المحاضرة 6: هَلِ النِعْمَةُ لا تُقَاوَمُ؟

بَعْدَ حَسْمِ الْجَدَلِ الْبِيلَاجِيِّ بَيْنَ أُوغُسْطِينُوسْ وَبِيلَاجْيُوسْ، وَبَعْدَمَا أُدِينَ بِيلَاجْيُوسْ بِالْهَرْطَقَةِ، تَلَتْ ذَلِكَ الْقَرَارَ مَزِيدٌ مِنَ التَبِعَاتِ، حِينَ ابْتَدَأَ الْبَعْضُ فِي شَمَالِ أَفْرِيقْيَا –ثُمَّ فِي فَرَنْسَا فِي النِهَايَةِ– يُبْدُونَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى رَأْيِ أُوغُسْطِينُوسْ عَنِ الْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا رَأْيَهُ عَنِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، الَذِي كَانَ وَثِيقَ الصِلَةِ لِلْغَايَةِ بِهِ. تَمَرْكَزَ رَدُّ الْفِعْلِ هَذَا فِي جَنُوبِ فَرَنْسَا، مَعَ ظُهُورِ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ "شِبْهِ" –كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلًا– شِبْهِ البِيلَاجِيَّةِ. شَارَكَ الْكَثِيرُونَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ. لَكِنَّ قَائِدَهَا كَانَ رَئِيسَ دِيرٍ فِي فَرَنْسَا، وَيُدْعَى جُونْ كَاسْيَانْ (John Cassian). ك-ا-س-ي-ا-ن. وَاسْمُهُ الرُومَانِيُّ كَاسْيَانُوسْ. وَأَحْيَانًا تُسَمَّى شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ بِالْكَاسْيَانِيَّةِ (Cassianism). لَكِنَّنَا نَادِرًا مَا نَسْمَعُ هَذَا الْمُصْطَلَحَ الْيَوْمَ. وَهُوَ يَعُودُ إِلَى تَأْيِيدِ جُونْ كَاسْيَانُوسْ لِهَذِهِ الْحَرَكَةِ.

أَلَّفَ كَاسْيَانُوسْ 12 كِتَابًا لِلرَدِّ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى لَاهُوتِ أُوغُسْطِينُوسْ. وَكَانَ تَحَفُّظُهُ الرَئِيسِيُّ عَلَى لَاهُوتِ أُوغُسْطِينُوسْ مُتَعَلِّقًا بِرَأْيِهِ عَنِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، لِأَنَّ جُونْ كَاسْيَانْ أَرَادَ تَأْيِيدَ شُمُولِيَّةِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ السَاقِطَ مَسْؤُولٌ أَخْلَاقِيًّا، إِذْ لَا تَزَالُ لَدَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقُدْرَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ عَلَى إِطَاعَةِ أَوْ عِصْيَانِ نَامُوسِ اللَّهِ.

كَانَتْ نَبْرَةُ هَذَا الْجَدَلِ الَذِي نَشَأَ بَيْنَ أُوغُسْطِينُوسْ وَأَتْبَاعِ كَاسْيَانْ أَقَلَّ حِدَّةً بِكَثِيرٍ. وَقَالَ الْمُؤَرِّخُونَ الْكَنَسِيُّونَ إِنَّهُ حِينَ تَفَاعَلَ أُوغُسْطِينُوسْ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضِينَ لِفِكْرِهِ، كَانَتْ نَبْرَتُهُ أَكْثَرَ وَدَاعَةً مِمَّا كَانَتْ فِي تَفَاعُلِهِ مَعَ أَتْبَاعِ بِيلَاجْيُوسْ. فَكَمَا ذَكَرْتُ مُنْذُ قَلِيلٍ، الْفِئَاتُ الثَلَاثُ الْكُبْرَى لِلْفِكْرِ الْمَسِيحِيِّ النِظَامِيِّ هِيَ الْبِيلَاجِيَّةُ، وَالْأُوغُسْطِينِيَّةُ، وَشِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ. فِي خُطُوطٍ عَرِيضَةٍ، وَبِحَسْبِ التَارِيخِ، كَانَتِ الْبِيلَاجِيَّةُ الْبَحْتَةُ وَالْبَسِيطَةُ هِيَ مَا اعْتَبَرَتْهُ الْمَسِيحِيَّةُ الْقَوِيمَةُ لَاهُوتًا غَيْرَ مَسِيحِيٍّ، بَلْ وَضِدَّ الْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ يَرْفُضُ فِكْرَةَ السُقُوطِ بِرُمَّتِهَا، وَيَقُولُ إِنَّ الْبَشَرَ غَيْرُ السَاقِطِينَ لَيْسُوا بِحَاجَةٍ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ، إِلَى فِدَاءٍ. وَبِالتَالِي، فَإِنَّ هَذَا الْخَطَأَ الْعَقِيدِيَّ يَضْرِبُ اللَاهُوتَ الْمَسِيحِيَّ فِي مَقْتَلٍ. وَلِهَذَا اعْتُبِرَتْ كُلُّ أَشْكَالِ الْبِيلَاجِيَّةِ الْبَحْتَةِ، فِي الْأَسَاسِ، وَعَبْرَ التَارِيخِ، خَارِجَةً عَنْ نِطَاقِ الْإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ.

أَمَّا الْجَدَلُ بَيْنَ أُوغُسْطِينُوسْ وَكَاسْيَانْ، فَيُعْتَبَرُ جَدَلًا دَاخِلِيًّا بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، لِأَنَّنَا عَبْرَ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، نَشْهَدُ نِقَاشًا وَجَدَلًا مُسْتَمِرًّا بَيْنَ الْبِيلَاجِيَّةِ وَشِبْهِ البِيلَاجِيَّةِ، وَبَيْنَ الْكَالْفِينِيَّةِ وَالْأَرْمِينِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ جَدَلٌ يُرَكِّزُ عَلَى الْمَسَائِلِ الْأَسَاسِيَّةِ نَفْسِهَا - آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ السُقُوطِ، وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ، وَآرٍاءَ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ الِاخْتِيَارِ الْإِلَهِيِّ وَالتَعْيِينِ الْمُسْبَقِ. لَكِنَّهَا آرَاءٌ تَبَنَّاهَا بِجِدِّيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ مَسِيحِيُّونَ حَقِيقِيُّونَ. إِذَنْ، هَذَا الْجَدَلُ بَيْنَ شِبْهِ البِيلَاجِيَّةِ وَالْأُوغَسْطِينِيَّةِ عَائِلِيٌّ، لَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ سَرِيعًا بِأَنَّ كَاسْيَانُوسْ وَأَتْبَاعَهُ أُدِينُوا أَيْضًا بِالْهَرْطَقَةِ مِنَ الْكَنِيسَةِ الْأُولَى. وَلَمْ يَنْتَهِ هَذَا الْجَدَلُ بِمَوْتِ كَاسْيَانْ وَأُوغُسْطِينُوسْ، لَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.

مَرَّةً أُخْرَى، كُلَّمَا نَشَأَ جَدَلٌ أَوْ خِلَافٌ فِي الرَأْيِ اللَاهُوتِيِّ، أَوْ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْحِوَارِ، يُفِيدُنَا أَنْ نَرْجِعَ لِلْوَرَاءِ قَلِيلًا، وَنَسْأَلَ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيمَ يُفَكِّرَانِ: "فِيمَ تُفَكِّرُ هُنَا؟" وَ"فِيمَ تُفَكِّرُ هُنَا؟" "مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّكُمَا لَا تَتَّفِقَانِ مَعًا حَوْلَ الِاسْتِنْتَاجِ النِهَائِيِّ، لَكِنْ رُبَّمَا تَكْتَشِفَانِ أَنَّ بَيْنَكُمَا أَفْكَارًا مُشْتَرَكَةً أَكْثَرَ مِمَّا تُظُنَّانِ". فَمِنْ نَاحِيَةٍ، أَرَادَ كَاسْيَانِ حِمَايَةَ شُمُولِيَّةِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَمَسْؤُولِيَّةَ الْإِنْسَانِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَقَالَ أُوغُسْطِينُوسْ: "أَنَا أَيْضًا أُرِيدُ احْتِرَامَ وَحِمَايَةَ مَسْؤُولِيَّةِ الْإِنْسَانِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، لَكِنِّي لَا أُشَاطِرُكَ رَأْيَكَ بِشَأْنِ شُمُولِيَّةِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُخَلِّصَةِ". فَنِعْمَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَمِيعَ يَحْصُلُونَ عَلَى بَعْضِ مَزَايَا رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ. لَكِنْ حِينَ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِنِعْمَةِ الْخَلَاصِ"، بِحَسْبِ أُوغُسْطِينُوسْ، "تَكُونُ نِعْمَةُ اللَّهِ انْتِقَائِيَّةً".

لِنَنْظُرْ إِلَى الْأَصْحَاحِ 9، مَثَلًا، مِنْ رِسَالَةِ رُومِيَةَ، وَنَقْرَأُ فِي الْآيَةِ 10: "وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لِأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلَا فَعَلَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الِاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: "إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ". كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ"".

ثُمَّ فِي اسْتِبَاقٍ مِنْ بُولُسَ لاحْتِجَاجَاتِ الَذِينَ يَقْرَؤُونَ هَذَا الْكَلامَ، أَدْلَى بِالتَعْلِيقِ التَالِي: "فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟" هَلِ اللهُ غَيْرَ مُنْصِفٍ؟ هَلِ ارْتَكَبَ اللهُ ظُلْمًا هُنَا؟ وَكَانَ جَوَابُهُ كَالتَالِي: "حَاشَا! لِأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: :إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ". فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَا لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ لِلهِ الَّذِي يَرْحَمُ ... فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ".

مَرَّةً أُخْرَى، لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُ فَرِيقًا بِالْعَدْلِ وَيَظْلِمُ فَرِيقًا آخَرَ. لَكِنَّهُ إِذْ يَعْتَبِرُ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُتَمَرِّدٌ عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّهُمْ جَمِيعًا خُطَاةٌ سَاقِطُونَ وَمُقَاوِمُونَ لَهُ، يَهَبُ نِعْمَةً لِفَرِيقٍ، وَيَحْرُمُ الْآخَرَ مِنْ تِلْكَ النِعْمَةِ، لِأَسْبَابِهِ الْخَاصَّةِ غَيْرِ الْمَعْرُوفَةِ، بِحَيْثُ يَنَالُ الْبَعْضُ عَدْلًا، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ نِعْمَةً.

إِذَنْ، رَفَضَ أُوغُسْطِينُوسْ شُمُولِيَّةَ النِعْمَةِ الْمُخَلِّصَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يَقُولُ بِوُضُوحٍ إِنَّ اللَّهَ، بِطَرِيقَةٍ خَاصَّةٍ، يُعْطِي نِعْمَةً لِلْبَعْضِ وَلَيْسَ لِلْجَمِيعِ. فَمِنْ حَقِّهِ السِّيَادِيِّ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ يَشَاءُ، لِيُظْهِرَ عُمْقَ وَغِنَى نِعْمَتِهِ. كَانَتْ هَذِهِ هِيَ نُقْطَةُ الْخِلَافِ آنَذَاكَ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى الْيَوْمِ.

كُلَّمَا نُوقِشَتْ عَقِيدَةُ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ الْمُشْكِلَةَ الَتِي تَبْرُزُ فِي الْحَالِ، وَالسُؤَالَ الَذِي يُطْرَحُ عَلَى الْفَوْرِ هُوَ: "لَا يَبْدُو مِنَ الْإِنْصَافِ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ لِلْبَعْضِ وَلَيْسَ لِلْجَمِيعِ". يَرَى النَاسُ، لَيْسَ فَقَطْ فِي أَمْرِيكَا، أَنَّنِي إِنْ تَرَأَّفْتُ عَلَى أَحَدِهِمْ، أَكُونُ مُلْزَمًا بِأَنْ أَتَرَأَّفَ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْقَدْرِ نَفْسِهِ. لَكِنْ بِالطَبْعِ، مِنَ الْمَنْظُورِ الْمَسِيحِيِّ، وَمِنْ مَنْظُورِ اللَّهِ، لَيْسَ اللَّهُ مُلْزَمًا الْبَتَّةَ بِأَنْ يَتَرَأَّفَ عَلَى أَحَدٍ. فَهُوَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِأَنْ يَتَرَأَّفَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، نَاهِيكَ إِذْنْ عَنْ شَخْصَيْنِ. وَإِنْ تَرَأَّفَ عَلَى وَاحِدٍ، فَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَرَأَّفَ بِالْقَدْرِ نَفْسِهِ عَلَى آخَرَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ النِعْمَةُ إِلْزَامًا، فَهِيَ لَا تَعُودُ بَعْدُ نِعْمَةً، بَلْ تَصِيرُ عَدْلًا.

عَلَى أَيِّ حَالٍ، الْقَضَايَا الَتِي أُثِيرَتْ فِي هَذَا الْجَدَلِ شِبْهِ البِيلَاجِيِّ رَكَّزَتْ عَلَى عَقِيدَةِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ وَعَلَاقَتِهَا بِحُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. فَبِحَسْبِ أَتْبَاعِ كَاسْيَانُوسْ، يَضْعُفُ تَعْلِيمُ أُوغُسْطِينُوسْ عَنِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَازَةِ، وَيُؤَدِّي إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ.

كُلُّ مَنْ عَلَّمَ اللَاهُوتَ الأُوغُسْطِينِيَّ سَمِعَ هَذَا الاعْتِرَاضَ مِرَارًا. فَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ قَضَى مُنْذُ الأَزَلِ بِأَنْ يُخَلِّصَ الْبَعْضَ دُونَ آخَرِينَ، أَفَلا يَقْضِي ذَلِكَ عَلَى الْكِرَازَةِ وَعَلَى الْهَدَفِ مِنْهَا؟

أَتَذَكَّرُ أَنِّي كُنْتُ فِي فَصْلِ كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ، وَكَانَ الْأُسْتَاذُ يَعْلِّمُ عَقِيدَةَ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، ثُمَّ قَالَ: "حَسَنًا، إِذَا كَانَ التَعْيِينُ الْمُسْبَقُ صَحِيحًا، فَلِمَ يَجِبُ أَنْ نَكْرِزَ؟" ثُمَّ طَرَحَ هَذَا السُؤَالَ عَلَى جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ الْجَوَابَ. وَأَخِيرًا، وَصَلَ إِلَيَّ، وَكُنْتُ أَرْتَجِفُ فِي مَقْعَدِي، فَقُلْتُ: "لَا أَعْرِفُ". ثُمَّ قُلْتُ: "رُبَّمَا هُنَاكَ سَبَبٌ وَاحِدٌ بَسِيطٌ يَدْعُونَا، رَغْمَ ذَلِكَ، إِلَى الِانْخِرَاطِ فِي الْكَرَازَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ، فِي الْأَسَاسِ، أَوْصَانَا بِذَلِكَ". فَرَدَّ الْأُسْتَاذُ مَبْهُوتًا: "أَجَلْ، وَأَيُّ سَبَبٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَتَفَهَ مِنْ أَنْ يُوصِيَنَا الرَبُّ الْإِلَهُ كُلِّيُّ الْقُدْرَةِ وَمُخَلِّصُ نُفُوسِنَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مَا! فَعَدَا ذَلِكَ، مَا مِنْ سَبَبٍ آخَرَ". وَبِهَذَا وَبَّخَنِي أَمَامَ الْجَمِيعِ، وَلَنْ أَنْسَى ذَلِكَ مَا حَيِيتُ.

لَكِنَّ الْفِكْرَةَ هِيَ أَنَّ لَدَيْنَا بِالْفِعْلِ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ. وَمَهْمَا كَانَتْ عَقِيدَةُ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ الَتِي نَتَبَنَّاهَا، فَهِيَ يَنْبَغِي أَلَّا تُوهِنَ الْبَتَّةَ مِنْ عَزْمِ الْكَنِيسَةِ عَلَى إِطَاعَةِ الْإِرْسَالِيَّةِ الْعُظْمَى بِالْمُنَادَاةِ بِالْإِنْجِيلِ الْمُقَدَّسِ لِكُلِّ الْخَلِيقَةِ. وَفِي الْوَاقِعِ، أَنَا مُتَحَمِّسٌ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِأَلَّا تَرْجِعَ كَلِمَتُهُ إِلَيْهِ فَارِغَةً. كَمَا يَسُرُّنِي أَنْ أَعْلَمَ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِنْجِيلِ فِي النِّهَايَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيَّ، أَوْ عَلَى إِمْكَانِيَّاتِي، أَوْ فَصَاحَتِي، أَوْ ذَكَائِي، بَلْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الَذِي يَأْتِي بِالْحَصَادِ. قَالَ بُولُسُ: "أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لَكِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنْمِي". لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، كَانَ هَذَا هُوَ التَحَفُّظُ آنَذَاكَ لَدَى شِبْهِ الْبِيلَاجِيِّينَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ.

كَذَلِكَ، رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْظُورَ أُوغُسْطِينُوسْ عَنِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. أَيْ إِنَّهُ مَنْظُورٌ أَقْوَى مِمَّا يَلْزَمُ لِدَحْضِ الْبِيلَاجِيَّةِ. رُبَّمَا أَتَّفِقُ مَعَ هَذَا. لَكِنِّي أَتَّفِقُ أَيْضًا مَعَ مَنْظُورِ أُوغُسْطِينُوسْ، وَلَا أَرَى أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ. لَكِنْ مِنَ الصَوَابِ قَطْعًا أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ مُضْطَرِّينَ لِلتَمَادِي إِلَى الْحَدِّ الَذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أُوغُسْطِينُوسْ مِنْ أَجْلِ رَفْضِ الْبِيلَاجِيَّةِ. فَحَقًّا هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِيلَاجِيَّةِ وَالشِبْهِ بِيلَاجِيَّةٍ.

تَخْتَلِفُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ عَنِ الْبِيلَاجِيَّةِ فِي الْآتِي: تَذَكَّرُوا أَنَّ بِيلَاجْيُوسْ عَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِسُقُوطِ آدَمَ أَيُّ تَأْثِيرٍ عَلَى الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، بَلْ إِنَّ سُقُوطَ آدَمَ أَثَّرَ فِي آدَمَ وَحْدَهُ. وَلَمْ يَحْدُثِ انْتِقَالٌ لِلذَنْبِ، أَوْ فُقْدَانٌ لِلْقُدْرَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، أَوْ سُقُوطٌ حَقِيقِيٌّ فِي جَوْهَرِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةً لِسُقُوطِ آدَمَ. تَقُولُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ: "كَلَّا، بَلْ حَدَثَ سُقُوطٌ حَقِيقِيٌّ، وَصَارَ الْبَشَرُ فَاسِدِينَ. وَنَحْنُ نُوَلَدُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْفَسَادِ. وَقَدْ ضَعُفَتْ إِرَادَةُ الْإِنْسَانِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ بِاسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَصِيرَ بَارًّا، أَوْ أَنْ يُفْتَدَى، بِدُونِ النِعْمَةِ". فِي هَذَا الْأَمْرِ، تَخْتَلِفُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ تَمَامًا عَنِ الْبِيلَاجِيَّةِ الْبَحْتَةِ، الَتِي تَقُولُ إِنَّ النِعْمَةَ يُمْكِنُ أَنْ تُسَاعِدَ، لَكِنَّهَا غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلْخَلَاصِ. بَلْ تَقُولُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ إِنَّ النِعْمَةَ ضَرُورِيَّةٌ.

لَكِنَّهَا تَقُولُ أَيْضًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ مَيِّتًا بِالذُنُوبِ وَالْخَطَايَا بِحَيْثُ لَمْ تَعُدْ لَدَيْهِ أَيَّةُ قُدْرَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ. بَلْ لَا تَزَالُ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ، فِي طَبِيعَتِهِ السَاقِطَةِ، سَوَاءٌ عَلَى التَعَاوُنِ أَوْ عَدَمِ التَعَاوُنِ مَعَ نِعْمَةِ اللَّهِ. يُعْطِي اللَّهُ نِعْمَتَهُ لِلْجَمِيعِ. وَهِيَ تُسَاعِدُ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى اتِّخَاذِ الْقَرَارِ الصَائِبِ بِالْمَجِيءِ إِلَى الْمَسِيحِ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ اللَّهِ. إِذَنْ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْجَمِيعَ، وَيُعْطِيَ إِمْكَانِيَّةَ الْخَلَاصِ لِلْجَمِيعِ. لَكِنْ فِي النِهَايَةِ، خَلَاصُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدَمِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَرَجَةِ تَعَاوُنِ ذَلِكَ الْخَاطِئِ السَاقِطِ مَعَ مَا يُسَمَّى بِنِعْمَةِ اللَّهِ الْمُسْبَقَةِ، أَيْ تِلْكَ النِعْمَةِ الَتِي تَسْبِقُ الْقَرَارَ. وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَمْنَحُ الْخَلَاصَ لِلْجَمِيعِ، فَهُوَ إِذَنْ يُعَيِّنُ الْجَمِيعَ. لَكِنَّ الْبَعْضَ يَقُولُ: "نَعَمْ"، وَالْبَعْضُ يَقُولُ: "لَا". وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ "نَعَمْ" يَخْلُصُونَ، وَاَلَذِينَ يَقُولُونَ "لَا"، بِنَاءً عَلَى إِرَادَتِهِمْ الضَعِيفَةِ -لَا إِرَادَتِهِمْ الْمَيِّتَةِ - يَهْلِكُونَ.

دَعُونِي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ فِي كَنِيسَتِنَا وَمُجْتَمَعِنَا الْيَوْمَ، شِبْهِ البِيلَاجِيِّ -لَيْسَ الْبِيلَاجِيَّةَ، لِأَنَّ الْبِيلَاجِيَّةَ هِيَ مَنْظُورُ الْمُجْتَمَعِ الْعَلْمَانِيِّ، بَلْ الشِبْهُ بِيلَاجِيٍّ- هِيَ الرَّأْيُ السَائِدُ فِي الْكَنِيسَةِ الْيَوْمَ، وَلَيْسَ الرَأْيَ الْأُوغُسْطِينِيَّ. لَكِنْ بِالتَأْكِيدِ، دَحَضَ الرَّأْيُ الْأُوغُسْطِينِيُّ الرَأْيَ الْبِيلَاجِيَّ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْجَدَلَ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَتْ لَا تَزَالُ لَدَى الْإِنْسَانِ نَوَاةٌ أَسَاسِيَّةٌ مِنَ الْقُدْرَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، كَيْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلَى التَجَاوُبِ مَعَ النِعْمَةِ، سَوَاءٌ لِلتَعَاوُنِ أَوْ عَدَمِ التَعَاوُنِ مَعَهَا.

وَمَوْطِنُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأُوغُسْطِينِيَّةِ الْكْلَاسِيكِيَّةِ وَشِبْهِ البِيلَاجِيَّةِ هُوَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ مَا نُسَمِّيهِ "مُونِرْجِيزِمْ" (monergism) وَ"سِينِرْجِيزِمْ" (synergism)، فِيمَا يَخُصُّ التَجْدِيدَ، أَوْ إِحْيَاءَ النَفْسِ، أَوِ الِانْتِقَالَ مِنَ الْمَوْتِ الرُوحِيِّ إِلَى الْحَيَاةِ الرُوحِيَّةِ.

فِي الْمُصْطَلَحِ "مُونِرْجِيزِمْ"، الْبَادِئَةُ "مُونْ" تَعْنِي "وَاحِدًا" – mono، مِثْلَ monorail، وَmonoplane، وَmonoplay، وَغَيْرُهَا - وَمَعْنَاهَا "وَاحِدٌ". وَنَعْرِفُ مَعْنَى "erg". erg هِيَ وَحْدَةُ الْعَمَلِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ كَلِمَةِ "energy" أَوْ "طَاقَةٍ". إِذَنْ، كَلِمَةُ "مُونِرْجِيزْمْ" تَعْنِي "عَمَلاً أُحَادِيًّا". فَفِي الْعَمَلِ الْمُونَرْجِيسْتِيِّ، يَقُومُ شَخْصٌ وَاحِدٌ فَقَطْ بِالْعَمَلِ. فَهُوَ لَيْسَ عَمَلًا مُشْتَرَكًا أَوْ تَعَاوُنِيًّا، لَكِنَّهُ عَمَلٌ أُحَادِيٌّ يَقُومُ بِهِ طَرَفٌ وَاحِدٌ. هَذَا هُوَ مَعْنَى "مُونِرْجِيزْمْ".

فِي الْمُصْطَلَحِ "سِينَرْجِيزْمْ"، الْبَادِئَةُ "سِينْ" تَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "سُونْ"، وَمَعْنَاهَا "مَعَ". وَهِيَ تُذَكِّرُنَا بِكَلِمَةِ "synagogue" أَوْ "مَجْمَعٍ"، حَيْثُ يَجْتَمِعُ النَاسُ مَعًا. كَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ عَمَلِ "synchronizing" لِسَاعَاتِنَا، أَيْ مُزَامَنَتِهَا مَعًا. وَنَتَحَدَّثُ عَنْ "synonyms"، أَيْ مُرَادَفَاتٍ، حَيْثُ تَحْمِلُ كَلِمَتَانِ الْمَعْنَى نَفْسَهِ. إِذَنْ، الْبَادِئَةُ "سِينْ" - سِ-ي-نَ مَعْنَاهَا "مَعَ". ثُمَّ الْجِذْرُ نَفْسِهِ "erg" مَعْنَاهُ "الْعَمَلُ". إِذَنْ، الْمَعْنَى هُنَا هُوَ "الْعَمَلُ مَعًا"، أَوْ "عَمَلٌ مُشْتَرَكٌ"، أَوْ "تَعَاوُنٌ". وَمَا هِيَ "الْأُوبْرَا"؟ كَلِمَةُ "أُوبْرَا" تَعْنِي "أَعْمَالًا". فَإِنْ شَغَلْتَ شَيْئًا، فَإِنَّكَ تَجْعَلُهُ يَعْمَلُ.

إِذَنْ، الْفِكْرَةُ هِيَ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي هَذِهِ النِعْمَةَ، وَيُتِيحُهَا لِلْجَمِيعِ. وَالْإِنْسَانُ فِي حَالَتِهِ السَاقِطَةِ يَخْتَارُ إِمَّا أَنْ يَتَعَاوَنَ مَعَ تِلْكَ النِعْمَةِ أَوْ يَرْفُضَهَا. إِنَّ مَنْحَ النِعْمَةِ هُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ اللَّهُ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَهَا عَلَى الْإِنْسَانِ، بِحَسْبِ شِبْهِ البِيلَاجِيَّةِ، يَتَحَدَّدُ مِنْ خِلَالِ اسْتِعْدَادِهِ لِقُبُولِهَا، أَوِ التَعَاوُنِ مَعَهَا، أَوْ الْعَمَلِ مَعَهَا.

عَارَضَ أُوغُسْطِينُوسْ ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّ تَحْرِيرَ الْإِنْسَانِ السَاقِطِ يَتَحَقَّقُ بِعَمَلِ الرُوحِ الْقُدُسِ، وَفَقَطَ بِعَمَلِ الرُوحِ الْقُدُسِ. فَفِي الْمَرْحَلَةِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ عَمَلِيَّةِ إِحْيَائِنَا فِي الْمَسِيحِ، نَكُونُ سَلْبِيِّينَ تَمَامًا. وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ مَنْ يُقِيمُنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. لَكِنْ تَقُولُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ إِنَّ هَذَا عَمَلٌ مُشْتَرَكٌ. وَيَسْتَمِرُّ الْجَدَلُ، لِأَنَّ أُوغُسْطِينُوسْ قَالَ إِنَّ لَدَيْنَا إِرَادَةً حُرَّةً، لَكِنَّنَا بِلَا حُرِّيَّةٍ. وَبِالتَالِي، لَيْسَتْ لَدَيْنَا الْقُدْرَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ حَتَّى عَلَى قُبُولِ عَرْضِ اللَّهِ بِالْمُسَاعَدَةِ. لَكِنْ تَقُولُ شِبْهُ البِيلَاجِيَّةِ: "لَسْنَا أَمْوَاتًا بِالْخَطَايَا، لَكِنَّنَا فِعْلِيًّا نُعَانِي مِنْ مَرَضٍ خَطِيرٍ. وَلَا يَزَالُ لَدَيْنَا قَدْرٌ لَمْ يَتَأَثَّرْ مِنَ الْقُوَّةِ، نَسْتَطِيعُ بِهِ، وَعَلَى الرَغْمِ مِنْ ضَعْفِنَا، أَنْ نَمُدَّ أَيْدِيَنَا وَنَتَعَاوَنَ مَعَ النِعْمَةِ".

هَذَا مُتَّصِلٌ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ بِمَسْأَلَةِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ. عَلَّمَ أُوغُسْطِينُوسْ بِأَنَّهُ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، قَضَى اللَّهُ، بِحَسْبِ قَصْدِهِ، وَبِحَسَبِ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، بِأَنْ يُخَلِّصَ الْبَعْضَ. ثُمَّ فِي الْمَكَانِ وَالزَمَانِ، تَدَخَّلَ لِيَقْتَادَهُمْ إِلَى الْخَلَاصِ. لَكِنْ تَبَنَّى كَاسْيَانْ رَأْيًا عَنِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ مَبْنِيًّا عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْمُسْبَقَةِ. فَاللَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مُنْذُ الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيُقَدِّمُ النِعْمَةَ الْمُخَلِّصَةَ لِلْجَمِيعِ. وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَاوَنَ الْجَمِيعُ مَعَهَا وَيَخْلُصُوا. لَكِنَّهُ عَلِمَ مُسْبَقًا بِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَمِيعُ سَيَقْبَلُونَ الْعَرْضَ. وَعَلِمَ مُسْبَقًا مَنْ سَيَقُولُ "نَعَمْ" وَمَنْ سَيَقُولُ "لَا". إِذَنْ، بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ الْمُسْبَقَةِ، نَظَرَ اللَّهُ عَبْرَ الزَمَنِ، وَرَأَى مُسْبَقًا مَنْ سَيَتَعَاوَنُ مَعَ النِعْمَةِ وَمَنْ لَنْ يَتَعَاوَنَ مَعَهَا. وَعَلَى أَسَاسِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ، اخْتَارَ أَنْ يُخَلِّصَ الَذِينَ سَيَتَعَاوَنُونَ، وَأَلَّا يُخَلِّصَ الَذِينَ لَنْ يَتَعَاوَنُوا. إِذَنْ، فِي النِهَايَةِ، مَعَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ عَمَلُ اللَّهِ، لَكِنَّ انْضِمَامَ الْفَرْدِ إِلَى الْمُخْتَارَيْنَ أَمْرٌ مَتْرُوكٌ بِيَدِ الْفَرْدِ، بِحَيْثُ تَكُونُ لَهُ الْكَلِمَةُ الْأَخِيرَةُ، وَهُوَ مَنْ يُقَرِّرُ إِنْ كَانَ سَيَخْلُصُ أَمْ لَا. لَكِنْ قَالَ أُوغُسْطِينُوسْ إِنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ نَظَرَ عَبْرَ الزَمَنِ، لِيَخْتَارَ الَذِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَتَعَاوَنُونَ مَعَ النِعْمَةِ، لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ أَحَدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَيَرَى أَحَدًا يَتَعَاوَنُ مَعَ النِعْمَةِ، بَلْ كَانَ سَيَرَى جُمْهُورًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَبْغُونَ التَعَاوُنَ مَعَ النِعْمَةِ.

إِذَنْ، بِحَسْبِ كَاسْيَانْ، ضَعُفَتْ حُرِّيَّةُ الْإِنْسَانِ بِفِعْلِ السُقُوطِ، لَكِنَّهَا لَمْ تُفْقَدْ نِهَائِيًّا. أُدِينَ كَاسْيَانْ وَشِبْهٌ الْبِيلَاجِيَّةِ بِالْهَرْطَقَةِ فِي سِنُودِسِ أُورَانْجْ (Synod of Orange) فِي عَامِ 529.

سَنَرَى فِي الْمُحَاضَرَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا حَدَثَ لَاحِقًا فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ. وَمِنَ الْمُفَارَقَاتِ أَنَّ الْكَنِيسَةَ الْكَاثُولِيكِيَّةَ أَدَانَتْ الْبِيلَاجِيَّةَ، وَأَدَانَتْ شِبْهَ البِيلَاجِيَّةِ. ثُمَّ فِي أَيَّامِ لُوثَرْ وَالْإِصْلَاحِ، أَدَانَتِ الْأُوغُسْطِينِيَّةَ، مَا يَجْعَلُنَا نَتَسَاءَلُ مَا الْخَيَارَاتُ الْمُتَبَقِّيَةُ. وَسَنَتَحَدَّثُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُحَاضَرَةِ الْمُقْبِلَةِ.