المحاضرة 2: السُلْطَةُ وَالمَصْدَرُ
فِي الْمُحَاضَرَةِ الأُولَى مِنْ دِرَاسَتِنَا لِسُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، قَضَيْنَا بَعْضَ الْوَقْتِ فِي دِرَاسَةِ الْخَلْفِيَّةِ التَارِيخِيَّةِ لأَزْمَةِ السُلْطَةِ الَتِي نُوَاجِهُهَا فِي الْكَنِيسَةِ، وَأَيْضًا فِي الْعَالَمِ الْيَوْمَ. تَذْكُرُونَ أَنَّنِي أَشَرْتُ إِلَى حَقِيقَةِ أَنَّ لُوثَرَ صَاغَ عِبَارَةَ "سُولا سْكْرِيبْتُورَا"، بِالْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَحْدَهُ، الَتِي صَارَتْ أَحَدَ شِعَارَاتِ الإِصْلاحِ الْبْرُوتِسْتَانْتِيِّ. وَبَيْنَمَا كَانَ وَقْتُ الْمُحَاضَرَةِ الأُولَى يَنْفَدُ، تَحَدَّثْنَا عَنْ مَعْنَى كَلِمَةِ "سُلْطَةِ". وَعَرَّفْتُ كَلِمَةَ "سُلْطَةٍ" فِي إِيجَازٍ بِأَنَّهَا "الْحَقُّ فِي فَرْضِ وَاجِبٍ". فَمَثَلًا، نَرَى لِقَاءَ يَسُوعَ بِقَائِدِ الْمِئَةِ، الَذِي كَانَ يَعْرِفُ جَيِّدًا مَعْنَى أَنْ يَكُونَ لأَحَدِهِمْ سُلْطَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَقُولَ "اذْهَبْ" فَيَذْهَبُ النَاسُ، إِلَى آخِرِهِ.
أَوَدُّ الآنَ أَنْ نُلاحِظَ قَدْرًا مِنَ الْمُفَارَقَةِ الْكَامِنَةِ فِي كَلِمَةِ "سُلْطَةٍ". هُنَاكَ تَعْبِيرٌ فِي مُجْتَمَعِنَا، نُسَمِّيهِ "الْقَاعِدَةَ الذَهَبِيَّةَ". وَالتَعْرِيفُ الطَرِيفُ لِلْقَاعِدَةِ الذَهَبِيَّةِ هُوَ: "مَنْ لَدَيْهِ الذَهَبُ يَسُودُ". وَأَذْكُرُ أَنَّ كَارْل مَارْكْسْ قَالَ: "مَنْ لَدَيْهِ وَسَائِلُ الإِنْتَاجِ يَتَحَكَّمُ فِي الْعَالَمِ". أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَبْلَ دِرَاسَتِي لِكِتَابَاتِ كَارْلْ مَارْكْسْ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ، حِينَ كُنْتُ طِفْلًا، وَكُنَّا نَلْعَبُ الْكُرَةَ فِي الشَارِعِ، فِي الْمِسَاحَاتِ الرَمْلِيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِبِيتِسْبُرْج. وَلَمْ تَسْنَحْ لَنَا فُرْصَةُ أَوِ امْتِيَازُ أَنْ يَكُونَ لَدَيْنا حُكَّامٌ، يُرَاقِبُونَ الْمُبَارَاةَ، وَيَحْكُمُونَ فِي نِزَاعَاتِنَا. وَفِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، يَكُونُ كِلا الْفَرِيقَيْنِ مُقْتَنِعًا بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَالآخَرُ عَلَى خَطَأٍ. كُنْتُ أَقُولُ: "خُرُوجٌ"، فَيَقُولُ آخَرُ: "فِي أَمَانٍ". أَقُولُ: "خُرُوجٌ"، فَيَقُولُ: "فِي أَمَانٍ". كَانَ مِثْلُ هَذَا النِزَاعِ يَنْشَأُ بَيْنَنَا. فَكَيْفَ أَمْكَنَنا حَسْمُهُ؟ كُنَّا نَحْسِمُهُ بِالْقَوْلِ إِنَّ مَنْ لَدَيْهِ الْمِضْرَبُ وَالْكُرَةُ هُوَ عَلَى حَقٍّ، فَيَقُولُ: "الْكُرَةُ كُرَتِي، وَالْمِضْرَبُ مِضْرَبِي، أَنَا فِي أَمَانٍ. وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَذَلِكَ، تَكُونُ الْمُبَارَاةُ قَدِ انْتَهَتْ". هَكَذَا كُنَّا نَحْسِمُ الأَمْرَ.
نُدْرِكُ أَنَّ هُنَاكَ سُلْطَةً مُعَيَّنَةً مُقْتَرِنَةً لَيْسَ فَقَطْ بِاسْتِخْدَامِ ضَمَائِرِ الْمِلْكِيَّةِ، بَلْ أَيْضًا بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا. إِذَنْ، مَسَأْلَةُ سُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَثِيقَةُ الصِلَةِ فِي النِهَايَةِ بِمَسْأَلَةِ كِتَابَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا الْكِتَابُ؟ هَلْ يُقَدِّمُ لَنَا الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٍ مِنْ أَفْكَارِ أَوْ حِكَمِ شَعْبٍ يَهُودِيٍّ بِدَائِيٍّ؟ هَلْ كُلُّ مَا لَدَيْنَا هُوَ -نَظِيرُ الظِلالِ فِي كَهْفِ أَفْلاطُونَ- آرَاءُ أَنْبِيَاءَ قُدَامَى مِثْلِ إِرْمِيَا، وَإِشَعْيَاءَ، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَغَيْرِهِمْ؟ أَمْ لَدَيْنَا وَثِيقَةٌ مَكْتُوبَةٌ كَتَبَها اللهُ بِنَفْسِهِ؟
عَبْرَ التَارِيخِ، كَانَ هَذَا تَحْدِيدًا هُوَ إِقْرَارُ إِيمَانِ الْكَنِيسَةِ. وَالْمُصْطَلَحُ اللاتِينِيُّ الَذِي اسْتُخْدِمَ لِلإِقْرَارِ بِهَذَا عَبْرَ التَارِيخِ هُوَ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ هُوَ "فُوكْس دَايْ" (Vox Dei) أَوْ "وِيرْبُوم دَايْ" (Verbum Dei)، أَيْ "صَوْتُ اللهِ"، أَوِ التَرْجَمَةُ الأَشْهَرُ "كَلِمَةُ اللهِ". حَسَنًا، هَلْ هُوَ كَلامُ بَشَرٍ أَمْ كَلامُ اللهِ؟ هَذَا هُوَ لُبُّ النِزَاعِ بِرُمَّتِهِ. هَذَا هُوَ اللُبُّ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُجْمَلَ النِزَاعِ. لأَنَّ هُنَاكَ أُناسًا الْيَوْمَ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ صَحِيحًا بِالْكَامِلِ. سَنَتَنَاوَلُ هَذِهِ النَظَرِيَّاتِ لاحِقًا، لأَنَّنِي لا أَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ، بَيْنَما لا يَكُونُ حَقًّا مُطْلَقًا، لَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يَتَصَوَّرُونَ ذَلِكَ عَنْهُ.
عَلَى أَيِّ حَالٍ، لُبُّ الْقَضِيَّةِ بِالنِسْبَةِ إِلَى الْغَالِبِيَّةِ هُوَ: "مَا الْمَصْدَرُ؟" لِمَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ فِي النِهَايَةِ؟" لا أَحَدَ يَدَّعِي، بِقَدْرِ مَعْرِفَتِي، أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ فِي مِظَلَّةٍ هَبَطَتْ مِنَ السَمَاءِ، وَفِي صَفْحَتِهِ الأُولَى مَكْتُوبٌ: "هُوَذَا الْكِتَابُ الَذِي كَتَبْتُهُ بِإِصْبَعِي. رَجاءً انْتَبِهُوا جَيِّدًا إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ. مَعَ خَالِصِ تَحِيَّاتِي، اللهُ".
نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يُكْتَبْ بِيَدِ اللهِ، أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةَ الْمُبَاشِرَةَ لِتَأْلِيفِهِ، أَوْ أَصْلَهُ الْمُبَاشِرَ. لَكِنْ حِينَ نَقُولُ إِنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ، نَقْصِدُ مَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ، مُقِرِّينَ تَمَامًا بِأَنَّ كِتَابَتَهُ الْفِعْلِيَّةَ تَمَّتْ عَلَى يَدِ بَشَرٍ.
أَوَدُّ الآنَ تَنَاوُلَ بَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ حَيْثُ كَانَتْ هُوِيَّةُ الْكَاتِبِ مَسْأَلَةً حَيَوِيَّةً. حِينَ كَتَبَ بُولُسُ إِلَى كَنِيسَةِ رُومِيَةَ، فِي بِدَايَةِ الرِسَالَةِ، وَكَعَادَتِهِ، عَرَّفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْكَاتِبُ، ثُمَّ وَجَّهَ تَحِيَّةً مُعَيَّنَةً لأَصْدِقَائِهِ مُسْتَقْبِلِي الرِسَالَةِ. وَيَبْدَأُ رُومِيَةُ الأَصْحَاحُ 1 بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَأْلُوفَةِ: "بُولُسُ عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الْمَدْعُوُّ رَسُولًا الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ". مُجَدَّدًا، هَذِهِ تَحِيَّةٌ بَسِيطَةٌ جِدًّا، عَرَّفَ فِيهَا بُولُسُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْكَاتِبُ. لَكِنْ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْوَاحِدَةِ، أَيُّهَا السَيِّدَاتُ وَالسَادَةُ، هُنَاكَ فَرْطٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْحَيَوِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَكَذَلِكَ بِأَهَمِّيَّةِ مَفْهُومِ الرَسُولِيَّةِ نَفْسِهِ، الَذِي أَرْجُو أَنْ نَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ لاحِقًا، إِنْ سَمَحَ الْوَقْتُ. لَكِنَّ الْعِبَارَةَ الَتِي تَسْتَرْعِي انْتِبَاهِي الآنَ هِيَ الْعِبَارَةُ الأَخِيرَةُ. يَقُولُ بُولُسُ إِنَّهُ مَدْعُوٌّ رَسُولًا. وَإِنَّهُ مُفْرَزٌ، أَيْ مُخَصَّصٌ، لأَيِّ شَيْءٍ؟ لإِنْجِيلِ اللهِ. إِنْجِيلِ اللهِ، مَاذَا فِي ذَلِكَ؟ عِنْدَمَا نَقُولُ إِنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ يُقَدِّمُ لَنَا إِنْجِيلَ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، مَا الَذِي نَفْهَمُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ الإِنْجِيلَ هُوَ الْبِشَارَةُ عَنْ شَخْصِ يَسُوعَ وَعَمَلِهِ. إِذًا، عِنْدَمَا نَقُولُ "إِنْجِيلَ فُلانٍ"، مَاذَا نَقْصِدُ عَادَةً؟ "الإِنْجِيلُ عَنْ فُلانٍ". لَكِنَّ الصِيَاغَةَ اللُغَوِيَّةَ لِتَعْلِيقِ بُولُسَ فِي رِسَالَةِ رُومِيَةَ لا يُبِيحُ ذَلِكَ الْفَهْمَ. فَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُنَا يَعْنِي الْمِلْكِيَّةَ. عِنْدَمَا نَقْرَأُ "إِنْجِيلَ اللهِ"، فَأَفْضَلُ تَرْجَمَةٍ لَهُ لَيْسَتِ "الإِنْجِيلَ عَنِ اللهِ"، بَلِ "الإِنْجِيلَ الْخَاصَّ بِاللهِ". قَالَ بُولُسُ: "بِصِفَتِي رَسُولًا، أَنَا مُفْرَزٌ لإِعْلانِ كَلامِ اللهِ". وَبِهَذَا، لَيْسَ هَذَا الإِنْجِيلُ عَنِ اللهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَمِي إِلَى اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ هُوَ مَصْدَرُ الْكَلامِ.
مُؤَخَّرًا، كُنْتُ أَدْرُسُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، وَالأَصْحاحِ 1، حَيْثُ يَرْوِي لُوقَا أَحْدَاثَ بِشَارَةِ الْمَلاكِ جِبْرَائِيلَ لِزَكَرِيَّا. فَبَيْنَمَا كَانَ زَكَرِيَّا يَخْدِمُ فِي الْهَيْكَلِ، أَتَاهُ جِبْرَائِيلُ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ وَزَوْجَتَهُ الْمُسِنَّةَ أَلِيصَابَاتَ سَيُنْجِبَانِ ابْنًا. وَسَيَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ هُوَ الْمُنَادِي الرَسْمِيُّ لِلْمَسِيَّا. وَسَيَكُونُ هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ. وَعِنْدَمَا أَخْبَرَ جِبْرَائِيلُ زَكَرِيَّا بِهَذَا، أَصَابَهُ الذُهُولُ وَالصَاعِقَةُ، لَيْسَ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ الْمَلاكِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ هَذِهِ الرِسَالَةَ الَتِي لا تُصَدَّقُ. سَأُنْجِبُ ابْنًا! زَوْجَتِي تَخَطَّتْ سِنَّ الإِنْجَابِ! وَهِيَ عَاقِرٌ، إِلَى آخِرِهِ. فَاحْتَجَّ عَلَى كَلامِ جِبْرَائِيلَ قَائِلًا: "لَكِنِّي شَيْخٌ". أَتَدْرُونَ بِمَ أَجَابَهُ جِبْرَائِيلُ؟ أَجَابَ: "أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ". مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ قَالَ جِبْرَائِيلُ: "أَنَا مَلاكٌ، أَيْ مَبْعُوثٌ مِنَ اللهِ. لا تَقُلْ لِي إِنَّكَ شَيْخٌ. إِنْ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّ سِنَّكَ يَعْنِي أَنَّ كَلامِي، وَتَقْرِيرِي، وَرِسَالَتِي لا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، لأَنَّكَ شَيْخٌ وَضَعِيفٌ وَهَشٌّ، وَزَوْجَتُكَ تَخَطَّتْ سِنَّ الإِنْجَابِ، فَفَكِّرْ، يَا زَكَرِيَّا، فِي مَصْدَرِ هَذِهِ الرِسَالَةِ. أَنَا جِبْرَائِيلُ، وَجِئْتُكَ مِنْ مَحْضَرِ اللهِ". أَتَفْهَمُونَ مَا كَانَ يَقْصِدُ؟ "يَا زَكَرِيَّا، الرِسَالَةُ الَتِي أُسَلِّمُكَ إِيَّاهَا تَحْمِلُ أَقْصَى سُلْطَةٍ مُمْكِنَةٍ". فَقَالَ زَكَرِيَّا: "آهٍ...". وَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا نَطَقَ بِهِ طَوَالَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. كَمَا تَعْرِفُونَ.
عِنْدَمَا نَتَنَاوَلُ مَسْأَلَةَ السُلْطَةِ الْكِتَابِيَّةِ، يَقُولُ الْبَعْضُ "لِمَ يُزْعِجُنَا هَذَا كَثِيرًا؟ أَلَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ بِرُمَّتِهِ حَوْلَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مُجَرَّدَ زَوْبَعَةٍ فِي فِنْجَانٍ؟" حَتَّى أُسْتَاذِي الْعَزِيزُ فِي الدِرَاسَاتِ الْعُلْيَا فِي هُولَنْدَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْهَمَ عَقْلِيَّةَ الْمَسِيحِيِّينَ الأَمْرِيكِيِّينَ الَذِينَ يَتَنَازَعُونَ كَثِيرًا حَوْلَ عِصْمَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، أَوْ وَحْيِهِ، أَوْ خُلُوِّهِ مِنَ الْخَطَأِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْهَمَ سَبَبَ كُلِّ هَذِهِ الْجَلَبَةِ. وَأَتَذَكَّرُ أَنِّي تَنَاقَشْتُ مَعَهُ ذَاتَ مَرَّةٍ فِي مَنْزِلِهِ حَوْلَ ذَلِكَ. وَفِي رَأْيِهِ، إِنَّ الْعَقْلِيَّةَ الأَمْرِيكِيَّةَ، فِي هَذَا الْجَدَلِ حَوْلَ سُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، أَشْبَهُ بِلُعْبَةِ الشُرْطَةِ وَاللُصُوصِ، أَوِ الأَخْيَارِ وَالأَشْرَارِ. وَقالَ إِنَّهُ يَرَى "إِنَّ قَلَقَ النَاسِ بِشَأْنِ صِحَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مِنْ عَدَمِهَا هُوَ نَوْعٌ ضَارٌّ مِنَ السَعْيِ أَوْ الرَغْبَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ فِي الْيَقِينِيَّةِ، وَهُوَ مَا يَضُرُّ بِالإِيمَانِ". هَذَا التَوَجُّهُ يَسْأَلُ: مَا الْفَارِقُ الَذِي يُحْدِثُهُ هَذَا؟ وَيَقُولُ إِنَّ عِصْمَتَهُ فِي كُلِّ مَا يُعَلِّمُهُ مِنْ عَدَمِهَا هِيَ مَسْأَلَةُ إِيمَانٍ. وَإِنَّهُ لا يَلْزَمُ أَنْ نَتَحَلَّى بِيَقِينٍ مُطْلَقٍ.
بِقَدْرِ اخْتِلافِي مَعَ رَأْيِ أُسْتَاذِي الْعَزِيزِ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، يَجِبُ أَنْ أَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَدْعُو إِلَى ضَرُورَةِ أَنْ يَكُونَ لَدَيْنَا مَصْدَرٌ تَارِيخِيٌّ مَعْصُومٌ عَنْ يَسُوعَ النَاصِرِيِّ، أَوْ مَعْرِفَةٌ يَقِينِيَّةٌ عَنْهُ. يُمْكِنُ أَنْ أَتَصَوَّرَ، نَظَرِيًّا، أَنَّهُ كَانَ بِإِمْكَانِ اللهِ تَخْطِيطُ قِصَّةِ حَيَاةِ يَسُوعَ، حَتَّى الصَلِيبِ وَالْقِيَامَةِ، إِلَى آخِرِهِ، طَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْبَشَرِ غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ تَدْوِينَ تَقَارِيرِهِمْ عَنِ الْقِصَّةِ، فَيَرْتَكِبُونَ أَخْطاءً وَتَضَارُبَاتٍ وَتَنَاقُضَاتٍ طَفِيفَةً، مِنْ آنٍ لآخَرَ، ثُمَّ مِنْ خِلالِ إِيمَانِنَا، نَفْحَصُ صِحَّةَ هَذِهِ التَقَارِيرِ. فَإِنَّنَا لا نُطَالِبُ هِيرُودُوتَ، أَوْ تَاكِيتُوسَ، أَوْ ثُوكِيدِيدُسَ، أَوْ كْسِينُوفُونَ، أَوْ يُوسِيفُوسَ بِالْعِصْمَةِ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مُحْتَوًى بَعِيدًا تَمَامًا عَنِ الْعِصْمَةِ، وَنَعْلَمُ ذَلِكَ. وَلَسْنَا نَتَوَقَّعُ الْعِصْمَةَ مِنْ أَفْلاطُونَ، أَوْ أَرِسْطُو، أَوْ إِيمَانُوِيلَ كَانَتْ. وَمَعَ ذَلِكَ، يَحْظَوْنَ بِمِصْدَاقِيَّةٍ لَدَيْنَا، عِنْدَمَا نَقْتَنِعُ بِأَهَمِّيَّةِ مَا يَقُولُونَهُ.
إذًا، لِمَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَبِقَ هَذَا عَلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ؟ وَلِمَ هَذَا الْهَوَسُ بِشَأْنِ التَأَكُّدِ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ أَخْطَاءٍ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ؟ أَتَفَهَّمُ وُجْهَةَ نَظَرِهِ، بِاسْتِثْنَاءِ وُجُودِ أَمْرٍ وَاحِدٍ مُهِمٍّ، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ عَنْ نَفْسِهِ.
فَإِذَا جَاءَنِي أَحَدُهُمْ وَقَالَ: "اسْمَعْنِي جَيِّدًا، لَسْتُ مُتَيَقِّنًا مِمَّا رَأَيْتُهُ الأُسْبُوعَ الْمَاضِي. فَفِي الْوَاقِعِ، أَشُكُّ فِي عَيْنَيَّ، لأَنِّي لَمْ أَمُرَّ مِنْ قَبْلُ بِتَجْرِبَةٍ كَهَذِهِ. لَكِنَّ شَهَادَتِي الَتِي سَأُدْلِي بِهَا فِي الْمَحْكَمَةِ، حَتَّى وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، وَكُلَّ مَا أَتَذَكَّرُهُ، هُوَ أَنَّ هَذَا الرَجُلَ قُتِلَ. فَقَدْ رَأَيْتُهُمْ يَطْعَنُونَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَيُنْزِلُونَ جَسَدَهُ، وَيُكَفِّنُونَ الْجَسَدَ لِدَفْنِهِ. وَرَأَيْتُهُمْ يَضَعُونَ الْجَسَدَ فِي قَبْرٍ. أَعْلَمُ أَنَّكُمْ سَتَظُنُّونَ أَنِّي فَقَدْتُ صَوَابِي، لَكِنَّ الْيَوْمَ الْفَائِتَ، سَمِعْتُ الْبَعْضَ يَقُولُونَ إِنَّهُ غَادَرَ ذَلِكَ الْقَبْرَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَرآهُ خَمْسُمائَةِ شَخْصٍ، وَأَجَلْ، رَأَيْتُهُ بِالأَمْسِ بِعَيْنَيَّ". لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ كلُّ ما لَدَيْنَا، لَرَغِبْتُ مَعَ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ الْمَزِيدِ. فَرُبَّمَا يَكُونُ الرَجُلُ صَادِقًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ مَصْدَرًا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ، مَعَ أَنَّ رِسَالَتَهُ بَعِيدَةٌ تَمَامًا عَنِ التَصْدِيقِ، لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ مُعْجِزَةِ الْمُعْجِزَاتِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَيْ عَنْ عَوْدَةِ أَحَدِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ.
لَكِنْ لِنَفْتَرِضْ، فِي الْمُقَابِلِ، أَنَّ هَذَا الرَجُلَ جَاءَ إِلَيَّ قَائِلًا: "سَأُدَوِّنُ هَذَا التَقْرِيرَ، وَأَكْتُبُ هَذَا قَائِلًا إِنَّ هَذِهِ هِيَ كَلِمَةُ اللهِ". ثُمَّ وَجَدْتُ أَنَّ هَذَا الشَاهِدَ الَذِي شَهِدَ عَنْ أَهَمِّ حَدَثٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ ارْتَكَبَ أَخْطَاءً، عَدِيمَةَ الأَهَمِّيَّةِ وَتَافِهَةً، أَخْطَاءً تَارِيخِيَّةً أَوْ مَعْلُومَاتِيَّةً، فَمَاذَا سَيَحْدُثُ لِثِقَتِنَا فِي ادِّعَائِهِ التَكَلُّمَ بِسُلْطَانِ اللهِ؟ أَتَوَقَّعُ حَقًّا أَنْ يَرْتَكِبَ الْبَشَرُ أَخْطَاءً، لَكِنَّنِي لَسْتُ أَتَوَقَّعُ ذَلِكَ مِنَ اللهِ! وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ يدَّعِي أَنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ، وَهُوَ لَيْسَ كَلِمَةَ اللهِ، يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَظَلَّ صَحِيحًا بِوَجْهٍ عَامٍّ، لَكِنَّ هَذَا الادِّعَاءَ، عَلَى الأَقَلِّ، سَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَاذِبٌ.
يَجِبُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِأَنَّنِي مِنْ مِيزُورِي. وَلَنْ أُكَرِّسَ حَيَاتِي لِعِبَادَةِ أَوْ خِدْمَةِ رَجُلٍ كُلُّ مَا أَعْرِفُهُ عَنْهُ يَأْتِي مِنْ مَصْدَرٍ تَبَرْهَنَ أَنَّ بِهِ أَخْطَاءً. فَسَيَكُونُ عَلَيَّ أَنْ أَتَجَاهَلَ عَقْلِي، كَيْ أُسَلِّمَ حَيَاتِي لِيَسُوعَ، بَيْنَمَا الشَيْءُ الْوَحِيدُ الَذِي أَعْرِفُهُ عَنْهُ نَابِعٌ مِنْ هَذَا السِجِلِّ الْكِتَابِيِّ. وَلَوْ كَانَ كُتَّابُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الَذِينَ أَخْبَرُونِي بِقِصَّةِ يَسُوعَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا لِي كَلِمَةَ اللهِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِيَ كَلِمَةُ اللهِ، فَبِبَسَاطَةٍ لَنْ أُصْغِيَ إِلَيْهَا. الأَمْرُ بَسِيطٌ.
دَعُونِي أَكُونُ وَاضِحًا بِشَأْنِ أَمْرٍ مَا. فِي رَأْيِي، مُجَرَّدُ ادِّعَاءِ كِتَابٍ مَا بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ، لا يَجْعَلُ مِنْهُ كَلِمَةَ اللهِ. فَيُمْكِنُنِي أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابًا وَأَقُولَ: "هَذَا كَلامُ اللهِ". سَتَعْلَمُونَ عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهُ لَيْسَ كَلامَ اللهِ، لأَنَّكُمْ تَعْرِفُونَنِي. وَأَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ أَيُّ شَخْصٍ عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهُ لَيْسَ كَلامَ اللهِ. لَكِنْ، كَمْ سَيُكَلِّفُنِي الأَمْرُ، وَمَا مَدَى صُعُوبَةِ قَوْلِي: "هَذَا كَلامُ اللهِ"؟ أَيُّ شَخْصٍ يُمْكِنُ أَنْ يدَّعِيَ ذَلِكَ؟ وَقَوْلُ ذَلِكَ لا يَجْعَلُهُ صَحِيحًا. لَكِنْ أَتَفْهَمُونَ مَا يَكُونُ عَلَى الْمِحَكِّ عِنْدَمَا يَدَّعِي أَحَدُهُمْ ذَلِكَ؟ وَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ يَقُولُ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا مَا أَوَدُّ أَنْ نَرَاهُ فِي إِيجَازٍ هَذَا الْمَسَاءَ.
لِنَنْظُرْ، بِالتَأْكِيدِ، إِلَى أَشْهَرِ مَقْطَعٍ، الَذِي يَرِدُ فِي رِسَالَةِ تِيمُوثَاوُسَ الثَانِيَةِ، حَيْثُ كَتَبَ بُولُسُ إِلَى ابْنِهِ الْحَبِيبِ فِي الإِيمَانِ. وَعَلَى الأَرْجَحِ، كَانَ هَذَا فِي آخِرِ أَيَّامِ بُولُسَ. وَكَلَّفَ تِيمُوثَاوُسَ بِمَسْؤُولِيَّاتٍ مُقَدَّسَةٍ، إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي 2 تِيمُوثَاوُسَ 3: 13: "وَلَكِنَّ النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ". مِنَ اللَافِتِ أَنَّهُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، تَضْلِيلُ الآخَرِينَ، أَيْ خِدَاعُهُمْ، يُوصَفُ هُنَا بِأَنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الأَشْرَارِ. أَعْلَمُ أَنَّ كَلِمَةَ "شِرِّيرٍ" صَارَتْ عَتِيقَةَ الطِرَازِ فِي مُفْرَدَاتِنا الْحَدِيثَةِ. فَنَحْنُ لا نَقُولُ عَادَةً: "هَذَا الْفَتَى شِرِّيرٌ. هَذَا الشَخْصُ شِرِّيرٌ. هَذِهِ الْمَرْأَةُ شِرِّيرَةٌ". رُبَّمَا نَقُولُ إِنَّهُمْ فَاسِدُونَ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ. "النَاسُ الأَشْرَارُ". لَمْ يَخْشَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ: "هُمْ أَشْرارٌ لأَنَّهُمْ يُضِلُّونَ".
مَا هُوَ التَضْلِيلُ؟ التَضْلِيلُ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، هُوَ تَحْرِيفُ الْحَقِّ. الشَيْءُ الْوَحِيدُ الَذِي يُحَيِّرُنِي كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِي، كَلاهُوتِيٍّ، هُوَ مَدَى اسْتِخْفَافِ الْعَالَمِ الْمَسِيحِيِّ بِالْحَقِّ. لَكِنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ يُولِي أَهَمِّيَّةً كُبْرَى لِلصِدْقِ. وَهُنَا، بَيْنَمَا كَانَ بُولُسُ يُسَلِّمُ الرَايَةَ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ، لِتِيمُوثَاوُسَ، قَالَ: "احْذَرْ، فَالنَاسُ الأَشْرَارُ الْمُزَوِّرُونَ "سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ".
عِنْدَمَا كُنْتُ طِفْلًا، كُنْتُ أَقَعُ أَحْيَانًا ضَحِيَّةَ إِهَانَةٍ قَاسِيَةٍ. مَرَرْنَا جَمِيعًا بِسَنَوَاتِ الْمُرَاهَقَةِ الْمُؤْلِمَةِ. وَعِنْدَمَا نَبَتَتْ لِيَ أَسْنَانُ الْبُلُوغِ، نَبَتَتْ مُعْوَجَّةً. فَابْتَدَأَ الأَوْلَادُ يَدْعُونَنِي "ذا الأَسْنَانِ الْمُعْوَجَّةِ"، وَ"ذَا الأَسْنَانِ النَاتِئَةِ"، وَكَانَ هَذَا يُؤْلِمُنِي. أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي عُدْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ بَاكِيًا، فَسَأَلَتْنِي أُمِّي: "لِمَ تَبْكِي؟" أَجَبْتُها: "لأَنَّ فُلانًا دَعَانِي ذا الأَسْنَانِ النَاتِئَةِ". وَكَانَ عِلاجُ أُمِّي لِكُلِّ هَذِهِ الإِهَانَاتِ، فِي طُفُولَتِي، هُوَ جُمْلَةٌ كَانَتْ تُرَدِّدُهَا بِلا تَوَقُّفٍ: "يَا بُنَيَّ، فَكِّرْ فِي مَصْدَرِ الْكَلامِ". لَمْ أَفْهَمْ حَتَّى مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: "فَكِّرْ فِي مَصْدَرِ الْكَلامِ"، مَاذَا كَانَتْ تَقْصِدُ بِقَوْلِهَا: "فَكِّرْ فِي الْمَصْدَرِ"؟ كَانَتْ تَقْصِدُ: "قَبْلَ أَنْ يُؤْلِمَكَ مَا يَقُولُهُ أَحَدُهُمْ، فَكِّرْ فِي هُوِيَّةِ قَائِلِهِ". وَهَذَا مَا فَعَلْتُهُ طَوَالَ حَيَاتِي. يُوجِّهُ لِي الْبَعْضُ انْتِقَادَاتٍ، وَالْبَعْضُ، حِينَ يَنْتَقِدُونَنِي، أُصْغِي بِكُلِّ كِيَانِي، لأَسْمَعَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ نَقْدِهِمْ. فَإِنَّنِي أُقَدِّرُ رَأْيَهُمْ. وَقَدْ يَنْتَقِدُنِي آخَرُونَ دُونَ تَوَقُّفٍ، فَلا أُعِيرُهُمْ أَدْنَى انْتِبَاهٍ، لأَنَّهُمْ لا يَتَمَتَّعُونَ بِمِصْدَاقِيَّةٍ لَدَيَّ. هَذِهِ حَالُنَا جَمِيعًا، فَإِنَّنَا نُفَكِّرُ فِي مَصْدَرِ الْكَلامِ.
وَيَقُولُ بُولُسُ: "يَا تِيمُوثَاوُسَ، أُوصِيكَ بِأَنْ تَثْبُتَ عَلَى تِلْكَ الأُمُورِ الَتِي تَعَلَّمْتَها وَأَيْقَنْتَها، وَأَنْ تَتَذَكَّرَ مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتَها، وَمِمَّنْ سَمِعْتَها". رُبَّمَا يُشِيرُ بُولُسُ بِبَسَاطَةٍ إِلَى مَصْدَرِ جَدَّتِهِ. لَكِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّ الأَمْرَ يَتَعَدَّى ذَلِكَ. فَقَدْ قَالَ: "أَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوع". ثُمَّ نَقْرَأُ هَذَا التَصْرِيحَ الشَهِيرَ فِي 2 تِيمُوثَاوُسَ 3: 16: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلًا، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ".
كُلُّ الْكِتَابِ، أَيْ كلُّ "الْجْرافِي"، وَهُوَ مَا لا يُمْكِنُ أَنْ يُشِيرَ بِحَسَبِ السِيَاقِ سِوَى إِلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ. الْمَعْنَى الْحَرْفِيُّ هُوَ: كُلُّ الْكِتَابَاتِ. لَكِنَّ هَذَا مُصْطَلَحٌ تِقَنِيٌّ. وَفِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، لا يُمْكِنُ أَنْ يُشِيرَ هَذَا سِوَى إِلَى الأَسْفَارِ الْمُقدَّسَةِ. وَبِالطَبْعِ، كَانَ تَرْكِيزُ بُولُسَ الرَئِيسِيُّ هُنَا عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، مَعَ أَنَّ اللَفْظَ "جْرَافِي" لا يَسْتَبْعِدُ بِالضَرُورَةِ الْكِتَابَاتِ الَتِي كَانَتْ تَتَكَوَّنُ آنَذَاكَ، أَيِ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ. فَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، تَكَلَّمَ أَحَدُ الرُسُلِ عَنْ كِتَابَاتِ رَسُولٍ آخَرَ، وَضَمَّهَا إِلَى "الْجْرَافِي"، أَيْ بَاقِي الْكُتُبِ: "كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا". إِذًا، حَتَّى الرُسُلُ أَنْفُسُهُمْ أَقَرُّوا بِانْتِمَاءِ كِتَابَاتِ بَعْضِهِمِ بَعْضًا إِلَى "الْجْرَافِي"، أَيِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
الْفِكْرَةُ الَتِي يَطْرَحُهَا بُولُسُ هُنَا هِيَ أَنَّ كُلَّ "الْجْرَافِي" هُوَ "ثِيُوبْنُوسْت" (theopneustos)، فِي الْيُونَانِيَّةِ. تُرْجِمَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى "مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ". صِدْقًا، أَيُّهَا السَيِّدَاتُ وَالسَادَةُ، لا تُعْجِبُنِي هَذِهِ التَرْجَمَةُ. وَلَمْ تُعْجِبْنِي قَطُّ. كَتَبَ الرَاحِلُ بِنْجَامِينُ وَارْفِيلْد مَقَالًا رَائِعًا عَنْ كَلِمَةِ "ثِيُوبْنُوسْت"، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَرْفِيَّ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ هُوَ "اللهُ تَنَفَّسَ".
إِلَيْكُمْ فِكْرَةً أَخِيرَةً، فِي بُطْرُسَ الثَانِيَةِ، الأَصْحَاحِ 1، نَقْرَأُ: "لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ". فَأَصْلُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ هُوَ اللهُ، وَعِنَايَتُهُ، وَفِي هَذَا تَكْمُنُ سُلْطَةُ الْكِتَابِ المُقَدَّسِ.