المحاضرة 2: الغرضُ مِنَ الدِفَاعِيَّاتِ
هل من الضروري أن تدافع عن إيمانك؟ تخبرنا 1 بطرس 3: 15 أنه ضروري. لكن هل الدفاع عن الإيمان مسألة إعطاء أدلة تاريخية ومن الحفريات لصدق وصحة الكتاب المقدس، أم تقديم حجج عقلانية باستخدام أدوات الفلسفة؟ لنفترض أنك أعدت كل أدلتك وحججك، فهل ستنجح حقًا مع غير المؤمنين؟ ينظر د. سبرول إلى الدفاعيات المسيحية وهو يساعدنا على فهم كيفية تحقيق التكليف الموجود في 1 بطرس.
نُتَابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنا لِعِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ. فِي الْمُحَاضَرَةِ الأُولَى، رَأَيْنَا أَنَّ الْمُصْطَلَحَ "apologetics" أَيْ عِلْمَ الدِفَاعِيَّاتِ، يَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "apologia". نَجِدُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، حَيْثُ حَثَّ الرَسُولُ بُطْرُسُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا دَائِمًا لِلْمُجَاوَبَةِ عَنْ سَبَبِ الرَجَاءِ الَذِي فِيهِ. وَأَشَرْتُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْكَنِيسَةِ الأُولَى تَعَلَّقَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ بِالرَدِّ عَلَى النُقَّادِ الَذِينَ يُقَدِّمُونَ تَقَارِيرَ خَاطِئَةً عَنِ السُلُوكِ الْفِعْلِيِّ لِلْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ وَمُعْتَقَداتِهِ دَاخِلَ الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ الرُومَانِيَّةِ. لَكِنَّنِي ذَكَرْتُ أَيْضًا أَنَّ آباءَ الْكَنِيسَةِ الأُولَى مِنَ الْمُفَكِّرِينَ خَاضُوا نِزَاعًا مَعَ فَلاسِفَةِ الإِمْبْراطُورِيَّةِ الهِلِّينِسْتِيَّةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْجِدَالاتِ الْفَلْسَفِيَّةَ سَاهَمَتْ فِي صِيَاغَةِ الْكَنِيسَةِ لِعِلْمِ دِفَاعِيَّاتٍ مُتَكَامِلٍ. أَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَنِيسَةَ مَارَسَتِ الدِفَاعِيَّاتِ مِنْ خِلالِ أَنَّهُ كُلَّمَا أَبْدَى أَحَدُهُمْ أَيَّ اعْتِرَاضٍ، وَجَبَ الرَدُّ عَلَيْهِ بِالتَفْصِيلِ.
أَتَذَكَّرُ أَنِّي ذَهَبْتُ مُنْذُ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ إِلَى الْجَامِعَةِ مَعَ جُون جِيسِت، الْكَارِزِ الْبَرِيطَانِيِّ. كَانَ جُون فِي مُهِمَّةٍ كِرَازِيَّةٍ بِالْجَامِعَةِ، وَكُنْتُ بِرِفْقَتِهِ. وَكُنْتُ بِجِوَارِ جُون حِينَ بَدَأَ وَاحِدٌ مِنْ أَكْثَرِ الطُلَّابِ عَقْلانِيَّةً يَطْرَحُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةً وَاعْتِراضَاتٍ حَوْلَ مِصْدَاقِيَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ. وَفِي صَبْرٍ، ابْتَدَأَ جُون يُجِيبُ عَنْ أَسْئِلَةِ هَذَا الطَالِبِ، سُؤَالًا تِلْوَ الآخَرَ. وَبَعْدَمَا أَجَابَ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ سُؤالًا، وَانْتَقَلَ الشَابُّ إِلَى السُؤَالِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، قَاطَعْتُهُ قَائِلاً: "مَهْلاً". فَقالَ: "مَا الأَمْرُ؟" أَجَبْتُهُ: "لَقَدْ أَجَابَكَ لِتوِّهِ عَلَى عِشْرِينَ اعْتِراضًا بِطَرِيقَةٍ مُقْنِعَةٍ، لَكِنْ بِمُجَرَّدِ رَدِّهِ عَلَى سُؤالٍ تُسَارِعُ إِلَى طَرْحِ السُؤَالِ التَالِي. إِلَى مَتَى سَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ؟ أَشْعُرُ بِشَكْلٍ مَا أَنَّكَ مُتَحَيِّزٌ ضِدَّ الْمَسِيحِيَّةِ، وَبِأَنَّكَ فَقَطْ تُرِيدُ الْمُجَادَلَةَ حَوْلَهَا طَوَالَ الْيَوْمِ، بِغَضِّ النَظَرِ عَنْ جَوْدَةِ الرُدُودِ". أَوْقَفَهُ ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّهِ. أَوَدُّ الْقَوْلَ إِنَّ هَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُنَا، لأَنَّهُ مَهْمَا كانَ عَدَدُ الاعْتِرَاضَاتِ، يَجِبُ الرَدُّ عَلَيْهَا حَتَّى النِهايَةِ. وَالنَاسُ يُبْدُونَ اعْتِراضَاتٍ بِالْفِعْلِ.
لَكِنْ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، هُنَاكَ مَا أُسَمِّيهِ بِالْمُهِمَّةِ الإِيجَابِيَّةِ لِعِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ، حَيْثُ تُصِيغُ الْفَلْسَفَةُ الْمَسِيحِيَّةُ دِفَاعًا فَلْسَفِيًّا كَامِلًا عَنْ مِصْدَاقِيَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ، يُمْكِنُ تَطْبِيقُهُ عَلَى كُلِّ ثَقَافَةٍ، وَفِي كُلِّ بِيئَةٍ لاهُوتِيَّةٍ أَوْ فَلْسَفِيَّةٍ تُوجَدُ فِيهَا الْكَنِيسَةُ. إِذَنْ، مِنْ هَذِهِ النَاحِيَةِ، يَتَّخِذُ الدِفَاعِيُّ وَضْعَ الهُجُومِ، وَيُصِيغُ حُجَّةً تُؤيِّد الْمَسِيحِيَّةَ.
رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ. فَقَدْ رَأَيْنَا الدِفَاعِيِّينَ يُدَافِعُونَ وَيُهَاجِمُونَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءَ، مُجِيبِينَ اعْتِرَاضَاتِ النَاسِ، وَفِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، مُقَدِّمِينَ أَدِلَّتَهُمْ الْمُؤَيِّدَةَ لِلْحَقِّ. وَاتُّبِعَتْ مَنْهَجِيَّاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لِتَناوُلِ عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ. وَاخْتَلَفَ الْمَسِيحِيُّونَ مَعًا عَبْرَ التَارِيخِ حَوْلَ تَحْدِيدِ أَفْضَلِ مَنْهَجِيَّةٍ أَوِ اسْتْرَاتِيجِيَّةٍ لِلدِفَاعِ عَنِ الْمَسِيحِيَّةِ.
شَارَكْتُ مُؤَخَّرًا فِي بَرْنَامَجٍ إِذَاعِيٍّ مَعَ لاهُوتِيٍّ لُوثَرِيٍّ. وَمِنَ الأُمُورِ الَتِي نَاقْشَنَاهَا هُوَ تَحْدِيدُ نُقْطَةِ الانْطِلاقِ فِي عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ. وَقَطْعًا، كَانَ رَأْيِي دَائِمًا هُوَ أَنَّ نُقْطَةَ الانْطِلاقِ فِي الدِفَاعِيَّاتِ الْمَسِيحِيَّةِ هِيَ إِثْبَاتُ وُجُودِ اللهِ. فَإِنِ اسْتَطَعْتُ إِثْبَاتَ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَايَةِ، يَصِيرُ الْبَاقِي سَهْلًا. وَالْمَنْهَجِيَّةُ الَتِي أَتَّبِعُهَا لإِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ - كَمَا سَنَرَى فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ- هِيَ اسْتِخْدَامُ الْحُجَجِ الْعَقْلانِيَّةِ. لَكِنَّ صَدِيقِي اللُوثَرِيَّ قَالَ: "كَلَّا، كَلَّا؛ بَلْ أَفْضَلُ وَسِيلَةٍ هِيَ الحُجَجُ التَارِيخِيَّةُ، بَدْءًا مِنْ يَسُوعَ التَارِيخِيِّ، ثُمَّ رُجُوعًا إِلَى الإِلَهِ الَذِي أَرْسَلَ يَسُوعَ التَارِيخِيَّ". وَبِالطَبْعِ، اخْتَلَفْتُ مَعَهُ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَنْسَبَ مَنْهَجِيَّةٍ. وَيَقُولُ آخَرُونَ إِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ هُوَ سُلْطَةُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، لأَنَّكَ إِنْ أَثْبَتَّ ذَلِكَ، تَكُونُ قَدْ أَثْبَتَّ وُجُودَ اللهِ، وَأُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَسَائِرَ الأُمُورِ الأُخْرَى بِمُوجَبِ تِلْكَ السُلْطَةِ. وَلِذَا، سَنَصْرِفُ بَعْضَ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ فِي النَظَرِ إِلَى الْمَنْهَجِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَسَأُبَيِّنُ فِي غُضُونِ ذَلِكَ أَوْجُهَ الاخْتِلافِ بَيْنَ مَنْهَجِيَّاتِ الآخَرِينَ وَمَنْهَجِيَّتِي.
لَكِنْ، مِنَ الأَسْئِلَةِ الَتِي تُطْرَحُ عَلَيَّ كثيرًا، لِأَنَّنِي مَعْرُوفٌ بِاعْتِنَاقِي لِلَّاهُوتِ الْمُصْلَحِ، الَذِي يُعَلِّمُ بِأَنْ لَا أَحَدَ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ عَلَى التَجَاوُبِ إِيجَابِيًّا مَعَ الْإِنْجِيلِ أَوْ مَعَ حَقَائِقِ الْمَسِيحِيَّةِ، مَا لَمْ يُغَيِّرِ اللَّهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ قَلْبَهُ. فَلِأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِذَلِكَ - أَيْ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِذَابُ أَحَدٍ إِلَى الْمَسِيحِيَّةِ أَوْ الْخَلَاصِ بِالْحُجَجِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ بِبَسَاطَةٍ إِقْنَاعُهُ سَوَاءٌ بِالْبَرَاهِينِ الْمَنْطِقِيَّةِ، أَوْ بِسُمُوِّ الْكَلَامِ الَّذِي تُضِيفُهُ إِلَى الْحَدِيثِ، لَكِنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ تَغْيِيرِ نَفْسِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالرُّوحُ الْقُدْسُ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ - اسْتَنْتَجَ كَثِيرُونَ مَا يَلِي: "يَبْدُو أَنَّ عِلْمَ الدِّفَاعِيَّاتِ إِذَنْ مَضْيَعَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْوَقْتِ. فَبِمَا أَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُخَلِّصَ أَحَدًا مِنْ خِلَالِهِ، فَلِمَ الْعَنَاءُ؟" وَبِالتَّالِي، كُلُّ مَنْ يَعْتَنِقُ التَّقْلِيدَ اَلْمُصْلَحَ يُطَالَبُ كَثِيرًا بِالْإِجَابَةِ عَنِ السُّؤَالِ التَّالِي. "إِذَا كَانَ صَحِيحًا أَنَّ عِلْمَ الدِّفَاعِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَلِّصَ أَحَدًا، فَلِمَ نُمَارِسُهُ؟ وَمَا الْغَرَضُ مِنَ الدِّفَاعِيَّاتِ؟" هَذَا مَا أَوَدُّ تَنَاوُلَهُ الْيَوْمَ.
لِنَرْجِعْ إِلَى النَصِّ الَذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُحَاضَرَةِ الْمَاضِيَةِ مِنْ رِسَالَةِ بُطْرُسَ الأُولَى، الأَصْحَاحِ الثَالِثِ، وَالآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ. سَأُذَكِّرُكُمْ بِمَا تَقُولُ: "قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلَهَ فِي قُلُوبِكُمْ. مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ. وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ الصَّالِحَةَ فِي الْمَسِيحِ يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ". فَبِحَسَبِ سِيَاقِ هَذَا النَصِّ الَذِي يُحَثُّ فِيهِ عَلَى مُمَارَسَةِ الدِفَاعِيَّاتِ، أَحَدُ أَهَمِّ الأَغْرَاضِ هُوَ إِصَابَةُ أَعْدَاءِ الْمَسِيحِ وَكَنِيسَتِهِ بِالْخِزِي.
يُذَكِّرُنِي ذَلِكَ بِجُونْ كَالْفِنْ الَّذِي يُعْتَبَرُ أَبَا الْكَالْفِينِيَّةِ. فَأَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَازِمٌ لِخَلَاصِ أَحَدِهِمْ هُوَ جُونْ كَالْفِنْ. وَأَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّ الدِّفَاعِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُخَلِّصَ أَحَدًا هُوَ جُونْ كَالْفِنْ. لَكِنْ بِالتَّأْكِيدِ، لَمْ يَتَخَلَّ جُونْ كَالْفِنْ عَنْ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ أَوْ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي كُلِّفْنَا بِهِ فِي الْكَنِيسَةِ. وَفِي كِتَابِهِ "أُسُسُ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ"، فِي أَثْنَاءِ مُحَاوَلَتِهِ إِثْبَاتَ سُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، قَدَّمَ عَدَدًا مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمُحَدَّدَةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِنَزَاهَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، مِنْهَا حُجَجٌ إِثْبَاتِيَّةٌ. وَأَقَرَّ فِي مَرْحَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُجَجِ، بِقَدْرِ قُوَّتِهَا، لَا يُمْكِنُهَا الْبَتَّةَ أَنْ تُقْنِعَ أَحَدًا بِالْإِذْعَانِ لِلْبَرَاهِينِ، مَا لَمْ يُجْرِ اللَّهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَمَلَهُ الْمُحْيِيَ فِي ذِهْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَنَفْسِهِ. لَكِنْ ظَلَّ كَالْفِنْ يَقُولُ إِنَّ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الَّتِي يُقَدِّمُهَا كَافِيَةٌ لِسَدِّ أَفْوَاهِ الْمُشَاكِسِينَ. هَذِهِ عِبَارَةٌ لَافِتَةٌ - سَدُّ أَفْوَاهِ الْمُشَاكِسِينَ. ليسَ تَغْيِيرَ قُلُوبِ الْمُشَاكِسِينَ، وَإِنَّمَا سَدُّ أَفْوَاهِهِمْ.
تَعِيشُونَ الْيَوْمَ فِي مُجْتَمَعٍ حَيْثُ تَتَعَرَّضُ حَقَائِقُ الْمَسِيحِيَّةِ فِي الْمَجَالِ الْفِكْرِيِّ لَيْسَ فَقَطْ لِلرَّفْضِ، بَلْ لِلِاسْتِهْزَاءِ أَيْضًا. كَثِيرُونَ مِنَّا أَرْسَلُوا أَبْنَاءَهُمْ وَبَنَاتِهِمْ إِلَى الْجَامِعَةِ، حَيْثُ أَصْبَحُوا أُضْحُوكَةَ الْأَسَاتِذَةِ، الَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي الصَّفِّ بِسَبَبِ سَذَاجَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ دِيَانَتَهُمْ الْمَسِيحِيَّةَ بِالْإِيمَانِ؛ وَلَا يَحْظَى الْتِزَامُهُمْ الْمَسِيحِيُّ بِالِاحْتِرَامِ مِنَ النَاحِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَلِذَا فَالْيَوْمَ، يُهَاجَمُ الْمَسِيحِيُّونَ بِعُنْفٍ، وَيُتَّهَمُونَ "بِوَضْعِ عُقُولِهِمْ عَلَى الرَّفِّ"، وَبِأَنَّهُمْ اضْطُرُّوا أَنْ "يُصَلِّبُوا عُقُولَهُمْ" حَتَّى يَقْبَلُوا الْمَسِيحِيَّةَ مِنَ الْأَسَاسِ.
عِنْدَمَا تَقْصِدُ أَرْقَى الْجَامِعَاتِ الْيَوْمَ، وَتَدْخُلُ قِسْمَ الْفَلْسَفَةِ، قَدْ تَلْتَقِي بِفَلَاسِفَةٍ لَا يَقْبَلُونَ الْمَسِيحِيَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنْ عِنْدَمَا يَفْحَصُونَ فِكْرَ أُوغُسْطِينُوسَ، مَثَلًا، أَوْ أَنْسِلْمْ، أَوْ تُومَا الْأَكْوِينِيِّ، أَوْ جُونَاثَانْ إِدْوَارْدِزْ - وَهُمْ بَعْضٌ مِنْ أَعْظَمِ الدِّفَاعِيِّينَ الَّذِينَ أَنْجَبَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ - رُبَّمَا لَا يَتَّفِقُونَ مَعَهُمْ فِي الرَّأْيِ، وَلَا يَرْضَخُونَ لِحُجَجِهِمْ، لَكِنْ نَادِرًا مَا يَسْتَهْزِئُ عَالِمٌ جَادٌّ بِتُومَا الْأَكْوِينِيِّ. قَدْ لا يَتَّفِقُونَ مَعَهُ فِي الرَأْيِ، لَكِنْ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَكُونَ أَمِينًا مِنَ النَاحِيَةِ الْفِكْرِيَّةِ، حَتَّى فِي يَوْمِنَا هَذَا، إِلَّا حِينَ تَتَعَامَلُ مَعَ الحُجَجِ الدِفَاعِيَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِلإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ الَتِي قَدَّمَها، مَثَلًا، تُومَا الأَكْوِينِيُّ، لأَنَّهُ عِمْلاقٌ فِكْرِيٌّ مُعْتَرَفٌ بِهِ عَبْرَ تَارِيخِ الْفِكْرِ النَظَرِيِّ.
وَفِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى، فِي جَامِعَاتِ أُورُوبَّا، حَيْثُ كَانَ عِلْمُ اللاهُوتِ يُعْتَبَرُ مَلِكَةَ الْعُلُومِ، وَالْفَلْسَفَةُ وَصِيفَتَها - أَيْ حَيْثُ اعتُبِرَتِ الْفَلْسَفَةُ الْوَصِيفَةَ الَتِي تَخْدِمُ الْمَلِكَةَ - كَانَ هُنَاكَ مُلْحِدُونَ. كَانَ هُنَاكَ مُلْحِدُونَ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى، لَكِنَّهُمْ كَانُوا صَامِتِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ، لأَنَّهُ سَادَ افْتِراضٌ فِي عَالَمِ الْفِكْرِ أَنَّ إِنْكَارَ وُجُودِ اللهِ، مَثَلاً، بِمَثَابَةِ انْتِحَارٍ فِكْرِيٍّ، لأَنَّ الدِفَاعِيِّينَ الْمَسِيحِيِّينَ آنَذاكَ قَدَّمُوا بَرَاهِينَ دَامِغَةً، حَتَّى إِنَّ الَذِينَ لَمْ يَقْبَلوا الإِيمَانَ الْتَزَمُوا الصَمْتَ. وَهَذَا مَا قَالَهُ كَالْفِنْ عَنْ مُهِمَّةِ الدِفَاعِيَّاتِ، وَهِيَ سَدُّ أَفْوَاهِ الْمُشَاكِسِينَ، أَيْ كَبْحُ اسْتِهْزَاءِ الَذِينَ بِلا كَابِحٍ بِالإِيمانِ الْمَسِيحِيِّ.
تَذَكَّرُوا أَنَّ بُطْرُسَ قَالَ فِي الْقَرْنِ الأَوَّلِ إِنَّ الْمَسِيحِيِّينَ كَانُوا يُشْتَمُونَ - أَيْ يَتَعَرَّضُونَ لِلاسْتِهْزَاءِ؛ وَقَالَ: "يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لِتَقْدِيمِ رَدٍّ عَلَى الشَتَائِمِ أَوِ الاسْتِهْزَاءِ، مُجَاوِبِينَ عَنْ سَبَبِ الرَجَاءِ الَذِي فِيكُمْ، دُونَ أَنْ تَكْتَفُوا بِقَوْلِ: ‘أُؤْمِنُ لأَنَّنِي قُمْتُ بِقَفْزَةِ إِيمَانٍ، وَقَفَزْتُ فِي الْهَاوِيَةِ، رَاجِيًا أَنْ يَلْتَقِطَنِي يَسُوعُ‘، بَلْ بِالأَحْرَى، نَحْنُ مَدْعُوُّونَ كَمَسِيحِيِّينَ إِلَى تَقْدِيمِ رُدُودٍ سَلِيمَةٍ عَلَى الَذينَ يُثِيرُونَ شُكُوكًا وَاعْتِرَاضَاتٍ عَلَى حَقَائِقَ الْمَسِيحِيَّةِ، لِلْوُقُوفِ فِي وَجْهِ الَذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِالإِيمَانِ، وَإِصَابَتِهِمْ بِالْخِزْيِ". تَذْكُرُونَ أَنَّهُ فِي إِسْرَائِيلَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، قَالَ كَاتِبُ الْمَزَامِيرِ إِنَّ الْجَاهِلَ هُوَ الَذِي يَقُولُ فِي قَلْبِهِ "لَيْسَ إِلَهٌ".
لَكِنْ فِي مُجْتَمَعِنَا الْيَوْمَ، يُعْتَبَرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّه يُوجَدُ إِلَهٌ جَاهِلاً، وَغَيْرَ عِلْمِيٍّ، وَسَاذَجًا، وَغَيْرَ عَقْلانِيٍّ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْضًا خِلالَ الْقَرْنَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، كَمَا أَظُنُّ، فِي مُجْتَمَعِنَا الْمَسِيحِيِّ، سَلَّمَتِ الْكَنِيسَةُ الأَدَوَاتِ الدِفَاعِيَّةَ، أَوْ أَسْلِحَةَ مُحَارَبَتِهَا، فِي يَدِ الْوَثَنِيِّينَ. وَقالَ الْوَثَنِيُّونَ لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ إِنَّ الْمَسِيحِيَّةَ غَيْرُ مَنْطِقِيَّةٍ، وَغَيْرُ عِلْمِيَّةٍ. وَظَلُّوا يُخْبِرُونَنَا لِقُرُونٍ بِأَنَّ "الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ لِلإِيمَانِ بِمِصْدَاقِيَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ هِيَ الْقِيَامُ بِقَفْزَةِ إِيمَانٍ غَيْرِ مَحْسُوبَةٍ". وَيَقُولُونَ إِنَّ "الْمَنْطِقَ وَالْعِلْمَ لَيْسَا فِي صَفِّنَا". لَكِنَّنِي سَأُحَاوِلُ أَنْ أُثْبِتَ فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ عَنْ عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْمَنْطِقِيِّ إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ، وَمِنْ غَيْرِ الْعِلْمِيِّ رَفْضُ الْمِصْدَاقِيَّةِ التَارِيخِيَّةِ لِيَسُوعَ النَاصِرِيِّ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، لَسْتُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ أَنْ أُسَلِّمَ الْعَقْلانِيَّةَ وَالْبَحْثَ الْعِلْمِيَّ التَجْرِيبِيَّ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ. هَذِهِ هِيَ أَدَوَاتُ الْمَعْرِفَةِ الَتِي أَعْطَاهَا اللهُ لِيُفَكِّرَ بِهَا الإِنْسَانُ، وَيَدْرُسَ، وَيَقْبَلَ الْوَاقِعَ، وَيَكْتَشِفَ الْحَقَّ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَسِيحِيَّةُ صَحِيحَةً، أَيُّهَا السَادَةُ -وَهَذَا هُوَ إِيمَانِي- فَيَجِبُ أَلَّا نَخْشَى مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الطَبِيعِيَّةِ، أَوْ مِنَ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، لأَنَّ التَطْبِيقَ الْمَوْضُوعِيَّ وَغَيْرَ الْمُتَحَيِّزِ لأَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ، إِنْ كَانَتِ الْمَسِيحِيَّةُ صَحِيحَةً، يَجِبُ أَنْ يُثْبِتَ مِصْدَاقِيَّةَ الْمَسِيحِيَّةِ، لا أَنْ يَدْحَضَهَا. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، يَجِبُ أَلَّا نَخْشَى شَيْئًا، مِثْلَ الْمَنْطِقِ أَوِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ. فَإِنْ خَشِينَا تِلْكَ الأُمُورَ، فَرُبَّمَا مَا لَدَيْنَا لَيْسَ إِيمَانًا عَلَى الإِطْلاقِ، بَلْ مُجَرَّدُ سَذَاجَةٍ. كَثِيرُونَ يَدَّعُونَ أَنَّ لَهُمْ إِيمَانًا، لَكِنَّهُمْ مُجَرَّدُ أُنَاسٍ يُؤْمِنُونَ بِالْخُرَافاتِ. وَرُبَّمَا يَكُونُونَ سَعِيدِي الْحَظِّ كِفَايَةً لِيُؤْمِنُوا بِالأُمُورِ الصَحِيحَةِ لأَسْبَابٍ خَاطِئَةٍ. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَكُونَ قَادِرِينَ لَيْسَ فَقَطْ عَلَى إِخْبَارِ الْعَالَمِ بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ إِيمَانِنَا بِهِ.
فِي إِطَارِ حَدِيثِنَا عَنْ كَالْفِنْ وَعَنْ سَدِّ أَفْوَاهِ الْمُشَاكِسِينَ، دَعُونِي أُشِيرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مُهِمٍّ لِلْغَايَةِ فِي هَذَا الصَدَدِ. صَنَعَ كَالْفِنْ تَفْرِقَةً، نَحْتَاجُ أَنْ نَفْهَمَهَا، بَيْنَ الإِثْبَاتِ وَالإِقْنَاعِ - الإِثْبَاتِ وَالإِقْنَاعِ. قَالَ كَالْفِنْ: "بِإِمْكَانِنَا جَمْعُ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الإِثْبَاتِيَّةِ السَلِيمَةِ بِكُلِّ مَوْضُوعِيَّةٍ، إِلَى حَدِّ إِثْبَاتِ الْفَرَضِيَّةِ، لَكِنْ يَظَلُّ النَاسُ غَيْرَ مُقْتَنِعِينَ بِهَا". هَذَا أَمْرٌ صَحِيحٌ وَوَاقِعِيٌّ. فَإِنَّكُمْ تَلْتَقُونَ أَشْخَاصًا طَوَالَ الْوَقْتِ، وَتَخُوضُونَ نِقَاشًا مَعَهُمْ، مُقَدِّمِينَ لَهُمْ الْحُجَجَ الْوَاضِحَةَ. وَرُبَّما تُؤَيِّدُ كُلُّ الْبَيَانَاتِ مَوْقِفَكُمْ، لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرْفُضُونَهَا، وَيَرْفُضُونَ الرُضُوخَ لَهَا، لأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ وَمُتَحَيِّزُونَ، وَلا يُرِيدُونَ الإِصْغَاءَ إِلَيْكَ. وَلا يُرِيدُونَ أَنْ تَقِفَ الْحَقَائِقُ فِي طَرِيقِ أَفْكَارِهِمْ. إِذَنْ، قَدْ يَظَلُّ الْبَعْضُ غَيْرَ مُقْتَنِعِينَ مَعَ كَوْنِ الأَدِلَّةِ دَامِغَةً. وَلِهَذَا، قَالَ كَالْفِنْ إِنَّ مُهِمَّةَ الدِفَاعِيِّ فِي الْكَنِيسَةِ لَيْسَتِ الإِقْنَاعَ بَلِ الإِثْبَاتُ. اللهُ وَحْدَهُ سَيُنْشِئُ الإِذْعَانَ لِلْحُجَّةِ السَلِيمَةِ. وَدُونَ عَمَلِ الرُوحِ، لَنْ يَخْضَعَ النَاسُ، بِسَبَبِ التَحَيُّزِ الشَدِيدِ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ ضِدَّ أُمُورِ اللهِ. إِذَنْ، لا يَقْتَصِرُ الأَمْرُ عَلَى كَوْنِنَا نُصَارِعُ مَعَ الْجَهْلِ، لَكِنَّنَا نُصَارِعُ مَعَ التَحَيُّزِ ضِدَّ أُمُورِ اللهِ. أَقْصِدُ بِهَذَا أَنَّهُ لَطَالَمَا كَانَ الإِنْجِيلُ عَثَرَةً لِلْبَشَرِ السَاقِطِينَ. وَلِذَا، عَلَى الدِفَاعِيِّ أَنْ يُؤَدِّيَ عَمَلَهُ وَهُوَ مُدْرِكٌ أَنَّ مُهِمَّتَهُ لَيْسَتِ الإِقْنَاعَ بَلِ الإِثْبَاتُ، أَيْ تَقْدِيمُ حُجَّةٍ سَلِيمَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحُدُهُمْ الْحُجَّةَ، أَتَعْلَمُونَ مَاذَا قَالَ يَسُوعُ؟ "انْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ، وَاذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ التَالِيَةِ".
تَحْضُرُنِي قِصَّةٌ رَوَاها جُونْ وُورْوِيكْ مُونْتْجُومِرِي، وَهِيَ قِصَّةُ تْشَارْلِي الْمُتَشَكِّكِ، الَذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ لإِيقَاظِهِ ذَاتَ صَبَاحٍ قَائِلَةً: "تْشَارْلِي، يَجِبُ أَنْ تَنْهَضَ مِنَ الْفِرَاشِ، سَتَتَأَخَّرُ عَلَى الْعَمَلِ". فَقَالَ تْشارْلِي لِزَوْجَتِهِ: "لا يُمْكِنُنِي الذَهَابُ إِلَى الْعَمَلِ، لا يُمْكِنُنِي النُهُوضُ مِنَ الْفِرَاشِ". فَسَأَلَتْهُ: "لِمَاذَا؟ أَجَابَها: "لأَنَّنِي مَيِّتٌ، وَالْمَوْتَى لا يُمْكِنُهُمْ النُهُوضُ مِنَ الْفِرَاشِ، الْمَوْتَى لا يُمْكِنُهُمْ الذَهَابُ إِلَى الْعَمَلِ". أَجَابَتْ زَوْجَتُهُ: "لا تَكُنْ سَخِيفًا يَا تْشَارْلِي. أَنْتَ تُكَلِّمُنِي. أَنْتَ مُسْتَيْقِظٌ تَمَامًا. أَنْتَ بِخَيْرٍ، وَلا خَطْبَ فِيكَ. انْهَضِ الآنَ وَاذْهَبْ إِلَى الْعَمَلِ". أَجَابَهَا: "لا أَسْتَطِيعُ. أَنَا مَيِّتٌ". فَلَمْ تَسْتَطِعْ إِقْناعَ تْشَارْلِي بِأَنَّهُ حَيٌّ. وَفِي النِهَايَةِ، اتَّصَلَتْ بِالطَبِيبِ. فَجَاءَ الطَبِيبُ، وَفَحَصَ مُؤَشِّرَاتِ تْشَارْلِي الْحَيَوِيَّةَ، وَاسْتَمَعَ إِلَى دَقَّاتِ قَلْبِهِ، وَفَحَصَ نَبْضَهُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ: "تْشَارْلِي، أَنْتَ بِخَيْرٍ. لا خَطْبَ فِيكَ. انْهَضِ الآنَ وَاذْهَبْ إِلَى الْعَمَلِ". فَأَجَابَهُ: "آسِفٌ أَيُّهَا الطَبِيبُ، لا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. لا يَهُمُّنِي مَا تُخْبِرُكَ بِهِ سَمَّاعَتُكَ أَوْ مُؤَشِّرَاتِي الْحَيَوِيَّةُ. أَنَا مَيِّتٌ وَأَعْرِفُ ذَلِكَ. وَلا شَيْءَ مِمَّا تَقُولُهُ سَيُغَيِّرُ رَأْيِي". فَقَالَ الطَبِيبُ لِزَوْجَةِ تْشَارْلِي: "أَظُنُّ أَنَّ زَوْجَكِ بِحَاجَةٍ إِلَى طَبِيبٍ فِي تَخَصُّصٍ آخَرَ". وَهَكَذَا، اسْتَدْعُوا طَبِيبًا نَفْسِيًّا. فَقَالَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ: "مَا شُعُورُكَ الْحَقِيقِيُّ يَا تْشَارْلِي؟ لِمَ تَشْعُرُ بِأَنَّكَ رُبَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مَيِّتًا؟ هَلْ مَرَرْتَ بِتَجْرِبَةٍ سَيِّئَةٍ؟" وَابْتَدَأَ يُحَلِّلُ شَخْصِيَّةَ تْشَارْلِي الْمِسْكِينِ دُونَ جَدْوَى. ثُمَّ قَالَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ: "أَتَعْلَمُ يَا تْشَارْلِي؟ يُوجَدُ مَبْدَأٌ فِي عِلْمِ الأَحْيَاءِ تَحْتَاجُ أَنْ تَعْرِفَهُ". فَسَأَلَهُ: "وَمَا هُوَ؟" أَجَابَهُ: "عِنْدَمَا يَمُوتُ النَاسُ، تَتَوَقَّفُ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَفَقَانِ، وَيَتَوَقَّفُ الدَمُ عَنِ الْجَرَيَانِ فِي أَجْهِزَتِهِمْ. وَلِهَذَا فَالْمَوْتَى لا يَنْزِفُونَ". فَقَالَ تْشَارْلِي: "حَقًّا؟ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ذَلِكَ". أَجَابَهُ: "بِكُلِّ تَأْكِيدٍ". فَقالَ: "اثْبِتْ لِي ذَلِكَ" فَأَجَابَ: "حَسَنًا". ثُمَّ اصْطَحَبَ تْشَارْلِي إِلَى الْمَشْرَحَةِ، وَأَرَاهُ جُثَّةً. وَأَخَذَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ دَبَابِيسَ صَغِيرَةً، وَابْتَدَأَ يُوخِزُ بِهَا إِبْهَامَ الْجُثَّةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا دَمٌ. فَقَالَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ: "وَالآنَ، هَلْ تُصَدِّقُنِي يَا تْشَارْلِي؟" أَجابَ تْشَارْلِي: "نَعَمْ، أَنْتَ مُحِقٌّ. فَالْمَوْتَى لا يَنْزِفُونَ". فَابْتَسَمَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ وَقالَ: "هَذَا رَائِعٌ". ثُمَّ قَالَ: "وَالآنَ يَا تْشَارْلِي، تَعالَ هُنَا. مَا هَذَا؟ دَعْنِي أَرَى إِبْهَامَكَ". فَرَفَعَ تْشَارْلِي إِبْهَامَهُ، وَأَخَذَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ إِبْرَةً، وَوَخَزَ إِبْهَامَ تْشَارْلِي، فَابْتَدَأَ يَنْزِفُ. فَقَالَ الطَبِيبُ النَفْسِيُّ: "انْظُرْ يَا تْشَارْلِي، مَا رَأْيُكَ الآنَ؟" أَجَابَ: "يَا لَلْعَجَبِ! الْمَوْتَى يَنْزِفُونَ فِي النِهَايَةِ!" أَتَرَوْنَ ذَلِكَ؟ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ لِيُقْنِعَ تْشَارْلِي بِأَنَّهُ لَيْسَ مَيِّتًا، لأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُصَدِّقَ أَنَّهُ حَيٌّ.
أَتَذَكَّرُ مَبْدَأً تَعَلَّمْتُهُ فِي الْعَامِ الأَوَّلِ مِنْ إِيمَانِي، وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ يَقُولُ: "الَذِين يُجْبَرُونَ عَلَى الاقْتِنَاعِ لا يَتَخَلَّوْنَ عَنْ آرَائِهِمْ الأَصْلِيَّةِ". وَمِنْ جِهَةِ الانْتِصَارِ الْفِكْرِيِّ فِي الْجِدَالِ، غَالِبِيَّةُ الانْتِصَارَاتِ لا تَتَحَقَّقُ عَلَى الْفَوْرِ. فَهِيَ لا تَتَحَقَّقُ إِلَّا حِينَ يَضَعُ الشَخْصُ رَأْسَهُ عَلَى الْوِسَادَةِ لَيْلًا. فَمُعْظَمُ الأَشْخَاصِ، حِينَ يَخْسَرُونَ فِي جِدالٍ فِكْرِيٍّ، يُدْرِكُونَ ذَلِكَ جَيِّدًا. رُبَّمَا لا يَعْتَرِفُونَ بِالأَمْرِ، وَرُبَّمَا يَرْفُضُونَ الإِذْعَانَ، لَكِنْ عِنْدَمَا يَضَعُونَ رَأْسَهُمْ عَلَى الْوِسَادَةِ فِي نِهَايَةِ الْيَوْمِ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا.
لِهَذَا الأَمْرِ أَهَمِّيَّتُهُ، بِحَسَبِ كَالْفِنْ. فَهُوَ يَسُدُّ أَفْوَاهَ الْمُشَاكِسِينَ مِنْ نَاحِيَةٍ. لَكِنْ يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حِمَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْجُدُدِ، الَذِينَ لَمْ تَتَسَنَّ لَهُمْ فُرْصَةُ عَمَلِ دِرَاسَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ فِي الدِفَاعِيَّاتِ؛ وَالَذِينَ، حِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِوَابِلٍ مِنَ الانْتِقَادَاتِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، يُصَابُونَ بِالذُعْرِ. لِذَا، تَقْتَضِي مُهِمَّةُ عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ تَعْزِيزَ ثِقَتِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ. لأَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ الشَيْطَانُ إِصَابَةَ مُؤْمِنٍ بِالشَلَلِ - فَهُوَ لَيْسَ مُضْطَرًّا أَنْ يَهْدِمَ إِيمَانَكَ، لَكِنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْجِلَكَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِإيمَانِكَ، بِسَبَبِ مَا تَسْمَعُهُ مِنِ انْتِقَادٍ طَوَالَ الْوَقْتِ. فَإِنِ اسْتَطَاعَ إِحْرَاجَكَ أَوْ إِخَافَتَكَ، سَيَبْطُلُ مَفْعُولُكَ كَخَادِمٍ لِمَلَكُوتِ اللهِ. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي حِينَ كُنْتُ فِي كُلِّيَّةِ اللاهُوتِ، وَتَعَرَّضْتُ لِشَتَّى أَنْوَاعِ النَظَرِيَّاتِ الشُكُوكِيَّةِ، لَمْ أَسْتَطِعِ الرَدَّ عَلَى كُلِّ مَا أَلْقَاهُ الأَسَاتِذَةُ فِي وَجْهِي، لَكِنَّنِي شَعَرْتُ بِالرَاحَةِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَمَا دَرَسْتُ تَعَالِيمَ عُلَمَاءَ وَكُلِّيَّاتٍ أُخْرَى تَمَكَّنُوا مِنَ الرَدِّ عَلَى أَسْئِلَتِهِمْ. فَقُلْتُ: "مَهْلاً، يُوجَدُ قَدْرٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَدَى هَؤُلاءِ. وَهُنَاكَ عَمَالِقَةٌ فِي الإيمانِ اسْتَطَاعُوا مُوَاجَهَةَ هَؤُلاءِ". وَهَذَا أَرَاحَنِي. فَإِلَى أَنْ تَمَكَّنْتُ مِنْ تَعَلُّمِ هَذِهِ الأُمُورِ بِنَفْسِي، حَصَلْتُ عَلَى بَعْضِ الْمُسَاعَدَةِ الرَعَوِيَّةِ مِنَ الَذِينَ مَارَسُوا الدِفَاعِيَّاتِ. فَفِي الْكَنِيسَةِ الأُولَى، لَمْ يَسْتَطِعِ الْجَمِيعُ فِعْلَ مَا اسْتَطَاعَ يُوسْتِينُوسُ الشَهِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. لَكِنَّ يُوسْتِينُوسَ الشَهِيدَ أَضْفَى مِصْدَاقِيَّةً عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ كَكُلٍّ. وَهَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ الأَهَمِّيَّةِ الشَدِيدَةِ لِمُهِمَّةِ الدِفَاعِيَّاتِ.