المحاضرة 10: ظِلٌّ لِلْمَسِيحِ
أَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنَ الْمَنْطِقِيِّ الَقَوْلُ إِنَّ أَعْظَمَ مُهِمَّةٍ تَمَّ إِنْجَازُهَا يَوْمًا فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ هِيَ الْمُهِمَّةُ الَتِي أَنْجَزَهَا الرَبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ حِينَ افْتَدَى شَعْبَهُ مِنَ الْخَطِيَّةِ. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ أَقُولَ إِنَّ ثَانِي أَهَمِّ عَمَلِ فِدَاءٍ تَمَّ إِنْجَازُهُ يَوْمًا فِي التَارِيخِ، وَثَانِي أَصْعَبِ مُهِمَّةٍ كَلَّفَ بِهَا اللهُ إِنْسَانًا يَوْمًا، هِيَ الْمُهِمَّةُ الَتِي كَلَّفَ بِهَا اللهُ مُوسَى لِكَيْ يُنْجِزَهَا. نَحْنُ مُعْتَادُونَ جِدًّا عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ لِدَرَجَةِ أَنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّنَا لا نُكَوِّنُ فِكْرَةً عَنِ الْعَذَابِ الْوُجُودِيِّ الَذِي كَانَ عَلَى مُوسَى أَنْ يَمُرَّ بِهِ شَخْصِيًّا، لا سِيَّمَا وَأَنَّ ضَخَامَةَ الْمُهِمَّةِ الَتِي وَضَعَهَا اللهُ عَلَى عَاتِقِهِ اخْتَرَقَتْ وَعْيَهُ وَوَصَلَتْ إِلَى قَلْبِهِ.
نَرْجِعُ مُجَدَّدًا إِلَى ذَلِكَ الْحِوَارِ عِنْدَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ وَبَعْدَ أَنْ كَشَفَ اللهُ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ لِمُوسَى قَائِلًا: "هَذَا اسْمِي إلَى الأبَدِ وَهَذَا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ". مَا زِلْنَا فِي الأَصْحَاحِ الثَالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. ثُمَّ قَالَ اللهُ: "اذْهَبْ وَاجْمَعْ شُيُوخَ إسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمُ: الرَّبُّ إِلَهُ آبَائِكُمْ، إِلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ظَهَرَ لِي قَائِلًا: إنِّي قَدِ افْتَقَدْتُكُمْ وَمَا صُنِعَ بِكُمْ فِي مِصْرَ. فَقُلْتُ أُصْعِدُكُمْ مِنْ مَذَلَّةِ مِصْرَ إلَى أرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، إلَى أرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. "فَإذَا سَمِعُوا لِقَوْلِكَ، تَدْخُلُ أنْتَ وَشُيُوخُ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى مَلِكِ مِصْرَ وَتَقُولُونَ لَهُ: الرَّبُّ إلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ الْتَقَانَا، فَالآنَ نَمْضِي سَفَرَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ إلَهِنَا".
هُنَا، مَا زَالَ اللهُ يَتَحَدَّثُ مَعَ مُوسَى قَائِلًا: "وَلَكِنِّي أعْلَمُ أنَّ مَلِكَ مِصْرَ لا يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ وَلا بِيَدٍ قَوِيَّةٍ، فَأمُدُّ يَدِي وَأضْرِبُ مِصْرَ بِكُلِّ عَجَائِبِي الَّتِي أصْنَعُ فِيهَا. وَبَعْدَ ذَلِكَ يُطْلِقُكُمْ. وَأُعْطِي نِعْمَةً لِهَذَا الشَّعْبِ فِي عُيُونِ الْمِصْرِيِّينَ. فَيَكُونُ حِينَمَا تَمْضُونَ أنَّكُمْ لا تَمْضُونَ فَارِغِينَ. بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأةٍ مِنْ جَارَتِهَا وَمِنْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا أمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا، وَتَضَعُونَهَا عَلَى بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ. فَتَسْلِبُونَ الْمِصْرِيِّينَ".
إِذَا كُنْتُ وَاقِفًا هُنَاكَ أَسْتَمِعُ إِلَى تِلْكَ الرِسَالَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ فَالْفِكْرَةُ الَتِي تَخْطُرُ فِي بَالِي هِيَ الآتِيَةُ "هَلْ هَذَا كُلُّ مَا يَجْدُرُ بِي فِعْلُهُ؟ أَنْتَ تَقُولُ لِي إِنِّي سَأَذْهَبُ وَأُخْبِرُ الشَعْبَ بِأَنَّكَ ظَهَرْتَ لِي فِي تِلْكَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ، وَإِنَّهُ يَجْدُرُ بِهِمْ أَنْ يَتْبَعُونِي ضِمْنَ أَكْبَرِ تَوَقُّفٍ مُفَاجِئٍ عَنِ الْعَمَلِ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ ضِدَّ أَقْوَى مَلِكٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَإِنَّهُمْ سَيَتْبَعُونَنِي؟" هَذَا مَا قَدْ أُفَكِّرُ فِيهِ. وَلا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا عَمَّا فَكَّرَ فِيهِ مُوسَى حَتَّى بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ اللهُ ضَمَانَةً قَائِلًا: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَنْ يُطْلِقَ سَرَاحَكُمْ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُقَاوِمُكُمْ طَوَالَ الْوَقْتِ، لَكِنَّنِي سَأُظْهِرُ قُوَّتِي ضِدَّ فِرْعَوْنَ إِلَى أَنْ يَحِينَ الْوَقْتُ الَذِي يُطْلِقُ فِيهِ سَرَاحَكُمْ فَتَصْعَدُوا إِلَى الْجَبَلِ وَتَعْبُدُونِي هُنَاك".
مُجَدَّدًا، لا تُفَوِّتُوا هَذِهِ الْفِكْرَةَ. إِنَّ الْهَدَفَ مِنَ الْخُرُوجِ لَمْ يَكُنْ بِبَسَاطَةٍ تَحْرِيرَ الشَعْبِ مِنَ الظُلْمِ، وَإِنَّمَا تَحْرِيرَهُمْ، لَيْسَ مِنْ أَمْرٍ مَا فَحَسْبُ، بَلْ نَقْلَهُم إِلَى أَمْرٍ آخَرَ أَيْضًا، مِنَ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى الْعِبَادَةِ. هَذَا يَنْطَبِقُ بِدَرَجَاتٍ أَعْلَى عَلَى عَمَلِ الْفِدَاءِ الَذِي قَامَ بِهِ يَسُوعُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. نَحْنُ لَمْ نَخْلُصْ بِبَسَاطَةٍ بِفَضْلِ نِعْمَةِ اللهِ لِكَيْ يَتِمَّ تَسْدِيدُ احْتِيَاجَاتِنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مَدْعُوُّونَ لِعِبَادَتِهِ، هَذَا هُوَ الْهَدَفُ. هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ خَلاصِكُمْ، أَنْ تَعْبُدُوا الرَبَّ إِلَهَكُمْ. لِهَذَا السَبَبِ مَثَلًا يَقُولُ كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ إِنَّهُ يَجْدُرُ بِنَا أَلَّا نُهْمِلَ اجْتِمَاعَاتِ الْقِدِّيسِينَ. وَمَعَ ذَلِكَ تُبَيِّنُ الإِحْصَائِيَّاتُ أَنَّهُ فِي أَيِّ يَوْمِ أَحَدٍ يَمْتَنِعُ رُبْعُ شَعْبِ اللهِ عَنِ الذَهَابِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، لِمَاذَا؟ نَحْنُ لا نَذْهَبُ إِلَى الْكَنِيسَةِ لِيَتِمَّ تَسْجِيلُ حُضُورِنَا، نَحْنُ نَذْهَبُ إِلَى الْكَنِيسَةِ لأَنَّهُ افْتَدَانَا. وَيُفْتَرَضُ بِشَعْبِ الرَبِّ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ أَيْضًا. نَحْنُ نَأْتِي بِقُلُوبٍ مُمْتَلِئَةٍ وَقارًا وَعِبَادَةً، وَنَنْضَمُّ إِلَى جَمَاعَةِ شَعْبِ اللهِ لِكَيْ نَعْبُدَهُ.
لَكِنَّ مُوسَى سَمِعَ هَذَا الْكَلامَ، فَنَشَأَ صِرَاعٌ فِي دَاخِلِهِ. كَمَا نَرَى فِي بِدَايَةِ الأَصْحَاحِ الرَابِعِ، اسْمَعُوا مَا نَقْرَأُهُ: "فَأجَابَ مُوسَى: "وَلَكِنْ هَا هُمْ لا يُصَدِّقُونَنِي وَلا يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ" أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الاسْتِجْوَابِ هَذَا؟! هَا إِنَّ مُوسَى يَطْلُبُ مِنَ اللهِ أَنْ يُفَكِّرَ فِي بَعْضِ الاحْتِمَالاتِ الَتِي رُبَّما لَمْ تَخْطُرْ فِي بَالِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ. افْرِضْ يَا رَبُّ أَنَّ هَؤَلاءِ الْقَوْمَ لَمْ يُصْغُوا إِلَيَّ وَقَالُوا: "أَمُتَأَكِّدٌ أَنْتَ يَا مُوسَى؟ مَا الَذِي كُنْتَ تُدَخِّنُهُ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ؟"
ثُمَّ رَاحَ مُوسَى يُفَكِّرُ "مَاذَا سَأَفْعَلُ؟ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى هَؤُلاءِ الأَشْخَاصِ وَأَقُولَ لَهُمْ: "سَوْفَ نَرْحَلُ عَنْ أَرْضِ الْمِصْرِيِّينَ، سَنَذْهَبُ إِلَى أَرْضٍ رَائِعَةٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. لا لِلْعُبُودِيَّةِ بَعْدَ الْيَوْمِ، سَوْفَ نُصْبِحُ أَحْرارًا. وَسَيَقُولُونَ: "كَيْفَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟" فَأُجِيبُهُمْ: "سَأُخْبِرُكُمْ... يَجِبُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَقْرَعَ بَابَ قَصْرِهِ. وَحِينَ يَأْتِي الْقَيِّمُ عَلَى الْقَصْرِ قَائِلًا: "مَنْ أَنْتَ؟" سَأُجِيبُ: "أَنَا أُدْعَى مُوسَى". وَسَيَقُولُ: "لا أَعْرِفُ شَيْئًا عَنْكَ بِاسْتِثْناءِ أَنِّي سَمِعْتُ عَنْ هَارِبٍ يَحْمِلُ هَذَا الاسْمَ، وَهْوَ لا يَزَالُ هَارِبًا. هَلْ لَدَيْكَ مَوْعِدٌ؟" "لا". "مَا الَذِي يَجْعَلُكَ تَظُنُّ أَنَّ بِإِمْكَانِكَ الْمَجِيءَ إِلَى هُنَا وَالتَحَدُّثَ مَعَ فِرْعَوْنَ؟" "كُنْتُ أَتَحَدَّثُ مَعَ تِلْكَ الْعُلَّيْقَةِ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ".
إِذًا، حَاوَلَ مُوسَى التَفْكِيرَ فِي هَذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا وَقَالَ للهِ: "فَكِّرْ فِي الأَمْرِ. مَاذَا لَوْ لَمْ يُصَدِّقُونِي أَوْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي؟" مَاذَا لَوْ قَالُوا: "لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَبُّ". هَذَا هُوَ السُؤَالُ الَذِي طَرَحَهُ مُوسَى، كَيْفَ سَأَتَمَكَّنُ مِنْ إِقْنَاعِ أَيِّ شَخْصٍ، بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ، بِأَنِّي أَقُولُ كَلامَكَ؟ كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أُثْبِتَ أَنَّ هَذِهِ الرِسَالَةَ لَيْسَتْ حُلْمًا رَاوَدَنِي فِي حَمْأَةِ الْحَرِّ عِنْدَ الظَهِيرَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، بَلْ إِنِّي أَقُولُ الْحَقَّ، كُلَّ الْحَقِّ الَذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟" كَيْفَ تُجِيبُ عَنْ هَذَا السُؤَالِ؟ هَلْ يُفْتَرَضُ بِمُوسَى أَنْ يَقُولَ لِلنَاسِ: "هَذَا هُوَ الاخْتِبَارُ الَذِي مَرَرْتُ بِهِ. عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَقَبَّلُوا الأَمْرَ بِالإِيمَانِ"؟ أَوْ "يا فِرْعَوْنُ، قَدْ لا تُصَدِّقُ هَذَا الأَمْرَ، لَكِنْ خُذْ نَفَسًا عَمِيقًا وَاقْفِزْ فِي الظُلْمَةِ، فِي الْهَاوِيَةِ، قُمْ بِوَثْبَةِ إِيمَانٍ وَقَدْ تَتَوَصَّلُ إِلَى الاسْتِنْتَاجِ أَنَّ الرَبَّ الإِلَهَ الْكُلِّيَّ الْقُدْرَةِ هُوَ مَصْدَرُ هَذِهِ الرِسَالَةِ".
لَيْسَ هَذَا مَا طَلَبَ اللهُ مِنْ مُوسَى فِعْلَهُ. أَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ نَفْهَمَ كَيْفَ أَجَابَ اللهُ عَنْ هَذَا السُؤالِ الَذِي طَرَحَهُ مُوسَى. اسْمَعُوا مَا جَاءَ فِي الآيَةِ الثَانِيَةِ: "فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: "مَا هَذِهِ فِي يَدِكَ؟" فَقَالَ: "عَصًا". فَقَالَ (اللهُ): "اطْرَحْهَا إلَى الأرْضِ". فَطَرَحَهَا (مُوسَى) إلَى الأرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً". فَرَأَى مُوسَى كَيْفَ تَحَوَّلَتْ تِلْكَ الْعَصَا إِلَى حَيَّةٍ، فَهَرَبَ مِنْ تِلْكَ الْحَيَّةِ بِأسْرَعِ ما يَكُونُ. "ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "مُدَّ يَدَكَ وَأمْسِكْ بِذَنَبِهَا". مَاذَا؟ "يَا رَبُّ هَذِهِ حَيَّةٌ سَامَّةٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَحْمِلَهَا؟" فَقَالَ اللهُ: "هَذَا مَا قُلْتُهُ مُدَّ يَدَكَ، ابْسِطْ يَدَكَ وَاقْتَرِبْ إِلَى تِلْكَ الْحَيَّةِ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا". "حَسَنًا". "فَمَدَّ يَدَهُ وَأمْسَكَ بِهِ، فَصَارَتْ عَصًا فِي يَدِهِ". وَقَالَ اللهُ: "لِكَيْ يُصَدِّقُوا أنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ الرَّبُّ إلَهُ آبَائِهِمْ، إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ". لَقَدْ مَنَحْتُكَ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْوِيلِ هَذِهِ الْعَصَا إِلَى حَيَّةٍ لِكَيْ يُصَدِّقَ الشَعْبُ أَنَّكَ تَنْقُلُ كَلامِي فِعْلًا.
هَلْ تَعْرِفُونَ مَا الَذِي أَسْمَعُ النَاسَ يَقُولُونَهُ دَائِمًا "يَكْفِي أَنْ أَرَى مُعْجِزَةً لِكَيْ أُصَدِّقَ أَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ. لَمْ تُعْطَ الْمُعْجِزَاتُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لإِقْنَاعِ النَاسِ بِوُجُودِ اللهِ، فَلَقَدْ كَانَ وُجُودُ اللهِ مُثْبَتًا قَبْلَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ حُدُوثِ أَيِّ مُعْجِزَةٍ. وَالْهَدَفُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لَيْسَ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللهِ، بَلْ إِثْبَاتُ شَرْعِيَّةِ وَصَلاحِيَّةِ وَسِيطِ الإِعْلانِ الإِلَهِيِّ، الشَخْصِ الَذِي كَلَّفَهُ اللهُ بِإِعْلانِ كَلِمَتِهِ. الْهَدَفُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ هُوَ التَحَقُّقُ مِنْ صِدْقِ رَسُولِ كَلِمَةِ اللهِ. لاحِظُوا هَذَا الأَمْرَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
نَحْنُ نَمِيلُ إِلَى قِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مُعْتَبِرِينَ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ كَانَتْ تَحْدُثُ وَرَاءَ كُلِّ شَجَرَةٍ، وَيَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ مِنْ خِلالِ جَمِيعِ النَاسِ فِي التَارِيخِ. لَكِنْ فِي الْوَاقِعِ، إِذَا دَرَسْتُمْ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ، فَهُوَ مُتَفَاوِتٌ. حَدَثَتْ كُلُّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ لِخِدْمَةِ مُوسَى فِي مَرْكَزِهِ كَوَسِيطٍ. وَبَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْدُثْ إِلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ طَوَالَ قُرُونٍ حَتَّى مَتَى؟ لَيْسَ إِلَى مَجِيءِ يَسُوعَ، بَلْ إِيلِيَّا. هَذِهِ هِيَ الْحِقْبَةُ التَالِيَةُ فِي تَارِيخِ الْفِدَاءِ، الَتِي تَمَّتْ فِيهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
أَلَيْسَ مِنَ اللافِتِ أَنَّ اللهَ أَثْبَتَ صِحَّةَ النَامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ مِنْ خِلالِ مَنْحِهِمْ قُدْرَةً عَلَى صُنْعِ الْمُعْجِزَاتِ؟ بَعْدَ ذَلِكَ، لا تَسْمَعُونَ بِصُنْعِ مُعْجِزَاتٍ عَلَى يَدِ يُونَانَ أَوْ حَبَقُّوقَ أَوْ حِزْقِيَالَ أَوْ أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، إِلَى أَنْ عَادَ الْعَالَمُ لِيَشْهَدَ تَدَفُّقًا لِلْمُعْجِزَاتِ مَعَ ظُهُورِ يَسُوعَ. لاحِظُوا أَنَّهُ تُوجَدُ نُقْطَةٌ مِحْوَرِيَّةٌ خَاصَّةٌ لِصُنْعِ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي تَارِيخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَهِيَ كُلُّهَا مُحِيطَةٌ بِمَسْأَلَةِ "كَلِمَةِ اللهِ".
إذًا، بَعْدَ أَنْ صَنَعَ اللهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ لِمُوسَى أَضَافَ قَائِلًا: "ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّبُّ أيْضًا: "أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ". فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ –مِثْلَ نَابُلْيُونَ– ثُمَّ أخْرَجَهَا، وَإذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ الثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "رُدَّ يَدَكَ إلَى عُبِّكَ". فَرَدَّ يَدَهُ إلَى عُبِّهِ ثُمَّ أخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ، وَإذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ. فَيَكُونُ إذَا لَمْ يُصَدِّقُوكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الآيَةِ الأولَى، أنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ صَوْتَ الآيَةِ الأخِيرَةِ. وَيَكُونُ إذَا لَمْ يُصَدِّقُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِكَ، أنَّكَ تَأخُذُ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ وَتَسْكُبُ عَلَى الْيَابِسَةِ، فَيَصِيرُ الْمَاءُ الَّذِي تَأخُذُهُ مِنَ النَّهْرِ دَمًا عَلَى الْيَابِسَةِ"". هَذَا مَا جَرَى تَحْدِيدًا، خِلالَ سِلْسِلَةِ الضَرْبَاتِ الَتِي أَصَابَتِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالَتِي كَانَتْ مُصَمَّمَةً لِتُثْبِتَ لِفِرْعَوْنَ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ حَالِمًا صَاحِبَ رُؤْيَا سَخِيفَةٍ، بَلْ إِنَّ مُوسَى يُعْلِنُ كَلامَ الرَبِّ الإِلَهِ الْكُلِّيِّ الْقُدْرَةِ.
ثُمَّ نَصِلُ إِلَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، حَيْثُ تَمَّتْ أَعْظَمُ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي التَارِيخِ الْمَكْتُوبِ، خِلالَ خِدْمَةِ يَسُوعَ. وَلَمْ يَكُنِ الْهَدَفُ مِنْ خِدْمَةِ يَسُوعَ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللهِ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ. هَلْ تَعْلَمُونَ مَنْ فَهِمَ فِعْلًا سَبَبَ قِيَامِ يَسُوعَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَتِي تَمَّمَها؟ مَا هُوَ السَبَبُ الرَئِيسِيُّ؟ قَصَدَهُ ذَلِكَ الرَجُلُ لَيْلًا، وَكَانَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَالِحُ: "نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ". فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ بَدَا لاهُوتُ نِيقُودِيمُوسَ، أَقَلُّهُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ. فَفِي وَقْتٍ لاحِقٍ أَصْبَحَ مَشْكُوكًا فِي أَمْرِهِ. لَكِنْ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ بَدَا لاهُوتُهُ سَلِيمًا تَمَامًا، بَلْ أَكْثَرَ صِحَّةً مِنْ لاهُوتِ أَعْدَاءِ يَسُوعَ، مِثْلِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَذِينَ لَمْ يُنْكِرُوا مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ لَكِنَّهُمْ كَادُوا أَنْ يُجَدِّفُوا عَلَى الرُوحِ الْقُدُسِ تَجْدِيفًا خَطِيرًا، حِينَ نَسَبُوا قُوَّةَ يَسُوعَ عَلَى صُنْعِ الْمُعْجِزَاتِ لا إِلَى اللهِ بَلْ إِلَى الشَيْطَانِ، كَمَا لَوْ أَنَّ الشَيْطَانَ يَعْمَلُ ضِدَّ نَفْسِهِ.
أَحَدُ الْمَوَاضِيعِ الَتِي أُنَاقِشُهَا مَعَ النَاسِ طَوَالَ الْوَقْتِ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَ الشَيْطَانُ قَادِرًا عَلَى صُنْعِ مُعْجِزَاتٍ، فَأُجِيبُ: "لا لا لا، وَأَلْفُ لا". فَالشَيْطَانُ لَمْ يَصْنَعْ أَيَّةَ مُعْجِزَةٍ فِي حَيَاتِهِ. أَلا يُحَذِّرُنَا الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ مِنَ الآيَاتِ الَتِي سَيَصْنَعُهَا الشَيْطَانُ مُضَلِّلًا الْمُخْتَارِينَ إِذَا أَمْكَنَ؟ لَكِنْ كَيْفَ تَمَّ وَصْفُ تِلْكَ الآيَاتِ إِنَّهَا آيَاتٌ وَعَجَائِبُ مُزَيَّفَةٌ، هَذَا لا يَعْنِي أَنَّها مُعْجِزَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ مَصْنُوعَةٌ لِخِدْمَةِ أَهْدَافٍ شَيْطَانِيَّةٍ، لا، لَيْسَتْ هَذِهِ آيَاتٍ حَقِيقِيَّةً مُسْتَخْدَمَةً لأَغْرَاضٍ سَيِّئَةٍ، إِنَّهَا آيَاتٌ مُزَيَّفَةٌ، أَعْمَالٌ مُزَيَّفَةٌ وَخُدَعٌ. وَهِيَ أَكْثَرُ دَهْشَةً مِنْ أَعْمَالِ أَفْضَلِ السَحَرَةِ الَذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تُصَادِفُوهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لَكِنَّهَا خُدَعٌ. لأَنَّ ثَمَّةَ أَمْرًا لا يُمْكِنُ أَنْ نَنْسَاهُ أَبَدًا، وَهُوَ أَنَّ الشَيْطَانَ لَيْسَ اللهَ. لا يُمْكِنُ لِلشَيْطَانِ أَنْ يَصْنَعَ الأَعْمَالَ الَتِي يَصْنَعُهَا اللهُ. فَالْمُعْجِزَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ الَتِي يَسْتَخْدِمُهَا اللهُ لإِثْبَاتِ أَصَالَةِ رُسُلِهِ وَإِثْبَاتِ أَصَالَةِ وُسَطاءِ الإِعْلاناتِ الإِلَهِيَّةِ، هِيَ أَعْمَالٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ سِوَى اللهِ أَنْ يَصْنَعَهَا. يُشْبِهُ الأَمْرُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ لا شَيْءٍ، يُشْبِهُ إِقَامَةَ الْمَوْتَى، لا يُمْكِنُ لِلشَيْطَانِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لا يُمْكِنُ لِلشَيْطَانِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنْ لا شَيْءٍ، لا يُمْكِنُ لِلشَيْطَانِ أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَ الْفَأْسِ تَعُومُ، لا يُمْكِنُ لِلشَيْطَانِ أَنْ يَتَحَكَّمَ بِقَوانِينِ الطَبِيعَةِ، إِنَّهُ مُجَرَّدُ سَاحِرٍ، إِنَّهُ سَاحِرٌ نَاجِحٌ لَكِنَّهُ شِرِّيرٌ، إِنَّهُ مَاهِرٌ فِي حِيَلِهِ لَكِنَّ حِيَلَهُ شِرِّيرَةٌ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ.
نَحْنُ نَرَى هَذَا الأَمْرَ يَحْدُثُ خِلالَ الْمُوَاجَهَةِ الَتِي كَانَتْ لِمُوسَى مَعَ السَحَرَةِ فِي بَلاطِ فِرْعَوْنَ. مَا الَذِي جَرَى؟ أَخَذَ مُوسَى تِلْكَ الْعَصَا الَتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا اللهُ، وَرَمَاهَا عَلَى الأَرْضِ فَتَحَوَّلَتْ إِلَى حَيَّةٍ. فَقَالَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ مُتَثَائِبِينَ: "هَلْ هَذَا أَفْضَلُ مَا يُمْكِنُكَ فِعْلُهُ؟" فَرَمَوْا جَمِيعًا عِصِيَّهُمْ عَلَى الأَرْضِ وَتَحَوَّلَتْ كُلُّهَا إِلَى حَيَّاتٍ. كَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ؟ إِنَّهَا أَفْضَلُ خُدْعَةٍ فِي تَارِيخِ خِفَّةِ الْيَدِ. كَانَ هَؤُلاءِ حَامِلِينَ عِصِيَّهُمْ، وَدَاخِلَ كُلِّ عَصًا كَانَتْ تُوجَدُ حَيَّةٌ، كَانَتِ الحَيَّاتُ مَوْجُودَةً فِي الدَاخِلِ أَسَاسًا. هُمْ لَمْ يُحَوِّلُوا الْعَصَا إِلَى حَيَّةٍ. وَلَمَّا وَقَعَتِ الْعِصِيُّ تَمَكَّنَتِ الحَيَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي دَاخِلِهَا مِنَ الْخُرُوجِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا كُلُّ مَا يَسْتَطِيعُ مُوسَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ مَخْفِيَّةً دَاخِلَ الْعَصَا. لَكِنْ لا، فَعَمَلُ مُوسَى كَان أَصِيلًا. ثُمَّ أَحْضَرَ الْجَمِيعُ حَيَّاتِهِمْ، وَطَرَحَ مُوسَى حَيَّتَهُ، فَأَكَلَتْ حَيَّتُهُ جَمِيعَ الْحَيَّاتِ الأُخْرَى وَانْتَهَتِ اللُعْبَةُ. هُمْ لَمْ يُضَاهُوا مُوسَى لأَنَّهُمْ لَمْ يُضَاهُوا اللهَ. وَكُلُّ الْحِيَلِ وَالْمَكَائِدِ الَتِي كَانَ بِإِمْكَانِ سَحَرَةِ الْقَصْرِ التَابِعِينَ لِفِرْعَوْنَ أَنْ يَصْنَعُوهَا لَمْ تَسْتَطِعْ فِعْلًا أَنْ تُحَوِّلَ مِيَاهَ النِيلِ إِلَى دَمٍ، أَوْ أَنْ تُنْزِلَ الضَرْبَاتِ، وَحَتْمًا هِيَ لَمْ تَكُنْ تَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الفِصْحِ.
إِذًا، نَحْنُ نَرَى هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَتِي كَانَ لَهَا هَدَفٌ مُبَاشِرٌ وَهُوَ شِفَاءُ الْمَرْضَى، وَإِقَامَةُ الْمَوْتَى، وَخِدْمَةُ الْمُتَأَلِّمِينَ، وَالْقِيَامُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الرَحْمَةِ. لَكِنْ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ تُثْبِتُ وَتُبَرْهِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ، وَأَنَّ يَسُوعَ يُعْلِنُ الْحَقَّ، وَأَنَّ مَا مِنْ رُوحٍ شِرِّيرٍ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرًا لَهُ. إِذًا، نَحْنُ نَرَى فِي هَذِهِ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ إِعْلانَ شَخْصِ اللهِ، إِعْلانَ قُوَّةِ اللهِ، وَإِعْلانَ أَزَلِيَّةِ اللهِ، وَإِعْلانَ رَأْفَةِ اللهِ، وَإِعْلانَ فِدَاءِ اللهِ، وَفِي النِهَايَةِ، إِعْلانَ حَقِّ اللهِ.