السياقُ اليونانيُّ الرومانيُّ للعالَم اليهوديّ - خدمات ليجونير
عِشْقُ الكتابِ المقدّس
۲۱ نوفمبر ۲۰۲۳
العبادة اليهوديّة
۲۳ نوفمبر ۲۰۲۳
عِشْقُ الكتابِ المقدّس
۲۱ نوفمبر ۲۰۲۳
العبادة اليهوديّة
۲۳ نوفمبر ۲۰۲۳

السياقُ اليونانيُّ الرومانيُّ للعالَم اليهوديّ

    ملاحظة من المُحرِّر: هذا هو الفصل [الثاني] في سلسلة مجلّة تيبولتوك [ الحياة اليهودية في أيام يسوع].

هل شعرت مرّة أنّك تفتقدُ شيئًا ما وأنتَ تقرأ العهد الجديد؟ لن أنسى أبدًا هذا الشعور عندما قرأتُ الكتابَ المقدّس للمرّة الأولى من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنّا. عندما وصلتُ إلى الأناجيل، ظهرَتْ أمامي فورًا الجماعات الدينيّة والسياسيّة كالفريسيّين والصدوقيّين. ولكن من أين أتَوْا؟ فأنا لا أذكر أنّني قرأتُ عنهم في العهد القديم. كان هيرودس الكبير يُدعى "ملك اليهود"، ولكن كيف أخذ هذا اللقب؟ من الواضح أنّ الرومان كانوا هم الحاكمين، ولكن كيف بدأت روما تسيطر على الأمّة اليهوديّة؟ قرأتُ مؤخّرًا أنّ الملكَ الفارسيّ كورش حكمَهم، وهو الذي سمحَ للناس بالعودة إلى أرضِهم وإعادةِ بناء الهيكل. ماذا حدث في تلك الصفحة الفارغة بين سفر ملاخي وإنجيل متّى؟

أدركتُ حينها أنّني أحتاج أنْ أفهمَ الخلفيّة التاريخيّة والثقافيّة والسياسيّة للعهد الجديد. أريد في هذه المقالة أنْ أشرحَ كيف تُمهّد خلفيّةُ النصِّ الطريقَ، وأنّه عندما يتعلّق الأمر بفهم العالَمِ اليهوديّ اليونانيّ الرومانيّ، نحتاج إلى الاهتمام بالسياق التاريخيّ والثقافيّ والسياسيّ لهذه اللحظة الفاصلة في تاريخِ الخلاص.

تاريخُ العالَمِ اليونانيّ الرومانيّ

سيطر الإسكندر العظيم على إسرائيل في عام 332 ق. م.، وفرض على الأمّة اليهوديّة أسلوب الحياة اليونانيّ، أيّ أنّه جعل الأرض المقدّسة "هيلينيّة." نشر الثقافة اليونانيّة، وأسّس مدنًا يونانيّة، وبنى هياكل يونانيّة، وفرض التداول بالعملة اليونانيّة، ونشر اللغة اليونانيّة. وعلى الرغم من أنّ الإسكندر سمح لليهود بالعيش بحسب شريعة أسلافِهم، إلّا أنّ أسلوبَ الحياةِ اليونانيّ أصبح أكبرَ تهديدٍ ضدّ المحافظة على هُويّة يهوديّة مُتميّزة.

أحبّ بعضُ اليهود، وخصوصًا الشبابُ منهم، هذا التحوّلَ الثقافيّ في الهُويّة، فبدأوا يعتمرون قُبّعات يونانيّة عريضة، وكانوا يُنهون واجباتهم الدينيّة بسرعة في الهيكل بهدف ممارسة الرياضة عراةً في الساحات الرياضيّة متشبّهين بالإغريق. حتّى أنّ البعضَ كانوا يخضعون لعمليّات جراحيّة لإعادةِ غُرلة ختانهم.

شعر اليهود الآخرون بالهلع وتاقوا إلى التحرّر من السيطرة الإغريقيّة. بعد وفاة الإسكندر عام 323 ق.م.، سيطرت السلالة السلوقيّة في النهاية على اليهود. في ذلك الوقت، بدأت تتشكّل ثورة. وفي عام 167 ق. م. ظهرت تلك الثورة. قام الملك السلوقي أنطيوخس الرابع إبيفانيس بتدمير نُسخٍ من الكُتب المقدّسة اليهوديّة، وحرّم ممارسة الختان وحفظ السبت والاحتفالات الدينيّة، وذبح خنزيرًا على مذبح المحرقة. ردًّا على هذا التدنيس، أطلقت عائلة جريئة ثورةً يهوديّة وهي عائلة المكابيّين.

سئم ماتاتياس وأبناؤه دفعَ الضرائب لحكومة قمعيّة كانت تسعى إلى القضاء على دينهم اليهوديّ وهوّيّتهم بحدّ ذاتها. كان ابنه الأكبر، يهوذا المكابي، قائد مجموعة من العصابات. دمّر المذابح الوثنية، وختن الأطفال بالقوّة، بل وقتل اليهود المتجنّسين بكلّ سعادة. أخيرًا، سار يهوذا والقوّات التي معه إلى أورشليم، وقاموا بتطهير الهيكل الذي دنّسه أنطيوخس الرابع. حدث هذا في 14 ديسمبر من عام 165 ق. م. ولإحياء ذكرى ذلك الحدث، تمّ إضافة عيد جديد إلى التقويم اليهودي يُعرف باسم هانوكا (أي "التكريس"؛ انظر يوحنا 10: 22).

أصبح اليهودُ تحت سيطرة المكابيّين (أو الحشمونيّين، نسبة إلى جدّهم الأكبر حشمون). لكن شمعون المكابي هو الذي حقّق الاستقلال السياسيّ اليهوديّ الكامل عام 142 ق. م. وبفضل سياسة التوسّع التي وضعها يوحنّا هيركانوس، ابن شمعون ورئيس الكهنة وحاكم الأمة اليهوديّة من حوالي 135 إلى 104 ق.م.، استطاع اليهود بشكل أساسيّ استعادة مساحة الأرض نفسها التي كانت في عهد الملك داود وسليمان.

اتّخذ العديد من حُكّام الحشمونيّين لقب "ملك" و/أو "رئيس كهنة"، لكنّ السلام لم يكن الصفة التي ميّزت حُكمَهم. كان حكمهم مليئًا بالخيانة والاغتيالات والفساد السياسيّ والدينيّ. كانت إسرائيل أمّة مُنقسمة بين "المؤيدين للمتجنّسين" بتأييد من الصدّوقيّين، و"المناهضين للمتجنّسين" بتأييد من الفرّيسيّين.

وسط هذا الصراع الأهليّ، سيطر القائد الرومانيّ بومبيوس الكبير على إسرائيل عام 63 ق. م. اضطرّ بنو إسرائيل أنْ يخضعوا لروما عن طريق دفع الضرائب، تمامًا كما فعلوا عندما كانوا تحت الحكم الأشوري والبابلي وحُكم مادي وفارس، وتحت الحكم اليوناني والبطلمي والسلوقي. ومع ذلك، عيّن بومبيوس حاكم الحشمونيّين، هيركانوس الثاني، ليحكم كرئيس كهنة على اليهوديّة، كما منح اليهود مستوى معيّن من الحريّة. لكن هيركانوس الثاني كان مُجرّد ملك عميل (أو بالأحرى، ملك دُمية) لروما.

بعد اغتيال بومبيوس، وصل يوليوس قيصر إلى السلطة عام 48 ق.م. وجد الشعب اليهوديّ نعمةً في عينَيْه تحتَ حُكمه. فخفّض الضرائب وأعفاهم من الخدمة العسكريّة. كما قام بتعيين اثنين من حُكام الحشمونيّين كملوك عُملاء له، أحدهما يحمل لقب وكيل الهوديّة (أنتيباتر)، والآخر باعتباره "والي الشعب" (هيركانوس الثاني).

بعد أن اغتالَ كاسيوس وبروتوس القيصرَ عام 44 ق. م.، اضطرّ اليهود إلى دفع المزيد من الضرائب. بعد ذلك، سيطر مرقس أنتوني وأوكتافيان على روما وأعلنا هيرودس "ملك اليهود." أصبح هيرودس، الذي كان مُعجبًا بالثقافة الهيلينيّة، صديقًا وحليفًا رسميًّا للشعب الرومانيّ. (هل يمكنك سماع عائلة المكابيين يتقلّبون في قبورهم؟) كان مُلزمًا بتنفيذ إرادة روما كملك دُمية، كما فعل نسله من بعده: هيرودس أرخيلاوس (متى 2:  22)، وهيرودس فيلبس (لوقا 3)، وهيرودس أنتيباس (مرقس 6؛ انظر أيضًا لوقا 23: 7)، وهيرودس أغريباس الأوّل (أعمال الرسل 12)، وهيرودس أغريباس الثاني (أعمال الرسل 26).

قام العديد من الأباطرة الرومان الذين حكموا خلال القرن الأوّل بتعيين حُكّام على أرض إسرائيل. وعلى الرغم من كثرتهم، إلّا أنّ الحاكم الرومانيّ الأكثر شُهرة كان بيلاطس البنطيّ. تصفه نصوص من خارج الكتاب المقدّس بأنّه كان ظالمًا، وهذا ما يؤكّد عليه إنجيل لوقا 13: 1.

وقعت أعظم أعمال القمع في نهاية الحرب الرومانيّة اليهوديّة (66-70 ب. م.) حاصَر تيطس، ابن الإمبراطور فيسباسيان، المدينةَ. ولكنّ المجاعة والأوبئة والأمراض والجوع والعنف داخل أسوار المدينة كانت شيئًا لا يُذكر أمام أكثر الأعمال بشاعة، ألا وهو تدمير الهيكل في عام 70 ب. م. وقد أدّى تدميره إلى تغيير كبير في الهُويّة اليهوديّة، والممارسات الدينيّة، وامتدت عواقبه حتّى يومنا هذا.

 

الحياة اليهوديّة تحت الحُكم الرومانيّ

لم تكن السياسات الرومانيّة واحدة تجاه اليهود في القرن الأوّل. كان بعض الأباطرة أكثر رفقًا من غيرهم، حيث قاموا بمنح الشعب اليهوديّ امتيازات أساسيّة أكثر، كالإعفاء من الضرائب والإعفاء من الخدمة العسكريّة وحريّة الممارسة الدينيّة. في الواقع، كانت تُعتبر اليهودية religio licita (أي دينًا مسموحًا به)، في الوقت الذي كان فيه اليهود يؤمنون بإله واحد وغير متسامحين مع الديانات الأخرى.

غير أنّ الكثير من الأباطرة الرومان كانوا يحتقرون التعصّب الدينيّ اليهوديّ، خاصّة عندما كان الأمر يتعلّق بعبادة آلهة الإمبراطوريّة الرومانيّة. جعل هذا الأمر أنْ يصبحَ اليهودُ هدفًا للشكّ والكراهية والاضطهاد. لم يساعدهم توقهم الجادّ في مجيء مسيح يُحرّرهم من "السبي"، ويشهد عن ذلك أعمال الشغب والثورات الكثيرة التي وقعت طوال القرن الأوّل، والمدوّنة في أعمال الرسل 5: 36-37؛ 21 :38 وتلك التي سجّلها المؤرخ اليهوديّ يوسيفوس. لم ينتج عن هذه الأحداث إلّا زيادة في الشكوك حول اليهود والحدّ من قوّتهم السياسيّة.

حتّى اليهود الذين كانوا في السلطة كانوا يدينون لروما بذلك. غالبًا ما كانوا يهتمّون بإرضاء قيصر أكثر من اهتمامهم بإرضاء إله إسرائيل. كانوا أشبهَ بملوك عملاء مُلزَمين من روما بتنفيذ ما يأمرُ به قيصر. وقد قَبِلَ كثيرون منهم الجنسيّة الرومانيّة، تمامًا كما فعل أسلافهم من قبلهم الذين تبنّوا استراتيجيّة الإسكندر بتجنيس اليهود.

في النهاية، لم يكن اليهود تحت سيطرة الرومان وحدهم. إنّ الذي يتحكّم في التاريخ بأكمله، والذي "يُغَيِّرُ ٱلْأَوْقَاتَ وَٱلْأَزْمِنَةَ" و "يَعْزِلُ مُلُوكًا وَيُنَصِّبُ مُلُوكًا" (دانيال 2: 21)، هو الذي أرشدَ كنيستَه بعنايته الإلهيّة حتّى أتى "ملء الزمان" (غلاطية 4: 4). عندما وُلد الملك الحقيقيّ (ميخا 5: 2).

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

ديفيد بريونيس
ديفيد بريونيس
الدكتور ديفيد بريونيس هو أستاذ مساعد للعهد الجديد في كليَّة وستمنستر للاهوت بمدينة فيلادلفيا، وهو قسيس في الكنيسة المشيخيَّة القويمة (Orthodox Presbyterian Church). وهو مُؤلِّف كتاب "سياسة بولس المالية: نهج اجتماعي لاهوتي" (Paul’s Financial Policy: A Socio-Theological Approach).