المحاضرة 3: القداسة والعدل

إنْ نَظَرْنَا إِلَى الْقَرْنِ 18 فِي أَمْرِيكَا سَنلاحِظُ فِكْرَةً تكرَّرَتْ أثناءَ الصَّحوَةِ الْكُبْرَى لِلكِرازةِ في ذَلِكَ الْوَقْتِ كانَ هناكَ نَوْعٌ مِنَ التَّركيزِ الثُّنائِيِّ. كانَتْ رسالَةُ الوُعَّاظِ أنَّ الإِنسانَ فاسدٌ جدًّا، وأَنَّ اللهَ غاضِبٌ جِدًّا. أيْ كانَ هناكَ تركيزٌ شديدٌ على خطيَّةِ الإنسانِ وعلى غَضَبِ اللهِ حتَّى أنَّ ما يُسمِّيهِ الْبَعضُ "لاهوتَ الرُّعْبِ" كانَ السَّائِدَ آنَذاكَ.

ثُمَّ فِي الْقَرْنِ 19 نجِدُ ردَّ فِعْلٍ عَنِيفٍ ضِدَّ تِلْكَ اللَّهْجَةِ الْكِرازِيَّةِ، فصارَتِ الرِّسالَةُ أنَّ الإِنْسانَ لَيْسَ فاسِدًا لهذهِ الدَّرجَةِ وأنَّ اللهَ ليسَ غاضِبًا لهذِهِ الدَّرجَةِ، وصارَ التَّرْكِيزُ على مَحَبَّةِ اللهِ وصلاحِ الإِنْسانِ.

ثُمَّ في بدايَةِ الْقَرْنِ 20 وَقَعَ رَدُّ فِعْلٍ تُجاهَ ردِّ الْفِعْلِ السَّابِقِ فِي البلادِ في عالَمِ اللَّاهوِتِ بِظُهورِ لاهوتٍ يُسمَّى "لاهوتَ الأَزْمَةِ"، وَقَدْ سُمِّيَ هَكَذَا لأنَّهُ يَسْتَعِيرُ الْمُصْطَلَحَ مِنَ الكلِمَةِ الْيُونانِيَّةِ "كْرِيسِيس"، الَّتِي تَعْنِي دَيْنُونَة. وقالَ هؤلاءِ اللَّاهُوتِيُّونَ إنَّنا إنْ أرَدْنا أخْذَ الصُّورَةِ الكتابِيَّةِ عنِ اللهِ على مَحْمَلِ الْجِدِّ، عليْنا أنْ نأخُذَ ما يقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ عن غضبِ اللهِ على مَحْمَلِ الجِدِّ ثانِيَةً.

"الجانِبُ المُظْلِمُ" في شخصِيَّةِ اللهِ؟

قالَ بعضُ الْمُتَطَرِّفينَ فِي تلكَ الْجَماعَةِ إنَّ ما نراهُ في الكتابِ الْمُقَدَّسِ، خاصَّةً في العَهْدِ الْقَدِيمِ فِي أَزْمِنَةٍ ومَواضِعَ معيَّنَةٍ، يُعبِّرُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِ مَنْطِقِيٍّ فِي شخْصِيَّةِ اللهِ نفْسِهِ. أيْ، قالُوا إِنَّنَا نَرَى جَلِيًّا اسْتِعْلانًا لِغَضَبِ اللهِ في صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ لا لَبْسَ فيهِ، لَكِنَّ هذا الْغَضَبَ لَيْسَ اسْتِعْلانًا لِبِرِّ اللهِ أوْ قَداسَتِهِ بِقَدْرِ كَوْنِهِ يُظْهِرُ وُجودَ خَلَلٍ ما في شَخْصِيَّةِ اللهِ.

صَدِّقُوا أوْ لا، فَقَدْ قَرَأْتُ لبَعْضِ اللَّاهُوتِيِّينَ الَّذِينَ تَحَدَّثُوا عَنِ الْجَانِبِ الْمُظْلِمِ في شَخْصِيَّةِ يَهْوَه، قائِلِينَ إِنَّ بِداخِلِ اللهِ يكْمُنُ عُنْصُرٌ شَيْطَانِيٌّ، وهذا العُنْصُرُ يَظْهَرُ وَيُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهِ، فِي اسْتِعْلاناتٍ فُجَائِيَّةٍ، وغَيْرِ مُبَرَّرَةٍ، لِغَضَبٍ نَزَوِيٍّ، وَمُتَقَلِّبٍ، وَتَعَسُّفِيٍّ. بَعْضُ النُّصوصِ الْمُؤَيِّدَةِ لهذا قِصَّةٌ نقرأُها فِي اللَّاويِّينَ، سَأَقْرَأُها عَلَيْكُمْ سَرِيعًا.

هلاكُ نادابَ وأَبِيهو:

في بِدايَةِ لاويِّينَ، نَقْرَأُ: "وأَخَذَ ابنا هارونَ: نادابُ وأبِيهو كلٌّ منْهما مِجْمَرَتَهُ وجَعَلا فِيهِمَا نارًا ووَضَعا عليْها بَخُورًا وَقَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نارًا غَرِيبَةً لم يَأْمُرْهُما بِهَا فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتْهُمَا فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ" (لاويين 10: 1-2).

في هذا الْوَصْفِ المُقْتَضَبِ لِمَوْتِ ابْنَيْ هارُون، يَبْدُو أنَّنا نَرَى نَمُوذَجًا مِنْ هذا الاسْتِعْلانِ السَّرِيعِ والنَّزَوِيِّ لِغَضَبِ اللهِ. حِينَ أَقْرَأُ هذا، أُحاوِلُ أَنْ أقْرَأَ مَا بَيْنَ السُّطُورِ، وأَسْأَلُ نَفْسِي، "كَيْفَ كانَ رَدُّ فِعْلِ هارُونَ تُجاهَ كُلِّ هذا؟" تخيَّلُوا معِي!

تَذَكَّرُوا قَبْلَ هذا فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ كَيْفَ كانَ الاحْتفالُ الْمُطوَّلُ الَّذي أمَرَ بِهِ اللهُ حين قَدَّسَ هارونَ رَئِيسًا لِكَهَنَةِ إِسرائِيلَ، وكيفَ رتَّبَ اللهُ أدقَّ تَفاصِيلِ تَصْميمِ الثِّيابِ الّتي كانَ لا بُدَّ أنْ يَرْتَدِيَها رَئِيسُ الْكَهَنَةِ، الَّتي كانَتْ لِلْمَجْدِ والْبَهاءِ. ثُمَّ نَسْتَطِيعُ تَخَيُّلَ شُعُورِ هارُونَ وَهْوَ يَرَى ابْنَيْهِ يُقدَّسانِ لِلْكَهْنُوتِ.

وها قَدْ فعلَ الْكاهِنانِ الشَّابانِ شَيْئًا، ولَسْنا نَعْلَمُ بالتَّحْديدِ ما هو، لكن بطريقةٍ ما جاءَا إِلَى الْمَذْبَحِ، وفَعَلا ما قَدْ يَفعَلُهُ عادَةً رجالُ دينٍ حَدِيثُو الْعَهْدِ مُجَرِّبِينَ وَمُبْتَدِعِينَ مَعَ بَعْضٍ مِنْ مُزاحِ الشَّبابِ، وَهُمْ يَعْبَثُونَ وَيَمْزَحُونَ فِي الْعَمَلِ، فِي عَدَمِ نُضُوجٍ. ودونَ سابِقِ إِنْذَارٍ، أَوْ تَوْبِيخٍ، فِيمَا كانَا يُقَدِّمانِ هَذِهِ النَّارَ الْغَرِيبَةَ على المذبَحِ، فَجْأَةً! ضَرَبَهُما اللهُ فَماتا فِي الْحَالِ.

هل يمكنُكُمْ أنْ تَشْعُرُوا بِمَا شعَرَ بِهِ هارُونُ؟ فَقَدْ ذهبَ إِلَى مُوسَى، وقالَ لهُ: "ماذا يَحْدُثُ هنا؟ أيُّ إلَهٍ هذا الَّذِي نخْدِمُهُ؟ لقد كرَّسْتُ كُلَّ حياتِي لِخِدْمَةِ يَهْوَه وماذا كانَ الْمُقَابلُ؟ في لَمْحِ الْبَصَرِ أُخِذَ ابْنيَّ لأجْلِ خَطَأٍ بَسِيطٍ، أيُّ إِلَهٍ هذَا؟"

اسمَعُوا الآنَ ما قالَهُ موسى: "فَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: هذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ قَائِلًا: فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّدُ" (لاويين 10: 3). ثم نستكْمِلُ: "فَصَمَتَ هَارُونُ".

نعمْ، كانَ لا بُدَّ أنْ يَصْمُتَ. إذْ جاءَ إلَيْهِ الْقَدِيرُ قائِلًا: "أعْلَمُ يا هارُونُ أَنَّ أَلَمَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي ابْنَيْكَ شَديدٌ، لَكِنْ هلْ تتذكَّرُ يومَ أسَّستُ الْكَهْنُوتَ؟ أتَذْكُرُ يومَ أفرَزْتُكَ وقدَّستُكَ لِذلكَ الْعَمَلِ الْمُقَدَّسِ؟ حِينَ قُلْتُ إِنَّهُ تُوجَدُ بَعْضُ الْمَبادِئِ لَن أَتهاوَنَ فِيهَا فِي كَهَنَتِي، إِنَّنِي سَأَتَقَدَّسُ فِي أَيِّ إِنسانٍ يتجَرَّأُ أنْ يَخْدِمَ بِاسْمِي. وأمامَ جميعِ الشَّعْبِ سأُعامَلُ بتَوْقِيرٍ وإِكْرامٍ، وحينَ تكلَّمَ اللهُ، صَمَتَ هَارُون.

ضُرِبَ عُزَّةُ فَماتَ:

لَكِنْ تُوجَدُ مَواقِفُ أُخْرَى مِثْلُ هَذا، أليسَ كَذَلِكَ؟ مِنْ أكثرِ القِصَصِ الْمُرْعِبَةِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هِيَ قِصَّةُ عُزَّةَ الْقَهَاتِي، تَعْرِفونَ جَمِيعًا قِصَّةَ عُزَّةَ. إِنَّهَا قصَّةُ نَقْلِ تابوتِ الْعَهْدِ. الَّذِي تَعْرِفُونَ أنَّهُ كانَ عَرْشَ اللهِ وكانَ أقْدَسَ مُحْتَوياتِ قُدْسِ الأَقْداسِ، وقد سقَطَ فِي أَيْدِي الْفِلِسْطِينِيِّينَ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ مِنَ الْحَوادِثِ الْمُذْهِلَةِ أُعِيدَ إلى الشَّعبِ اليهودِيِّ واُحتُفِظَ بهِ في مَوْضِعٍ آمِنٍ حتَّى جاءَ الْوَقْتُ الْمُناسِبُ لِيَعُودَ تَابُوتُ الْعَهْدِ إِلَى مَوْضِعِهِ فِي الْخَيْمَةِ. وَرتَّبَ داوُدُ احْتِفالًا وأمرَ بِإِدْخَالِ تَابُوتِ الْعَهْدِ إِلَى الْمَدِينَةِ، واصْطَفَّ النَّاسُ فِي الشَّوارِعِ، ورَقَصُوا وغَنَّوْا وهُمْ يُشاهِدُونَ مَوْكِبَ عَرْشِ اللهِ أَمَامَهُمْ.

ونَقْرَأُ أنَّ تابُوتَ الْعَهْدِ نُقِلَ عَلى عَجَلَةِ ثيرانٍ، ويُخْبِرُنَا الكِتابُ الْمُقَدَّسُ أنَّهُ بينَما كانَتِ الْعَجَلَةُ تَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ وَبَنُو قَهَاتَ يَسِيرونَ بِجوارِها لِحِمايَتِها، واسْمُ أَحَدِهِمْ عُزَّةَ. فِي وَسَطِ الْمَوْكِبِ تَعَثَّرَ أحَدُ الثِّيرانِ فَجْأَةً، وَابْتَدَأَتِ الْعَجَلَةُ تَتَأَرْجَحُ وَتَمِيلُ، وَبَدَا أَنَّ هذا التَّابُوتَ الإِسْرائِيلِيَّ الْمُقدَّسَ عَلَى وَشَكِ الانْزِلاقِ عَنِ الْعَجَلَةِ وَالسُّقُوطِ فِي الْوَحْلِ فتُنتَهَكَ قُدْسِيَّتُهُ، وَهكذا، فِي حَرَكَةٍ غَرِيزِيَّةٍ لا إِرادِيَّةٍ مَدَّ عُزَّةُ يَدَهُ لِيَسْنِدَ التَّابُوتَ، لِيَضْمَنَ أَلَّا يَسْقُطَ عَرْشُ اللهِ فِي الْوَحْلِ.

لَكِنْ مَاذَا حَدَثَ؟ هَلِ انْفَتَحَتِ السَّمَاواتُ، وَجَاءَ صَوْتٌ قائِلًا: "شُكْرًا يَا عُزَّةَ؟" لا، بَلْ مَا أَنْ لَمَسَ عُزَّةُ تابوتَ اللهِ الْمُقَدَّسِ، ضَرَبَهُ اللهُ فَمَاتَ.

أتَذَكَّرُ أنَّني قَرَأْتُ يَوْمًا مَا مِنْهَاجًا لِمَدَارِسِ الأَحَدِ لإِحْدَى الطَّوائِفِ الَّتي كُنْتُ أَعْمَلُ مَعَها مُرْسَلًا مِنَ الْمَقَرِّ الرَّئِيسِيِّ، فَقَرَأْتُ نُصُوصًا مِمَّا كَانَتْ مَكْتُوبَةً: "نُدْرِكُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي نَقْرَأُهَا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، مِثْلَ قِصَّةِ عُزَّةَ ونادابَ، وَإِهلاكِ اللهِ لِلْعالَمِ بِالطُّوفانِ، رِجَالًا، وَنِساءً، وَأَطْفَالًا، وَأَمْرَهُ بِالتَّحْرِيمِ حِينَ أمَرَ الْيَهُودَ بِدُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ وَذَبْحِ جَمِيعِ سُكَّانِها رِجالًا، وَنِسَاءً، وَأَطْفالًا، لا يُمْكِنُ أَنْ يكونَ اسْتِعْلانًا لِشَخْصِيَّةِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هِيَ مُجَرَّدُ قِصَصٍ عَنْ شَعْبٍ يَهُودِيٍّ قَدِيمٍ، وَبِدَائِيٍّ، وَشِبْهِ بَدَوِيٍّ، عاشَ قَبْلَ ظُهورِ الْعِلْمِ الْحَديثِ، فسَّرُوا الأَحْدَاثَ الَّتِي رَأَوْها فِي ضَوْءِ لاهُوتِهِمِ الْخَاصِّ. ما حدَثَ على الأَرْجَحِ هُوَ أنَّ عُزَّةَ أُصِيبَ بِأَزْمَةٍ قَلْبِيَّةٍ، وماتَ، فَنَسَبَ الْكَاتِبُ الْيَهُودِيُّ وفاتَهُ إلى تعبيرٍ قاسٍ مِنَ اللهِ عَنْ غَضَبِهِ الْفَاسِدِ.

أيْ، لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَارِدِ لِمُؤَلِّفِي هَذَا الْمِنْهَاجِ أَنَّ للهِ نَفْسِهِ أَيَّةُ صِلَةٍ بِمَوْتِ عُزَّةَ. وَلَكِنْ إِنْ نَظَرْنا بِتَمَعُّنٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ ودَرَسْنَا تارِيخَ بَنِي قهاتَ، أَعْتَقِدُ أنَّ الإجابَةَ سَتَتَّضِحُ أمامَنا.

أَكْثَرُ تلوُّثًا مِنَ التُّرابِ:

فَفِي الْعَهْدِ القديمِ أُعْطِيَ أسباطُ إِسرائيلَ الاثْنَا عَشَرَ مَهامًّا وأنْصِبَةً مُعيَّنَةً فِي الأَرْضِ، بينَما أفرزَ اللهُ سِبْطَ لاوي ليكونَ السِّبْطَ المسؤولَ عنِ الْكهنوتِ وعنْ شؤونِ الْهيكلِ والتَّعليمِ وغيرِ ذَلِك. وكانَ لاوي هُوَ السِّبْطُ، وبداخِلِهِ عشائِرُ رَئِيسيَّةٌ وأُوكِلَتْ لِكُلِّ عَشيرةٍ مُهِمَّةٌ محدَّدَةٌ. كانَ قهاتُ واحدًا مِنْ أبناءِ لاوِي، وكانَتْ عَشِيرَةُ قهاتَ مُفْرَزةً مِنَ اللهِ لِمُهِمَّةٍ مُحدَّدَةٍ (عدد 4: 1-20). كانَتْ وَظِيفَتُهُمْ، والغَرَضُ منْ وجودِهِمْ، وَشُغْلُهُمُ الشَّاغِلُ هوَ الاعتناءُ بالآنِيَةِ الْمُقدَّسةِ، وكانُوا يتدرَّبونَ ويتَعلَّمونَ منذُ الطفولةِ جميعَ التَّعليماتِ والتفاصيلِ الدَّقيقةِ في شَريعَةِ اللهِ بشَأْنِ كيفيَّةِ التَّعامُلِ مَعَ هذه المُقَدَّساتِ والأَوانِي الْمُقدَّسَةِ. وكانَ الْمَبْدَأُ الْقاطِعُ، الَّذي لا يُمْكِنُ التَّهاوُنُ فيهِ وَالَّذِي انْطَبَعَ في ذِهْنِ كُلِّ قهاتِيٍّ مُنْذُ طفولَتِهِ هُوَ: إيَّاكَ الْبَتَّةَ أَنْ تَلْمَسَ عَرْشَ اللهِ، قالَ اللهُ: "إِنْ لَمَسْتَهُ تَمُوتُ" (عدد 4: 15).

أوَّلُ كُلِّ شَيءٍ، نتساءَلُ لماذا نُقِلَ التَّابوتُ على عَجَلَةِ ثِيرانٍ؟ فَقَدْ كانَ يَنْبَغِي نَقْلُهُ سَيْرًا على الأقدامِ. كانَتْ هُناكَ حَلَقاتٌ عِنْدَ طَرَفَيِ التَّابوتِ تُدْخَلُ بها عِصِيٌّ لحَمْلِهِ لِئَلَّا تَلْمَسُ يدٌ بَشرِيَّةٌ هذا الْعَرْشَ، لَكِنَّهُمْ كانُوا في عَجَلَةٍ مِنْ أمْرِهِمْ، فَوَضَعُوهُ عَلَى عَجَلَةِ ثيرانٍ. وفِيمَا كانُوا سَائِرِينَ، فَعَلَ عُزَّةُ هَذَا الشَّيْءَ غَيْرَ الْمَسْمُوحِ بِهِ. فَقَدْ لَمَسَ عَرْشَ اللهِ.

لَكِنْ رُبَّما تقولُ: "انْتَظِرْ لَحْظَةً. لِماذا فَعَلَ هذا؟ كانَتْ دَوَافِعُهُ نَقِيَّةً، وكانَ يُحاوِلُ حِمايَةَ عَرْشِ اللهِ مِنْ أَنْ يَتَدَنَّسَ بِالْوَحْلِ". لَكِنْ تلكَ أيُّها السَّادَةُ كانَتْ خَطِيَّةَ عُزَّةَ الْمُتَعَجْرِفَةَ: لَقَدِ افْتَرَضَ أنَّ يَدَيْهِ أَطْهَرُ مِنَ التُّرابِ. لَمْ يَكُنْ فِي الأَرْضِ ما يُدَنِّسُ عَرشَ اللهِ. بَلْ كانَتْ موجودَةً لتعمَلَ ما دعاها اللهُ إليْهِ أيْ أنْ تكونَ تُرابًا، وَتَتَحوَّلَ إِلَى غُبارٍ حينَ تَجِفُّ وَإِلى طينٍ حينَ تُمْزَجُ بالماءِ. فهْيَ تُطِيعُ قوانينَ اللهِ يَوْمًا فَيَوْمٍ، ولا تَفْعَلُ سوى ما يُفْتَرَضُ عَلَى التُّرابِ فِعْلُهُ. لا يوجَدُ في التُّرابِ ما يُنَجِّسُ. لكنْ عَنْ يدِ الإِنْسانِ قالَ اللهُ: "لا أُريدُ أَنْ تَمَسَّ هَذَا الْعَرْشَ." بِاخْتِصَارٍ، انتهكَ عُزَّةُ نَامُوسَ اللهِ، فأمَاتَهُ اللهُ.

كثيرونَ نظيرُ مَارْسِيون:

ولكنْ تبدُو عقوبَةً قاسِيَةً واستثنائِيَّةً، أليسَ كَذَلِك؟ إنْ قرأتُمْ، مثلًا، في أسفارِ موسَى الْخَمْسَةِ ستجِدُونَ قائِمَةً بالْجرائِمِ الَّتي عُقوبَتُها المَوْتُ في إِسرائيلَ، فَهُناكَ ما يَزِيدُ عَنْ 30 تَعَدٍّ وَضَعَ لهُ اللهُ عُقُوبَةَ الْمَوْتِ عَلَى اليهودِ -ليسَ فَقَطْ عَنْ جرائِمِ الْقَتْلِ مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَى -بلْ أيْضًا عَنِ الشُّذوذِ الْجِنْسِيِّ، وَالزِّنا. إِنْ كانَ ابنٌ متمرِّدًا في الْعَلَنِ وَقَاسِيًا مَعَ أَبَوَيْهِ، يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالمَوْتِ. وَكانَ ذَهابُ يَهُودِيٍّ إِلَى عرَّافَةٍ جَرِيمَةً عقوبَتُها الْمَوْتُ. قَضى اللهُ بِعقوبَةِ الْمَوْتِ عنْ أكْثَرِ مِنْ ثلاثِينَ تَعَدٍّ، وَمرَّةً أُخْرَى، يَنْظُرُ اللَّاهوتيُّونَ إلى هذا، ويقولونَ: "يا لَلْبِدائِيَّةِ والتَّعَطُّشِ للدِّماءِ والقَسْوَةِ، لا يمكِنُ أنْ تكونَ هذه كلمةَ اللهِ خاصَّةً فِي ضَوءِ رُوحِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، رُوحِ الرَّحْمَةِ والْمَحَبَّة."

من ضِمْنِ الأَحْداثِ الْمُذْهِلَةِ وَالْمُهمَّشَةِ في تاريخِ الْكَنِيسَةِ هِيَ الْحادِثَةُ التَّارِيخِيَّةُ الَّتِي حَفَّزَتِ الْجَمْعَ الرَّسْمِيَّ لِلْكِتابِ الْمُقَدَّسِ لِتَكْوِينِ الْقَائِمَةِ الْقانُونِيَّةِ للأسْفارِ الْمُقَدَّسَةِ، تَذَكَّرُوا أنَّ هَذَا الْكتابَ مُكوَّنٌ مِنْ عِدَّةِ أسفارٍ مُنْفَصِلَةٍ، سبعَةٌ وَعُشْرُونَ سِفْرًا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. مُكَوَّنَةٌ مِنَ الرَّسائلِ والأَناجِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ ثُمَّ تَداوَلَتْها الْكنيسةُ وأقرَّتْ بِكَوْنِها كلمةَ اللهِ، بَلْ لعِبَتْ أيْضًا هَذَا الدَّوْرَ، لَكِنْ لَمْ يتكبَّدْ أحَدٌ عناءَ جَمْعِهَا فِي مُجَلَّدٍ واحِدٍ قائِلًا: هذا هُوَ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ، حَتَّى جاءَ رَجُلٌ اسْمُهُ مارْسِيُون وأَصْدَرَ الطَّبْعَةَ الرَّسْمِيَّةَ الأُولَى لِلْكتابِ الْمُقَدَّسِ، أيْ الْقَائِمَةَ الأُولَى مِنَ الأَسْفارِ الْقَانُونِيَّةِ.

كانتِ الْقائِمَةُ فِي شِدَّةِ الْغرابَةِ، كانَ الْعهدُ القديمُ غيرَ مَوْجُودٍ، وهكَذا غَالِبِيَّةُ أَحْداثِ الأَناجيلِ، ووُضِعَتْ فيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمُلاحظاتِ مِنْ بُولُسَ الرَّسولِ لأنَّ الْمَبْدَأَ الَّذِي عَمِلِ بِهِ مارْسِيُون هُوَ: أيَّةُ إشارَةٍ إلى إلهِ الْعهدِ الْقديمِ، يَهوَه، لا يمكنُ أنْ تكونَ كلمةَ اللهِ، لأنَّ يسوعَ في الْعَهْدِ الْجديدِ يُظهِرُ إلَهًا مُخْتَلِفًا عن ذاكَ الإلهِ سريعِ الْغَضَبِ وحادِّ الطِّباعِ وَالْعِدوانيِّ الَّذِي أرْعَدَ على جَبَلِ سِيناءَ في العَهدِ القديمِ.

ألَم تسْأَلُوا أَنْفُسَكُمْ يومًا عَن هذا؟ أنا أسمَعُ هذا اليومَ طوالَ الْوَقْتِ. يُوجَدُ الْيَوْمَ كثيرونَ نَظِيرُ مارْسِيون مِنْ حَوْلِنا يقولونَ: "يُعْجِبُنِي الْعَهْدُ الْجَدِيدُ، لكِنَّ إلهَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هذا يَفُوقُ احْتِمالِي." حينَ نُقارِنُ الْعَهْدَ الْقَدِيمَ بِالْعَهْدِ الْجَديدِ يبدُو الْعَهْدُ الْقَدِيمُ قاسِيًا.

خيانَةٌ كَوْنِيَّةٌ:

تلقَّيْتُ مساعدَةً لِحَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ مِن كتاباتِ لاهوتِيٍّ بارِزٍ كانَ مثيرًا جدًّا للجدَلِ في الْكَنِيسَةِ الكاثوليكِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ. ويُدْعَى هانْزْ كُون. وفي إِحْدَى أقْدَمِ وأهَمِّ كتاباتِهِ باللُّغةِ الأَلْمانِيَّةِ بِعُنْوَانِ "رِيخْتْفِرْتِيجُونْ" وتَرْجَمَتُهُ "التَّبرير". يناقشُ الدكتور كُون قَضِيَّةَ ما يَبْدُو وكأنَّهُ قَسْوَةُ غَضَبِ اللهِ في الْكتابِ الْمُقَدَّسِ، ولا سيَّما في الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، طارِحًا فكْرَةَ أنَّ الأَزْمَةَ واللُّغْزَ الْحَقِيقِيَّيْنِ لا يَكْمُنانِ فِي تَطْبِيقِ إلَهٍ قُدُّوسٍ وَبَارٍّ لِلْعَدْلِ، فَأَيْنَ اللُّغْزُ فِي معاقَبَةِ خالِقٍ قُدُّوسٍ لِمَخْلُوقَاتٍ تَتَمَرَّدُ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدَةً؟ بَلِ اللُّغْزُ الْحقِيقِيُّ يَكْمُنُ فِي تَحَمُّلِ اللهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ لِمَخْلوقاتٍ مُتَمَرِّدةٍ تَقْتَرِفُ فِعْلَ الْخِيانَةِ ضِدَّ سُلْطانِهِ. هَلْ فَكَّرْتُمْ فِي الأَمْرِ مِنْ قَبْلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؟

ثُمَّ أضافَ كُون: "تَذَكَّرْ أنَّهُ حَتَّى مَعَ وُجُودِ مَا يَزيدُ عَنْ 30 تَعَدٍّ عُقُوبَتُهُ الْمَوْتُ فِي الْعَهْدِ الْقديمِ، لا يُمَثِّلُ هذا صُورَةً قاسِيَةً واسْتِثْنائِيَّةً مِنْ تَطْبِيقِ اللهِ لِلْعَدْلِ. بَلْ يُمَثِّلُ اخْتِزالًا ضَخْمًا فِي عَدَدِ الْجَرائِمِ الَّتِي عُقُوبَتُها الْمَوْتُ." وأضَافَ: "تَذَكَّرُوا الْقوانِينَ الَّتِي وُضِعَتْ عِنْدَ الْخَلْقِ، حِينَ نَفَخَ اللهُ، مَلِكَ السَّماءِ والأَرْضِ، الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فِي التُّرابِ نَسْمَةَ حياةٍ وَجَبَلَ مَخْلُوقًا على صُورَتِهِ وأَعْطاهُ أسْمَى مكانَةٍ على هذا الْكَوْكَبِ وأَعْظَمَ برَكَةٍ وَهِبَةٍ لَمْ يَكُنْ يدِينُ لَهُ بها على الإِطْلاقِ هِبَةِ الْحَيَاةِ، وطَبَعَ صُورَتَهُ الْمُقدَّسَةَ على تِلْكَ الْكَوْمَةِ مِنَ التُّرابِ فَأَعْطَاهُ الْحَياةَ. ثُمَّ قالَ: "اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ".

وهكَذا، مُنْذُ الْخَلْقِ، اعْتُبِرَتْ كُلُّ الْخَطايا تَعَدِّيَاتٍ عُقُوبَتُها الْمَوْتُ وَلَنْ تَأْتِيَ عُقُوبَةُ الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ تَبْلُغَ عُمْرَ السَّبْعِينَ بَلْ ماذَا كانَتِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْخَلْقِ؟ "يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تكوين 2: 17). أعْلَمُ أنَّ الْبَعْضَ يقولُونَ إِنَّ النَّصَّ يَقولُ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّعدِّي سَنُقاسِي مَوْتًا روحِيًّا. لَمْ يكُنْ هذا ما قالَهُ اللهُ. ربَّما يكونُ صَحِيحًا أنَّ الإِنْسانَ قاسَى الْمَوْتَ الرُّوحِيَّ في الْيَوْمِ الَّذِي انْتَهَكَ فِيهِ قانُونَ اللهِ لَكِنَّ الْقاعِدَةَ عِنْدَ الْخَلْقِ كانَتْ "يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا تَمُوتُ عَضْوِيًّا، وَيَنْتَهِي أَمْرُكَ".

مَنْ إِذَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدِينَ خالِقًا كامِلَ الْقَدَاسَةِ، وَالْبِرِّ، يَخْلُقُ بِرَحْمَةٍ مُطْلَقَةٍ مَخْلُوقًا وَيَهَبَهُ كُلَّ هذهِ الْبَرَكَةِ. هَلْ هُناكَ مُشْكِلَةٌ إذَنْ أَنْ يُبِيدَ ذلكَ الإِلَهُ مَخْلُوقًا تَجَرَّأَ أَنْ يَتَحَدَّى سُلْطَانَهُ عَلَى هَذِهِ الْخَلِيقَةِ؟

هَلْ تَوَقَّفْتُمْ يَوْمًا لِلتّفْكِيرِ فِي مَا تُمَثِّلُهُ أقَلُّ خَطِيَّةٍ؟ فَإِنَّنِي بِأَقَلِّ خَطِيَّةٍ، أقُولُ إِنَّ إِرادَتِي أَعْلَى مِنْ حُقُوقِ الله.

يُرْعِبُنِي أنَّهُ فِي مُجْتَمَعِنا يَفْعَلُ النَّاسُ أشياءَ مِثْلَ الإِجْهاضِ قَائِلينَ إِنَّ هذا حَقُّهُمْ الأَدَبِي. أعْرِفُ تَمامًا أَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِ أحَدًا الْحَقَّ الأَدَبِيَّ فِي فِعْلِ شَيْءٍ كَهَذَا وَأَقْشَعِرُّ حِينَ أُفَكِّرُ فِي ما سَيَحْدُثُ حِينَ يَقِفُ هؤلاءِ أمامَ اللهِ وَيَقُولونَ: "كانَ مِنْ حَقِّي أَنْ أَفْعَلَ هَذَا" مِنْ أَيْنَ حَصَلْتَ عَلَى هذا الْحَقِّ؟ لَكِنْ حَتَّى فِي أَصْغَرِ الْخَطايا – وَلَيْسَ خَطِيَّةً شَنِيعَةً كَالإِجْهاضِ – (أَيْ تِلْكَ الَّتِي نُسَمِّيهَا هَفواتٍ)، نَحْنُ نَتَحَدَّى سُلْطَانَ اللهِ وَعَدْلَهُ ونُهِينُ جلالَهُ. لَكِنَّنَا اعْتَدْنا فِعْلَ هَذَا وَنَحْرُصُ عَلَى تَبْرِيرِ عِصْيانِنا حَتَّى تَحَجَّرَتْ قُلُوبُنا، وصارَتْ ضمائِرُنَا مَوْسُومَةً، وَلَمْ نَعُدْ نَظُنُّ أَنَّ عِصْيَانَ مَلِكِ الْكَوْنِ أَمْرٌ خَطِيرٌ. أُسَمِّي هَذَا خِيَانَةً كَوْنِيَّةً.

طولُ أَنَاةٍ بِنِعْمَةٍ:

لَكِنْ كَما أَشارَ كُون بَدَلًا مِنْ أَنْ يُهْلِكَ اللهُ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ فِي لَحْظَةِ ثَوْرَتِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى سُلْطَانِهِ، مَدَّ لَهُمْ يَدَ الرَّحْمَةِ. بَدَلًا مِنَ الْعَدْلِ، سَكَبَ نِعْمَتَهُ، يَحْفَلُ تاريخُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بِحوادِثَ مُتَكَرِّرَةٍ عَنِ اسْتِعلانِ اللهِ لِطُولِ أنَاتِهِ وغُفْرَانِهِ فِي نِعْمَةٍ وَرَحْمَةٍ تُجاهَ أُناسٍ كانُوا يَعْصَوْنَهُ طوالَ الْوَقْتِ.

وَيَقولُ كُون: "أَعْتَرِفُ أَنَّنِي لا أَعْلَمُ مَشُورَةَ اللهِ السِّرِّيَّةَ. ولا يُمْكِنُنِي قراءَةُ أفكارِ اللهِ، لكِنَّنِي أتَسَاءَلُ إِنْ كانَ ما نَجِدُهُ كَثيرًا فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ مِنْ تَطْبِيقٍ سَرِيعٍ وَفُجائِيٍّ لِلْعَدْلِ. هُوَ أنَّ اللهَ رُبَّمَا وَجَدَ ضَرُورَةً لِيَقْطَعَ نَمَطَهُ الطَّبِيعِيَّ مِنْ طُولِ الأَناةِ، والتَّمَهُّلِ، وَالنِّعْمَةِ، وَالرَّحْمَةِ، كَيْ يُذكِّرَنَا بِعَدْلِهِ".

فَقَدْ شَكَا هُوَ نَفْسُهُ مِنْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إِمْهَالِهِ هُوَ أَنْ يُتاحَ لَنا وَقْتٌ لِلتَّوْبَةِ؛ لَكِنَّنا بَدَلًا مِنْ أنْ نَتُوبَ نَسْتَغِلُّ هَذَا الإِمْهَالَ، وَنَظُنُّ أَنَّ اللهَ لا يَكْتَرِثُ حينَ نُخْطِئُ، وَحَتَّى إِنْ كانَ يَكتَرِثُ، فَلَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ.

رأَيْتُ ذاتَ مَرَّةٍ رَجُلًا يَتَحَدَّى اللهَ وَيَصْرُخُ نَحْوَ السَّماءِ قائِلًا: "إِنْ كُنْتَ مَوْجُودًا هناكَ، اقْتُلْنِي الآنَ" مُتَحَدِّيًا الْقَدِيرَ، لَمْ أُرِدْ أَنْ أَنْظُرَ هَذَا لَكِنَّنِي فِي الْيَوْمِ التَّالِي رَأَيْتُ جُثَّتَهُ، وَلَنْ أَنْسَى هَذَا أَبَدًا. لَكِنَّنَا أَيُّها السَّادَةُ، قَدِ اعْتَدْنَا عَلَى أَنْماطِ اللهِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ حتَّى أنَّنا لا نَكْتَفِي بِاعتبارِها أمْرًا مُسلَّمًا بِهِ، بَلْ نَبْدَأُ في اعتبارِها حَقًّا، ونُطالِبُ بِها، ثُمَّ حينَ لا نَحْصُلُ علَيْها يثورُ غَضَبُنا.

"هَلْ يُرِيدُ آخَرونَ الْعَدْلَ؟"

تَحَدَّثْتُ فِي هَذَا الصَّباحِ فِي كُلِّيَّةِ دالاس اللَّاهوتِيَّةِ. مِنْ نَصٍّ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ يَتناوَلُ الرَّبُّ يَسوعُ هذِهِ الْفِكرَةَ عيْنَها، واسْتَخْدَمْتُ الْمِثالَ الْمُفَضَّلَ لدَيَّ، فَحِينَ كُنْتُ مُعَلِّمًا حَدِيثًا بِالْجامِعَةِ، كانَ عليَّ أنْ أُقَدِّمَ مادَّةَ مُقَدِّمَةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ إِلَى 250 مِنَ الطُّلَّابِ الجُدُدِ.

وفي اليَوْمِ الدِّراسِيِّ الأَوَّلِ كانَ يَنْبَغِي أَنْ أُحدِّدَ التَّكْلِيفاتِ، كانَ لا بُدَّ أنْ أكونَ فِي شِدَّةِ الْحِرْصِ بِشَأْنِ الْمُتَطَلَّباتِ لأَنَّهُمْ كانُوا سَيُحرِّفُونَها بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ للتَّهَرُّبِ منْها، فَقُلْتُ: "أَنْتُمْ مُطالَبُونَ بِتَقْدِيمِ 4 أَوْراقٍ بَحْثِيَّةٍ، كُلٌّ مِنْها مُكَوَّنٌ مِنْ 3-5 أوِ 2-4، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمُوهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ سَتَرْسِبونَ ما لَمْ تَكُنْ لَدَيْكُمْ حَالَةٌ طَارِئَةٌ كدُخُولِ الْمَشْفَى أَوْ حالَةِ وَفَاةٍ مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَى وَكانَ لا بُدَّ أنْ أَقُولَ هَذا. ثُمَّ سَأَلْتُ: "هَلْ فَهِمَ الْجَمِيعُ؟" وَوَافَقُوا. كانَ مَوْعِدُ تَسْلِيمِ الْبَحْثِ الأَوَّلَ فِي الثَّلاثِينَ مِنْ سَبْتَمْبَر.

وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اسْتَلَمْتُ أَوْراقًا بَحْثِيَّةً مِنْ 225 طَالِبٍ مُجْتَهِدٍ، بَينَمَا وَقَفَ 25 طَالِبًا مُرْتَجِفِينَ وَمُرْتَعِدِينَ خَوْفًا، قَائِلينَ: "دكتور سْبْرُول، لَمْ نَنْتَهِ مِنْ وَرَقَةِ الْبَحْثِ لَمْ نَحْسِبِ الْوَقْتَ جَيِّدًا، لَمْ نَتَأَقْلَمْ بَعْدُ الانتقالَ مِنَ الْمَرْحَلَةِ الثَّانَوِيَّةِ إِلَى الجَامِعَةِ. نَرْجُوكَ، لا تُعْطِنَا دَرَجَةَ رَاسبٍ أَمْهِلْنَا يَوْمَيْنِ إِضَافِيَّيْنِ". فَقُلْتُ: "حَسَنًا، سَأَسْمَحُ بِهَذا هذهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، لَكِنْ لَنْ أَسْمَحَ بِهَذَا ثَانِيَةً، وَتَذَكَّرُوا أَنَّنِي فِي الشَّهْرِ الْقَادِمِ أُرِيدُ تلكَ الأورَاقَ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ".

ثُمَّ فِي الثَّلاثِينَ مِن شَهْرِ أُكْتُوبَر. اسْتَلَمْتُ أَوْرَاقَ بَحْثٍ مِنْ 200 طالِبٍ وَلَمْ يُسَلِّمْها 50 طالِبًا. وحينَ سَأَلْتُ: "أيْنَ أَوْرَاقُكُمُ الْبَحْثِيَّةُ؟" أَجابُونِي: "يَا أُسْتَاذُ، كَانَتْ مواعِيدُ تَسْلِيمِ أوْراقِ جَمِيعِ الْمَوادِّ فِي هَذَا الأُسْبُوعِ، وكانَ لدَينَا الاحتفالُ السَّنوِيُّ وَانْشَغَلْنا بِالْعُروضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَرْجُوكَ أَعْطِنَا فُرْصَةً أُخْرَى" فَقُلْتُ: "حَسَنًا سأُعْطِيكُمْ يَوْمَيْنِ إِضَافِيَّيْنِ" هَلْ تَدْرُونَ ما حَدَثَ؟ بَدَأُوا فِي الْغِناءِ بِشَكْلٍ عَفَوِيٍّ "نُحِبُّكَ أُسْتَاذَ سْبْرُول حَقًا نُحِبُّكَ". وصرتُ الأُسْتَاذَ الأَكثَرَ شَعْبِيَّةً فِي الْجَامِعَةِ إِلَى أَنْ جَاءَ يَوْمَ الثَّلاثِينِ مِنْ نُوفَمبَر.

فِي هَذَا الْيَوْمِ سَلَّمَ 150 فَقَطْ مِنَ الطَّلَبَةِ أَوْراقَهُمْ. وَتَقَدَّمَ إِلَيَّ 100 آخَرُونَ فِي اسْتِرخاءٍ وَدُونَ تَكَلُّفٍ، فَقُلْتُ: "جُونْسُون!" قالَ: "نَعَمْ سَيِّدِي" قُلْتُ: "أيْنَ وَرَقَةُ الْبَحْثِ الشَّهْرِيَّةُ؟" فقالَ: "يا أُستاذِي الْعَزِيزَ، لا تَقْلَقْ، سَأُقَدِّمُها خِلالَ بِضْعَةِ أيَّامٍ" هُنَا أَخرَجْتُ دَفْتَرَ الدَّرَجاتِ وَقُلْتُ: "جُونْسُون، أَنْتَ رَاسِبٌ". "إِيوَالْت، أيْنَ وَرَقَتُكَ؟" "لَمْ أُحْضِرْهَا يا سَيِّدِي" "راسِبٌ"، "كانينجهام! رَاسِبٌ".

وعِنْدَئِذٍ هتَفَ أحَدٌ مِنَ الْخَلْفِ – خَمِّنُوا مَاذَا قالَ – "هَذَا لَيْسَ عَدْلًا!" "بَاتْرِيك، هَلْ قُلْتَ هَذَا لَيْسَ عَدْلًا؟" قالَ: "نَعَم".  فَقُلْتُ: "هَلْ صَحِيحٌ أَنَّكَ لَمْ تُسَلِّمْ وَرَقَةَ بَحْثِكَ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ الْمَرَّةَ السَّابِقَةَ؟" قالَ: "نَعَمْ" فَقُلْتُ: "حَسَنًا، إِنْ أَرَدْتَ الْعَدْلَ سَتَحْصُلُ عَلَيْهِ" وَوَضَعْتُ دَرَجَةَ رَاسِبٍ عَنْ كلا الشَّهْرَيْنِ. ثُمَّ سَأَلْتُ: "هَلْ يُريدُ آخَرُونَ الْعَدْلَ؟"

أيُّها السَّادَةُ، نَحْتاجُ إِدْرَاكَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ. فَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي تَظُنُّ فِيهَا أَنَّ اللهَ يَدِينُ لَكَ بِالرَّحْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْطَلِقَ جَرَسُ إِنْذارٍ فِي عَقْلِكَ لِيُنْذِرَكَ أَنَّكَ لا تَقْصِدُ الرَّحْمَةَ، إِذْ أَنَّ الرَّحْمَةَ بِحَسَبِ تَعْرِيفِهَا هِيَ شَيْءٌ تَطَوُّعِيٌّ. لَمْ يَكُنِ اللهُ مُلْزَمًا قَطُّ أَنْ يَرْحَمَ مَخلُوقًا مُتَمَرِّدًا. فَهْوَ لا يَدِينُ لَكَ بِالرَّحْمَةِ. فَقَدْ قالَ: "إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ" (رومية 9: 15).

اللهُ لَيْسَ ظَالِمًا قَطُّ:

وَسَأَخْتِمُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ: إِنَّ الإلهَ الْقُدُّوسَ عَادِلٌ وَرَحِيمٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا قَطُّ. لَمْ يَحْدُثْ قَطُّ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ أَنْ عاقَبَ اللهُ شَخْصًا بَرِيئًا. لا يَعْرِفُ اللهُ بِبَساطَةٍ كَيْفَ يكونُ ظالِمًا. إِنَّنِي أَشْكُرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ لأنَّهُ يَعْرِفُ بِالْفِعْلِ كَيْفَ لا يُطَبِّقُ عَدْلَهُ، لأَنَّ الرَّحْمَةَ هِيَ عَدَمُ تطْبِيقِ الْعَدْلِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ ظُلْمًا.

سَأَتْرُكُكُمْ إِذَنْ مَعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: حِينَ تُصَلُّونَ لا تَطلُبُوا مِنَ اللهِ أَن يُجْرِيَ عَدلَهُ. فرُبَّمَا يَستَجِيبُ، وَإِنْ تَعامَلَ مَعَنَا اللهُ بِحَسَبِ عَدْلِهِ، فَإِنَّنَا سَنَهلِكُ فِي لَحْظَةٍ مِثْلَ نَادَابَ وَأَبِيهُو وَعُزَّةَ وَحَنَانِيَّا وَسَفِّيرَةَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ؛ لَكِنَّنَا نَحْيَا، أيُّها الأَحِبَّاءُ، بِنِعمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَدَعُونا لا نَنْسَى هَذَا قَطُّ.

لِنُصَلِّ.

أبَانَا، اغْفِرْ لَنَا لأَنَّنَا نَتَبَجَّحُ عَلَى لُطْفِكَ، لأَنَّنَا نُطَالِبُ بِهِ، وَنَغْضَبُ حِينَ لا نَحْصُلُ عَلَيْهِ. ساعِدْنَا يا أبانا أنْ نَنْبَهِرَ بِنِعْمَتِكَ، نَتَضَرَّعُ إليْكَ في اسْمِ الْمَسِيحِ، آمِين.

تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.