المحاضرة 4: الفساد الكامل للإنسان

في المُحاضَرَةِ السَّابقةِ من دراسَتِنا للتَّعيينِ الْمُسْبَقِ، تحدَّثْنا عنْ مفهومِ حُرِّيَّةِ الإرادةِ، وفي خِتامِ الْمُحاضرةِ، عَرضْتُ بعضَ أفكارِ جوناثان إِدْوَارْدْز، وأَيْضًا القدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسَ، وأشَرْتُ إلى لُوثَر، وجون كالْفِن. لكن، بِغَضِّ النَّظرِ عنِ احترامِنا، أَوْ عدَمِهِ، لهؤلاء المعلِّمينَ الْعُظماءِ في تاريخِ الْكنيسةِ، أعْتَقِدُ أنَّنا نُقِرُّ جميعًا بأَلَّا ينبَغِي اعتبارُ سُلْطَةِ أيٍّ مِنْهُمْ، أو جَمِيعِهِمْ، في التَّعلِيمِ مَعْصومَةً.

ولِذلِكَ، يَلْزَمُ أنْ نَنْتَقِلَ إلى الْخُطْوةِ التَّالِيَةِ في دراسَتِنا لمَوْضوعِ مَقْدِرَةِ الإنسانِ الأَخْلاقِيَّةِ، أوْ غِيابِها، لِنَسْمَعَ ما يعلِّمُهُ ربُّنا نفْسُهُ. فرُبَّما نَخْتَلِفُ معَ أُوغُسْطِينُوسَ، أوْ لُوثَر، أو كالْفِن، أوْ أيِّ مُعَلِّمٍ عظيمٍ آخَرَ، لكِنْ حاشا لنا أنْ نُعارِضَ تعليمَ الْمَسيحِ نفسِهِ.

في هذه المحاضَرَةِ إِذَنْ، سنلتَفِتُ قَلِيلًا إلى بَعْضِ أَهَمِّ تَصْرِيحاتِ الرَّبِّ يَسوعَ عَنْ مَقْدِرَةِ الإِنسانِ أَوْ عَنْ غِيابِها.

لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ:

سنذهَبُ الآنَ، أوَّلًا، إلى الأصحاحِ السَّادِسِ مِنْ إنجيلِ يوحَنَّا، حيثُ يقولُ يسوعُ فِي الآيَةِ 65: "فَقَالَ: لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي".

لِنَنْظُرْ هذهِ الآيَةَ: "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي". الجُزْءُ الأَوَّلُ مِنَ الآيَةِ: "لا ... أَحَدٌ"، أَوْ "لا إِنسانَ أَوْ شَخْصَ" بحسَبِ بَعْضِ التَّرْجماتِ – "لا ... أَحَدٌ". إنْ طَبَّقْنا هنا قَوَانِينَ الْمَنْطِقِ، وَقواعِدَ الاسْتِدْلالِ الْمُباشِرِ، وَغَيْرَها، سنَجِدُ أنَّ هذا التصريحَ هُوَ ما نسمِّيهِ نَفْيًا عَامًّا. أَيْ شامِلًا. يقولُ الْمَسيحُ إِنَّ لا أَحَدَ، بِلا استثناءَ (كذا). لا أَحَدَ يَقْدِرُ أنْ يأتِيَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنَ الآبِ. هَذا تصريحٌ مُطْلَقٌ. أَيْ نَفْيٌ مُطْلَقٌ. عَلَيْنا أَنْ نَفْهَمَ هَذَا.

الْكَلِمَةُ التَّالِيَةُ أيْضًا مُهِمَّةٌ. وَهْيَ كَلِمَةُ " يَقْدِرُ". "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ". كلمةُ "يَقْدِرُ". الكَلِمَةُ الْمُسْتَخْدَمَةُ فِي النَّصِّ الْيُونَانِيِّ أَوْضَحُ مِنْ كَلِمَةِ "يَقْدِرُ" فِي لُغَتِنا. فَفِي لُغَتِنا، نَخْلِطُ عادَةً بَيْنَ كَلِمَةِ "يَقْدِرُ" وَماذا؟ "بِالإِمْكانِ". هذا صَحِيح.

تَعَلَّمْنا هذا جميعًا — أتذكَّرُ حينَ كُنَّا أطْفَالًا فِي الْمَدْرَسَةِ، كُنَّا نَرْفَعُ يَدَنا للمُعلِّمَةِ وَنَقُولُ: "هَلْ أَقْدِرُ أَنْ أُقَلِّمَ الْقَلَمَ؟" وَكانَتِ الْمُعَلِّمَةُ تَقولُ دَائِمًا: "أَنْتَ تَقْدِرُ بِالتَّأكِيدِ، وبإمكانِكَ أَيْضًا أنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ". ثُمَّ كانَتْ تَسْتَغِلُّ الْفُرْصَةَ لِتُعلِّمَنا هَذا الدَّرْسَ الَّذي كانَ يبدُو صعْبًا، وهو الْفَرْقُ بَيْنَ كَلِمَةِ "بِالإِمْكانِ"، التي تعني السَّماحَ، وَكَلِمَةِ "يَقْدِرُ". تتعَلَّقُ كَلِمَةُ "يَقْدِرُ" بِالاسْتِطاعَةِ.

تَقولُ هذه الآيَةُ (يوحنا 6: 65) إذَنْ أنْ لا أَحَدَ "يَقْدِرُ"، بِمَعْنَى أَنْ لا أحَدَ يَسْتَطِيعُ فِعْلَ شَيْءٍ ما. إِنْ قُلْتُ إنَّ لا أحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَجْرِيَ بِسُرْعَةِ 30 مِيلًا فِي السَّاعَةِ، فَهذا يَعْنِي أنْ لا أَحَدَ يَستَطِيعُ أَنْ يَجْرِيَ بِسُرْعَةِ 30 ميلًا في السَّاعَةِ، أَوْ 300 مِيلٍ فِي السَّاعَةِ (لا أَعْرِفُ السُّرْعَةَ الْفِعْلِيَّةَ).

حَسَنًا، مَا الشَّيْءُ الَّذي لا أَحَدَ يَستطيعُ فِعْلُهُ، والذي يتحدَّثُ عنهُ يسوعُ هُنا؟ لا أحَدَ يستطيعُ أنْ "يَأْتِيَ إِلَيَّ". سأسألُكُمْ هذا: هَلِ الإِنسانُ، مِنْ ذاتِهِ، بِحَسَبِ رأْيِ يَسوعَ، يستطيعُ أَنْ يأْتيَ إِلى يَسوعَ؟ لا. هَلْ يَستَطِيعُ بَعْضُ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا إلى يَسُوعَ مِنْ ذاتِهِمْ؟ لا. لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أنْ يَأْتِيَ إِلَى يَسُوع. "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ". تأْتِي بَعْدَ ذَلكَ جُمْلَةٌ نُسَمِّيها أُسْلوبَ اسْتِثْناءَ. "إِنْ لَمْ" تُمَهِّدْ لاسْتِثْناء. وَ"إِنْ لَمْ" تُشيرُ إِلَى ما نُسَمِّيهِ فِي الْفَلْسَفَةِ بِالشَّرْطِ الأَساسِي.

الشَّرْطُ الأَساسِيُّ:

ما هُوَ الشَّرْطُ الأَسَاسِيُّ؟ هُوَ مَطْلَبٌ مُسْبَقٌ. أَيْ هُوَ شَيْءٌ يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ قَبْلَ إِمْكانِيَّةِ حُدوثِ شَيْءٍ آخَرَ. هَذا هُوَ الْمَطْلَبُ الْمُسْبَقُ. وَهَكَذا، يَقولُ يَسُوعُ إِنَّهُ يُوجَدُ شَرْطٌ أَساسِيٌّ يَجِبُ اسْتِيفاؤُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ.

وما الشَّيْءُ الَّذي يُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ الشَّرْطُ الأَسَاسِيُّ كَيْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ؟ "إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي"، أَوْ فِي تَرْجَمَاتٍ أُخْرَى: "إِنْ لَمْ يَسْمَحْ لَهُ أَبِي"؛ أَوْ: "إِنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ أَبِي". هَذِهِ الْكَلِمَاتُ لا تَعْنِي شَيْئًا واِحدًا. "يَسْمَحُ لَهُ" تَعْنِي "يُعْطِيهِ الإِذْنَ"، وَ"يُعْطَ" تَعْنِي يُعْطِي هِبَةً، و"يُمكِّنُ" تَعْنِي يَمُدُّ بِالْقُوَّةِ. واضِحٌ؟ يُحِيطُ بَعْضُ الْغُمُوضِ بِهَذَا الشَّرْطِ الأَسَاسِيِّ.

وَيَظَلُّ سُؤالٌ آخَرُ مَوْجودًا، وَهُوَ: إِنْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ الأَساسِيُّ–لسْنَا نَقْصِدُ الْمَجِيءَ إِلَى يَسوعَ–بَلْ فِي أَيَّةِ حالَةٍ أُخْرى، إِنْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ الأَساسِيُّ، فَهَلْ يَضْمَنُ هذا تَحْقِيقَ النَّتِيجةِ الَّتي تُرِيدُها بالْفِعْلِ؟ لا. لذلكَ، نُفَرِّقُ بينَ الشُّروطِ الأَساسِيَّةِ وَالشُّروطِ الْوافيَةِ.

الشَّرْطُ الْوافِي، هوَ الذي إنْ تَحَقَّقَ، يَضْمَنُ النَّتيجةَ. فهو يَكْفِي. مِنْ أمثلَةِ الشَّرْطِ الأَساسيِّ أنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ إِشْعالَ نارٍ، فَالأُوكْسِجِينُ هُوَ الشَّرْطُ الأَساسِيُّ لاشْتِعالِ النَّارِ. لكِنَّ وُجُودَ الأُوكْسِجين وَحْدَهُ لا يَضْمَنُ اشْتِعالَ النَّارِ. إنْ كانَتْ لَدَيْكَ ورقَةٌ جافَّةٌ، والْكَثيرُ مِنَ الأُوكْسِجِين، ثمَّ أَشْعَلْتَ ثِقابًا وَلَمَسْتَ بهِ الْورقَةَ، سَتَشْتَعِلُ النَّارُ لأنَّ الثِّقابَ الْمُشْتَعِلَ شَرْطٌ وافٍ لإِشعالِ الْورقةِ الْجافَّةِ تحتَ تِلْكَ الظُّروفِ، أَيْ بِشَرْطِ وُجودِ الشُّروطِ الأَساسِيَّةِ الأُخْرَى. أتَفْهَمُونَ الْفَرْقَ الآنَ؟

إِذَنْ، كلُّ ما تُعَلِّمُهُ هذه الآيَةُ هُوَ أنَّهُ مِنْ حَيْثُ مَقْدِرَةِ الإنسانِ الطَّبِيعِيَّةِ، لا أحَدَ مِنَّا لَدَيْهِ الْمَقْدِرَةُ، مِن ذَاتِهِ، أنْ يَأْتِيَ إلى الْمَسيحِ، إِنْ لَمْ يَفْعَلِ اللهُ شَيْئًا. لَسْنا نَعْرِفُ بالتَّحْدِيدِ ما يَفْعَلُهُ اللهُ. ولَسْنَا نَعْرِفُ بَعْدُ هلْ إِنْ فَعَلَهُ سَيَضْمَنُ هَذَا أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ أمْ لا. كُلَّ ما نَعْرِفُهُ هُوَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ، أيًّا كانَ، هُوَ شَرْطٌ أَساسِيٌّ، أَوْ مَطْلَبٌ مُسْبَقٌ، وَاضِح؟

ينبَغِي أنْ يَجْتَذِبَ الآبُ:

قَدْ يَقْفِزُ الْبَعْضُ إلى آيَةٍ أُخْرَى فِي يُوحَنَّا 6 يقولُ فِيهَا الرَّبُّ يَسُوعُ: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الْآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ" (يوحنَّا 6: 37). هذا يُوحِي بأَنَّ كلَّ مَنْ يَحْصُلْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الأَسَاسِيِّ، يُقبِلْ فِعْلًا. لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الْعلاقَةُ بِالتَّحْدِيدِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ. لِنَرَ إنِ اسْتَطَعْنا مُلاحظةَ الْفَرْقِ.

يَقولُ يسوعُ: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الْآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ"، و"لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي". يكادُ الأَمْرُ يَبْدو وكَأَنَّ: كُلُّ مَنْ يُعْطَى لَهُ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ ضِمْنَ الَّذِينَ يُعْطِيهِمِ الآبُ لِلابْنِ. لَكِنْ لاحِظوا أنْ فِي الْحالَةِ الأُولَى نَحْنُ الَّذِينَ نُعطَى. وفِي الْحالَةِ الثَّانِيَةِ، يسوعُ هُوَ الَّذِي يُعطَى. وَلِهَذا، لا نَسْتَطِيعُ الْمُساوَاةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، مَعَ أنَّني أَرَى أنَّهُما مُتوازِيَتَانِ، لَكِنَّنا لا نَقْدِرُ أنْ نُثْبِتَ هذا مِنَ اللُّغَةِ. وَلِهَذا، يَبْقَى الْغُمُوضُ مُحِيطًا بِما يَنْبَغِي أنْ يَحْدُثَ.

ما هيَ طبيعَةُ هذا الشَّرْطِ الأَساسِيِّ؟ حَسَنًا، لاحِظُوا أنَّ يسوعَ قالَ هُنا إِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ هذا بِالْفِعْلِ، وَيقولُ إِنَّ هَذَا تَكْرارٌ. فَهْوَ يَقولُ: "لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ" (يوحنا 6: 65). إذَنْ، هُوَ يُكَرِّرُ كَلامَهُ. لِنَرَ إِذَنْ هلْ سَنَنْجَحُ فِي إِيجادِ التَّصْريحِ السَّابِقِ لِهَذا، وَالْمُطابِقِ أَوْ وَثِيقِ الصِّلَةِ بِما يَكْفِي لِيكونَ هُوَ ما يَقْصِدُهُ يَسُوعُ.

حَسَنًا، إِنْ نَظَرْنا إِلَى جُزْءٍ سابِقٍ مِنَ الأصْحاحِ، نَجِدُ نَفْيًا عَامًّا آخَرَ، وَتَصْرِيحًا آخَرَ بِشُروطٍ أَساسِيَّةٍ، وَبِمَقْدِرَةِ الإنْسانِ الأَخلاقِيَّةِ. نَقْرَأُ فِي الآيَةِ 44: "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الْآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". لَيْسَ هَذَا غامِضًا بِالْقَدْرِ نَفْسِهِ. هُنَا، يَقولُ يسوعُ إِنَّ الشَّرْطَ الأَسَاسِيَّ هُوَ أنَّ الآبَ يَجْتَذِبُ أَحَدَهُمْ.

يمكنُنا إذنْ أنْ نقولَ، بشكلٍ قاطِعٍ، ودونَ خوفٍ منَ التناقُضِ إنَّ الربَّ يسوعَ علَّمَنا أنَّهُ منَ الْمُسْتَحِيلِ أنْ يَأْتِيَ أيُّ إنسانٍ إِلى الرَّبِّ يَسوعَ الْمسيحِ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبِ الآبُ هذَا الشَّخْصَ؟ أستطيعُ إِضافَةَ أَنَّ أتباعَ الرَّأْيِ الأُوغُسْطِينِيِّ وأَتباعَ الرَّأْيِ شِبْهِ الْبِيلاجِي على حَدٍّ سواءَ يَتَّفِقُونَ عَلى وُجُودِ شَرْطٍ أساسِيٍّ يَنْبَغِي أَنْ يُوفِّرَهُ اللهُ. ينْبَغِي أنْ يَجْتَذِبَ اللهُ الْبَشَرَ، لكِنْ، يَبْقَى هُنَاكَ جَدَلٌ. وَهْوَ: ما الْمَقْصُودُ بِأَنَّ اللهَ يَجْتَذِبُ؟

يتودَّدُ لِلدُّخولِ إِلَى الْمَحَاكِمِ:

التَّفسيرُ الأَرْمِينِيُّ الْكْلاسِيكِيُّ، أَوِ التَّفْسِيرُ شِبْهُ الْبِيلاجِي، لِهَذَا هُوَ أَنْ لا أَحَدَ يَقْدِرُ أنْ يَأْتِيَ إِلى يَسوعَ إِنْ لمْ يَسْتَدْرِجْهُ الآبُ، أَوْ يَتَوَدَّدْ إِلَيْهِ. مَرَّةً أُخْرَى، يَرْتَبِطُ هذا عادَةً بِمَفْهُومِ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ بِتأثيرِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي التَّودُّدِ، أَوِ الاسْتِدْراجِ. تُفَسَّرُ كَلِمَةُ "يَجْتَذِبُ" (يوحنَّا 6: 44) هُنَا بأنَّها تَعْنِي "يَتَوَدَّدُ أَوْ يَسْتَمِيلُ"، كَمَا يَجْذِبُ العَسَلُ النَّحْلَ، ويَجْذِبُ النُّورُ الفَراشاتِ. لكِنَّ الْجَذْبَ الَّذِي يَفْعَلُهُ اللهُ قابِلٌ لِلْمُقاوَمَةِ، وَمَنْ يَسْتَجِيبُونَ لِلاسْتِدْراجِ، أَوْ يَسْتَجِيبونَ لِلتَّودُّدِ، يَنالونَ الْفِداءَ، بِحَسَبِ الأَرْمِينِيَّةِ، ومَنْ لا يَسْتَجِيبونَ للاجْتِذابِ يَهْلِكُونَ.

التفسيرُ الأُوغُسْطِينِيُّ للآيَةِ هُوَ أنَّ كَلِمَةَ "يَجْتَذِبُ" تَعْنِي أكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ "يَسْتَدْرِجُ أَوْ يَتَوَدَّدُ".

لِنَرَ كَيْفَ استُخدِمَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى مِنَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. إِنْ فَتَحْنا رِسالَةَ يَعْقُوبَ، الأصْحاحَ 2، والآيَةَ 6، سَنَجِدُ الكلِمَةَ الْيونانِيَّةَ نَفْسَها مُسْتَخْدَمَةً. فِي الأصحاحِ الثَّانِي مِنْ رِسالَةِ يَعْقُوبَ، والآيَةِ السَّادِسَةِ – سَأَقْرَأُ الآيَةَ. "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ. أَلَيْسَ الْأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إِلَى الْمَحَاكِمِ؟" هَلْ يُمْكِنُكُمْ تَخْمِينُ الْكَلِمَةِ المُسْتَخْدَمَةِ هُنَا وَالْمُطَابِقَةِ تَمَامًا لِلْكَلِمَةِ الَّتي تُرْجِمَتْ "يَجْتَذِبُ" فِي يُوحَنَّا 6. هلْ خَمَّنَ أحَدٌ؟ "يَجُرُّونَ". لِنَضَعِ الآنَ الْمَعْنَى شِبْهِ الْبِيلاجِي: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ. أَلَيْسَ الْأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يتودَّدونَ لَكُمْ لِتَدْخُلُوا الْمَحَاكِمَ؟" واضِحٌ؟

لِنَنْظُرْ آيَةً أُخْرَى. لِنَقْرَأْ مِنْ سِفْرِ أَعْمالِ الرُّسُلِ، الأصحاحَ 16 والآيةَ 19. سَأَقْرَأُها. "فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلَا وَجَرُّوهُمَا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ". هَلْ يُمْكِنُكُمْ أَيْضًا تَخْمِينُ أيَّةُ كَلِمَةٍ هُنا هِي الْكَلِمَةُ الْيونانِيَّةُ نَفْسُها؟ مَرَّةً أُخْرى، كَلِمَةُ "جَرُّوهُمَا". أيضًا، لِنَضَعْ "اسْتَدْرَجوهُما، أَوْ تَوَدَّدُوا إِلَيْهِما" بَدَلًا مِنْها. "أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلَا وتَودَّدُوا إلَيْهِما ليَذْهبا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ". يُشيرُ هذا النَّصُّ بِوُضوحٍ إلى مُمارَسَةِ قُوَّةٍ فِي جَرِّ بُولُسَ وَسِيلا إِلَى السُّوقِ.

رُبَّما يَجْعَلُكُمْ هَذَا تَتَساءَلُونَ عَنْ سَبَبِ اسْتِخْدامِ الْمُتَرْجِمينَ لِكَلِمَةِ "يَجْتَذِبُ" بَدَلًا مِنْ "يَجُرُّ" (يوحنا 6: 44). يُمْكِنُني فَقَطْ التَّخْمِينُ، وَسَأُحاوِلُ بَعْدَ لَحْظَةٍ، لَكِنْ لِنُكْمِلْ أَوَّلًا.

إِنْ لَمْ يُجْبِرْهُ الآبُ:

كُلَّما شَكَكْنا في المَعْنى الدَّقيقِ لِكلمَةٍ في الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ، أَوَّلُ شَيْءٍ نَفْعَلُهُ هُوَ فَحْصُ اللُّغَةِ الأَصْلِيَّةِ. لَكِنْ بَعْدَ فَحْصِ اللُّغَةِ، نَظَلُّ مُعْتَمِدينَ على عِلْمِ اللُّغَةِ وَمَعاني الْكلماتِ حتَّى نفهمَ مَعْنى هذا اللَّفْظِ في الزَّمَنِ الِّذي استُخْدِمَ فيهِ عِنْدَ كتابَةِ الْوَثائِقِ. أَعْتَقِدُ أنَّنا نَستَطِيعُ أنْ نَقولَ إِنَّ أَكْثَرَ مَصْدَرٍ لُغَوِيٍّ وَمُعْجَمِيٍّ يَحْظَى بِالتَّقْدِيرِ فِي الْعالَمِ الأَكادِيمِي، وَفِي الْكَنِيسَةِ لِلْبَحْثِ عَنْ مَعانِي الْكَلِماتِ الْيُونَانِيَّةِ هُوَ "قاموسُ كِيتِل اللَّاهوتِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ".

فِي هذا القاموسِ عَرَّفَ كِيتِل الْكَلِمَةَ الَّتِي تُرجِمَتْ "يَجْتَذِبُ" فِي هذا النَّصِّ (يوحنا 6: 44) بأنَّها "يُجبِرُ بِسُلْطَةٍ لا يُمْكِنُ مُقاوَمَتُها". أُضِيفُ أنَّ واضِعِي هذا الْقامُوسِ هُمْ أَبْعَدُ ما يَكُونُ عَنِ الْكَالْفِينِيَّةِ. لَكِنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَنَّ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ-فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ لِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ "يُجْبِرُ".

لَكِنْ، نَسْأَلُ أيْضًا، إنْ كانَ هذا صَحِيحًا، أيْ إِنْ كانَ الْبُرْهانُ اللُّغَوِيُّ وَالْمُعْجَمِيُّ يُرَجِّحُ بِشِدَّةٍ أنَّ الْفِعْلَ يَعْني إِجْبارًا، فَلِماذا اسْتَخْدَمَ الْمُتَرْجِمونَ، فِي تَرْجَماتٍ عَدِيدَةٍ، كَلِمَةَ "يَجْتَذِبُ"، وَتَرْجَمُوا الْكلِمَةَ نَفْسَها إِلَى "يَجُرُّ" فِي نُصوصٍ أُخْرَى؟

حَسَنًا، حينَ تَكونُ لَدَيْكَ كَلَمِةٌ كَهَذِهِ، فعادَةً ما يتحدَّدُ اختيارُكَ لِتَرْجَمَتِها بِالسِّياقِ. وَيَتَحَدَّدُ أَيْضًا بِشَكْلٍ مَا بِفِكْرِكَ اللَّاهُوتِيِّ. وَرُبَّما، هذا مُجَرَّدُ تَخْمِينٍ، شَعَرَ الْمُتَرْجِمونَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُهِينِ لِلْقارِئِ أَنْ يَكْتُبُوا: "لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجُرَّهُ الآبُ" أَوْ "إِنْ لَمْ يُجْبِرْهُ الآبُ". رُبَّما هذا سَبَبُ اخْتِيارِهِمْ عَدَمَ كِتابَةِ هَذَا.

لَكِنْ، لَمْ يَكُنْ غَالِبِيَّةُ الْمُتَرْجِمينَ بِهَذِهِ الْعَشْوائِيَّةِ فِي تَرْجَمَتِهِمْ لِلْكِتابِ الْمُقَدَّسِ. لَكِنَّهُمْ حَاوَلُوا أَنْ يَكونُوا أُمناءَ بِقَدْرِ اسْتِطاعَتِهِمْ فِي تَرْجَمَةِ الْيُونَانِيَّةِ إِلَى لُغاتٍ أُخْرَى. وَقَدْ حَيَّرَني هَذا طَوِيلًا، وَأَعْتَقِدُ أَنَّنِي وَجَدْتُ الإِجابَةَ، وَسَأُخْبِرُكُمْ بِقِصَّةٍ لِتَوْضِيحِهَا.

أيُّها الْماءُ، أيُّها الْماءُ:

دُعِيتُ لِمُناظَرَةٍ عَنْ مَوْضوعِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ فِي كُلِّيَّةِ لاهوتٍ أَرْمِينِيَّةٍ، كانَتِ الْكُلِّيَّةُ أَرْمِينِيَّةً حَتَّى أَنْفِها، بِحَسَبِ إِقْرارِ إِيمانِها. كَانَتْ تَجْمَعُنا صَداقَةٌ جَيِّدَةٌ وَوَدُودَةٌ مَعَ الْكُلِّيَّةِ، وَكَانُوا يَعْرِفونَ أَنِّي مُعارِضٌ لِلَّاهُوتِ الأَرْمِينِيِّ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مِنَ الْجَيِّدِ أَنْ يُنَظِّمُوا مُناظَرَةً أمامَ الطُّلَّابِ وَهَيْئَةِ التَّدْرِيسِ، لأنَّهُمْ أرَادُوا أنْ يَسْمَعَ الطُّلَّابُ الرَّأْيَ الآخَرَ، الَّذِي كُنْتُ أُمَثِّلُهُ. وصادَفَ أَنَّ مُناظِرِي، الْوَدُودَ بِالْفِعْلِ، كانَ رَئِيسَ قِسْمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ.

وَبَيْنَما كنَّا نُناقِشُ الْمَوْضوعَ، وَصَلْنا إِلى هذهِ الآيَةِ، فَاسْتَشْهَدَ بِهَا: "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الْآبُ" (يوحنا 6: 44). وفسَّرَ الْكَلِمَةَ بِمَعْنَى "يَسْتَدْرِجُ أَوْ يَتَوَدَّدُ". نبَّهْتُهُ فِي الْحالِ إِلَى شَيْءٍ كُنْتُ أَعْتَقِدُ أنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَحْتاجُ أَنْ أَفْعَلَهُ، لأنَّهُ هُوَ مَنْ كانَ الدَّارِسَ لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، لا أَنا. قلتُ: "ماذا عَنِ اسْتِخْدامِها فِي يَعْقُوبَ 2 وأعمالِ الرُّسُلِ 16؟" أقرَّ بأنَّ النصَّيْنِ يَسْتَخْدِمانِ بِالْفِعْلِ التَّفْسِيرَ الأكْثَرَ إِلْزامًا لِلْفِعْلِ، وأَنَّهُ يُمْكِنُ تَرْجَمَةُ الْفِعْلِ "يَجُرُّ". أقَرَّ بِهَذَا.

فَسَأَلْتُهُ: "إِذَنْ، لِماذا تُصِرُّ عَلَى أنَّ يَجْتَذِبُ أَقَلُّ إِلْزامًا مِنْ يَجُرُّ؟" أجابَ: "لأنَّ لَدَيْنا مِثالًا لاسْتِخْدامِ الْفِعْلِ فِي اللُّغةِ الْيُونَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، فِي مَسْرَحِيَّةٍ ما لِيُورْبِيدِيس"، أَوْ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ مِنْ قَبْلُ. وَقالَ: "هذا الْفِعْلُ اسْتَخْدَمَهُ الْيُونَانِيُّونَ عَنْ "سَحْبِ" الْماءِ مِنَ الْبِئْرِ".

وقالَ لِي، وَقَدْ كُنْتُ مُرْتَبِكًا جدًّا. لَمْ تَكُنْ لَدَيَّ فِكْرَةٌ عَنْ هَذا. قالَ: "إِذَنْ، أستاذَ سْبْرُول، مِنَ الْمَشْرُوعِ اسْتِخدامُ كَلِمَةِ "يَجْتَذِبُ" لأنَّ لا أحَدَ يَجُرُّ الْماءَ مِنَ الْبِئْرِ". هُنَا عَمَّتِ الْفَوْضَى، وَكُنْتُ عَالِقًا، وَمُحْرَجًا، لأَنَّنِي لَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا عَنْ هَذَا.

ثُمَّ قُلْتُ: "صَحِيحٌ أنَّكَ لا تَجُرُّ الْماءَ مِنَ الْبِئْرِ، لَكِنْ، يَا سَيِّدي، كَيْفَ تَحْصُلُ عَلَى الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ؟ هَلْ تَقِفُ أَعْلَى الْبِئْرِ وَتَقُولُ: "أَيُّها الْماءُ، أَيُّها الْماءُ"؟ هَلْ تَتَوَدَّدُ لِلْماءِ لِيَخْرُجَ مِنَ الْبِئْرِ؟ هَلْ تَسْتَدْرِجُ الْماءَ مِنَ الْبِئْرِ؟ أَمْ لا بُدَّ أنْ تفعلَ شَيْئًا يُجْبِرُ الماءَ عَلى مُقاوَمَةِ الْجاذِبِيّةِ، حَتَّى تَرْفَعَهُ حيثُ يُمْكِنُكَ اسْتِعْمَالُهُ؟" ضَحِكَ الْجَمِيعُ، فانْتَقَلْنا إِلى آيَةٍ أُخْرَى.

لَكِنْ أَعْتَقِدُ أَنَّ حَتَّى هَذَا الاسْتِخْدامَ الْغامِضَ لِلْكَلِمَةِ فِي اليونانِيَّةِ يُؤَكِّدُ أَنَّ الْفِعْلَ يُوحِي بِقُوَّةِ إِجْبارٍ إِلَهِيَّةٍ. وَإِنْ كانَ هذا صَحِيحًا، يُمْكِنُ أَنْ أَقُولَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ، وَحْدَها، كافِيَةٌ لِحَسْمِ الْجَدَلِ تَمَامًا، مِنْ جِهَةِ مَقْدِرَةِ الإِنْسانِ، أَوْ غِيابِها، عَلى تَرْغِيبِ نَفْسِهِ فِي اخْتِيارِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لأنَّ الرَّبَّ يَسوعَ نفسَهُ يَقُولُ إِنَّ لا أحدَ يَقْدِرُ على هذا إِنْ لَمْ يُجْبِرْهُ الآبُ. هَذِهِ أُوغُسْطِينِيَّةٌ بَحْتَة، لَكِنَّها فَقَطْ قَبْلَ زمَنِ الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسَ بِكَثِيرٍ.

الميلادُ الثَّانِي يَسْبِقُ الإيمانَ:

لَكِنْ إِنْ كانَ هذا غَيْرَ كَافٍ عَنْ مَقْدِرَةِ الإِنْسانِ، لِنَعُدْ إِلَى الأَصْحاحِ 3 مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، حَيْثُ يَصِفُ يُوحَنَّا لِقاءَ يَسُوعَ مَعَ الْفِرِّيسِيِّ، وَاللَّاهُوتِيِّ، نِيقُودِيمُوسَ، فقالَ فِي الآيَةِ 3: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا-علامَ يَدُلُّ هَذَا؟ مَاذا يَأْتِي بَعْدَهُ؟ شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ" (يوحنا 3: 3).

إِذَنْ، مَاذا يَنْبَغِي أَنْ يَحْدُثَ، فِي رَأْيِ يَسُوعَ، قَبْلَ أَنْ يَرَى أَحَدٌ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لا بُدَّ أَنْ يُولَدَ مِنْ فَوْقُ. إِذَنْ، الْميلادُ الثَّانِي يَسْبِقُ رُؤْيَةَ مَلكُوتِ اللهِ. هَلْ هَذَا تَفْسِيرٌ مَشْرُوعٌ لِلنَّصِّ؟ فِي الْحَقِيقَةِ، لا أحَدَ يَقْدِرُ أنْ يراهُ أبَدًا إِلَّا حِينَ يَكُونُ ماذَا أَوَّلًا؟ مَوْلُودًا مِنْ فَوْقُ، أَوْ ثَانِيَةً.

حَسَنًا. لِنُكْمِلْ. تَحَيَّرَ نِيقُودِيمُوس. "كَيْفَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟" أَجَابَ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ" (يوحنا 3: 4-5). إِذَنْ، الميلادُ الثَّانِي مَطْلَبٌ مُسْبَقٌ لدُخولِ وَرُؤْيَةِ مَلكوتِ اللهِ.

يقولُ شِبْهُ الْبِيلاجِيِّين: يَخْتارُ الْبَشَرُ الْمَسِيحَ قَبْلَ أنْ يُولَدُوا ثَانِيَةً. وَيَقولونَ أَيْضًا: إنَّ الْبَشَرَ فِي طَبِيعَتِهِمْ يَتَعاوَنُونَ معَ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، ويتَجاوَبُونَ مَعَ تَوَدُّدِ اللهِ الرُّوحِ الْقُدُسِ لَهُمْ وَاسْتِدْراجِهِ وَجَذْبِهِ، وَهْوَ لَمْ يَسْكُنْهُمْ، أيِ الرُّوحُ الْقُدُسُ، أَوْ يُجَدِّدْهُمْ بَعْدُ. الْخُلاصَةُ هِيَ أَنَّ الْفِكْرَ الأَرْمِينِيَّ يَتَحَدَّثُ عَنْ أُناسٍ لَمْ يُولَدُوا ثَانِيَةً بَعْدُ، لَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَخْتَارُونَ مُلْكَ مَلَكُوتِ اللهِ. ألَا يُحيِّرُ هَذا الْعَقْلَ؟

لذلِكَ، فمبْدَأُ اللَّاهوتِ الأُوغُسْطِينِيِّ هوَ: الْمِيلادُ الثانِي يَسْبِقُ الإِيمانَ. يُعَدُّ الْمِيلادُ الثَّانِي شَرْطًا أَساسيًّا لِلإِيمانِ، كَمَا عَلَّمَ بولُسُ فِي نَصٍّ آخَرَ فِي أفسس 2: 4-5، قائِلًا إِنَّنا وَنَحْنُ أَمْواتُ بِالذُّنوبِ وَالْخطايا، أَحْيانا اللهُ، أَيْ جَعَلَنا أَحْيَاءَ فِي الْمَسِيحِ. وَنَحْنُ بَعْدُ أَمْواتُ!

ثُمَّ يقولُ إِنَّنا لِهَذَا مُخَلَّصُونَ بِالنِّعْمَةِ، بِالإِيمانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَّا، هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ (أفسس 2: 8). إِذَنْ، نَرَى أَنَّ الإيمانَ هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ النَّاتِجَةُ عَنْ عَمَلِ تَجْدِيدِ الرُّوحِ فِي داخِلِنا. اللهُ نفسُهُ هوَ مَنْ يُعْطِي الشَّرْطَ الأَساسِيَّ للْمَجِيءِ لِيَسُوعَ. وَلِهَذا، نَخْلُصُ بِالنِّعْمَةِ وَحْدَهَا "sola gratia".

الْجَسَدُ لا يُفيدُ شَيْئًا:

ثمَّ قالَ يسوعُ: "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لَا تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ" (يوحنا 3: 6-7). يَقُولُ يَسُوعُ: "لِماذَا يُفاجِئُكَ هَذَا؟ فَأَنْتَ لاهُوتِيٌّ، يا نِيقُودِيمُوس. أَلا تَفْهَمُ مَعْنَى طَبِيعَةِ الإِنْسانِ السَّاقِطَةِ، أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ؟"

وَفِي نَصٍّ آخَرَ، نَقْرَأُ أنَّ الْجَسَدَ لا يُفِيدُ – ماذا؟ - شيْئًا (يوحنا 6: 63). لَكِنْ إِنِ اعْتَقَدْنا أنَّ اللهَ يَسْتَدْرِجُنا لِنَأْتِيَ لِلْمَسِيحِ، وأَنَّ كُلَّ ما عَلَيْنا فِعْلُهُ، فِي الْجَسَدِ وَقَبْلَ مِيلادِنا الثَّانِي، هُوَ التَّعاوُنُ مَعَ هَذَا، أَوْ قُبُولَهُ. وأَنَّنا نَسْتَطِيعُ التَّعاوُنَ مَعَ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ وَقُبُولَها، لِدَرَجَةِ دُخُولِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَنَوالِ فِداءٍ أَبَدِيٍّ. وأَنَّنا نَفْعَلُ هَذَا وَنَحْنُ فِي الْجَسَدِ. فَسَأَسْأَلُكُمْ: بِماذا يَنْفَعُ الْجَسَدُ؟ لَنْ يَنْفَعَ بَعْضَ الشَّيْءِ – بَلْ سَيَنْفَعُ كُلِّيًا! سَيَنْفَعُ خَلاصَكَ الأَبَدِي!

تَحَدَّثَ بُولُسُ نَفْسُهُ عَنْ هَذَا فِي الأصْحاحِ 8، الآيَةِ 7. لِنَبْدَأْ مِنَ الآيَةِ 5: "فَإِنَّ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ حَسَبَ الرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ. لِأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلَكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلَامٌ. لِأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ اللهِ، لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَسْتَطِيعُ" (رومية 8: 5-7).

هُنَا يُخْبِرُنا الرَّسولُ بِشَيْءٍ عَنْ عَجْزِ الإِنسانِ الأَخْلاقِيِّ فِي الْجَسَدِ. وَيَقُولُ إِنَّ الإِنْسانَ، فِي حَالَتِهِ السَّاقِطَةِ، فِي الْجَسَدِ، فِي عَدَاوَةٍ لِنَامُوسِ اللهِ. وَهْوَ لا يُطِيعُ نَامُوسَ اللهِ، وَلَيْسَ خَاضِعًا لِنامُوسِ اللهِ، وَأَيْضًا ماذَا؟ لَا يَسْتَطِيعُ! إذَنْ هذا الإِنْسانُ السَّاقِطُ، كما يقولُ الرَّسولُ هُنَا (أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟)، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطِيعَ نَامُوسَ اللهِ. "فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ" (رومية 8: 8).

رُبَّما أُضِيفُ أَنَّهُ لَوْ كانَ اللهُ فَقَطْ يَتَوَدَّدُ إِلَيْنَا لِنَأْتِيَ لِلْمَسِيحِ، تَارِكًا لَنَا الْقَرارَ الأَخِيرَ، فَلا أَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْئًا يُمْكِنُ أَنْ يُرْضِيَ اللهَ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ نَسْتَجِيبَ إِيجابيًّا لِهذا الاسْتِدْراجِ والتَّوَدُّدِ. لَكِنْ يُخْبِرُنا الرَّسولُ بِأَنَّ فِي الْجَسَدِ، لا يُوجَدُ ما يَسْتَطِيعُ الإِنْسانُ فِعْلُهُ كَيْ يُرْضِيَ الله.

الْمَطْلَبُ الْمُسْبَقُ الأَسَاسِيُّ:

ثمَّ تَأْتِي الْفِكْرَةُ الْحَاسِمَةُ، فِي الآيَةِ 9. "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ". كَيْفَ نَعْرِفُ إِنْ كَانَ أحَدُهُمْ فِي الْجَسَدِ أَمْ فِي الرُّوحِ؟ "فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ"، وَالْكَلِمَةُ التَّالِيَةُ هَامَّةٌ، "إِنْ"! علامَ تَدُلُّ كَلِمَةُ "إِنْ"؟ إنَّها شَرْطٌ أَساسِيٌّ. نَعَمْ. "إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ" (رومية 8: 9).

كَمْ شَخْصًا مَوْلودًا ثانِيَةً يَسْكُنُ فِيهِ رُوحُ اللهِ؟ الْجَمِيعُ. واضِحٌ؟ فَإِنْ كُنْتَ مَوْلُودًا ثانِيَةً، فَأَنْتَ لَمْ تَعُدْ فِي الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنْتَ فِي الْجَسَدِ، فَأَنْتَ لَمْ تُولَدْ ثَانِيَةً. هَلْ هَذَا وَاضِحٌ؟ إِذَنْ، حِينَ تَحَدَّثَ الرَّسولُ عَنِ الَّذِينَ فِي الْجَسَدِ، كانَ يَقْصِدُ غَيْرَ الْمَوْلُودِينَ ثَانِيَةً. وَغَيْرُ الْمَوْلُودِينَ ثَانِيَةً لا يستطيعونَ إِرْضاءَ اللهِ، ولا يَسْتَطيعونَ إطاعَةَ اللهِ، ولا يستطيعونَ الْخُضُوعَ للهِ، وَيَخْتَبِرونَ هذِهِ الْحالَةَ الْمُخِيفَةَ مِنَ الْعَجْزِ الأَخْلاقِيِّ الَّتِي تحدَّثْنا عَنْها.

"إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ" (رومية 8: 9). تابَعَ قائِلًا: إنْ كانَ لأَحَدٍ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَهْوَ لِلْمَسِيحِ. إِذَنْ، الْمَطْلَبُ الْمُسْبَقُ الأَسَاسِيٌّ لِلْخلاصِ هُوَ عَمَلٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ؛ فَهْوَ الشَّرْطُ الأَساسِيُّ، وَالْمَطْلَبُ الْمُسْبَقُ كَيْ يُوجَدَ الإِيمانُ. لِهَذا نَحْنُ نُصِرُّ على أنَّ الْخُطْوَةَ الأُولَى فِي التَّبْرِيرِ، الَّتِي تُحْيِينا مِنَ الْمَوْتِ الرُّوحِيِّ، وَتُمَكِّنُنا مِنَ الْمَجِيءِ إِلَى يَسُوعَ، هُوَ عَمَلُ نِعْمَةِ اللهِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَلَيْسَ نِتاجَ الْجَسَدِ.

تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.