانِ؟" فأجابَ: "فِي السَّابِقِ، اعتدتُ التحدُّثَ عَنِ الْبَابَا بِاعْتِبارِهِ مُمَثِّلًا عَنِ الْمَسِيحِ، لَكِنِ الآنَ سَأَقُولُ إِنَّ الْبابَا هُوَ عَدُوُّ الْمَسِيحِ، وَمُمَثِّلُ الشَّيْطانِ". كانَ هذا هو نَوعٌ التصريحاتِ الَّتي كانَ يُدْلِي بِها، لا تَمُتُّ لِلَّباقَةِ والدِّبْلوماسِيَّةِ بِصِلَةٍ.

الْبَرْلَمانُ الرُّومانِيُّ:

كانَ الْعالَمُ يُشاهِدُ الإِعْدادَ لِلْبَرْلَمانِ الرُّومانِيِّ، ودَخَلَ لوثَر إلى الْقاعَةِ. ربَّما تُصَوِّرُ لكَ هُولِيوُود الْمَشْهَدَ كَالتَّالِي: دخلَ لوثَر إِلَى قاعَةِ الْمُحاكَمَةِ، وَوَقَفَ هُناكَ بِمُفْرَدِهِ، مِحْوَرًا لِلاهْتِمامِ، بَيْنَما حَدَّقَ مَنْ فِي الشُّرْفَةِ، وَالْحُشُودُ، وقادَةُ الْكَنِيسَةِ، وَأُمَراءُ الدَّوْلَةِ فِيهِ مِنْ مقاعدِهِمْ الشَّامِخَةِ. فَوَقَفَ الْمُحَقِّقُ وقَرَأَ لائِحَةَ الاتِّهامَاتِ وَأَشَارَ إِلَى الْكُتُبِ الْمَوْجُودَةِ على الطَّاوِلَةِ بِجِوارِ لُوثَر، ثُمَّ قالَ: "مارْتِنْ لوثَر، هل سَتَتَراجَعُ عَنْ هذهِ الْكِتاباتِ؟"

وَإِلَيْكَ النُّسخَةَ الْهولِيوُودِيَّةَ: نظرَ لوثَر إلى فَوْقُ إلى الشُّرْفَةِ، ورأى مُمَثِّلي الأَمْبْراطُورِ والإِمْبْراطورِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ، ورأَى أُمَراءَ ألْمانيا، والأساقِفَةَ ومُمَثِّلي الإدارةِ الْبَابَوِيَّةِ في روما، وأجابَ: "ما لَمْ تُقْنِعْنِي الْكَلِمَةُ الْمُقَدَّسَةُ، أوِ الْمَنْطِقُ الْواضِحُ، فإِنَّنِي لَنْ أَتراجَعَ! فَإِنَّ ضَمِيرِيَ أَسِيرُ كَلِمَةِ اللهِ، وَالسُّلُوكُ فِي مُخَالَفَةٍ للضَّمِيرِ لَيْسَ صَائِبًا أَو آمِنًا. هُنَا أَقِفُ. وَلْيُعِنِّي اللهُ، ولَيْسَ بِيَدِي شَيْءٌ آخَرُ!" وهكذا، بدأَ الإِصْلاحُ. لمْ يحدُثِ الأَمْرُ هكَذا.

ففي تلكَ اللَّحظةِ من تاريخِ الكنيسةِ، حينَ سُئِلَ مارتِن لوثَر هذا السؤالَ: "مارتن لوثَر، هل ستتراجَعُ؟" أتعلَمونَ بمَ أجابَ؟ أجابَ السُّؤالَ، ولَمْ يتمكَّنْ أحدٌ في القاعةِ من سَماعِ رَدِّهِ. فَقالوا: "ماذا قالَ؟ ماذا قالَ؟ تكلَّمْ يا لُوثَر. ماذا قُلْتَ؟ هل ستَتَراجَعُ عَنْ هذه الْكِتاباتِ؟"

فنَظَرَ إلى السُّلُطاتِ، وقالَ: "هلْ يُمْكِنُ السَّماحُ لِي بأرْبَعٍ وَعِشْرينَ ساعَةً لأُعيدَ التفكيرَ في الأمرِ؟" لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ إنْ كانَ على حقٍّ أمْ لا. وقد مُنِحَ هذا الوَقْتَ الإِضَافِيَّ، فَانْسَحَبَ إلى قِلَّايَتِهِ للصَّلاةِ والتَّأَمُّلِ، وكَتَبَ صَلاةً في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، بقِيَتْ إلى يَوْمِنا هذا. وأوَدُّ أنْ أَقْرَأَ لَكُمْ مَقْطَعًا من هذه الصلاةِ كيْ تُدْرِكوا معنى ألَمِ النَّفْسِ الَّذي قاساهُ مارْتِنْ لُوثَر في اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ لِلْحُكْمِ النِّهائِيِّ.

هُنَا أَقِفُ:

بالنِّسْبَةِ لِلُوثَر، كانَ هذا جَثْسَيْمَاني خاصٍّ. وصَلَّى هكَذا:

"أيُّها الإِلَهُ الْقَدِيرُ السَّرْمَدِيُّ، كَمْ أنَّ هذا العالمَ مُخِيفٌ. انْظُرْ كَيْفَ يَنْفَتِحُ فَمُهُ لابْتِلاعي. وَانْظُرْ ضآلَةَ إِيمانِي بِكَ. ما أَضْعَفَ الْجَسَدَ وَمَا أَقْوَى الشَّيْطانَ. إِنْ كُنْتُ سَأَتَّكِلُ على أَيَّةِ قُوَّةٍ في هذَا العالمِ، فسيَنْتَهي كلُّ شيْءٍ. فقدْ دقَّ النَّاقوسُ، وصدَرَ الْحُكْمُ. أيُّها الإِلَهُ، يا إِلَهِي، أَعِنِّي ضِدَّ حِكْمَةِ هذا الْعالَمِ. أتَضَرَّعُ إِلَيْكَ. افْعَلْ هذا بِقُوَّتِكَ الْقَدِيرَةِ. لأنَّ الْعَمَلَ ليسَ لي بَلْ لَكَ. لَيْسَ لي شأنٌ هُنا. ليسَ لي شَيْءٌ أكافِحُ لأجْلِهِ معَ عُظَماءِ الْعالَمِ هَؤُلاء. كُنْتُ أتَمَنَّى أنْ أَقْضِيَ أيَّامِي فِي سعادةٍ وسلامٍ، لَكِنَّ الْقَضِيَّةَ تَخُصُّكَ، وَهْيَ عادِلَةٌ وأَبَدِيَّةٌ، أيُّهَا السَّيِّدُ. أعِنِّي أيُّهَا الإِلَهُ الأَمِينُ والثَّابِتُ. لستُ أتَّكِئُ على بَشَرٍ. فهذا باطِلٌ. فكُلُّ ما في الإِنسانِ مُتَزَعْزِعٌ. وكُلُّ ما يَخْرُجُ مِنْهُ يُخْذِلُ. يا إِلَهِي، يا إِلَهِي، ألا تَسْمَعُ؟ يا إِلَهِي، ألَمْ تَعُدْ حَيًّا؟ لا، لا يُمْكِنُ أنْ تموتَ، أنْتَ فَقَطْ محْتَجِبٌ. قدِ اخْتَرْتَنِي لهذا الْعمَلِ، أَعْلَمُ هذا. ولِهذا، يا إِلَهي، تمِّمْ مَشيئَتَكَ ولا تَتْرُكْنِي، لأجْلِ ابْنِكَ الْمَحْبوبِ، يَسُوعَ الْمَسِيحِ، شَفِيعي، وَتُرْسِي، وَحِصْنِي".

وهكذَا اسْتَمَرَّتِ الصَّلاةُ.

وفِي الغدِ، حينَ عادَ لوثَر إلى قاعَةِ الْبَرْلَمانِ، وطَرَحَ عليْهِ الْمُحَقِّقُ مرَّةً ثانِيَةً هذا السُّؤالَ: "يا أخُ مارتن، هَلْ ستتراجَعُ الآنَ عنْ هذهِ التَّعاليمِ؟" تردَّدَ لوثَر أيْضًا لِلَحْظةٍ، ثُمَّ قالَ: "ما لَمْ تُقْنِعْني الْكَلِمَةُ الْمُقَدَّسَةُ أَوِ الْمَنْطِقُ الْواضِحُ، فَإِنَّنِي لَنْ أتَراجَعَ. فإنَّ ضميري أسيرُ كلِمَةِ اللهِ، وَإِنَّ السُّلوكَ فِي مُخالَفَةٍ لِلضَّمِيرِ لَيْسَ صَائِبًا أوْ آمِنًا. هُنَا أقِفُ. وَلِيُعِنِّي اللهُ، وَلَيسَ بِيَدِي شَيْءٌ آخَر!"

جُنُونُ عَظَمَةٍ؟ وَهْمُ عَظَمَةٍ؟ رُبَّما.

الانْشِغالُ الزَّائِدُ عن الْحدِّ بِالْهَفَواتِ:

أمْرٌ آخرُ. وهوَ ذلكَ الْجانِبُ من حياةِ لُوثَر الذي يجعلُ النَّاسَ يظنُّونَ حقًّا أنَّه كانَ مُخْتَلًّا. يَعُودُ هذا إلى فَتْرَةِ الديرِ. فقدْ كانَ دوْرُ كُلِّ قسٍّ حديثٍ في الديرِ هو أنْ يتبَعَ نظامَ الدَّيْرِ وقواعدَهُ، ويعترفَ يَوْمِيًّا بِخطاياهُ إلى أَبِ اعترافِهِ. وكَمَسْأَلَةٍ روتينيّةٍ، كانَ الإِخْوَةُ الآخَرونَ يَدْخلونَ كابينةَ الاعترافِ، ويقولونَ: "يا أبي، قد أخطأتُ، واسْمَعِ اعْتِرافِي". فيجيبُهُ الأبُ: "حسنًا ماذا فعَلْتَ؟ "في الليلةِ الْماضِيَةِ بعدَ انْطفاءِ الأنوارِ، أشْعَلْتُ شمعَةً، وقرأْتُ ثلاثَةَ مزامِيرَ إضافيَّةٍ، وكانَ ينبغي ألَّا أفعلَ هذا. أو "بالأمْسِ اشْتَهَيْتُ قطعَةً من دجاجةِ الأخ ِهَنْري في قاعةِ الطَّعامِ". فماذا قد تكونُ المتاعِبُ الَّتي قدْ تتورَّطُ فِيهَا فِي الدَّيْر؟

كانَ هؤلاء يعترفونَ، فيقولُ أبُ الاعترافِ: "ردِّدْ مديحَ السلامُ لكِ يا مريَم كثيرًا، وقُمْ ببعْضِ الأعْمالِ التَّكْفِيريَّةِ". ثمَّ يُرْسِلُهُمْ إلى أعمالِهِمْ الرَّهْبانِيَّةِ.

لكنْ حينَ كانَ لوثَر يدخُلُ لِلاعْتِرافِ، كانَ يقولُ: "يا أبِي اغْفِرْ لِي لأَنِّي أَخْطأتُ. لمْ أَعْتَرِفْ مُنْذُ أربعٍ وعشرينَ ساعَةً"، وكانَ يبْدَأُ في سرْدِ الْخطايا الَّتي اقتَرَفَها فِي الْيَوْمِ الْماضِي. لَمْ يَكُنِ الأمْرُ يَسْتَغْرِقُ خَمْسَ أَوْ عَشْرَ دَقائِقَ، ولا نِصفَ ساعَةٍ أو ساعَةً، بَلْ يومًا بَعْدَ الآخَرِ، كانَ لوثَر يَقْضِي فِي الاعْترافِ بِخطايا اليَوْمِ الْماضِي ساعَتَيْنِ أو ثَلاثَ، أو أَرْبَعَ ساعاتٍ؛ حَتَّى أنَّ هذا كانَ يُصيبُ رُؤَساءَهُ فِي الدَّيْرِ بِالْجُنونِ.

وكانُوا يتذمَّرونَ قائِلينَ: "يا أخُ مارتن، توقَّفْ عن هذا الانشغالِ الزَّائدِ عنِ الْحَدِّ بالْهَفواتِ. إنْ أَرَدْتَ الاعْتِرافَ بشَيْءٍ، فلْيَكُنْ خطِيَّةً حقِيقِيَّةً". لكِن كُلُّ ما كانَ لوثَر يَرتَكِبُهُ هُوَ تِلْكَ الأَشْياءُ الْبَسِيطَةُ. حتَّى بدَأُوا يَشعُرونَ أنَّهُ يَتَهَرَّبُ مِنْ أعمالِهِ. فقالوا لهُ: "ما خَطْبُكَ؟ أتُحِبُّ قضاءَ الْوقتِ في الاعْتِرافِ؟ ألَا تُحِبُّ الْقيامَ بِمهامِّكَ كَقِسٍّ؟" لَكِنْ كانَ أبُ اعترافِهِ يُدْرِكُ أنَّ لُوثَرَ كانَ صَادِقًا.

شريعَةُ اللهِ الْمُقَدَّسَةُ:

وقَدْ كشفَ لُوثَرُ لاحِقًا أنَّهُ كانَ يخرُجُ مِنْ جلسَةِ الاعْترافِ بَعْدَ ثلاثِ أَوْ أرْبَعِ ساعاتٍ مِنَ الْماراثون، وَيَسْمَعُ كَلِماتِ الْقِسِّ قائلًا: "مغفورةٌ لكَ خَطاياكَ"، فيَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ وَالْفَرحِ وَهْوَ عائِدٌ إلى غرْفَتِهِ، إِلَى أنْ يَتَذَكَّرَ فَجْأَةً خطِيَّةً نَسِيَ الاعْتِرافَ بِها. وَفِي الْحَالِ يَتَبَدَّدُ كُلُّ الْفَرَحِ والسَّلامِ.

هَذا حَقًّا جُنُونٌ، إنْ عَرَفْنا مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ الْحَدِيثِ أنَّ لَدى الإِنْسانِ حِيَلًا دِفاعِيَّةً طَبِيعِيَّةً ودَاخِلِيَّةً يُدافِعُ بها عَنْ نَفْسِهِ ضِدَّ شُعُورِهِ بالذَّنْبِ. فَإِنَّنَا بارِعونَ جِدًّا كَبَشَرٍ فِي إِنْكَارِ الذَّنْبِ وَتَبْرِيرِهِ. يُقالُ أحْيانًا إِنَّ هُناكَ خَطًّا رَفِيعًا يَفْصِلُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْعَبْقَرِيَّةِ، ويَعْبُرُ العباقرةُ أحيانًا هذا الْخطَّ جِيئَةً وذَهابًا. وأظنُّ أنَّ هذا هو ما حَدَثَ مَعَ لُوثَر.

لأنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أَغْفَلَهُ عُلَماءُ النَّفْسِ بشأنِ هذا الرجلِ هُوَ أنَّهُ قبْلَ أن يَدْرُسَ عِلْمَ اللاهوتِ، بَرَعَ بِالْفِعْلِ كَدارِسٍ لِلْقَانونِ. وقدْ أخذَ ذلكَ الْعَقْلَ الْقانُونِيَّ الْمُدَرَّبَ الْمُحَنَّكَ، وَطبَّقَهُ على شريعةِ اللهِ، ثُمَّ نظرَ إلى شَرِيعَةِ اللهِ ومُتَطَلَّباتِها - أيْ مُتَطلَّباتِ الْكَمالِ - وَحَلَّلَ نَفْسَهُ فِي ضَوْءِ شَرِيعَةِ اللهِ الْمُقَدَّسَةِ، فلَمْ يَسْتَطِعِ احتمالَ النَّتائِجِ.

وظَلَّ يُقَيِّمُ نَفْسَهُ لا بِمُقارنَتِها بِالْبَشَرِ الآخَرِينَ بَلْ بِالنَّظرِ إلى مِقْياسِ طَبيعةِ اللهِ، وَبِرِّهِ. وحينَ رأى نفسَهُ بهذه البشاعةِ مقارنَةً بِبِرِّ الله، ابْتَدَأَ يُبْغِضُ أَيَّةَ فِكْرَةٍ عَنْ بِرِّ الله.

بالإيمانِ وَحْدَهُ:

ثُمَّ فِي إِحْدَى اللَّيالِي، كانَ يُعِدُّ مُحاضَراتِهِ بِصِفَتِهِ أُسْتاذًا لِلَّاهوتِ كَيْ يُعلِّمَ فِي جامِعَةِ وِيتِنْبِرْج عَنْ عَقائِدِ الرَّسولِ بولُسَ في رسالَةِ رُومِيَةَ وتعالِيمِهِ. وبينما كانَ لوثَر يقرَأُ الأصحاحَ الأوَّلَ، والتَّفاسيرَ، ونَصًّا كَتَبَهُ الْقِدِّيسُ أُغُسْطِينُوسُ مُنْذُ بِضْعَةِ قُرونٍ، قرأَ فِي الأصحاحِ الأَوَّلِ هَذِهِ الْكلماتِ: "إِنَّ بِرَّ اللهِ مُعْلَنٌ بِإيمانٍ. أَمَّا البارُّ فبِالإِيمانِ يحْيا" (رُومِيَة 1: 17). وفجْأَةً، أضاءَتِ الْفِكْرَةُ في عَقْلِهِ، بِأَنَّ هذا النَّصَّ في رِسالَةِ رُومِيَةَ يعلِّمُ عنْ بِرِّ اللهِ -لا بِرَّ اللهِ كَطَبِيعَةِ اللهِ نَفْسِهِ، بَلْ بِرُّ اللهِ الَّذي يُقَدِّمُهُ لكَ ولي بِالنِّعْمَةِ، مَجَّانًا لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ. كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ يَرْتَدِي سِتْرَ بِرِّ الْمَسِيحِ وَرِدَاءَهُ.

وقالَ لوثَر: "اخْتَرَقَ هذا ذِهْني، وأدركتُ للمرَّةِ الأولى أنَّ أساسَ تبريري، أيْ مَوْقِفي أمامَ اللهِ، ليسَ هو بِرِّي الشخصيِّ الأعْزَلِ، الَّذي دائِمًا ما يُخْفِقُ أمامَ مُتَطَلَّباتِ اللهِ، بلْ بِرُّ الرَّبِّ يسوعَ الْمسيحِ وَحْدَهُ، الَّذي ينبغي أنْ أتمسَّكَ بهِ بإيمانٍ واثقٍ". وقالَ: "حينَ فهِمْتُ هذا، لأوَّلِ مرَّةٍ في حياتِي فَهِمْتُ الإِنْجيلَ، ورَأَيْتُ أبوابَ الْفِرْدَوْسِ تُفْتَحُ على مِصْراعَيْها، فَدَخَلْتُ".

بدا وكأنَّ لوثرَ يقولُ لِلْعالَمِ، مِنْ ذلكَ الْيومِ فَصاعِدًا، وللباباواتِ والمُسْتَشارينَ، ولأَعْضاءِ الْبَرْلمانِ وَالْمُلوكِ: "البارُّ بِالإيمانِ يَحْيا؛ التَّبريرُ بِالإيمانِ وحْدَهُ. فإنْ كانَ "اللهُ قدُّوسٌ، وأَنَا لَسْتُ كذَلِكَ" هُوَ الأَساسُ الَّذي عليْهِ تثبُتُ الْكَنِيسَةُ أوْ تَسْقُطُ، فلا مجالَ للتَّفاوضِ في هذا لأنَّ هذا هو الإِنْجِيلُ".

هَلْ هذا جُنُونٌ؟ أيُّها السَّادَةُ، إِنْ كانَ هذا هُوَ الْجُنُونُ، أُصَلِّي أَنْ يُرْسِلَ اللهُ جَيْشًا مِنَ الْمُخْتَلِّينَ كَهذا الرَّجُلِ إلى هذا العالمِ حتَّى لا يُحجَبَ الإِنْجِيلُ، وحتَّى نفْهَمَ أنَّنا نحنُ الأَثَمَةَ نتبرَّرُ أمامَ إلهٍ قُدُّوسٍ مِنْ خِلالِ حَقِيقَةِ أنَّ اللهَ، في قداستِهِ، ودونَ التَّفاوُضِ فيها، قد قدَّمَ لنا قداسَةَ ابْنِهِ لِتَستُرَ خَطايانا، لِكَيْلا يهْلِكَ كلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بل تَكُونُ لَهُ الْحَياةُ الأَبَدِيَّةُ (يوحنا 3: 16).

هذَا هُوَ الإِنْجِيلُ الَّذِي لأَجْلِهِ كانَ لوثَرُ مُسْتَعِدًّا لِلْمَوْتِ.

دعُونا نُصَلِّي.

يا أبانا نشكرُكَ لأجلِ شهادةِ هذا الرَّجُلِ الْمُختَلِّ، ولأنَّهُ أدْرَكَ حاجتَنا الْماسَّةَ إلى برٍّ لَيْسَ مِنَّا كَيْ يَسْتُرَ افْتِقارَنا إلى الْبِرِّ. يا أبانا، نشكرُكَ لأنَّكَ لمْ تترُكْنا معلَّقِينَ فوقَ فُوَّهَةِ الْجَحِيمِ مِثْلَ لُوثَر، وَلَمْ تَدْفَعْنا إِلَى حافَّةِ الْيَأْسِ قَبْلَ أنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ رُؤْيَةِ جمالِ الْمَسِيحِ وَمَجْدِهِ. لكنْ إنْ كانَ هذا هو ما يَتَطَلَّبُهُ الأَمْرُ كَيْ يَقْبَلَ هذه الرِّسالَةَ كُلُّ مَنْ يسْمَعُها، فإِنَّنِي أُصلِّي، يا إلَهي، أن يُرسَلَ حاصِدُ الأَرْواحِ إلى ضَمِيرِ كُلِّ مَنْ يَرْفُضُ تلكَ النِّعْمَةِ، إِلَى أنْ يَصِيرَ مُسْتَعِدًّا مِثْلَ لوثَر أَنْ يَطْفِرَ فَرَحًا، حينَ يفهَمُ أنَّ بِرَّهُ يَكْمُنُ في الْمَسِيحِ وَحْدَهُ. آمِين.

تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.