
مَن كتب الكتاب المُقدَّس؟
۳ أكتوبر ۲۰۲۵
القيادة في الكنيسة
۱۷ أكتوبر ۲۰۲۵كلُّ حقٍّ هو حقّ الله
 
									كتبٌ قليلةٌ فقط قرأتُها وتركت تأثيرًا باقياً في ذهني وعقلي. أحد هذه الكتب قرأتُها قبل خمسين سنة. كان عنوان الكتاب "الأساسات الميتافيزيقيّة للعلم الحديث" (The Metaphysical Foundations of Modern Science)، وقد ترك انطباعًا وتأثيرًا باقياً فيّ لأنّه أوضح أهمّيّة فهم أنّ كلّ النظريّات العلميّة تفترض أطروحاتٍ فلسفيّة مُعيّنة. كثيرًا ما يُنظَر إلى الأطروحات الفلسفيّة التي تمثِّل دعامات البحث العلمي كأمرٍ مسلَّم به ولا يُخصَّص لها عمليّة استكشاف وتفحُّص مهما كانت خاطفةً وبسيطة. ولكن في زمن يشتعل فيه جدلٌ شديد ما بين العلم واللاهوت، ضروريٌّ أن نرجع خطوةً إلى الوراء ونطرح أسئلةً بشأن الأساسات النظريّة قبل العلميّة التي تختصّ بكلّ مسعى المعرفة.
إنَّ كلمة "Science" المترجمة "علم" تعني "معرفة". ولدينا ميل إلى أن تكون لدينا نظرة حصريّة نحو هذه الكلمة، وكأنّ المعرفة لا تتعلَّق إلا بعالَم البحث التجريبيّ. فبالإضافة إلى المعرفة الماديّة، ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا الحقّ أو المنطق الصُوريّ. ومن هذا المنطلق، ينبغي لنا أن نعتبر الرياضيّات علمًا حقيقيًّا، لأنّ الرياضيّات في بعدها الصوريّ تعطي معرفة حقيقيّة. وفي الحقيقة، إن نظرنا إلى تاريخ التقدُّم العلمي، نرى أن المُحرِّك الذي كان وراء الاختراقات والانطلاقات الجديدة وأثَّر بالنماذج والاتّجاهات الجديدة كان في الغالب مُحرِّك الرياضيّات الصوريّة. ولكنْ من المفاجئ والصادم أن نرى مقدار انخراط الناس في بحوث العلوم الماديّة من دون تفكير بالافتراضات الفلسفيّة الكامنة وراء عملهم.
في كتاب "كوسموس" (Cosmos) الشهير لكارل ساجان (Carl Sagan)، المبني على مسلسل تلفزيونيّ له يحمل العنوان نفسه، يصرّح ساجان بما يلي: "’كوسموس‘ كلمة يونانيّة تُشير إلى نظام الكون. إنّها - بصورةٍ ما - نقيض الفوضى. تُشير هذه الكلمة إلى الترابط العميق بين كلّ الأمور." في هذا التعريف الذي يبدو غير مؤذٍ لبُنية كامل عَمَل ساجان، يفترض أن العالم الذي يخضع للتفحُّص بالعلم هو كون منظَّم لا فوضى. وهو يتكلَّم عن كون يتضمّن "الترابط العميق بين كلّ الأمور." هذا هو الافتراض العظيم الكامن وراء السعي العلميّ، والذي يقول إنّ الكون الذي نسعى إلى معرفته متماسك ومترابط ومتّسق. هناك إشارة إلى ارتباط عميق بين كلّ الأمور والأشياء. وكما يُشير ساجان، فإنّ بديل الكوسموس هو الفوضى. فإنْ كان أساس الكون هو الفوضى، تنهار كلّ المساعي العلميّة. إن كان الكون فوضويًّا وغير مترابط، فلن تكون هناك معرفة ممكنة. وحتّى المعلومات القليلة عن الذرّة لا يمكن فهمها ضمن إطار الفوضى التامّة، ولذا، فإنّ افتراض وجود نظام متماسك ومنظَّم وعقلاني ومتّسق يجمع كلّ الأشياء هو افتراضُ العلماء الصارخ.
لهذه الفكرة بشأن التماسُك والاتّساق المُفترض جذورها في المساعي الفلسفيّة القديمة. فمثلًا، كان اليونانيّون القدماء يسعون وراء الحقيقة النهائيّة والمُطلَقة. فقد سعوا إلى معرفة المبدأ التأسيسي للوحدة الذي يعطي معنًى للتنوُّع. وهذه الوحدة النهائيّة هي ما يوفِّره علم اللاهوت. فيقدّم علم اللاهوت الافتراض الضروري الذي يُبنى عليه العلم الحديث. وهذه هي النقطة التي قادت الفيلسوف البارز أنتوني فلو (Antony Flew) إلى تحوُّله من الإلحاد إلى الربوبيّة: الضرورة الجوهريّة لأساسٍ متّسق ومتماسك للحقيقة من أجل جعل أيّة معرفة أمرًا ممكنًا. ولا يمكن أن يكون هذا الاتّساق المطلَق نابعًا من هذا العالم المُحدَث، بل هو يتطلَّب نظامًا فائقًا وراءه.
في العصور الوسطى، نشأت أزمة في مجال الفلسفة بإحياء ما دعاه المُفكِّرون المُسلِمون "الأرسطوطاليسيّة التكامُليّة". ففي محاولة هؤلاء المفكِّرين بأن يجمعوا بين الفلسفة الأرسطوطاليسيّة والفقه الإسلاميّ، أنتجوا مفهومًا يُدعى "نظرية الحقيقة المزدوجة". كانت هذه النظرية تنادي بأنّ ما يكون صحيحًا في الدين يمكن أن يكون خاطئًا في العلم، وما هو صحيح في العلم يمكن أن يكون خاطئًا في الدين في الوقت نفسه. ويمكن ترجمة هذا النظرية بمفاهيم حديثة كما يلي: يستطيع المرء، بوصفه مسيحيًّا، أن يؤمن بأنَّ الكون قد وُجِد بفعلٍ مقصودٍ من الخالق الإلهيّ، وفي الوقت عينه يعتقد أنّ الكون نشأ اعتباطًا كحادثةٍ كونيّة عشوائيّة. هاتان الحقيقتان – إذا ما خُضِعتا لمنطق العقل – تَبدو كلتاهما مُتناقضتَين. ومع ذلك، فإنَّ "نظريّة الحقيقة المزدوجة" تقول إنَّ الحقيقة مُتناقِضة، وإنَّه يجوز للإنسان أن يُمسك بهاتين الفكرتين المُتناقضتين معًا. ومِثلُ هذا الانفصام العقليّ يَسود في أيّامنا هذه، حيث يظنّ الناس أنَّ اللهَ لا علاقةَ له بتشكيل الكون من الاثنين إلى السبت، لكنّهم يُصبحون خَلقِيِّين – أي مؤمنين بالخلق – يوم الأحد، دون أن يُدرِكوا أنَّ المفهومَين لا يُمكن التوفيق بينهما البتّة.
وهنا يُثار السؤال: "هل للمنطق حقًّا قيمة في محاولتنا لفهم الواقع؟" مرّة أخرى، إذا افترضنا وجود التناسق والكون المنظَّم، فلا بُدّ أن تكون للمنطق قيمة، لا في بعض الأمور وحسب، بل في كلّ شيء. وقد جاء ردّ توما الأكويني على الأرسطوطاليسيّة التي تبنّاها الفلاسفة المسلمون في العصور الوسطى باستبدال مفهوم "الحقائق المزدوجة" بمفهوم "المقالات المختلطة"، مميِّزًا بين الطبيعة والنعمة (لا مُقسِّمًا بينهما كما يزعم كثير من منتقديه). فقد قال الأكويني إنّ هناك حقائق يمكن معرفتها من خلال الإعلان الخاصّ لا تُستنبط من البحث في العالم الطبيعي، وفي الوقت نفسه هناك حقائق مُعيَّنَة تُدرَك من دراسة الطبيعة ولا نجدها مثلًا في الكتاب المقدَّس. فنحن لا نجد في الأسفار المقدَّسة عرضًا صريحًا لجهاز الدورة الدمويّة في جسم الإنسان. ما أراد الأكويني تأكيده هو أنّ ثمّة حقائق تُدعى "مقالات مختلطة"، أي حقائق يمكن معرفتها إمّا من الكتاب المقدَّس أو من خلال دراسة الطبيعة. ومن بين هذه المقالات المختلطة أدرج معرفة وجود خالق.
النقطة الأساسيّة، بطبيعة الحال، التي كان يجادل فيها توما الأكويني، متوافقًا مع سلفه الشهير أوغسطينوس، هي أن كلّ حقّ هو حقّ الله، وأنّ كلَّ الحقّ يلتقي في القمّة. فإن كان العلم يناقِض الدين، أو إن كان الدين يناقض العلم، فإنّ أحدهما، على الأقلّ، على خطأ. وقد حدث في التاريخ أنّ صحّح المُجتمع العلمي لا الكتاب المُقدَّس بل التفاسير الخاطئة للكتاب المُقدَّس، كما رأينا في فضيحة جاليليو. ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن للإعلان الكتابي أن يعمل ككوابح فكريّة للنظريّات العلميّة التي لا أساس لها. وعلى جميع الأحوال، إن كانَتْ المعرفة ممكنة، فلا بدّ من الاستمرار في افتراض ما افترضه ساجان، وهو أنّه لكي تُعرَف الحقيقة، ولكي يكون العِلم ممكنًا، لا بُدَّ من وجود واقعٍ مُتماسكٍ نسعى إلى معرفته.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.
 
							
