المحاضرة 2: حُرِّيَّةُ الإِرَادَةِ وَسِيَادَةُ اللهِ

فِي الْمُحَاضَرَةِ الْأُولَى، رَأَيْنَا أَنَّ الْمَعْرَكَةَ حَوْلَ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ تَدُورُ عَلَى جَبْهَتَيْنِ. تَتَعَلَّقُ الْجَبْهَةُ الْأُولَى بِعَلَاقَةِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ بِالْقُوَى الْخَارِجِيَّةِ، الَتِي قَدْ تُؤَثِّرُ فِي قَرَارَاتِنَا، أَوْ تُحَتِّمُهَا، بِشَكْلٍ أَوْ بِدَرَجَةٍ مَا. وَتَتَعَلَّقُ الْجَبْهَةُ الثَانِيَةُ بِحُرِّيَّتِنَا الْأَخْلَاقِيَّةِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ.

اخْتَتَمْنَا الْمُحَاضَرَةَ السَابِقَةَ بِالنَظَرِ إِلَى الْمَشْهَدِ الْمُعَاصِرِ لِلْحَتْمِيَّةِ الطَبِيعِيَّةِ، مُمَثَّلًا فِي بِي. إِفْ. سْكِينَرْ (B.F. Skinner). وَفِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، نَتَذَكَّرُ لُودْفِيجْ فُوِيرْبَاخْ (Ludwig Feuerbach)، الَذِي كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي كَارْلْ مَارْكْسْ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْحَتْمِيَّةِ. اشْتَهَرَ فُوِيرْبَاخْ بِتَعْلِيقِهِ الْقَائِلِ: "أَنْتَ نِتَاجُ مَا تَأْكُلُهُ". وَهَذَا يُذَكِّرُنِي قَطْعًا بِقِصَّةِ الرَجُلِ الَذِي وَقَعَ تَحْتَ تَأْثِيرِ كِتَابَاتِ فُوِيرْبَاخْ، فَقَالَ: "حَسَنًا، إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَسَأُغَيِّرُ نِظَامِي الْغِذَائِيَّ". وَقَرَّرَ، فِي مُحَاوَلَةٍ مِنْهُ لِجَمْعِ ثَرَوَاتٍ طَائِلَةٍ، أَلَّا يَتَنَاوَلَ سِوَى الْأَطْعِمَةِ الرَاقِيَةِ. فَابْتَدَأَ يَمْلَأُ بَطْنَهُ بِالْفَطَائِرِ وَالْكَعْكِ الْمُحَلَّى، وَأَشْيَاءٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَكِنْ أُصِيبَ بِالْيَأْسِ لَمَّا اكْتَشَفَ أَنَّهُ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُصْبِحَ ثَرِيًّا، أَصْبَحَ سَمِينًا. وَكَانَتْ هَذِهِ نِهَايَةَ نَظَرِيَّةِ فُوِيرْبَاخْ بِأَنَّنَا نِتَاجُ مَا نَأْكُلُهُ. لَكِنْ بِالطَبْعِ، كَانَ فُوِيرْبَاخْ يَقْصِدُ شَيْئًا أَعْمَقَ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ إِنَّنَا، إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ، نِتَاجُ عَمَلِيَّاتٍ بِيُوكِيمْيَائِيَّةٍ، تَجْرِي خِفْيَةً تَحْتَ السَطْحِ.

أَعْتَقِدُ أَنَّنَا نُدْرِكُ كَمُؤْمِنِينَ أَنَّ النَظْرَةَ الْكِتَابِيَّةَ لِلْحُرِّيَّةِ تَتَعَارَضُ مَعَ كُلِّ الْأَفْكَارِ الْوَثَنِيَّةِ عَنِ الْحَتْمِيَّةِ، الَتِي تَحْصُرُ تَأْثِيرَاتِ الْوَاقِعِ فِي الْمَجَالِ الطَبِيعِيِّ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِعَمَلِ اللَّهِ. وَالَتِي تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْكَائِنُ الْأَسْمَى بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لَكِنْ بِالرَغْمِ مِنْ سُمُوِّهِ، يَظَلُّ ضَحِيَّةً لِقُوَى الطَبِيعَةِ الْعَمْيَاءِ، الَتِي تَتَحَكَّمُ فِي مَصِيرِهِ.

لَكِنَّ السُؤَالَ اللَاهُوتِيَّ الْأَهَمَّ الَذِي نُوَاجِهُهُ دَاخِلَ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ، هُوَ: مَا عَلَاقَةُ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِنَا بِسِيَادَةِ اللَّهِ. فَكُلَّمَا خُضْتُ مُنَاقَشَاتٍ حَوْلَ الْمَفْهُومِ الْكِتَابِيِّ لِلتَعْيِينِ الْمُسْبَقِ -وَيَجِبُ أَنْ أَقُولَ إِنَّ هَذَا حَدَثَ مِرَارًا- وَكُلَّمَا سَنَحَتْ لِي فُرْصَةُ شَرْحِ عَقِيدَةِ الِاخْتِيَارِ أَوِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، يَكُونُ السُؤَالُ الْحَتْمِيُّ الْأَوَّلُ الَذِي يَطْرَحُهُ النَاسُ رَدًّا عَلَى ذَلِكَ هُوَ: "وَمَاذَا عَنْ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ؟" لأَنَّنَا نُدْرِكُ، حَتَّى إِنْ لَمْ نَكُنْ قَدْ دَرَسْنَا هَذِهِ الأُمُورَ بِالتَفْصِيلِ، الصُعُوبَةَ الشَدِيدَةَ لِلتَوْفِيقِ بَيْنَ إِلَهٍ ذِي سِيَادَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَبَيْنَ مَخْلُوقٍ ذِي حُرِّيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ.

نُوَاجِهُ ذَلِكَ لَيْسَ فَقَطْ مَعَ عَقِيدَةِ الِاخْتِيَارِ وَالتَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، بَلْ أَيْضًا فِي فَهْمِنَا لِلْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ عَلَّمَ مِرَارًا بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتَفِ بِخَلْقِ هَذَا الْكَوْنِ، لَكِنَّهُ يَحْفَظُهُ بِقُدْرَتِهِ. وَهُوَ لَا يَكْتَفِي بِالْحِفَاظِ عَلَى اسْتِمْرَارِيَّتِهِ، لَكِنَّهُ يُدِيرُهُ، وَيَحْكُمُهُ. وَفِي مُمَارَسَتِهِ لِحُكْمِهِ لِخَلِيقَتِهِ، يَسْتَخْدِمُ سِيَادَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ وَقُدْرَتَهُ. وَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ حَافِلٌ بِأَمْثِلَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَرْفَعُ أُمَمًا، وَيَضَعُ أُمَمًا، وَبِأَنَّ الْأُمُورَ تَحْدُثُ وَفْقًا لِمَشُورَةِ اللَّهِ الْمَحْتُومَةِ. كَمَا نَقْرَأُ، مَثَلًا، أَنَّ أَجَلَ الْإِنْسَانِ مُعَيَّنٌ مِنَ الرَبِّ، وَأَنَّ اللَّهَ يُصْدِرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَتِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَحَقَّقَ.

إِذَنْ، نَقِفُ هُنَا أَمَامَ مَفْهُومِ تَعْيِينِ اللَّهِ الْمُسْبَقِ بِكَامِلِهِ، أَيْ تَعْيِينِهِ لِلْأَحْدَاثِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ قَبْلَ حُدُوثِهَا. وَالسُؤَالُ الْبَدِيهِيُّ الَذِي يُطْرَحُ أَمَامَ مَفْهُومِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ هُوَ: إِذَا كَانَ اللَّهُ يُعَيِّنُ الْيَوْمَ مَا سَيَحْدُثُ فِي الْغَدِ، فَهَلْ هُنَاكَ أَدْنَى شَكٍّ فِي حُدُوثِ مَا عَيَّنَهُ؟ أَمْ أَنَّنَا نَفْهَمُ التَعْيِينَ الْمُسْبَقَ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُخَمِّنُ بِفِطْنَتِهِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ فِي الْغَدِ؟ وَهَلْ يَعْرِفُ اللَّهُ مُسْبَقًا مَا سَتَقُولُهُ قَبْلَ أَنْ تَقُولَهُ؟ وَإِذَا كَانَ يَعْرِفُهُ، أَلَا يَجْعَلُ سَابِقَ عِلْمِهِ مِنْ قَوْلِكَ لِمَا يَعْلَمُ أَنَّكَ سَتَقُولُهُ أَمْرًا أَكِيدًا، حَتَّى إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ كَلَامًا مُخْتَلِفًا عَمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّكَ سَتَقُولُهُ؟ وَهَلْ ظَنُّكَ هَذَا هُوَ عَلَى أَفْضَلِ تَقْدِيرٍ وَهْمٌ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِالْأَمْرِ تَجْعَلُهُ أَكِيدًا؟ لِهَذَا يُصَارِعُ اللَاهُوتِيُّونَ لِفَهْمِ الْفُرُوقِ الدَقِيقَةِ بَيْنَ ضَرُورَةِ النَتِيجَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَضَرُورَةِ النَتَائِجِ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَمْرًا مَا سَيَحْدُثُ مُسْبَقًا، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ تَمَامًا أَنَّهُ سَيَحْدُثُ، وَلَا يُمْكِنُ أَلَّا يَحْدُثَ. لَكِنْ هَلْ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرْغَمَهُ عَلَى الْحُدُوثِ؟ وَهَلْ يَشْمَلُ سَابِقُ عِلْمِ اللَّهِ فِكْرَةَ تَعْيِينِهِ الْمُسْبَقِ لِمَا سَيَحْدُثُ؟ هَذَا هُوَ الْجَانِبُ الصَعْبُ مِنْ دِرَاسَةِ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالسِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ.

يَتَحَدَّثُ الْبَعْضُ أَحْيَانًا عَنْ مُشْكِلَةِ السِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَأَنَّهَا تَنْطَوِي عَلَى تَنَاقُضٍ طَبِيعِيٍّ بَيْنَ سِيَادَةِ اللَّهِ وَحُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ. وَسَمِعْتُ عَنْ مُحَاوَلَاتٍ لِحَلِّ ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، أَشْهَرُهَا اسْتِخْدَامُ تَشْبِيهِ الْخَطَّيْنِ الْمُتَوَازِيَيْنِ. أَحَدُ أَسَاتِذَتَيْ بِالْجَامِعَةِ، حِينَ تَعَرَّفْتُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عَلَى هَذِهِ الْمُعْضِلَةِ، حَلَّهَا بِقَوْلِهِ إِنَّ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَالسِيَادَةَ الْإِلَهِيَّةَ خَطَّانِ مُتَوَازِيَانِ، يَلْتَقِيَانِ فِي الْأَبَدِيَّةِ، أَوْ فِي اللَا نِهَايَةِ. فَقَطَّبَ الْحُضُورُ جِبَاهَهُمْ، وَاعْتَبَرُوا كَلَامَهُ عَمِيقًا لِلْغَايَةِ. وَأَتَذَكَّرُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنَ الفَصْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنَا أَحُكُّ رَأْسِي قَائِلًا: "مَا خَطَبُ هَذَا التَشْبِيهِ؟ لَوْ كَانَ هَذَانِ الْخَطَّانِ مُتَوَازِيَيْنِ حَقًّا، فَلَنْ يَلْتَقِيَا لَا فِي الْأَبَدِيَّةِ، وَلَا فِي بِيتِسْبُرْجْ، وَلَا فِي أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ. وَفِعْلِيًّا، إِذَا الْتَقَيَا فِي مَكَانٍ مَا، فَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا فِعْلِيًّا غَيْرُ مُتَوَازِيَيْنِ. وَقَوْلُنَا ذَلِكَ هُوَ مُجَرَّدُ تَشْوِيشٍ عَلَى صُعُوبَةِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنَّنَا فَقَطْ نَقُولُ بِأُسْلُوبٍ مُنَمَّقٍ: "هَذَانِ الْمَفْهُومَانِ، فِي الْوَاقِعِ، مُتَنَاقِضَانِ. وَبِمَا أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُؤَكِّدُ مِنْ نَاحِيَةٍ عَلَى السِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ وَمَسْؤُولِيَّتِهِ. وَمَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَيْنِ مُتَنَاقِضَانِ وَمُتَعَارِضَانِ، نَحْنُ مُرْغَمُونَ بِدَافِعِ التَقْوَى عَلَى قُبُولِ النَقِيضَيْنِ". وَيَجِبُ أَنْ أَقُولَ بِصَرَاحَةٍ إِنَّ هَذَا هُوَ الأُسْلُوبُ الَذِي يَتَعَامَلُ بِهِ مُعْظَمُ الْمَسِيحِيِّينَ مَعَ الْمُشْكِلَةِ. فَهُمْ لا يَخْشَوْنَ الْبَتَّةَ مِنْ قُبُولِ هَذَا التَنَاقُضِ، الَذِي يَعْنِي عَدَمَ الصَوَابِ. وَأَقُولُ إِنَّكُمْ إِنْ فَهِمْتُمْ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ تَمَامًا مَعَ السِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ إِنْ فَهِمْتُمُ السِيَادَةَ الْإِلَهِيَّةَ عَلَى أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ تَمَامًا مَعَ حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ، فَلَا بُدَّ أَنْ أَفْتَرِضَ أَنَّ مَفْهُومًا وَاحِدًا عَلَى الْأَقَلِّ مِنَ الْمَفْهُومَيْنِ -أَوْ رُبَّمَا كِلَيْهِمَا، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى الْأَقَلِّ- غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَلْزَمُ تَعْدِيلُهُ وَمُرَاجَعَتُهُ.

أَوَدُ أَنْ أَقُولَ بِدَايَةً إِنَّ مَفْهُومَيْ حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ وَالسِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَيْسَا مُتَنَاقِضَيْنِ فِي طَبِيعَتِهِمَا. رُبَّمَا هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْغُمُوضِ الَذِي يَلُفُّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي طَبِيعَتِهِمَا. دَعُونِي أُخْبِرُكُمْ بِأَنَّ التَنَاقُضَ يَكْمُنُ فِي هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ: السِيَادَةُ وَالِاسْتِقْلَالُ الذَاتِيُّ. فَإِذَا كُنَّا نَقْصِدُ بِالْحُرِّيَّةِ الْحُرِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، أَوْ مَا نُسَمِّيهِ بِالِاسْتِقْلَالِ الذَاتِيِّ، حَيْثُ يَحْكُمُ الْبَشَرُ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ لِأَيِّ سُلْطَةٍ أَوْ قُوَّةٍ شَامِلَةٍ وَإِلْزَامِيَّةٍ أَنْ تَمْنَعَهُمْ مِنْ تَنْفِيذِ أَيِّ قَرَارٍ يَتَّخِذُونَهُ. فَإِذَا كُنَّا نَقْصِدُ بِالْحُرِّيَّةِ الْحُرِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ أَوْ الِاسْتِقْلَالَ الذَاتِيَّ، فَمِنْ الْمُسْتَحِيلِ تَمَامًا أَنْ نَنْجَحَ فِي التَوْفِيقِ بَيْنَ هَذَيْنَ الْمَفْهُومَيْنِ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ ذا سِيَادَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّ حُرِّيَّتَهُ مُطْلَقَةٌ، وَتَشْمَلُ خَلِيقَتَهُ كُلَّهَا، بِحَيْثُ يَتَمَتَّعُ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ مَا يَشَاءُ؛ إِذَا كَانَ اللَّهُ ذَا سِيَادَةٍ، فَلَا يُمْكِنُ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا، لِأَنَّ اسْتِقْلَالَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَحْكُمُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا يَسْتَبْعِدُ إِمْكَانِيَّةَ تَسَلُّطِ أَيِّ شَيْءٍ أَوْ أَيِّ شَخْصٍ عَلَيْهِ.

إِذَنْ، لَا يُمْكِنُ لِهَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ أَنْ يُوجَدَا مَعًا. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ ذَا سِيَادَةٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ نَكُونَ مُسْتَقِلِّينَ. وَفِي الْمُقَابِلِ، لَوْ كُنَّا مُسْتَقِلِّينَ، فَهَذَا يُلْغِي سِيَادَةَ اللَّهِ. فَلَا يُمْكِنُ لِلْفِكْرَتَيْنِ أَنْ تُوجَدَا مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. يُمْكِنُنَا تَصَوُّرُ اسْتِقْلَالِيَّةِ الْإِنْسَانِ، وَيُمْكِنُنَا تَصَوُّرُ السِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُنَا تَصَوُّرُ وُجُودِهِمَا مَعًا.

هَذَا شَبِيهٌ نَوْعًا مَا بِالْقِصَّةِ الْقَدِيمَةِ عَنِ الْقُوَّةِ الَتِي لَا تُقَاوَمُ وَالشَيْءِ الَذِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ. نُدْرِكُ أَنَّ وُجُودَ قُوَّةٍ لَا تُقَاوَمُ هُوَ مَفْهُومٌ وَارِدٌ. فَيُمْكِنُنَا تَخَيُّلُ وُجُودِ شَيْءٍ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةٍ جَبَّارَةٍ لِدَرَجَةِ أَنْ لَا شَيْءَ يَسْتَطِيعُ مُقَاوَمَتَهُ. مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يُمْكِنُنَا تَصَوُّرُ وُجُودِ شَيْءٍ قَوِيٍّ لِدَرَجَةِ أَنْ لَا شَيْءَ يَسْتَطِيعُ تَحْرِيكَهُ، وَلِهَذَا نُسَمِّيهِ بِالشَيْءِ الَذِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ. وَمَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَيْنِ، كُلًّا عَلَى حِدَةٍ، مَعْقُولَانِ، مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُوجَدَا مَعًا. نَعْرِفُ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خِلَالِ الْفَلْسَفَةِ، فَسَيَكُونُ مِنْ خِلَالِ الْأُغْنِيَةِ الَتِي اشْتَهَرَتْ فِي مُنْتَصَفِ هَذَا الْقَرْنِ، الَتِي تَقُولُ: "عِنْدَمَا تَلْتَقِي قُوَّةٌ لَا تُقَاوَمُ مِثْلُكَ بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ مِثْلِي، فَبِطَرِيقَةٍ مَا، وَعِنْدَ نُقْطَةٍ مَا، عَلَى أَحَدِهِمَا الِاسْتِسْلَامُ". أَتَذْكُرُونَ ذَلِكَ؟ عَلَى أَحَدِهِمَا الِاسْتِسْلَامُ. فَإِنْ تَخَيَّلْنَا الْتِقَاءَ الْقُوَّةِ الَتِي لَا تُقَاوَمُ بِالشَيْءِ الَذِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ. فَإِنِ اصْطَدَمَتِ الْقُوَّةُ الَتِي لَا تُقَاوَمُ بِالشَيْءِ الَذِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ، وَلَمْ تُحَرِّكْهُ، عَلَامَ سَيَدُلُّ ذَلِكَ؟ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الَتِي لَا تُقَاوَمُ لَمْ تَكُنْ قُوَّةً لَا تُقَاوَمُ، بَلْ أَمْكَنَ مُقَاوَمَتُهَا. وَفِي الْمُقَابِلِ، إِنِ اصْطَدَمَتِ الْقُوَّةُ الَتِي لَا تُقَاوَمُ بِالشَيْءِ الَذِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهُ، فَتَحَرَّكَ هَذَا الشَيْءُ، سَيَلْزَمُ أَنْ نُغَيِّرَ لَقَبَهُ، لأَنَّهُ أَصْبَحَ الآنَ قَابِلًا لِلتَحْرِيكِ، وَلَيْسَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَحْرِيكِ. فَلا يُمْكِنُ لِلاثْنَيْنِ أَنْ يَجْتَمِعَا مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.

لَكِنْ مِنَ الْأُمُورِ الَتِي نُلَاحِظُهَا فِي النَظْرَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ لَا يُعَلِّمُ الْبَتَّةَ، أَوْ حَتَّى يُلَمِّحُ، إِلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ الَتِي نَتَمَتَّعُ بِهَا تَصِلُ إِلَى مُسْتَوَى الِاسْتِقْلَالِ الذَاتِيِّ. وَفِي الْوَاقِعِ، وَطَوَالِ قُرُونٍ، ظَلَّ اللَاهُوتِيُّونَ يَقُولُونَ إِنَّ الْخَطِيَّةَ الْكُبْرَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ سَعْيُهُمَا إِلَى الِاسْتِقْلَالِ. وَتَمَثَّلَتْ تَجْرِبَةُ الْحَيَّةِ لَهُمَا فِي الْجَنَّةِ فِي أَنْ يَكُونَا كَاللَّهِ. فَقَدْ أَرَادَا حُرِّيَّةً تَفُوقُ تِلْكَ الَتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ لَهُمَا. أَعْطَى اللَّهُ مَخْلُوقَاتِهِ حُرِّيَّةً - وَهِيَ حُرِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَبَعِيدَةُ الْمَدَى. فَقَدْ قَالَ: "مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا". لَكِنَّ تِلْكَ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَكُنْ مُطْلَقَةً، بَلْ وَضَعَ اللَّهُ قَيْدًا عَلَيْهَا، وَأَخْضَعَهَا لِسِيَادَتِهِ، فَقَالَ: "أَمَّا هَذِهِ الشَّجَرَةُ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا، لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ". وَكَانَتِ الْخَطِيَّةُ هِيَ نِتَاجُ مُحَاوَلَةِ الْإِنْسَانِ التَوْسِيعَ مِنْ نِطَاقِ حُرِّيَّتِهِ الَتِي أَخَذَهَا مِنْ خَالِقِهِ.

سَمِعْتُ كَثِيرًا - بَلْ وَأَكْثَرَ مِنَ اللَازِمِ، فَبِالنِسْبَةِ إِلَيَّ، مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنَ اللَازِمِ. سَمِعْتُ الْبَعْضَ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ حَدًّا لِسِيَادَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ مُتَسَلِّطٌ إِلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّ مَا يَحُدُّ سِيَادَةَ اللَّهِ هُوَ حُرِّيَّةُ الْإِنْسَانِ. فَسِيَادَةُ اللَّهِ مَحْدُودَةٌ بِحُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ. مَا خَطْبُ هَذَا الرَأْيِ؟ لَوْ كَانَتْ سِيَادَةُ اللَّهِ مَحْدُودَةً بِحُرِّيَّتِكَ، فَمَنْ سَتَكُونُ لَهُ السِيَادَةُ؟ فَلَوْ كَانَتْ لِحُرِّيَّتِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْحَدِّ مِنْ سِيَادَةِ اللَّهِ، سَتَكُونُ أَنْتَ السَيِّدَ وَلَيْسَ اللَّهَ. كَلَّا، كَلَّا، كَلَّا. بَلْ يَقُولُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ الْعَكْسَ تَمَامًا، بِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ حَقِيقِيَّةٌ، لَكِنَّهَا مَحْدُودَةٌ دَائِمًا بِحُرِّيَّةِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ. فَاَللَّهُ حُرٌّ، وَأَنْتَ حُرٌّ، لَكِنَّهُ أَكْثَرُ حُرِّيَّةً مِنْكَ. وَكُلَّمَا أَرَادَتْ حُرِّيَّةُ إِرَادَتِكَ فِعْلَ أَمْرٍ لَا تُرِيدُ حُرِّيَّةُ إِرَادَةِ اللَّهِ أَنْ تَفْعَلَهُ، يَحْدُثُ نِزَاعٌ، وَتَكُونُ أَنْتَ الْخَاسِرَ. سَتَقُولُ لِي: "حَسَنًا، وَمَاذَا عَنِ ارْتِكَابِي لِلْخَطِيَّةِ؟" اللَّهُ يَسْمَحُ لَكَ بِأَنْ تُخْطِئَ. فَهُوَ يَسْمَحُ بِذَلِكَ. لَكِنَّهُ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ. وَحَتَّى مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ، لَنْ يَسَعَكَ أَنْ تُخْطِئَ مَا لَمْ يَخْتَرِ اللَّهُ، فِي سِيَادَتِهِ، أَنْ يَدَعَكَ تُخْطِئُ. هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ يُرْغِمُكَ عَلَى أَنْ تُخْطِئَ. وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ يُبَارِكُ شَرَّكَ. لَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقِفَ فِي وَجْهِكَ وَيَقُولَ: "مَعَ أَنَّ لَدَيَّ الْقُدْرَةَ أَنْ أَمْنَعَكَ، وَأَنْ أُبَيدَكَ بِكَلِمَتِي، وَأَمْنَعَكَ مِنْ فِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ تُخَطِّطُ لَهُ، مَعَ أَنَّنِي أَعْلَمُ مَا تُخَطِّطُ لَهُ، وَأَسْتَطِيعُ مَنْعَهُ فِي الْحَالِ، لَكِنَّنِي سَأَسْمَحُ بِحُدُوثِهِ، لِأَنَّ لَدَيَّ أَسْبَابِي".

يَتَعَلَّقُ هَذَا بِمَفْهُومِ حُكْمِ اللَّهِ لِلْعَالَمِ بِعِنَايَتِهِ. رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي سِلْسِلَةِ الْمُحَاضَرَاتِ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ، حِينَ تَحَدَّثْنَا عَنْ مَفْهُومِ التَوَافُقِ، الَذِي بِمُوجِبِهِ يُمَارِسُ اللَّهُ سِيَادَتَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَاللَّهُ يُمَارِسُ حُرِّيَّتَهُ الْمُطْلَقَةَ فِي، وَمِنْ خِلَالِ، وَبِوَاسِطَةِ، الْقَرَارَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ لِمَخْلُوقَاتِهِ.

وَأَوْضَحُ نَصٍّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ هُوَ الَذِي يَرِدُ فِي خِتَامِ سِفْرِ التَكْوِينِ، عِنْدَمَا اجْتَمَعَ شَمْلُ يُوسُفَ بِإِخْوَتِهِ. فَبَعْدَمَا عَرَفَهُمْ يُوسُفُ، وَعَرَفَهُ إِخْوَتُهُ، ارْتَعَبُوا مِنْ أَنْ يَنْفِّذَ فِيهِمْ الِانْتِقَامَ الْعَادِلَ الَذِي كَانَ مِنْ حَقِّهِ تَمَامًا بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ بِهِ. وَارْتَعَدُوا أَمَامَ سُلْطَتِهِ الْأَرْضِيَّةِ. أَتَذْكُرُونَ كَلِمَاتِ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا". يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ الصَالِحَةَ تَحَقَّقَتْ فِي، وَمِنْ خِلَالِ، نَوَايَا إِخْوَةِ يُوسُفَ الشِرِّيرَةِ. لَكِنْ، هَلْ يُمْكِنُهُمْ بِهَذَا الْمُثُولُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الدَيْنُونَةِ قَائِلِينَ: "يَا رَبُّ، كُنَّا فَقَطْ نُتَمِّمُ مَشِيئَتَكَ. نَحْنُ أَبْرِيَاءُ. فَقَدْ قَصَدْتَ بِالْأَمْرِ خَيْرًا، وَهَذَا مَا قَصَدْنَاهُ أَيْضًا"؟ كَلَّا، كَلَّا. بَلْ سَيَقُولُ اللَّهُ: "أَنْتُمْ تَصَرَّفْتُمْ بِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ الَتِي حَصَلْتُمْ عَلَيْهَا، وَبِحَسْبِ رَغَبَاتِكُمْ، وَبِحَسْبِ قَرَارَاتِكُمْ، الَتِي كَانَتْ قَرَارَاتٍ حَقِيقِيَّةً وَفِعْلِيَّةً". لَمْ يُرْغِمْهُمُ اللَّهُ عَلَى فِعْلِ مَا فَعَلُوهُ، لَكِنَّهُ اسْتَخْدَمَ قَرَارَاتِهِمْ لِتَتْمِيمِ قَصْدِهِ.

هَكَذَا يَهُوذَا أَيْضًا، الَّذِي أَدَّى غَدْرُهُ وَخِيَانَتُهُ إِلَى صَلْبِ الْمَسِيحِ. قَصَدَ يَهُوذَا بِالْأَمْرِ شرًّا، لَكِنْ دُونَ قَرَارِهِ الشِرِّيرِ، لَمَا وَقَعَ أَعْظَمُ حَدَثِ فِدَاءٍ. هَذَا هُوَ لُغْزُ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَيْفِيَّةُ تَتْمِيمِ اللَّهِ لِمَشِيئَتِهِ مِنْ خِلَالِ الْقَرَارَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

فِي عِلْمِ اللَاهُوتِ، كَمَا ذَكَرْتُ، نَصْطَدِمُ بِالنَصِّ الْقَائِلِ: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللَّهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا". وَعِنْدَمَا نُحَلِّلُ مَا يَجْرِي فِي قَرَارَاتِنَا الْأَخْلَاقِيَّةِ -أَيْ مَا نُسَمِّيهِ "قُوَّةَ الْإِرَادَةِ"- مِنَ الْأُمُورِ الَتِي نَفْهَمُهَا، وَالَتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، هُوَ "التَعَمُّدُ". نَتَحَدَّثُ عَنِ الْحَوَادِثِ، كَمَا حِينَ تَصْطَدِمُ سَيَّارَتُنَا بِمُؤَخِّرَةِ سَيَّارَةِ شَخْصٍ آخَرَ، فَنَخْرُجُ سَرِيعًا، وَنَعْتَذِرُ لِهَذَا الشَخْصِ قَائِلِينَ: "أَعْتَذِرُ. لَمْ ..."، مَاذَا؟ "لَمْ أَقْصِدْ ذَلِكَ. لَمْ أَصْطَدِمْ بِكَ عَمْدًا، كَانَ ذَلِكَ حَادِثًا". فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُتَعَمَّدًا. لَوْ كَانَ مُتَعَمَّدًا، لَمَا اقْتَصَرَ ذَنْبِي عَلَى إِتْلَافِ سَيَّارَةِ جَارِي، بَلْ سَيُلْقَى الْقَبْضُ عَلَيَّ بِتُهْمَةِ الشُرُوعِ فِي الْقَتْلِ، إِذَا كُنْتُ قَدْ تَعَمَّدْتُ الِاصْطِدَامَ بِسَيَّارَتِهِ.

إِذَنْ، نَحْنُ نَفْهَمُ الدَلَالَةَ الْأَخْلَاقِيَّةَ لِلتَعَمُّدِ. وَيَقُولُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ عَنْ أَفْعَالِ الْبَشَرِ وَقَرَارَاتِهِمْ إِنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي تَعَمُّدٍ حَقِيقِيٍّ. لَكِنَّ أَفْعَالَنَا الْمُتَعَمَّدَةَ نَفْسَهَا خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِ اللَّهِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُخْبِرُنَا بِأَنَّنَا بِاَللَّهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. رُبَّمَا تَكُونُ نِيَّتِي سَيِّئَةً، وَرُبَّمَا أَتَّخِذُ قَرَارًا خَاطِئًا، أَوْ أَقُومُ بِفِعْلٍ شِرِّيرٍ. وَعِنْدَئِذٍ، فَإِنَّنِي أَتَصَرَّفُ بِاعْتِبَارِي مُسَبِّبًا حَقِيقِيًّا، أَيْ بِاعْتِبَارِي سَبَبًا يُحْدِثُ نَتِيجَةً. وَنَقُولُ فِي عِلْمِ اللَاهُوتِ إِنَّنَا كَائِنَاتٌ مُسَبِّبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَكِنَّنَا عَلَى أَقْصَى تَقْدِيرٍ كَائِنَاتٌ مُسَبِّبَةٌ ثَانَوِيَّةٌ، لِأَنَّنَا لَا نَتَمَتَّعُ بِأَيَّةِ قُدْرَةٍ سِوَى تِلْكَ الَتِي نَسْتَمِدُّهَا مِنْ ذَاكَ الَذِي بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. إِذَنْ، حَتَّى فِي خَطِيَّتِي، يَظَلُّ اللَّهُ ذَا سِيَادَةٍ. لَكِنَّ تِلْكَ السِيَادَةَ لَا تُرْغِمُنِي عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، أَوْ تَلْتَمِسُ لِي الْعُذْرَ مِنْ جِهَةِ أَفْعَالِي.