المحاضرة 21: الكائِنُ الضَّرُورِيُّ

إذا سألت أحد الملحدين كيف نشأ الكون، فالإجابة الأكثر احتمالاً ستكون لها علاقة بنظرية الانفجار العظيم منذ وقت طويل. ومع ذلك، يكشف د. سبرول أن الملحد عليه المزيد من الدور قبل أن يستقر على التفسيرات الطبيعية للوجود، كما يواصل شرحه حول ضرورة وجود الله في هذه المحاضرة بعنوان " الكائن الضروري".

نَعُودُ مُجَدَّدًا إِلَى دِرَاسَتِنَا لِعِلْمِ الدِّفَاعِ عَنْ إِيمَانِنَا، مِنْ خِلالِ عِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ. سَبَقَ أَنْ تَنَاوَلْنَا الْبَدَائِلَ الأَرْبَعَةَ لِتَفْسِيرِ الْوَاقِعِ الَذِي نَرَاهُ. وَتَحَدَّثْنَا أَوَّلاً عَنِ احْتِمَالِيَّةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ وَهْمًا. وَبِالاسْتِعَانَةِ بِحُجَجِ رِينِيه دِيكَارْت بِشَكْلٍ كَبِيرٍ، اسْتَبْعَدْنَا ذَلِكَ الْخِيَارَ. ثُمَّ صَرَفْنَا بَعْضَ الْوَقْتِ فِي تَنَاوُلِ النَّظَرِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْخَلْقِ الذَّاتِيِّ، الَّتِي تَنْهَارُ جَمِيعُهَا مِنْ تِلْقَاءِ ذَاتِهَا، لأَنَّهَا فِي جَوْهَرِهَا غَيْرُ عَقْلانِيَّةٍ وَمُضَادَّةٌ لِلْمَنْطِقِ. فَتَخَلَّصْنَا مِنْهَا. ثُمَّ لاحَظْنَا أَنَّ الْبَدِيلَيْنِ الْمُتَبَقِّيَيْنِ يَتَضَمَّنُ كِلاهُمَا مَفْهُومَ ذَاتِيَّةِ الْوُجُودِ. وَفِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ، أَشَرْتُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا الآنَ، تَصِيرُ فِكْرَةُ وُجُودِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ لَيْسَتْ فَقَطْ مُحْتَمَلَةً، بَلْ ضَرُورِيَّةً مَنْطِقِيًّا. ثُمَّ مَيَّزْتُ بَيْنَ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ مَنْطِقِيًّا وَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَنْطُولُوجِيًّا. وَذَكَرْتُ أَنَّهُ بِغَضِّ النَظَرِ عَنْ مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الشَيْءِ الأَزَلِيِّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، هُوَ لَيْسَ ضَرُورِيًّا مَنْطِقِيًّا فَحَسْبُ، بَلْ ضَرُورِيٌّ أَنْطُولُوجِيًّا أَيْضًا. وَقُلْتُ إِنَّ هَذَا يَتَّفِقُ مَعَ الْفَهْمِ الْيَهُودِيِّ-الْمَسِيحِيِّ لِطَبِيعَةِ اللهِ. لَكِنَّنِي ذَكَرْتُ بِشَكْلٍ عَابِرٍ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُوَافِقُونَ عَلَى ضَرُورَةِ وُجُودِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ وَأَزَلِيٍّ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الشَيْءَ الأَزَلِيَّ ذَاتِيَّ الْوُجُودِ هُوَ الْكَوْنُ وَلَيْسَ اللهَ. وَأَوَدُّ تَنَاوُلَ هَذَا بِإِيجَازٍ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْيَوْمَ.

لَيْسَ هَذَا بِالتَّأْكِيدِ قَانُونًا عِلْمِيًّا، لَكِنَّهُ يَظَلُّ نَظَرِيَّةً. وَنَظَرِيَّاتُ أُصُولِ الْكَوْنِ تَمِيلُ إِلَى الْخُضُوعِ لِتَغَيُّراتٍ، وَأَحْيَانًا إِلَى انْقِلَابَاتٍ ثَوْرِيَّةٍ مِنْ آنٍ لآخَرَ. فَحَتَّى خِلالَ حَيَاتِي، شَهِدْنَا ظُهُورَ نَظَرِيَّةِ الانْفِجَارِ الْكَبِيرِ عَنْ أَصْلِ الْكَوْنِ، الَّتِي لَمْ تَلْقَ قَبُولاً عَلَى الإِطْلاقِ حِينَ كُنْتُ طَالِبًا فِي الْمَرْحَلَةِ الثَّانَوِيَّةِ، لَكِنَّهَا الْيَوْمَ صَارَتْ مَقْبُولَةً إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وُقُوعِ تَغَيُّراتٍ فِي الرَّأْيِ دَاخِلَ الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ بِشَأْنِ مَا يُعْرَفُ بِالانْفِجَارِ الْكَبِيرِ. لَكِنْ بِبَسَاطَةٍ - وَرَجَاءً لا تَرُدُّوا عَلَيَّ بِتَعْرِيفَاتٍ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا لِلنَّظَرِيَّةِ، لأَنَّنِي أُدْرِكُ أَنَّهُ تُوجَدُ تَعْرِيفَاتٌ مُعَقَّدَةٌ لَهَا. بِبَسَاطَةٍ، مَا نَسْمَعُهُ عَادَةً، عِنْدَ وَصْفِ الانْفِجَارِ الْكَبِيرِ، هُوَ أَنَّهُ فِي وَقْتٍ مَا فِي الْمَاضِي - مُنْذُ نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِلْيَارَ سَنَةٍ، بِإِضَافَةِ أَوْ طَرْحِ بَعْضِ مِلْيَارَاتِ السَنَواتِ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كُلُّ مَا كَانَ مَوْجُودًا هُوَ مَا وَصَفَهُ الْبَعْضُ بِأَنَّهُ "نُقْطَةُ تَفَرُّدٍ". تَضَمَّنَتْ نُقْطَةُ التَفَرُّدِ هَذِهِ، فِي حَالَةٍ مَضْغُوطَةٍ، كُلَّ الْمَادَّةِ وَالطَّاقَةِ الَّتِي رُبَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَوْنِ حَالِيًّا. فَإِنَّ كَافَّةَ مُحْتَوَيَاتِ الْوَاقِعِ، عَلَى الأَقَلِّ فِي شَكْلِهَا الْبِدَائِيِّ، ضُغِطَتْ دَاخِلَ نُقْطَةِ التَّفَرُّدِ مُتَنَاهِيَةِ الصِّغَرِ هَذِهِ، الَتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً مُنْذُ الأَزَلِ فِي حَالَةٍ مُنَظَّمَةٍ، أَيْ إِنَّهَا كَانَتْ مَضْغُوطَةً فِي ثَبَاتٍ، وَنِظَامٍ، وَاسْتِقْرَارٍ. ثُمَّ فِي مَرْحَلَةٍ مَا، مُنْذُ نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِلْيَارَ سَنَةٍ، نُقْطَةُ التَفَرُّدِ هَذِهِ، لأَسْبَابٍ مَجْهُولَةٍ لَدَيْنَا، تَفَجَّرَتْ. وَمِنْ هَذَا الانْفِجَارِ، دُمِجَتْ بَعْضُ الْغَازَاتِ وَالْعَنَاصِرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَعًا، مُكَوِّنَةً غَازَاتٍ أُخْرَى، وَمُكَوِّنَةً الْكَوْنَ الْمَادِّيَّ الَذِي نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ.

حَاوَلَ الْبَعْضُ تَتَبُّعَ أَصْلِ الْكَوْنِ رُجُوعًا إِلَى آخِرِ نَانُو ثَانِيَةٍ مِنَ الْوُجُودِ بَعْدَ الانْفِجَارِ مُبَاشَرَةً. وَمُجَدَّدًا، تُفِيدُ النَظَرِيَّةُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ الآنَ يَتَحَرَّكُ مِنْ حَالَةِ التَنْظِيمِ إِلَى الْفَوْضَى أَوِ التَوَازُنِ، كَمَا حِينَ يَتَفَجَّرُ شَيْءٌ، فَتَبْتَعِدُ الأَشْيَاءُ عَنِ الْمَرْكَزِ، أَيْ تَتَحَرَّكُ مِنْ نُقْطَةِ الضَّغْطِ أَوِ التَكَثُّفِ، إِلَى حَالَةٍ مِنَ الْفَوْضَى الْمُتَوَازِنَةِ. لِهَذَا يَقُولُ النَاسُ إِنَّ الْكَوْنَ آخِذٌ فِي الانْهِيَارِ، وَفِي مَرْحَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، سَنَتَفَجَّرُ إِلَى الدَّاخِلِ لِنَتَحَوَّلَ إِلَى ثَقْبٍ أَسْوَدَ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.

إِذَنْ، الْفِكْرَةُ هُنَا مَفَادُهَا أَنَّهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مَوْجُودًا فِي حَالَةٍ مُنَظَّمَةٍ. لَكِنِ الآنَ، تُبَيِّنُ قَوَانِينُ الدِينَامِيكَا الْحَرَارِيَّةِ الأَسَاسِيَّةُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُتَّجِهٌ صَوْبَ حَالَةٍ مِنَ الْفَوْضَى. يُثِيرُ ذَلِكَ شَتَّى أَنْوَاعِ الأَسْئِلَةِ. السُّؤَالُ الأَوَّلُ هُوَ: إِذَا كَانَتِ الطَّبِيعَةُ مُتَّجِهَةً بِطَبِيعَتِهَا صَوْبَ الْفَوْضَى، فَكَيْفَ أَصْبَحَتْ مُنَظَّمَةً مِنَ الأَسَاسِ؟ وَسَيَلْزَمُنَا الْقَوْلُ إِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُتَّجِهَةً صَوْبَ الْفَوْضَى، فَهِيَ تَتَحَرَّكُ إِذَنْ مِنْ حَالَةٍ مُنَظَّمَةٍ، كَانَتْ هِيَ حَالَتَهَا الأَصْلِيَّةَ، الأَمْرُ الَّذِي يَفْتَرِضُهُ الانْفِجَارُ الْكَبِيرُ.

ثُمَّ بِالتَّأْكِيدِ، الْقَانُونُ الآخَرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نُصَارِعَ مَعَهُ هُوَ الْقَانُونُ الْبَسِيطُ وَالأَسَاسِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقُصُورِ الذَّاتِيِّ. وَقَانُونُ الْقُصُورِ الذَّاتِيِّ يُعَلِّمُ بِأَنَّ الأَشْيَاءَ الْمُتَحَرِّكَةَ تَمِيلُ إِلَى الْبَقَاءِ مُتَحَرِّكَةً مَا لَمْ تُمَارَسْ عَلَيْهَا قُوَّةٌ خَارِجِيَّةٌ. وَالأَشْيَاءُ السَّاكِنَةُ تَمِيلُ إِلَى الْبَقَاءِ سَاكِنَةً مَا لَمْ تُمَارَسْ عَلَيْهَا قُوَّةٌ خَارِجِيَّةٌ. وَقَانُونُ الْقُصُورِ الذَّاتِيِّ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ لُعْبَةَ الْجُولْفِ، مَثَلًا، شَدِيدَةَ الصُّعُوبَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُهَا مُمْكِنَةً. فَهُوَ يَزِيدُ مِنْ صُعُوبَتِهَا لأَنَّ لاعِبِي الْجُولْفِ - أَيِّ لاعِبِ جُولْف - يُرِيدُونَ دَائِمًا أَنْ يَكْتَشِفُوا كَيْفَ يُمْكِنُهُمْ ضَرْبُ الْكُرَةِ إِلَى مَسَافَةٍ أَبْعَدَ مِمَّا يُمْكِنُهُمْ حَالِيًّا. فَإِذَا أَمْكَنَهُمْ ضَرْبُها لِمَسَافَةِ مِئَتَيْ يَارِدَةٍ مِنَ الْمُرْتَفَعِ الْخَشَبِيِّ، سَيَرْغَبُونَ فِي ضَرْبِهَا لِمَسَافَةِ مِئَتَيْنِ وَعِشْرِيَن. وإذا ضَرَبُوهَا لِمَسَافَةِ مِئَتَيْنِ وَعِشْرِيَن، سَيَرْغَبُونَ فِي ضَرْبِها لِمَسَافَةِ مِئَتَيْنِ وَخمسيَن. وَإِذَا ضَرَبُوهَا لِمَسَافَةِ مِئَتَيْنِ وَخمسيَن، سَيَرْغَبُونَ فِي ضَرْبِهَا لِمَسَافَةِ ثَلاثِمَائَةٍ.

مَا يَحْدُثُ هُوَ أَنَّ الْكُرَةَ تَبْدَأُ سَاكِنَةً، فَوْقَ الْمُرْتَفَعِ الْخَشَبِيِّ، وَلاعِبَ الْجُولْفِ نَفْسَهُ يَكُونُ سَاكِنًا. ثُمَّ يَتَّجِهُ نَحْوَ الْكُرَةِ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ هُوَ مُخَاطَبَةُ الْكُرَةِ، قَائِلًا: "صَبَاحُ الْخَيْرِ أَيَّتُهَا الْكُرَةُ". ثُمَّ يَلْتَقِطُ الْمَضْرَبَ وَيُلَوِّحُ بِهِ. ثُمَّ يُحَرِّكُ الْمَضْرَبَ، فَيَتَحَرَّكُ الْمَضْرَبُ. ثُمَّ يَضْرِبُ الشَّيْءُ الْمُتَحَرِّكُ، الشَّيْءَ السَّاكِنَ، وَيَدْفَعُهُ عَبْرَ الْمَرْجِ. لَكِنْ بَيْنَمَا تَتَحَرَّكُ الْكُرَةُ، تَلْقَى مُقَاوَمَةً مِنْ قُوًى خَارِجِيَّةٍ، مِثْلِ كَثَافَةِ الْغِلافِ الْجَوِّيِّ، وَاحْتِكَاكِ الْهَوَاءِ. ثُمَّ حِينَ تَهْبُطُ أَرْضًا، لا تَظَلُّ تَتَدَحْرَجُ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّ احْتِكَاكَ الأَرْضِ بِهَا يُعِيقُ تَقَدُّمَهَا. ثُمَّ أَخِيرًا، تَعُودُ الْكُرَةُ مُجَدَّدًا إِلَى السُّكُونِ.

لِحُسْنِ الْحَظِّ، تُقَاوِمُ هَذِهِ الْقُوَى الْخَارِجِيَّةُ جُهُودَنَا لِلْحِفَاظِ عَلَى الْكُرَةِ فِي حَالَةِ حَرَكَةٍ. لأَنَّهُ إِذَا لَمْ تُوجَدْ قُوًى خَارِجِيَّةٌ، وَحَرَّكْنَا كُرَةَ الْجُولْفِ، سَتَظَلُّ تَتَحَرَّكُ إِلَى الأَبَدِ، فَتَفْسُدُ اللُّعْبَةُ، لأَنَّنَا سَنَفْقِدُ الْكُرَةَ، وَيُصْبِحُ تَسْجِيلُ هَدَفٍ مُسْتَحِيلًا. إِذَنْ، هَذِهِ الْقُوَى الْخَارِجِيَّةُ، مَعَ أَنَّهَا تُحْبِطُ جُهُودَنَا لِضَرْبِ الْكُرَةِ لِمَسَافَةٍ أَبْعَدَ، لَكِنْ لأَنَّهَا تُحْبِطُ جُهُودَنَا بِدَرَجَةٍ مَحْدُودَةٍ، تَصِيرُ اللُّعْبَةُ مُمْكِنَةً.

الْفِكْرَةُ، مُجَدَّدًا، هِيَ أَنَّ الأَشْيَاءَ السَّاكِنَةَ تَمِيلُ إِلَى أَنْ تَظَلَّ سَاكِنَةً، مَا لَمْ تُمَارَسْ عَلَيْها قُوَّةٌ خَارِجِيَّةٌ. وَمَا أَنْ تَبْدَأُ فِي التَحَرُّكِ، سَتَظَلُّ تَتَحَرَّكُ مَا لَمْ تُقَاوِمْ حَرَكَتَهَا قُوَّةٌ خَارِجِيَّةٌ أُخْرَى. وَالسُّؤَالُ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الانْفِجَارِ الْكَبِيرِ هُوَ: "مَا الَّذِي سَبَّبَ الانْفِجَارَ؟" سَمِعْتُ الْكَثِيرِينَ يَقُولُونَ إِنَّه لا دَاعِي أَنْ نُجِيبَ عَنْ هَذَا السُؤَالِ، لأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ نِطَاقَ الْعِلْمِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ مَجَالِ الْفَلْسَفَةِ أَوِ اللاهُوتِ أَوِ الدِّينِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. أُجِيبُ قَائِلًا: "مَهْلًا! حِينَ تَرْغَبُ فِي تَقْدِيمِ تَفْسِيرٍ لِلْوَاقِعِ، فَتُعَلِّقُ كُلَّ آمالِكَ عَلَى مَفْهُومِ الانْفِجَارِ الْكَبِيرِ، لِمَ تَرْفُضُ الإِجَابَةَ إِذَنْ عَنِ سُؤَالِ "مَا الَّذِي سَبَّبَ الانْفِجَارَ الْكَبِيرَ؟" فَالنَّظَرِيَّةُ الْعِلْمِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا مَعْنِيَّةٌ بِالسَّبَبِيَّةِ. وَأَهَمُّ سُؤَالٍ فِي السَّبَبِيَّةِ هُوَ: "مَا الَّذِي سَبَّبَ الانْفِجَارَ الْكَبِيرَ؟" وَإِنَّهُ لَتَهرُّبٌ أَكَادِيمِيٌّ وَفِكْرِيٌّ أَنْ تَقُولَ: "لَنْ أَتَطَرَّقَ إِلَى ذَلِكَ". فَإِذَا أَرَدْتَ تَبَنِّي هَذِهِ الْفَرَضِيَّةِ لِتَفْسِيرِ أَصْلِ كُلِّ شَيْءٍ، يَجِبُ أَنْ تَجِيبَ عَنِ السُؤَالِ التَالِي: مَا هَذِهِ الْقُوَّةُ الْخَارِجِيَّةُ الَّتِي سَبَّبَتْ هَذَا التَغَيُّرَ الضَخْمَ فِي نُقْطَةِ التَفَرُّدِ الصَّغِيرَةِ، وَسَبَّبَتْ تَحَرُّكَ الأَشْيَاءِ، وَتَغيُّرَ الْوَاقِعِ مِنَ النِّظَامِ إِلَى الْفَوْضَى؟

لَدَى الْمَسِيحِيَّةِ الْكِتَابِيَّةِ جَوَابٌ جَاهِزٌ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. فَهَذَا تَحْدِيدًا مَا تَتَضَمَّنُهُ عَقِيدَةُ الْخَلْقِ: أَنَّهُ يُوجَدُ كَائِنٌ أَزَلِيٌّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ، وَقَادِرٌ أَنْ يُحَرِّكَ مَا لا يَتَحَرَّكُ. هَذَا مَا فَهِمَهُ أَرِسْطُو قَدِيمًا، حِينَ أَشَارَ إِلَى "الْمُحَرِّكِ الَّذِي لا يُحَرِّكُهُ شَيْءٌ". فَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَصْلٍ لِلْحَرَكَةِ. وَمَا يُمَثِّلُ أَصْلَ الْحَرَكَةِ يَجِبُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي ذَاتِهِ بِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ، تَمَامًا كَمَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي ذَاتِهِ بِقُوَّةِ الْوُجُودِ. وَلِهَذَا نَنْسُبُ تِلْكَ الصِفَاتِ إِلَى اللهِ.

لَكِنَّنَا، مُجَدَّدًا، قُمْنَا بِالرَّدِّ عَلَى هَذَا الاعْتِرَاضِ بِاخْتِصَارٍ. لَكِنْ مَاذَا عَنِ الْفِكْرَةِ الْقَائِلَةِ إِنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الْمَضْغُوطَةَ فِي نُقْطَةِ التَفَرُّدِ - بِحَسَبِ نَظَرِيَّةِ الانْفِجَارِ الْكَبِيرِ - هِيَ نَفْسُهَا الْكَائِنُ الأَزَلِيُّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ؟ هَذا مَا يُفْتَرَضُ بِالْفِعْلِ فِي مَذْهَبِ الْمَادِّيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَوْنَ نَفْسَهُ لا يَبْلُغُ عُمْرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِلْيَارِ سَنَةٍ، بَلِ الْحَرَكَةُ الْحَالِيَّةُ لِلْكَوْنِ هِيَ الَّتِي تَعُودُ إِلَى هَذَا الزَّمَنِ. أَمَّا عَنَاصِرُ أَوْ مُحْتَوَياتُ الْوَاقِعِ، فَأَزَلِيَّةٌ. وَهُنَا أَسْأَلُ: "مَا الشَّيْءُ الأَزَلِيُّ فِي الْكَوْنِ؟ أَهُوَ هَذِهِ الطَبْشُورَةُ بِشَكْلِهَا الْمُمَيَّزِ؟ أَمْ مَفَاتِيحُ سَيَّارَتِي بِشَكْلِهَا الْمُمَيَّزِ؟ أَمِ الشَمْسُ بِشَكْلِهَا الْمُمَيَّزِ؟ أَمْ أَنَا الإِنْسَانُ بِشَكْلِي الْمُمَيَّزِ؟" بِالطَّبْعِ، يُجِيبُ مُؤَيِّدُو الْمَادِّيَّةِ قَائِلِينَ: "لا تَكُنْ سَخِيفًا. أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَشْيَاءٌ مَصْنُوعَةٌ، وُجِدَتْ وَلَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلًا. لَسْنَا نَقُولُ إِنَّ الشَمْسَ أَزَلِيَّةٌ، أَوْ إِنَّكَ أَزَلِيٌّ، أَوْ إِنَّ الطَبْشُورَ أَزَلِيٌّ، أَوْ إِنَّ مَفَاتِيحَ السَّيَّارَةِ أَزَلِيَّةٌ. نَعْلَمُ ذَلِكَ. وَنَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ، السِّمَةُ الرَّئِيسِيَّةُ لِلْمَادَّةِ هِيَ قَابِلِيَّتُهَا لِلتَغيُّرِ - أَيْ إِنَّهَا تَتَغَيَّرُ، مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَلَيْسَتْ ثَابِتَةً إِلَى الأَبَدِ. وَبِالتَّالِي، هِيَ قَيْدُ التَغَيُّرِ، وَفِي حَالَةِ صَيْرُورَةٍ، وَلَيْسَ فِي حَالَةِ وُجُودٍ بَحْتٍ". إِذَنْ، كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ نَجِدُهُ يَتَغَيَّرُ، وَنَجِدُهُ مَنُوطًا بِشَيْءٍ آخَرَ، أَيِ اعْتِمَادِيًّا أَوْ مُشْتَقًّا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَوْهَرَ الأَسَاسِيَّ لِوُجُودِ الْكَوْنِ، الَذِي نَصِفُهُ بِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ".

لَكِنْ إِلَيْكُمْ مَا سَيَقُولُهُ مُؤَيِّدُو الْمَادِّيَّةِ. سَيَقُولُونَ: "نُقِرُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُمْحَاةَ أَوْ هَذِهِ الطَبْشُورَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْحَقِيقَةَ الأَزَلِيَّةَ ذَاتِيَّةَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهَا مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَنَاصِرَ وَلَّدَهَا شَيْءٌ أَزَلِيٌّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ. لَكِنَّ ذَلِكَ الشَيْءَ الأَزَلِيَّ ذَاتِيَّ الْوُجُودِ - عَلَى عَكْسِ مَا تَقُولُونَهُ أَيُّهَا الْمُتَديِّنُونَ - لَيْسَ مُتَسَامِيًا بَلْ قَرِيبٌ". فَلَسْنَا مُضْطَرِّينَ لِلاحْتِكَامِ إِلَى شَيْءٍ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لِتَفْسِيرِ وُجُودِ الْعَالَمِ - وَأَقْصِدُ بِالْعَالَمِ الْكَوْنَ. تُعَلِّمُ الْمَسِيحِيَّةُ، وَالْيَهُودِيَّةُ، وَالإِسْلامُ بِأَنَّهُ خَارِجَ مَجَالِ الْكَوْنِ الْمَخْلُوقِ، يُوجَدُ هَذَا الْكَائِنُ الأَزَلِيُّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ الَّذِي نُسَمِّيهِ اللهَ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهِ تَحْيَا الأَشْيَاءُ وَتَتَحَرَّكُ وَتُوجَدُ. وَلِهَذَا نَقُولُ إِنَّ إِحْدَى السِّمَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ للهِ هِيَ أَنَّهُ يَسْمُو فَوْقَ الْكَوْنِ.

هُنَا يَأْتِي مُؤَيِّدُ الْمَادِّيَّةِ قَائِلًا: "أَجَلْ، أُدْرِكُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ وَأَزَلِيٍّ، يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ فِي ذَاتِهِ. لا أَوَدُّ الانْحِدَارَ - كَمَا يَفْعَلُ الْكَثِيرُ مِنْ زُمَلَائِي - إِلَى فِكْرَةِ الْخَلْقِ الذَّاتِيِّ. فَإِنَّنِي أُقِرُّ بِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ. إِذَنْ، لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. لَكِنَّنِي لَنْ أُقِرَّ، أَيُّهَا الْمَسِيحِيُّونَ، بِأَنَّ هَذَا الشَيْءَ الأَزَلِيَّ ذَاتِيَّ الْوُجُودِ هُوَ اللهُ، أَيْ بِأَنَّهُ كَائِنٌ مُتَسَامٍ. لَكِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ. فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ، أَوِ الْمَجْمُوعُ الْكُلِّيُّ لِلْكَوْنِ". لَكِنْ هَلْ يَشْمَلُ الْمَجْمُوعُ الْكُلِّيُّ لِلْكَوْنِ هَذِهِ الطَبْشُورَةَ؟ أَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ؟ إِذَا ذَكَرْنَا الْمَجْمُوعَ الْكُلِّيَّ لِلْكَوْنِ، سَيَتَحَتَّمُ عَلَيْنَا إِدْرَاجُ هَذِهِ الطَبْشُورَةِ. وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الطَبْشُورَةَ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةَ الْوُجُودِ أَوْ أَزَلِيَّةً، لأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّحَلُّلِ. فَيُمْكِنُنِي كَسْرُهَا إِلَى نِصْفَيْنِ، أَوْ تَقْلِيلُ حَجْمِهَا، أَوْ تَغْيِيرُهَا. فَهِيَ تَمُرُّ بِعَمَلِيَّةٍ. سَتَقُولُ لِي: "صَحِيحٌ أَنَّ وُجُودَهَا الْخَاصَّ وَالْمُمَيَّزَ، حَالِيًّا، مَشْرُوطٌ، لَكِنْ بِشَكْلٍ مَا، تَكْمُنُ وَرَاءَهُ قُوَّةٌ نَابِضَةٌ كَوْنِيَّةٌ أَوْ أَسْاسِيَّةٌ، هِيَ سَبَبُ وُجُودِ كُلِّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ". وَهَذَا الْجَوْهَرُ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَرْكَزُ النَّابِضُ لِلْكَوْنِ، الَّذِي لَمْ يُكْتَشَفْ بَعْدُ، هُوَ الشَّيْءُ الأَزَلِيُّ وَذَاتِيُّ الْوُجُودِ. هَذَا هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يُفَسِّرُ انْفِجَارَ نُقْطَةِ التَّفَرُّدِ. وَكُلُّ قُوَّةِ الْوُجُودِ مَضْغُوطَةٌ فِي هَذِهِ النُقْطَةِ الصَغِيرَةِ. ثُمَّ لاحِقًا، تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ آخَرَ، مِنْ خِلالِ الْقُوَّةِ النَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْمَرْكَزِ النَّابِضِ.

لاحِظُوا أَنَّنِي اسْتَخْدَمْتُ هُنَا كَلِمَةَ "تَكَوَّنَ". هَذَا صَحِيحٌ. فَأَوَّلُ سِفْرٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يُدْعَى سِفْرُ التَّكْوِينِ، مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "جِينَاوُو"، وَمَعْنَاهَا "يَكَوِّنُ"، أَوْ "يَصِيرُ" أَوْ "يَحْدُثُ". فَإِيجَادُ الشَّيْءِ يَعْنِي تَكْوِينَهُ، أَوِ التَسَبُّبَ فِي وُجُودِهِ. إِذَنْ، هَذِهِ النُقْطَةُ الْمُنْعَزِلَةُ، وَالْخَفِيَّةُ، وَالْمَجْهُولَةُ فِي الْكَوْنِ، هِيَ الْجَوْهَرُ النَابِضُ لِكُلِّ الْوَاقِعِ، الَّذِي يُكَوِّنُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْبِدَايَةِ. إِذَنْ، لا وُجُودَ لإِلَهٍ يَعِيشُ خَارِجَ الْكَوْنِ، وَيَسْمُو فَوْقَهُ، بَلْ إِنَّ قُوَّةَ التَكْوِينِ الأَزَلِيَّةَ وَذَاتِيَّةَ الْوُجُودِ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ نَفْسِهِ.

هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْحُلُولِيُّ الشَّائِعُ جِدًّا الْيَوْمَ فِي بَعْضِ أَوْسَاطِ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَالَّذِي يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ قُوَّةٍ أَزَلِيَّةٍ ذَاتِيَّةِ الْوُجُودِ، دُونَهَا لا يُمْكِنُ لِشَيْءٍ أَنْ يُوجَدَ. لَكِنْ لِمَ نَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَارِجَ الْكَوْنِ؟ هَذَا هُوَ الاعْتِرَاضُ. فَلِمَ نَقُولُ إِنَّهَا يَجِبُ أَنْ تَسْمُوَ فَوْقَ الْكَوْنِ؟ لِمَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جُزْءًا مِنَ الْكَوْنِ نَفْسِهِ؟ وَرَدِّي عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جُزْءًا مِنَ الْكَوْنِ، بِحَسَبِ تَعْرِيفِكُمْ لِلْكَوْنِ. فَإِذَا كُنْتُمْ تَقْصِدُونَ بِالْكَوْنِ "كُلَّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ"، وَإِذَا كَانَ اللهُ مَوْجُودًا، فَيُمْكِنُ إِدْرَاجُهُ ضِمْنَ "الْكَوْنِ"، لأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ. وَإِذَا كُنْتُمْ تَقْصِدُون بِالْكَوْنِ الْكَوْنَ الْمَخْلُوقَ، فَلا يُمْكِنُ قَطْعًا إِدْراجُ اللهِ ضِمْنَ "الْكَوْنِ"، بَلْ يَنْبَغِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ اللهِ وَالْكَوْنِ. وَنَحْنُ نُمَيِّزُ اللهَ فِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ بِكَوْنِهِ يَتَسَامَى فَوْقَ الْكَوْنِ. لَكِنَّ مَا نَقْصِدُهُ - مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ تَفْهَمُوا ذَلِكَ - مَا نَقْصِدُهُ بِالتَّسَامِي لَيْسَ وَصْفًا لِمَكَانِ اللهِ. فَالتَسَامِي لَيْسَ لَفْظًا جُغْرَافِيًّا. فَلَسْنَا نَقْصِدُ أَنَّ اللهَ مُتَسامٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْكُنُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، شَرْقَ الشَّمْسِ وَغَرْبَ الْقَمَرِ. بَلِ الْمَقْصُودُ بِالتَسَامِي، فِي الْفَلْسَفَةِ وَاللَاهُوتِ، هُوَ أَنَّهُ فِي رُتْبَةٍ وُجُودِيَّةٍ أَعْلَى. فَلَيْسَ التَسَامِي لَفْظًا جُغْرَافِيًّا، يَا أَحِبَّائِي، لَكِنَّهُ لَفْظٌ وُجُودِيٌّ.

فَحِينَ نَقُولُ إِنَّ اللهَ مُتَسَامٍ، نَقْصِدُ بِبَسَاطَةٍ أَنَّهُ فِي رُتْبَةٍ وُجُودِيَّةٍ أَعْلَى مِنَّا. فَهُوَ أَسْمَى وُجُودِيًّا مِنْ هَذِهِ الطَبْشُورَةِ، وَأَسْمَى وُجُودِيًّا مِنَ الشَّمْسِ، وَأَسْمَى وُجُودِيًّا مِنَ الطَّاقَةِ النَّقِيَّةِ. فَإِنَّنَا نَقْصِدُ بِالتَّسَامِي أَنَّ اللهَ أَسْمَى وُجُودِيًّا. وَلَيْسَ مَوْضِعَ سُكْنَاهُ.

وَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ تُوجَدُ نُقْطَةٌ أَوْ جَوْهَرٌ نَابِضٌ مَجْهُولٌ، وَغَيْرُ مَنْظُورٍ، وَغَيْرُ مَحْدُودٍ، دَاخِلَ حُدُودِ الْكَوْنِ، هُوَ أَزَلِيٌّ وَذَاتِيُّ الْوُجُودِ، تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ آخَرَ مِنْهُ، فَإِنَّكُمْ تَقْصِدُونَ أَنَّهُ يُوجَدُ شَيْءٌ هُنَا يَسْمُو فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ آخَرَ هُنَا، لأَنَّنَا يَنْبَغِي أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ هَذَا الْكَائِنِ، وَكُلِّ الأَشْيَاءِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْهُ، وَالْمُعْتَمِدَةِ عَلَيْهِ، وَالْمَنُوطَةِ بِهِ، الَّتِي تَكَوَّنَتْ بِهِ وَمِنْهُ. وَكُلُّ مَا نَتَجَادَلُ بِشَأْنِهِ الآنَ هُوَ اسْمُهُ، إِنْ كَانَ "س" أَوْ "يَهْوَه". لَكِنْ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ التَّسْمِيَةِ، نَحْنُ مُضْطَرُّونَ لِلاعْتِرَافِ بِوُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، مِنْ كَيْنُونَتِهِ وَقُوَّتِهِ جَاءَ كُلُّ شَيْءٍ.

يَعْتَرِضُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى هَذِهِ الْفِكْرَةِ وَيَقُولُونَ: "حَسَنًا، نَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْفَلْسَفَةَ وَالْمَنْطِقَ يُثْبِتَانِ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. لَكِنْ كَيْفَ نُثْبِتُ مِنْ ذَلِكَ وُجُودَ إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ؟ فَحَتَّى الآنَ، كُلُّ مَا لَدَيْنَا هُوَ "الْمُحَرِّكُ الَّذِي لا يُحَرِّكُهُ شَيْءٌ"، الَّذِي ذَكَرَهُ أَرِسْطُو. وَكُلُّ مَا لَدَيْنَا حَتَّى الآنَ هُوَ فِكْرَةٌ نَظَرِيَّةٌ عَنْ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. لَكِنَّنَا لَمْ نَصِلْ بَعْدُ إِلَى إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَيُطْرَحُ السُؤَالُ الْمَشْرُوعُ التَالِي: مَا الصِلَةُ بَيْنَ إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَإِلَهِ الْفَلاسِفَةِ؟

تَعْلَمُونَ أَنَّ غَالِبِيَّةَ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الْمُحَاضَرَاتِ الْكَثِيرَةِ السَّابِقَةِ عَنْ وُجُودِ اللهِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَلْسَفَةِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْكِتَابِيِّ. أُقِرُّ بِذَلِكَ. وَلِذَلِكَ، أَنَا مُلْزَمٌ أَمَامَ الْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ أَنْ أَتَنَاوَلَ فِي الْمُحَاضَرَةِ الْقَادِمَةِ الْعَلاقَةَ بَيْنَ إِلَهِ الْفَلاسِفَةِ وَإِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.