المحاضرة 3: مُنَفِّذُونَ عَلَى الأَرْضِ
نُتَابِعُ الآنَ تَنَاوُلَنا لِدَوْرِ وَوَظِيفَةِ الْمَلائِكَةِ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ. حِينَ بَدَأْنَا هَذِهِ الدِرَاسَةَ، ذَكَرْتُ أَنَّهُ يُمْكِنُنَا التَمْيِيزُ بَيْنَ نَشَاطِ الْمَلائِكَةِ الَذِي يَجْرِي دَاخِلَ السَمَاءِ -أَيْ أُولَئِكَ السَرَافِيمُ الْمَوْجُودُونَ حَوْلَ عَرْشِ اللهِ. وَتَطَرَّقْنَا إِلَى ذَلِكَ بِاخْتِصَارٍ. وَالْيَوْمَ أَوَدُّ التَرْكِيزَ عَلَى الطَرِيقَةِ الَتِي يَعْمَلُ بِهَا الْمَلائِكَةُ تُجَاهَ هَذَا الْعَالَمِ وَتُجَاهَ النِظَامِ الْمَخْلُوقِ.
فِي سِفْرِ أَيُّوبَ، تَرِدُ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَاجُدِ الْمَلائِكَةِ عِنْدَ خَلْقِ الْكَوْنِ كَمَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ. فِي الأَصْحَاحِ 38 مِنْ سِفْرِ أَيُّوبَ، اسْتَجْوَبَ اللهُ أَيُّوبَ، بَعْدَمَا طَالَبَ أَيُّوبُ اللهَ، فِي نَوْعٍ مِنَ التَحَدِّي، بِأَجْوِبَةٍ عَنْ ظُرُوفِهِ. وَنَتَذكَّرُ أَنَّ هَذَا الأَصْحَاحَ يَبْدَأُ بِتَوْبِيخٍ جَادٍّ مِنَ الرَبِّ لأَيُّوبَ، قَائِلًا لَهُ: "مَنْ هَذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي". إِذَنْ، بَعْدَمَا طَالَبَ أَيُّوبُ اللهَ بِأَجْوِبَةٍ، كَانَ رَدُّ اللهِ هُوَ اسْتِجْوَابُ أَيُّوبَ، قَائِلًا لَهُ: "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟"
هُوَذَا تَلْمِيحٌ فِي سِيَاقِ خِطَابٍ شِعْرِيٍّ إِلَى تَرَنُّمِ كَوَاكِبِ الصُبْحِ مَعَ بَنِي اللهِ. وَفِي الْمُعْتَادِ، يَرَى مُفَسِّرُو سِفْرِ أَيُّوبَ أَنَّ عِبَارَةَ "بَنِي اللهِ"، الَذِين كَانُوا حَاضِرِينَ فِي أَثْنَاءِ الْخَلْقِ، هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَلائِكَةِ. وَهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ أَثَارَ الْكَثِيرَ مِنَ التَكَهُّنَاتِ وَالْجَدَلِ بِشَأْنِ هَذَا الاسْتِخْدَامِ لِعِبَارَةِ "بَنِي اللهِ". تَذْكُرُونَ أَنَّهُ فِي الأَصْحَاحَاتِ الأُولَى مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، بَعْدَمَا قَتَلَ قَايِينُ أَخَاهُ هَابِيلَ، تَرِدُ قَائِمَةٌ لِنَسْلِ شِيثٍ، ثُمَّ نَسْلِ قَايِينَ. وَنَرَى هَذَا الامْتِدَادَ الْجَذْرِيَّ لِلشَرِّ. ثُمَّ نَقْرَأُ أَنَّ بَنَاتِ النَاسِ تَزَوَّجْنَ مِنْ أَبْنَاءِ اللهِ، وَأَنْجَبْنَ سُلالَةً مِنَ الْبَشَرِ شَدِيدِي الانْحِرافِ. وَاعْتَبَرَ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا النَصَّ يَعْنِي حُدُوثَ تَزاوُجٍ بَيْنَ نِسَاءٍ مِنَ الْبَشَرِ وَكَائِنَاتٍ مَلائِكِيَّةٍ، إِذًا يُشَارُ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ الَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ بَنَاتِ النَّاسِ.
بِالْمُنَاسَبَةِ، لَسْتُ أَتَبَنَّى هَذَا التَفْسِيرَ لِذَلِكَ النَصِّ. بَلْ أَعْتَقِدُ أَنَّ الأَمْرَ انْطَوَى هُنَا عَلَى تَزَاوُجٍ بَيْنَ نَسْلِ قَايِينَ وَنَسْلِ شِيثٍ، مِمَّا أَسْفَرَ عَنِ الْفَسَادِ التَامِّ لِلْجِنْسِ بِأَكْمَلِهِ. لَكِنَّنَا نَرَى بِالْفِعْلِ عِبَارَةَ "أَبْنَاءِ اللهِ" أَوِ "ابْنِ اللهِ" مُسْتَخْدَمَةً فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، لا لِلإِشَارَةِ إِلَى الْمَسِيحِ فَحَسْبُ، أَوِ إِلَى أُنَاسٍ أَتْقِيَاءَ، بَلْ أَيْضًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ.
لِنَنْظُرْ ثَانِيَةً إِلَى الآيَةِ 7 الَتِي تَقُولُ: "عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ". هَذِهِ صُورَةٌ شِعْرِيَّةٌ لافِتَةٌ، لأَنَّهَا تَنْطَوِي عَلَى تَشْخِيصٍ لِلنُجُومِ - أَيْ نَسْبِ صِفَاتٍ شَخْصِيَّةٍ، مِثْلِ التَرَنُّمِ، إِلَى نُجُومِ السَمَاءِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ فِي أُولَى مَرَاحِلِ الْخَلْقِ، حِينَ وَضَعَ اللَّهُ النُجُومَ فِي السَمَاءِ، احْتَفَلَتِ النُجُومُ بِالْخَلْقِ مَعَ بَنِي اللَّهِ، الَذِينَ هَتَفُوا فَرِحِينَ. إِذَنْ، الْأَمْرُ الْوَحِيدُ الَذِي نَسْتَخْلِصُهُ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ لَمْ يُقَدِّمْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَصْفًا مُفَصَّلًا لِخَلْقِ الْمَلَائِكَةِ. نَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حَاضِرِينَ فِي وَقْتٍ مَا خِلَالَ الْخَلْقِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْفُسَهُمْ كَائِنَاتٌ مَخْلُوقَةٌ. وَهَذَا مُهِمٌّ، بَلْ وَسَيُصْبِحُ أَهَمَّ لَاحِقًا حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنْ الْمَلَائِكَةِ السَاقِطِينَ، وَلَا سِيَّمَا عَنْ الْمَفْهُومِ الْكِتَابِيِّ لِلشَيْطَانِ. لِأَنَّهُ فِي يَوْمِنَا هَذَا، هُنَاكَ مَيْلٌ إِلَى نَسْبِ صِفَاتٍ إِلَهِيَّةٍ إِلَى الشَيْطَانِ، لِأَنَّنَا نَنْسَى عَادَةً أَنَّ الشَيْطَانَ مَخْلُوقٌ. وَحَتَّى الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَحَدَّثْنَا عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، الَذِينَ يُرَافِقُونَ مَحْضَرَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالتَالِي كَائِنَاتٌ سَمَاوِيَّةٌ، لَا يَزَالُونَ مَخْلُوقَاتٍ سَمَاوِيَّةً - مَخْلُوقَاتٍ كَانُوا حَاضِرِينَ خِلَالَ عَمَلِ الْخَلْقِ، أَيْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الطَبِيعِيِّ، لَكِنَّهُمْ احْتَفَلُوا بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ مَخْلُوقَاتٌ.
نَرَى أَيْضًا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَعِبُوا دَوْرًا لَيْسَ فَقَطْ عِنْدَ الْخَلْقِ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ الْخَلْقِ يَحْفَظُ اللَّهُ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَيَتَسَلَّطُ عَلَى الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ. فَقَوَانِينُ الطَبِيعَةِ هِيَ قَوَانِينُهُ، وَيَسِيرُ التَارِيخُ وَفْقًا لِنَمَطِ حُكْمِهِ السِيَادِيِّ. بِاخْتِصَارٍ، لَسْنَا نُؤْمِنُ بِعَمَلِ خَلْقٍ، بِهِ خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا، ثُمَّ نَظِيرَ الْآلِهَةِ الرُبُوبِيَّةِ، خَرَجَ مِنْ الْمَشْهَدِ، وَعَبَّأَ السَّاعَةَ، وَتَرَكَهَا تَعْمَلُ وَفْقَ عَمَلِيَّاتِهَا الدَاخِلِيَّةِ وَالْآلِيَّةِ. بَلْ بِالْأَحْرَى، الْإِلَهُ الَذِي يَخْلُقُ الْكَوْنَ هُوَ يَحْفَظُهُ أَيْضًا. فَهُوَ يُحَافِظُ عَلَى وُجُودِهِ وَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ. وَإِحْدَى الْوَسَائِلِ الَتِي يُمَارِسُ بِهَا اللَّهُ إِشْرَافَهُ وَتَسَلُّطَهُ بِعِنَايَتِهِ عَلَى التَارِيخِ وَالْخَلِيقَةِ، هِيَ مِنْ خِلَالِ مَهَامِّ الْمَخْلُوقَاتِ الَتِي خَلَقَهَا لِتَتْمِيمِ مَشِيئَتِهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
تَرَوْنَ، مَثَلًا، أَنَّنَا نَجِدُ أَوَّلَ ظُهُورٍ لِلْمَلَائِكَةِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فِي أَوَائِلِ سِفْرِ التَكْوِينِ - وَهَذَا بِمَعْزِلٍ عَنْ ظُهُورِ الشَيْطَانِ، الَذِي هُوَ الْمَلاكُ السَاقِطُ، وَاَلَذِي سَنَتَنَاوَلُهُ فِي دِرَاسَةٍ مُنْفَصِلَةٍ. لَكِنَّنَا نُرَكِّزُ اهْتِمَامَنَا الْآنَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الصَالِحِينَ، أَيِ الْمَلَائِكَةِ الَذِينَ يَعْمَلُونَ مَعَ اللَّهِ فِي عِنَايَتِهِ التَدْبِيرِيَّةِ بِالْعَالَمِ وَالتَارِيخِ.
نَرَى ظَاهِرَةً غَرِيبَةً، بَعْدَ سُقُوطِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَطَرْدِهِمَا مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، وَإِرْغَامِهِمَا عَلَى السُكْنَى شَرْقِيَّ عَدْنٍ، وَعَدَمِ السَمَاحِ لَهُمَا بِالْبَحْثِ عَنْ مَلَاذٍ أَوْ مَسْكَنٍ لَهُمَا فِي جَنَّةِ عَدْنٍ مُجَدَّدًا. كَتَبَ مِيلْتُونْ عَنْ هَذَا الِاخْتِبَارِ فِي مُؤَلَّفِهِ الْكِلَاسِيكِيِّ "الْفِرْدَوْسُ الْمَفْقُودُ"، بِأَنَّهُ رُبَّمَا رَاوَدَتْ آدَمَ وَحَوَّاءَ مُيُولٌ قَوِيَّةٌ لِمُحَاوَلَةِ اسْتِعَادَةِ مُتْعَتِهِمَا السَابِقَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، لَكِنْ لَمْ يَتَمَكَّنَا مِنْ الْعَوْدَةِ إِلَى هُنَاكَ. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ اللَّهَ عَيَّنَ حَارِسًا عِنْدَ مَدْخَلِ جَنَّةِ عَدْنٍ، وَذَلِكَ الْحَارِسُ الَذِي كَانَ يُنَفِّذُ حُكْمَ اللَّهِ بِعِنَايَتِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِنْ التَارِيخِ، كَانَ مَلَاكًا وُضِعَ هُنَاكَ، شَاهِرًا لَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ.
مَرَّةً أُخْرَى، هَذِهِ مُجَرَّدُ إِشَارَةٍ وَجِيزَةٍ إِلَى وَظِيفَةِ مَلَاكٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَصْحَاحَاتِ الْأُولَى مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، لَكِنَّهَا حَافِلَةٌ بِالتَأْثِيرَاتِ اللَاهُوتِيَّةِ عَلَى فَهْمِنَا الْكَامِلِ لِعَقِيدَةِ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ. فَأَوَّلًا، يَجِبُ أَنْ نُدْرِكَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، حَيْثُ وَضَعَ اللَّهُ الْمَلَاكَ حَامِلًا لَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ عِنْدَ مَدْخَلِ جَنَّةِ عَدْنٍ، كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ بَيَانٍ عَنِ الْحُكُومَاتِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، أَيْ عَنْ مُوَظَّفِينَ مَسْؤُولِينَ عَنْ تَنْفِيذِ الْقَانُونِ. إِذَنْ، أَوَّلُ مُوَظَّفٍ لِتَنْفِيذِ الْقَانُونِ تَدَخَّلَ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا، بَلْ مَلَاكًا، وَقَفَ حَامِلًا السَيْفَ ضِدَّ فَعَلَةِ شَرٍّ مُحْتَمَلِينَ.
تِلْكَ اللَّمْحَةُ الْبَسِيطَةُ عَنِ النَشَاطِ الْمَلَائِكِيِّ، إِلَى جَانِبِ مَقَاطِعَ أُخْرَى سَنَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَبَقِّي لَدَيْنَا الْيَوْمَ، حَفَّزَتْ عَلَى عَمَلِ بَعْضِ الدِرَاسَاتِ الْمُذْهِلَةِ لِدَوْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحُكْمِ الْبَشَرِيِّ. وَوَاحِدٌ مِنْ أَكْثَرِ الْبَاحِثِينَ الْمُوَقَّرِينَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ هُوَ مُؤَرِّخٌ كَنَسِيٌّ سْوِيسْرِيٌّ، وَبَاحِثٌ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، يُدْعَى أُوسْكَارْ كُولْمَانْ. وَبِمَا أَنَّ الْكَثِيرَ - أَوْ مُعْظَمَ - اللَّاهُوتِيِّينَ يَصْرِفُونَ وَقْتًا ضَئِيلًا فِي دِرَاسَةِ دَوْرِ وَوَظِيفَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي تَارِيخِ الْفِدَاءِ، غَيَّرَ كُولْمَانْ مِنَ الْحَالِ، وَأَجْرَى دِرَاسَاتٍ شَامِلَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَتَبَ مَقَالَاتٍ عَنْ مَفْهُومِ الْقُوَّاتِ الْمَلَائِكِيَّةِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ - أَيْ عَنْ فِكْرَةِ أَنَّهُ فَوْقَ السُلْطَةِ الْأَرْضِيَّةِ، هُنَاكَ حُكْمٌ بِعِنَايَةِ اللَّهِ لِكُلِّ سُلْطَةٍ فِي الْعَالَمِ تُمَارِسُهُ قُوَّاتٌ مَلَائِكِيَّةٌ، الْبَعْضُ مِنْهَا صَالِحٌ وَالْآخَرُ شِرِّيرٌ. وَلِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُخْبِرُنَا بِأَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ مَمَالِكَ وَيُسْقِطُ أُخْرَى، أَرَادَ كُولْمَانْ الْقَوْلَ إِنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الْمَمَالِكَ أَوْ يُسْقِطُهَا مِنْ خِلَالِ اسْتِخْدَامِ السُلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَتِي لِلْكَائِنَاتِ الْمَلائِكِيَّةِ.
وَتَذَكُرُونَ أَنَّهُ حِينَ أَوْصَانَا بُولُسُ بِأَنْ نَحْمِلَ سِلَاحَ اللَّهِ الْكَامِلَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، أَخْبَرَنَا بِأَنَّ سَبَبَ حَاجَتِنَا إِلَى لُبْسِ هَذَا السِلَاحِ الرُوحِيِّ هُوَ أَنَّ مُصَارَعَتَنَا فِي هَذَا الْعَالَمِ لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ مَاذَا؟ "مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلَاَطِينِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي الْأَعَالِي". هَذِهِ إِحْدَى التَرْجَمَاتِ. وَفِي تَرْجَمَةٍ أُخْرَى نَقْرَأُ: "مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" - فِي "أُورَانُوسْ" بِحَسْبِ الْيُونَانِيَّةِ - أَيْ إِنَّهُ فِي الْأَجْوَاءِ السَّمَاوِيَّةِ تُوجَدُ قُوًى شَرِّيرَةٌ تُمَارِسُ تَأْثِيرًا شِرِّيرًا، بِوَاسِطَةِ الرُؤَسَاءِ وَالسَلَاطِينِ، أَيْ السُلُطَاتِ الْأَرْضِيَّةِ. إِذَنْ، يَقُولُ بُولُسُ إِنَّهُ عَلَى شَعْبِ اللَّهِ أَنْ يَلْبَسُوا سِلَاحَ اللَّهِ الْكَامِلَ، لِأَنَّ مُصَارَعَتَهُمْ لَيْسَتْ فَقَطْ مَعَ بَشَرٍ، بَلْ مَعَ سُلُطَاتٍ مُؤَيَّدَةٍ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُؤَيَّدَةً، مِنْ الشَّيْطَانِ - أَيْ إِنَّهُ وَرَاءَ هَذِهِ الْقُوَى وَالسُلُطَاتِ الدُنْيَوِيَّةِ، تَقِفُ قُوًى فَائِقَةٌ لِلطَبِيعَةِ، يَبْقَى مُعْظَمُهَا غَيْرَ مَرْئِيٍّ لَنَا.
لَكِنْ لَيْسَ فَقَطْ هُنَاكَ قُوًى شَيْطَانِيَّةٌ تَتَدَخَّلُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَالَمِ، بِحَيْثُ تُصْبِحُ الْحُكُومَاتُ حَقًّا وَفِعْلِيًّا إِمْبِرَاطُورِيَّاتٍ لِلشَرِّ، بَلْ هُنَاكَ أَيْضًا وُكَلَاءُ لِلَّهِ لِلْخَيْرِ، مُتَدَاخِلُونَ فِي الْأُمَمِ وَالْحُكُومَاتِ. وَنَجِدُ مِثَالًا لِذَلِكَ بِالنَظَرِ، إِنْ أَمْكَنَ، إِلَى سِفْرِ دَانْيَالَ. فَفِي الْأَصْحَاحِ 12، وَالْآيَةِ 1، نَقْرَأُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: "وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقُومُ مِيخَائِيلُ الرَّئِيسُ الْعَظِيمُ الْقَائِمُ لِبَنِي شَعْبِكَ، وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيقٍ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُنَجَّى شَعْبُكَ".
يُعَرَّفُ مِيخَائِيلُ فِي جُزْءٍ سَابِقٍ مِنْ سِفْرِ دَانْيَالَ بِأَنَّهُ رَئِيسُ مَلَائِكَةٍ. وَنَرْصُدُ مُسْتَوَيَاتٍ مِنَ السُلْطَةِ بَيْنَ جُنْدِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ رَئِيسِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَاكِ يَكْمُنُ بِبَسَاطَةٍ فِي الرُتْبَةِ وَالسُلْطَةِ. كَلِمَةُ "آرْخِي" فِي الْيُونَانِيَّةِ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ أُولَى الْكَلِمَاتِ الَتِي يَتَعَلَّمُهَا كُلُّ مَنْ يَدْرُسُ اللُغَةَ الْيُونَانِيَّةَ - أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ الْيُونَانِيَّةَ الْقَدِيمَةَ - لِأَنَّنَا عَادَةً مَا نَتَّخِذُ مِنْ افْتِتَاحِيَّةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا مَرْجِعًا دِرَاسِيًّا. وَيَبْدَأُ إِنْجِيلُ يُوحَنَّا بِالْكَلِمَاتِ: "إِنْ آرْخِي إِنْ هُوَ لَوُجُوس". "إِنْ آرْخِي" تَعْنِي "فِي الْبَدْءِ". وَكَلِمَةُ "آرْخِي" مَعْنَاهَا الْبَدْءُ -أَوْ زَعِيمٌ أَوْ رَئِيسٌ. وَمَعَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي الأَصْحَاحِ 1 مِنْ يُوحَنَّا تُشِيرُ إِلَى مَرْحَلَةٍ زَمَنِيَّةٍ، مِثْلِ رَأْسِ الزَمَنِ، أَوْ أَوَّلِ الزَمَنِ، أَيِ الْبَدْءِ، تُسْتَخْدَمُ الْكَلِمَةُ عَادَةً لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَشْغَلُ أَعْلَى مَرْتَبَةٍ مِنَ السُلْطَةِ. وَهِيَ تُسْتَخْدَمُ فِي الْإِنْجِلِيزِيَّةِ. مَثَلًا، نَجِدُهَا فِي الْبَادِئَةِ "آرْشْ". فَلَدَيْنَا أَعْدَاءٌ وَأَعْدَاءٌ رَئِيسِيُّونَ (archenemies). وَفِي كُرَةِ الْقَدَمِ، لَدَيْنَا خُصُومٌ وَخُصُومٌ رَئِيسِيُّونَ (archrivals). وَفِي الْكَنِيسَةِ لَدَيْنَا أَسَاقِفَةٌ وَرُؤَسَاءُ أَسَاقِفَةٍ (archbishops). وَفِي مَجَالِ الْبِنَاءِ لَدَيْنَا بَنَّاؤُونَ وَمِعْمَارِيُّونَ (architects)، الَتِي مَعْنَاهَا "بِنَّاءٌ رَئِيسِيٌّ". فَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْمُهَنْدِسِ الْمِعْمَارِيِّ، إِلَى آخِرِهِ. تُسْتَخْدَمُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَثِيرًا فِي اللُغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ.
هَذِهِ أَيْضًا وَظِيفَةُ الْكَلِمَةِ فِي الْيُونَانِيَّةِ. وَيُمْكِنُ التَمْيِيزُ بَيْنَ الْمَلَاكِ وَرَئِيسِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بَيْنَ الْمُهَرْطِقِ وَمُبْتَدِعِ الْهَرْطَقَةِ (heresiarch). وَمُبْتَدِعُ الْهَرْطَقَةِ هُوَ مُهَرْطِقٌ رَئِيسِيٌّ (arch-heretic)، أَيْ مُهَرْطِقٌ سَيِّءٌ لِلْغَايَةِ.
إِذَنْ، الْمَلَائِكَةُ الَذِينَ هُمْ رُؤَسَاءُ مَلَائِكَةٍ هُمْ قَادَةُ جُنْدِ السَمَاءِ، وَيَحْتَلُّونَ مَكَانَةَ السُلْطَةِ الْعُلْيَا. لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بَيْنَ الَذِينَ يَخْدُمُونَ فِي مَحْضَرِ اللَّهِ، بَلْ هُمْ وُكَلَاءُ لِلَّهِ لِمُمَارَسَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى الْخَلِيقَةِ. وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ بِالاسْمِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، هُوَ مِيخَائِيلُ، الَذِي يَظْهَرُ هُنَا فِي سِفْرِ دَانْيَالَ بِصِفَتِهِ الْإِعْلَانَ الْمَلَائِكِيَّ عَنْ سُلْطَانِ اللَّهِ فِي فِدَاءِ أُمَّتِهِ. كَذَلِكَ، عُرِّفَ جِبْرَائِيلُ فِي التَارِيخِ الْكِتَابِيِّ بِأَنَّهُ رَئِيسُ مَلَائِكَةٍ، وَسَنَتَنَاوَلُ عَمَلَهُ لَاحِقًا، إِذْ كَانَ بِمَثَابَةِ الْمَبْعُوثِ الرَئِيسِيِّ لِلَّهِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
نَرَى أَيْضًا أَنَّ الْمَلائِكَةَ الَذِينَ نَلْتَقِي بِهِمْ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، بِالأَخَصِّ، عَادَةً مَا يَظْهَرُونَ فِي هَيْئَةِ بَشَرٍ. لِنَتَنَاوَلْ مِثَالًا لِذَلِكَ فِي سِفْرِ التَكْوِينِ، فِي الأَصْحَاحِ 18. وَفِي الآيَةِ الأُولَى نَقْرَأُ: "وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ" - أَيْ لإِبْرَاهِيمَ -"عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لِاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: "يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلَا تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ"".
ثَمَّةَ بَعْضُ الصُّعُوبَةِ هُنَا. فَلَا يَجُوزُ السُجُودُ لِلْمَلَائِكَةِ. لَكِنْ، كَانَ رَدُّ فِعْلِ إِبْرَاهِيمَ تُجَاهَ هَؤُلَاءِ الرِجَالِ الثَلَاثَةِ الَذِينَ أَتَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ بُلُّوطَاتِ مَمْرَا هُوَ السُجُودُ. فَقَدِ انْبَطَحَ عَلَى وَجْهِهِ مُنْحَنِيًا أَمَامَهُمْ، مِمَّا دَفَعَ الْكَثِيرَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ هَذَا الظُهُورَ كَانَ لِمَلَاكَيْنِ عَادِيَّيْنِ بِرِفْقَةِ مَلَاكِ الرَبِّ، الَذِي هُوَ عَلَى صِلَةٍ وَثِيقَةٍ بِاللَّهِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يَرْتَدِي عَبَاءَةَ اللَّهِ، إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَنَّهُ إِمَّا ثِيُوفَانِيٌّ وَإِمَّا كْرِيسْتُوفَانِيٌّ، أَيْ إِمَّا ظُهُورٌ مَنْظُورٌ لِلَّهِ نَفْسِهِ، أَوْ ظُهُورٌ مَنْظُورٌ لِلْمَسِيحِ قَبْلَ تَجَسُّدِهِ. وَيَرَى كَثِيرُونَ أَنَّ مَلْكِي صَادِقَ كَانَ حَقًّا ظُهُورًا لِلْمَسِيحِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، مُتَخَفِّيًا فِي شَخْصِ مَلْكِي صَادِقٍ. كَمَا يَرَوْنَ عَادَةً أَنَّ رَئِيسَ جُنْدِ الرَبِّ فِي سِفْرِ يَشُوعَ هُوَ كْرِيسْتُوفَانِيٌّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ.
لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، نَجِدُ فِي سِفْرِ التَكْوِينِ أَنَّ هَؤُلاءِ الثَلاثَةَ ظَهَرُوا لِلتَشَاوُرِ مَعَ أَبْرَامَ. وَقَالَ أَبْرَامُ: " يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلَا تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ". ثُمَّ نَهَضُوا وَدَارَ هَذَا الْحَدِيثُ بَيْنَهُمْ. وَتَشَفَّعَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَدُومَ. وَنَعْرِفُ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ.
ثُمَّ فِي الأَصْحَاحِ 19، وَالآيَةِ 1، نَقْرَأُ: "فَجَاءَ الْمَلاكَانِ" - وَهُمَا عَلَى الأَرْجَحِ الْمَلاكَانِ بِدُونِ مَلاكِ رَبِّ الْجُنُودِ - "إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِسًا فِي بَابِ سَدُومَ. فَلَمَّا رَآهُمَا لُوطٌ قَامَ لِاسْتِقْبَالِهِمَا، وَسَجَدَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: "يَا سَيِّدَيَّ، مِيلَا إِلَى بَيْتِ عَبْدِكُمَا وَبِيتَا وَاغْسِلَا أَرْجُلَكُمَا، ثُمَّ تُبَكِّرَانِ وَتَذْهَبَانِ فِي طَرِيقِكُمَا". فَقَالَا: "لَا، بَلْ فِي السَّاحَةِ نَبِيتُ". فَأَلَحَّ عَلَيْهِمَا جِدًّا، فَمَالَا إِلَيْهِ وَدَخَلَا بَيْتَهُ، فَصَنَعَ لَهُمَا ضِيَافَةً وَخَبَزَ فَطِيرًا فَأَكَلَا. وَقَبْلَمَا اضْطَجَعَا" - نَقْرَأُ أَنَّهُ - "أَحَاطَ بِالْبَيْتِ رِجَالُ الْمَدِينَةِ، رِجَالُ سَدُومَ، مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الشَّيْخِ، كُلُّ الشَّعْبِ مِنْ أَقْصَاهَا. فَنَادَوْا لُوطًا وَقَالُوا لَهُ: "أَيْنَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا إِلَيْكَ اللَّيْلَةَ؟ أَخْرِجْهُمَا إِلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا"". كَانَ هَذَانِ الْمَلاكانِ جَذَّابَيْنِ لِدَرَجَةِ أَنَّ رِجَالَ سَدُومَ أَرَادُوا اسْتِغْلالَهُمَا جِنْسِيًّا. وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، فِي مُحَاوَلَةٍ مِنْ لُوطٍ أَنْ يَحْمِيَ الْمَلاكَيْنِ، عَرَضَ ابْنَتَيْهِ بَدَلًا مِنْهُمَا. لَكِنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلُوا عَلَى هَذَا أَوْ ذَاكَ. مَا يَهُمُّنَا هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الآيَةِ 9: "ابْعُدْ إِلَى هُنَاكَ. ثُمَّ قَالُوا: "جَاءَ هَذَا الْإِنْسَانُ لِيَتَغَرَّبَ، وَهُوَ يَحْكُمُ حُكْمًا. الْآنَ نَفْعَلُ بِكَ شَرًّا أَكْثَرَ مِنْهُمَا". فَأَلَحُّوا عَلَى الْرَّجُلِ لُوطٍ جِدًّا وَتَقَدَّمُوا لِيُكَسِّرُوا الْبَابَ، فَمَدَّ الرَّجُلَانِ أَيْدِيَهُمَا وَأَدْخَلَا لُوطًا إِلَيْهِمَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَغْلَقَا الْبَابَ. وَأَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَضَرَبَاهُمْ بِالْعَمَى، مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ، فَعَجِزُوا عَنْ أَنْ يَجِدُوا الْبَابَ".
إِذَنْ، هَذَانِ الْمَلَاكَانِ، اللَذَانِ كَانَ مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَتَلَقَّيَا حُسْنَ الضِيَافَةِ فِي بَيْتِ لُوطٍ، تَوَسَّطا لِإِنْقَاذِ حَيَاةِ لُوطٍ وَعَائِلَتِهِ، فَأَخَذَاهُ مِنْ بَيْنِ الْجُمُوعِ، وَأَدْخَلَاهُ آمِنًا إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ اسْتَخْدَمَا قُوَّتَهُمَا لِضَرْبِ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ مِنْ شَعْبِ سُدُومَ بِالْعَمَى. إِذَنْ، فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، ذَهَبَ الْمَلَاكَانِ إِلَى هُنَاكَ لِيَخْدُمَا لُوطًا وَعَائِلَتَهُ فِي وَقْتِ الْأَزْمَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَوْضُوعُ الَذِي سَنَسْتَطْرِدُ فِيهِ بَعْدَ قَلِيلٍ، لِأَنَّ تِلْكَ أَيْضًا وَاحِدَةٌ مِنْ وَظَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، الَذِينَ يُرْسِلُهُمْ اللَّهُ لِتَتْمِيمِ سُلْطَتِهِ - بِمُوجِبِ عِنَايَتِهِ - عَلَى التَارِيخِ.