قبول “لا” كونها مشيئة الله
۳۰ أبريل ۲۰۲۰وحدة واضحة للعالم
۱۲ مايو ۲۰۲۰4 مبادئ لممارسة الحرية المسيحية
أتذكَّر مناقشة حدثت منذ عدة سنوات. حين كنت أغادر مبنى الكنيسة عقب انتهاء الخدمة الصباحيَّة، وفُوجئت بمجموعة صغيرة في خضم محادثة نشطة. وقد التفَّ أحدهم وسألني: "أيحل للمسيحيِّين تناول البودنج الأسود (black pudding)[1]؟"
لمن هم ليسوا على دراية بأسرار مأكولات الطبقة الثريَّة في إسكتلَندا، ربما ينبغي التوضيح أن البودنج الأسود يختلف عن الهاجيز (haggis)[2]، فهو عبارة عن سجق مُعد بالدم والشحم، وأحيانًا يضاف إليه الدقيق أو الطحين الخشن.
يبدو إنه سؤال عديم الأهميَّة، فلما هذه المحادثة النشطة؟ بالطبع بسبب فرائض العهد القديم حيال أكل الدم (لاويين 17: 10 وما يليه).
على الرغم (على حسب درايتي) من عدم وجود قاموس لاهوتي يدرج أي شيء حيال "مسألة البودنج الأسود" تحت حرف الميم، أثارت هذه المناقشة غير المُعتادة بعض أهم معضلات التفسير واللاهوت الأساسيَّة، مثل:
- ما مدى علاقة ارتباط العهد القديم بالجديد؟
- ما مدى ارتباط ناموس موسى بإنجيل يسوع المسيح؟
- كيف ينبغي أن يمارس المسيحي الحريَّة في المسيح؟
سعى مجمع أورشليم، في أعمال الرسل 15، للإجابة عن مثل هذه الأسئلة العمليَّة التي واجهها المسيحيُّون الأوائل في صراعهم مع كيفيَّة التمتُّع بالتحرير من الفرائض الموسويَّة دون أن يصبحوا حجر عثرة أمام اليهود.
وقد أُثيرت أسئلة أسهب فيها بولس، على وجه التحديد. فقد كان أحد الذين أرسلهم مجمع أورشليم لتسليم الخطاب وتوضيحه، والذي يلخِّص قرارات الرسل والشيوخ (أعمال الرسل 15: 22 وما يليه؛ 16: 4). وقد واجه أمورًا مشابهة في كنيسة روما، وقدِّم لهم مجموعة مبادئ تصلح كثيرًا لمسيحي القرن الحادي والعشرين. تحتوي تعاليمه في رومية 14: 1-15: 13 على إرشادات سليمة (وضروريَّة للغاية) لممارسة الحريَّة المسيحيَّة. فيما يلي أربعة من هذه المبادئ:
المبدأ 1: لا تتباهى الحريَّة المسيحيَّة أبدًا. "أَلَكَ إِيمَانٌ؟ فَلْيَكُنْ لَكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ اللهِ!" (رومية 14: 22).
نحن أحرار في المسيح من ناموس موسى المتعلِّق بالطعام؛ لقد أعلن الرب يسوع أنه ما من طعام نجس (مرقس 7: 18-19). فبإمكاننا في النهاية تناول البودنج الأسود.
لكنك لست بحاجة إلى ممارسة حريتك لكي تستمتع بها. وبالفعل طرح بولس في نص آخر بعض الأسئلة الهامة حول مَن يصرُّون على ممارسة حريتهم ضاربين ما يحيط بهم بِعُرض الحائط: هل هذا يبني الآخرين حقًا؟ هل هذا حقًا يحرِّرك أم يبدأ بالفعل في استعبادك؟ (رومية 14: 19؛ 1 كورنثوس 6: 12).
فالحقيقة الدقيقة هي أن كل مسيحي بحاجة إلى ممارسة حريته هو عبد للشيء الذي لا يكف عن ممارسته. قال بولس "لِأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلَامٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" (رومية 14: 17).
المبدأ 2: لا تعني الحريَّة المسيحيَّة ألا تتقبَّل إخوتك المسيحيِّين سوى عقب تسوية وجهات نظرهم حول موضوع ما أو آخر (أو بهدف قيامك بذلك).
لقد قبلهم الله في المسيح، مثلك تمامًا؛ فينبغي علينا نحن كذلك (رومية 14: 1، 3). وفي الحقيقة، لن يتركهم الرب على ما هم عليه. لكنه لا يجعل من نمط سلوكهم قاعدة قبوله لهم؛ ولا ينبغي نحن أيضًا.
أمامنا العديد من المسؤوليَّات تجاه إخوتنا المؤمنين، ليس منها إدانتهم. فالمسيح وحده مَن له هذا الحق (رومية 14: 4، 10-13). من المُحزن سماع اسم مؤمن آخر في محادثة وما يلبث أحدهم (كثيرًا ما نفعل ذلك) إلا أن ينقضَّ لانتقاده. فهذه ليست روح التميز بقدر ما هي دليل على روح الإدانة.
ماذا لو صار مقياس إدانتنا للآخرين هو ذاته مقياس إدانتنا (رومية 14: 10-12؛ متى 7: 2)؟
المبدأ 3: لا ينبغي استخدام الحريَّة المسيحيَّة على نحو يجعلك حجر عثرة لمؤمن آخر (رومية 14: 13).
حين وضع بولس هذا المبدأ، لم يكن رد فعل فجائي ولحظي، بل مبدأ راسخ تمعَّن فيه والتزم هو شخصيًّا به (انظر 1 كورنثوس 8: 13). حين نلتزم بهذا المبدأ، يصير في النهاية جزءًا لا يتجزأ من اعتقادنا الذي يوجِّه سلوكنا غريزيًّا. لقد مُنحنا الحريَّة في المسيح لكي نخدم الآخرين لا أن نُشبع رغباتنا.
المبدأ 4: تتطلَّب الحريَّة المسيحيَّة استيعابًا للمبدأ الذي سيُثمر عنه هذا التوازن الكتابي الحقيقي في قوله: "فَيَجِبُ عَلَيْنَا ... لَا نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. ... لِأَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ" (رومية 15: 1-3).
يحمل هذا الأمر في طيَّاتهِ شيئًا صغيرًا للغاية. فهو يجرِّد الأمر إلى أبسط الأسئلة عن محبة الرب يسوع والرغبة في التشبُّه به بما أن الروح القدس يسكن داخلنا ليغيِّرنا إلى شبهه أكثر.
الحريَّة المسيحيَّة الحقَّة لا تشبه حركات "التحرُّر" لهذا العالم العلماني. فهي لا تتعلَّق بطلب الحقوق التي لنا. أيجرؤ أحد على قول إن الآباء المؤسِّسين لأمريكا، بكل حكمتهم، ربما يكونوا بغير قصد قد شوَّهوا المسيحيَّة بإصرارهم على "الحق" في الحياة والحريَّة والسعي نحو السعادة؟ يدرك المسيحي أننا أمام الله لا نملك أي "حقوق" بالطبيعة. في طبيعتنا الخاطئة، لقد خسرنا جميع "حقوقنا".
بمجرد أن ندرك أننا لا نستحق "حقوقنا" سنتمكَّن حينها من اعتبار هذه الحقوق امتيازات. شعورنا بالآخرين في الكنيسة، خاصة الضعفاء منهم، يعتمد على إدراكنا لعدم استحقاقنا. إن افترضنا إننا نملك الحريَّة لنمارسها كما نشاء، سنكون حينها أسلحة قاتلة داخل الشركة قادرة على إهلاك مَن مات المسيح من أجلهم (رومية 14: 15، 20).
هذا لا يعني أن أصير عبد لضمير شخص آخر. لقد وضَّح جون كَلفن هذه النقطة جيدًا حين قال إنه علينا كبح حريتنا من أجل المؤمنين الضعفاء، لكن ليس أثناء مواجهتنا للفريسيِّين (المتديِّنين) الذين يطلبون التزامنا بما هو ليس كتابيًّا. حين يكون الإنجيل على المحك، لا بد أن نمارس حريتنا؛ حين يهتز أخينا الضعيف، لا بد أن نكبح حريتنا.
هذا كله جزء لا يتجزأ من "العيش بين زمنين". فنحن بالفعل أحرار في المسيح، لكننا لسنا بعد في عالم يتقبَّل حريتنا. يومًا ما، سنتمتع بـ"حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلَادِ اللهِ" (رومية 8: 21). حينها سنستطيع تناول البودنج الأسود وقتما وأينما نريد. لكن ليس بعد.
أما الآن، وكما كتب مارتن لوثر: "المسيحي هو سيد حر في كل شيء ولا يخضع لأحد؛ وفي الوقت ذاته هو المُنشغل بخدمة الجميع، والخاضع لهم".
فكما كان السيد، ينبغي أن يكون العبد.
[1] البودنج الأسود هو نوع من أنواع سجق الدم المشهور في بريطانيا العظمى وأيرلندا وفي أجزاء أخرى من قارة أوروبا.
[2] الهاجيز هو عبارة عن سجق محشو بأعضاء الخروف كالقلب، الكبد، والرئتان المفرومة والمخلوطة بالشعير، وشحم الخروف، والتوابل، والملح، والمرق.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.