المحاضرة 2: فَهْمُ الْمَجِيءِ الثَّانِي

سَنُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِلْأُخْرَوِيَّاتِ. وَذَكَرْتُ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْأُولَى أَنَّنَا نَخْتَبِرُ أَزْمَةً فِي الْأُخْرَوِيَّاتِ. وَأَشَرْتُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ إِلَى الْهَجَمَاتِ الَتِي تَمَّ شَنُّهَا عَلَى مِصْدَاقِيَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَأَيْضًا، عَلَى مِصْدَاقِيَّةِ نُبُوَّاتِ يَسُوعَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَوْدَتِهِ. وَذَكَرْتُ حِينَئِذٍ، كَمَا سَأَذْكُرُ مُجَدَّدًا، أَنِّي أَتَّبِعُ الْأُسْلُوبَ الْأَسَاسِيَّ الَذِي اتَّبَعْتُهُ فِي كِتَابِي بِعُنْوَانِ "الْأَيَّامُ الْأَخِيرَةُ بِحَسْبِ يَسُوعَ". وَأُنَبِّهُكُمْ مَرَّةً أُخْرَى بِأَنَّ الرَأْيَ الَذِي أَتَبَنَّاهُ تُجَاهَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ يَبْدُو مُخْتَلِفًا عَمَّا تَسْمَعُونَهُ عَادَةً بِشَأْنِ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ. لَكِنْ قَبْلَ الِانْتِقَالِ إِلَى وُجْهَةِ نَظَرِي وَهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَجِدُ أَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ أَنْ نُجْرِيَ اسْتِطْلَاعًا تَارِيخِيًّا بَسِيطًا لِلنَظَرِيَّاتِ الْمُهِمَّةِ وَالْبَارِزَةِ فِي الْقَرْنَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.

سَادَتْ نَظَرِيَّاتُ التَطَوُّرِ خِلَالَ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ فِي مَجَالِ اللَاهُوتِ، كَمَا فِي مَجَالِ الدِرَاسَاتِ الْأَكَادِيمِيَّةِ الْأُخْرَى. نَحْنُ نَمِيلُ إِلَى حَصْرِ التَطَوُّرِ بِالْمَجَالِ الْبَيُولُوجِيِّ، لَكِنَّ الْفِكْرَ النَظَرِيَّ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ تَأَثَّرَ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ بِفَلْسَفَةِ فْرِيدِيرِيكْ هَايْجِيلْ، الَذِي كَانَ يَمْلِكُ نَظْرَةً تَطَوُّرِيَّةً لِلتَارِيخِ بِرُمَّتِهِ، وَلَيْسَ فَقَطْ فِي مَجَالِ التَطَوُّرَاتِ الْبَيُولُوجِيَّةِ بَيْنَ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ رَأَى كُلَّ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةِ لِلتَارِيخِ فِي ضَوْءِ نَظَرِيَّةِ التَطَوُّرِ التَدْرِيجِيِّ. فَطَبَّقَ عُلَمَاءُ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ ذَلِكَ عَلَى التَطَوُّرِ الدِينِيِّ. وَالْمَدْرَسَةُ الْمُنْبَثِقَةُ عَنْ ذَلِكَ تُدْعَى "الْمَدْرَسَةَ الدِينِيَّةَ التَارِيخِيَّةَ".

الْمَدْرَسَةُ الدِينِيَّةُ التَارِيخِيَّةُ هِيَ مَدْرَسَةٌ فِكْرِيَّةٌ سَادَتْ عَلَى اللَاهُوتِ اللِيبْرَالِيِّ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، وَطَبَّقَتْ مَبَادِئَ التَطَوُّرِ هَذِهِ عَلَى دِيَانَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ دِيَانَةَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ تَتَّبِعُ الْمَبَادِئَ الْأَسَاسِيَّةَ نَفْسَهَا الَتِي تَتَّبِعُهَا كُلُّ الدِيَانَاتِ فِي تَطَوُّرِهَا التَارِيخِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الدِيَانَةَ تَبْدَأُ بَسِيطَةً جِدًّا، ثُمَّ تَتَطَوَّرُ لِتُصْبِحَ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا. فَهِيَ تَبْدَأُ بِالرُوحَانِيَّةِ، الَتِي تَفْتَرِضُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْجَامِدَةَ مَسْكُونَةٌ بِأَرْوَاحٍ، وَعَادَةً بِأَرْوَاحٍ شَرِّيرَةٍ، ثُمَّ يَتَطَوَّرُ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ وَإِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ الْمَشُوبَةِ، وَفِي النِهَايَةِ، وَفِي وَقْتٍ لَاحِقٍ فِي التَارِيخِ، يَبْرُزُ الْإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. وَالْحُجَّةُ بِالطَبْعِ هِيَ أَنَّ دِيَانَةَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ اتَّبَعَتْ نَمَطَ التَطَوُّرِ نَفْسِهِ.

مَعَ تَطْبِيقِ الْمَدَارِسِ الدِينِيَّةِ التَارِيخِيَّةِ لِلْمَبَادِئِ التَطَوُّرِيَّةِ عَلَى تَطَوُّرِ دِيَانَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، ظَهَرَتْ نَزْعَةٌ قَوِيَّةٌ مُعَارِضَةٌ لِلْأُمُورِ الْفَائِقَةِ لِلطَبِيعَةِ وَالَتِي سَادَتْ عَلَى تَحْلِيلِ مَضْمُونِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ مَا يُبَيِّنُ حُدُوثَ مُعْجِزَةٍ لَقِيَ رَفْضًا عَلَى الْفَوْرِ، وَكُلَّ أَمْرٍ فَائِقٍ لِلطَبِيعَةِ مِثْلَ وِلَادَةِ يَسُوعَ مِنْ عَذْرَاءَ، وَالْكَفَّارَةِ كَحَدَثٍ كَوْنِيٍّ لِلْمُصَالَحَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَاَللَّهِ، وَالْقِيَامَةِ وَالصُعُودِ، وَبِالطَبْعِ، عَوْدَةِ يَسُوعَ فِي نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ، تَمَّ اعْتِبَارُهَا أَيْضًا جُزْءًا مِنَ الْفِخَاخِ الْأُسْطُورِيَّةِ الَتِي يَتَضَمَّنُهَا مُحْتَوَى أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.

لِذَا، أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نُشُوءِ أَزْمَةٍ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، وَفِي أُورُوبَّا بِشَكْلٍ خَاصٍّ، لِأَنَّهُ كَانَتْ قَدْ تَمَّتْ رَسَامَةُ آلَافِ الرِجَالِ لِلْخِدْمَةِ الْمَسِيحِيَّةِ، كَمَا تَمَّ اسْتِثْمَارُ مَلَايِينِ الْمَلَايِينِ مِنَ الدُولَارَاتِ فِي مَبَانِي الْكَنَائِسِ وَبَرَامِجِهَا، وَفَجْأَةً، هَا إِنَّ اللَاهُوتِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَسَاطِيرُ. مَاذَا نَفْعَلُ إِذَنْ؟ هَلْ نُغْلِقُ الْكَنَائِسَ؟ فَيُصْبِحُ جَمِيعُ الْوُعَّاظِ عَاطِلِينَ عَنِ الْعَمَلِ؟ أَمْ إِنَّنَا نُعَدِّلُ مَفْهُومَنَا لِلْمَسِيحِيَّةِ، بِمَا يَجْعَلُهَا تَتَمَاشَى مَعَ النَظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِنْسَانِ وَالْعَالَمِ؟ وَبِالطَبْعِ، اخْتَارَتِ الْحَرَكَةُ اللِيبْرَالِيَّةُ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ الْمَسَارَ الْأَخِيرَ، وَحَاوَلَتِ اخْتِزَالَ أَهَمِّيَّةِ تَعْلِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَخِدْمَةِ يَسُوعَ إِلَى اهْتِمَامٍ دُنْيَوِيٍّ بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ. وَأَنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَوْضُوعُ الَذِي اعْتَبَرَهُ عُلَمَاءُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مُوَحِّدًا لِلْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، هَذَا الْمَفْهُومُ الْأَسَاسِيُّ لِمَلَكُوتِ اللَّهِ الَذِي تَمَّ الْإِعْلَانُ عَنِ اقْتِرَابِ مَجِيئِهِ فِي الصَفَحَاتِ الْأُولَى مِنَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، مَعَ مَجِيءِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَذِي دَعَا الشَعْبَ إِلَى التَوْبَةِ لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ، سَعَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ إِلَى إِعَادَةِ تَحْدِيدِ مَعْنَاهُ أَيْضًا مِنْ مُنْطَلَقِ الْأَخْلَاقِيَّاتِ وَالْقِيَمِ. وَمِنْ بَيْنِ الْمُفَكِّرِينَ الْقِيَادِيِّينَ فِي هَذَا الْإِطَارِ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ رَجُلٌ يُدْعَى أَلْبِرِيخْتْ رِيتْشِيلْ (Albrecht Ritschl)، وَهُوَ عَالِمٌ أَلْمَانِيٌّ قَالَ إِنَّهُ يَجِبُ فَهْمُ تَعْلِيمِ يَسُوعَ لَيْسَ مِنْ مُنْطَلَقِ الْخَلَاصِ الشَخْصِيِّ الْفَائِقِ لِلطَبِيعَةِ، وَإِنَّمَا عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِقِيَمٍ بَشَرِيَّةٍ مُهِمَّةٍ، وَأَنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يَقْتَصِرُ عَلَى تَطْبِيقِ تَعْلِيمِ يَسُوعَ الْأَخْلَاقِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ، بِحَيْثُ يَبْدَأُ النَاسُ فِي إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَيَهْتَمُّونَ بِالْفُقَرَاءِ، إِلَى آخِرِهِ، مَا أَعْطَى لَاحِقًا قُوَّةً دَافِعَةً لِتَطْوِيرِ "رُوَاشَنْبُوشْ" (Rauschenbusch) لِمَا يُعْرَفُ بِالْإِنْجِيلِ الِاجْتِمَاعِيِّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ حَدَثَ انْشِقَاقٌ بَيْنَ مَا يُعْرَفُ بِاللِيبْرَالِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْمُحَافِظِ، حَوْلَ مَا إِذَا كَانَتْ إِرْسَالِيَّةُ الْكَنِيسَةِ الْأَسَاسِيَّةِ هِيَ بِبَسَاطَةٍ تَسْدِيدُ احْتِيَاجَاتِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فِي هَذَا الزَمَانِ، أَوْ مَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَعْظَمِ احْتِيَاجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ الْفِدَاءُ الشَخْصِيُّ وَالتَصَالُحُ مَعَ اللَّهِ.

عِنْدَمَا كُنْتُ طَالِبًا بِكُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ، دَرَسْتُ اللَاهُوتَ لِفَتْرَةٍ عَلَى يَدِ دِيتْرِيكْ رِيتْشِيلْ (Dietrich Ritschl)، وَهُوَ حَفِيدُ أَلْبِرِيخْتْ رِيتْشِيلْ، اللَّاهُوتِيِّ الْأَلْمَانِيِّ الَذِي ذَكَرْتُهُ لِلتَوِّ. لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، بَعْدَ نَشْأَةِ الْحَرَكَةِ اللِيبْرَالِيَّةِ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، ظَهَرَ كِتَابٌ فِي بِدَايَةِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى مَجَالِ دِرَاسَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِرُمَّتِهِ، كَتَبَهُ رَجُلٌ شَهِيرٌ جِدًّا، يُدْعَى أَلْبِيرْتْ سْوَايْتْزَرْ (Albert Schweitzer). وَنَحْنُ نَعْرِفُ سْوَايْتْزَرْ كَوْنَهُ مُوسِيقِيًّا وَعَازِفَ أَرْجَنْ عَظِيمًا وَأَيْضًا كَمُرْسَلٍ، وَرُبَّمَا الْمُرْسَلُ الْأَكْثَرُ شُهْرَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا رَجُلًا أَكَادِيمِيًّا، وَوَاحِدًا مِنْ أَعْظَمِ الْعُلَمَاءِ. وَتَمَّتْ تَرْجَمَةُ كِتَابِهِ إِلَى اللُغَةِ الْإِنْجْلِيزِيَّةِ، وَتَرْجَمَةُ عُنْوَانِهِ: "الْبَحْثُ عَنْ يَسُوعَ التَارِيخِيِّ". وَمَا فَعَلَهُ سْوَايْتْزَرْ هُوَ تَحْلِيلُ وَانْتِقَادُ مَعْنَى هَذَا الْفِكْرِ التَطَوُّرِيِّ وَمُرَاجَعَةُ مَفْهُومِ مَلَكُوتِ اللَّهِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَالَذِي أَصْبَحَ شَائِعًا فِي لِيبْرَالِيَّةِ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ. وَسْوَايْتْزَرْ نَفْسُهُ تَأَثَّرَ كَثِيرًا بِعَالِمٍ آخَرَ يُدْعَى يُوهَانِسْ فَايِسْ (Johannes Weiss) أَوْ وَايِزْ (Wise)، لَكِنَّ فَايِسْ بِاللُغَةِ الْأَلْمَانِيَّةِ. قَالَ فَايِسْ وَبِشَكْلٍ مُقْنِعٍ إِنَّنَا إِنْ أَرَدْنَا أَخْذَ مُحْتَوَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ، وَتَعْلِيمِ يَسُوعَ وَالرُسُلِ جِدِّيًّا، يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ تَعْلِيمَ مَلَكُوتِ اللَّهِ فِي ضَوْءِ الْخَلْفِيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ لِلْأُخْرَوِيَّاتِ الرُؤْيَوِيَّةِ.

قَدْ يَبْدُو ذَلِكَ مُبْهِرًا بَعْضَ الشَيْءِ، لَكِنَّ مَا قَالَهُ سْوَايْتْزَرْ بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ هُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِرِسَالَةِ يَسُوعَ وَتَعْلِيمِهِ عَنِ الْمَلَكُوتِ أَنْ تَتَّضِحَ مِنْ دُونِ التَرْكِيزِ عَلَى الْبُعْدِ الْأُخْرَوِيِّ فِيهَا. وَعِنْدَمَا تَكَلَّمَ سْوَايْتْزَرْ عَنْ نَظْرَةِ يَسُوعَ الْأُخْرَوِيَّةِ لِمَلَكُوتِ اللَّهِ، هُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِكَلِمَةِ أُخْرَوِيٍّ مَا نَعْنِيهِ عَادَةً بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ، فَنَحْنُ نَسْتَخْدِمُ عَادَةً كَلِمَةَ "أُخْرَوِيٍّ" أَوْ "أُخْرَوِيَّاتٍ" لِلْإِشَارَةِ بِبَسَاطَةٍ إِلَى الْأُمُورِ الْآتِيَةِ أَوْ الْأَزْمِنَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى تَوَجُّهٍ مُسْتَقْبَلِيٍّ. لَكِنْ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ سْوَايْتْزَرْ عَنِ الْمَلَكُوتِ الْأُخْرَوِيِّ، فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ مَلْكُوتًا يَأْتِي بِشَكْلٍ تَطَوُّرِيٍّ تَدْرِيجِيٍّ، وَعَبْرَ تَطَوُّرٍ تَدْرِيجِيٍّ لِلْأَخْلَاقِيَّاتِ الدُنْيَوِيَّةِ كَمَا أَرَادَ اللِيبْرَالِيُّونَ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ وَصْفَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْمَلَكُوتُ الَذِي أَنْبَأَ يَسُوعُ بِمَجِيئِهِ سَيَأْتِي بِشَكْلٍ فَاجِعٍ وَمُفَاجِئٍ وَفَائِقٍ لِلطَبِيعَةِ، وَسَيَأْتِي مِنْ فَوْقُ. هَذَا الْمَلَكُوتُ سَيَأْتِي بِهِ اللَّهُ مِنَ السَمَاءِ، مُقْتَحِمًا الْعَمَلِيَّةَ الطَبِيعِيَّةَ لِلتَقَدُّمِ التَارِيخِيِّ.

وَالْآنَ، افْهَمُوا هَذِهِ الْفِكْرَةَ الْفَنِّيَّةَ. قَالَ سْوَايْتْزَرْ إِنَّ مُحَاوَلَةَ تَفْسِيرِ تَعْلِيمِ يَسُوعَ عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَوُعُودِهِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ كَمَا فَعَلَ اللِيبْرَالِيُّونَ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ لَمْ تَكُنْ أَسَاسًا غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَحَسْبُ، بَلْ مُضَلِّلَةً أَيْضًا، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الْوَاضِحَ. فَبِالنِسْبَةِ إِلَى سْوَايْتْزَرْ، لِكَيْ تَكُونَ أَسْفَارُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَاضِحَةً يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ إِطَارَهَا الْأُخْرَوِيَّ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ. يَبْدُو هُنَا كَمَا لَوْ أَنَّ أَلْبِيرْتْ سْوَايْتْزَرْ كَانَ يُحَارِبُ بِنِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَيُدَافِعُ بِشِدَّةٍ عَنِ الْعَقِيدَةِ الْمَسِيحِيَّةِ الْقَوِيمَةِ. عَلَى الْعَكْسِ، فَكُلُّ مَا أَرَادَ قَوْلَهُ هُنَا، هُوَ أَنَّنَا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَكُونَ أُمَنَاءَ فِي فَهْمِنَا الْأَكَادِيمِيِّ لِمَا جَاءَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، فَيَجِبُ أَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا كُتِبَ، أَيْ بِلُغَتِهِ وَتَوَقُّعَاتِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَأَضَافَ إِنَّنَا نَجِدُ مِنَ النَصِّ الْكِتَابِيِّ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ أَنَّ وُجْهَةَ نَظَرِ يَسُوعَ هِيَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ سَيَأْتِي مِنَ السَمَاءِ فَجْأَةً، وَثَمَّةَ مَرَاحِلُ مُخْتَلِفَةٌ فِي خِدْمَةِ يَسُوعَ حَيْثُ إِنَّ يَسُوعَ، وَبِحَسَبِ سْوَايَتْزَرْ، تَوَقَّعَ أَنْ يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللَّهِ بَغْتَةً مِنَ السَمَاءِ.

فَسْوَايْتْزَرْ يَعْتَبِرُ مَثَلًا أَنَّهُ حِينَ أَرْسَلَ يَسُوعُ السَبْعِينَ إِلَى مُخْتَلِفِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى فِي إِسْرَائِيلَ لِيُعْلِنُوا مَلَكُوتَ اللَّهِ، فَهُوَ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَدَخَّلَ اللَّهُ وَيَأْتِيَ بِالْمَلَكُوتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَحْدُثْ. لِذَلِكَ، فِي وَعْيِ يَسُوعَ الدَاخِلِيِّ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَازَ مَرَاحِلَ تَأْجِيلٍ لِتَوَقُّعَاتِهِ فِي وَعْيِهِ الدَاخِلِيِّ. وَعَلَيْهِ، فَمَثَلًا حِينَ ذَهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي وَقْتٍ حَرِجٍ أَثْنَاءَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا مُنْتَصِرًا، رُبَّمَا حِينَئِذٍ كَانَ اللَّهُ سَيَأْتِي بِمَلْكُوَتِهِ، لَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَحْدُثْ. وَمَعَ ذَلِكَ تَمَسَّكَ يَسُوعُ بِتَوَقُّعَاتِهِ حَتَّى النِهَايَةِ، حَتَّى إِنَّهُ سَمَحَ بِأَنْ يَتِمَّ الْقَبْضُ عَلَيْهِ وَبِأَنْ يُدَانَ. وَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ فِعْلُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْمَحْ لَهُمْ بِهِ، وَقَالَ إِنَّ بِإِمْكَانِهِ اسْتِدْعَاءَ جُيُوشٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيُخَلِّصُوهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. فَانْتَظَرَ أَنْ يَتَدَخَّلَ اللَّهُ وَيَأْتِيَ بِالْمَلَكُوتِ. لَكِنْ فِي لَحَظَاتِهِ الْأَخِيرَةِ عَلَى الصَلِيبِ أَدْرَكَ يَسُوعُ أَنَّ الْأَمْرَ لَنْ يَحْدُثَ، فَصَرَخَ مِنْ عُمْقِ عَذَابِهِ وَخَيْبَةِ أَمَلِهِ "إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" وَمَاتَ يَسُوعُ كَشَخْصِيَّةٍ نَبِيلَةٍ وَمُعَلِّمٍ عَظِيمٍ جَسَّدَ إِنْجِيلَ الْمَحَبَّةِ، الَذِي سَعَى سْوَايْتْزَرْ إِلَى التَبْشِيرِ بِهِ حَوْلَ الْعَالَمِ، لَكِنَّهُ مَاتَ وَقَدْ خَابَ أَمَلُهُ فِي تَوَقُّعَاتِهِ بِمَجِيءِ مَلَكُوتِ اللَّهِ.

تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ سْوَايْتْزَرْ بِالطَبْعِ فِي أَنَّهُ مُنْذُ أَنْ صَدَرَ كِتَابُهُ أَصْبَحَ شِبْهَ مُسْتَحِيلٍ لِلْعُلَمَاءِ الْجَادِّينَ أَنْ يَبْحَثُوا فِي تَعَالِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَتَعَالِيمِ يَسُوعَ مِنْ دُونِ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّهَا مُصَاغَةٌ بِاسْتِمْرَارٍ بِلُغَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ. هَذِهِ هِيَ الْمُسَاهَمَةُ الَتِي قَامَ بِهَا سْوَايْتْزَرْ فِي تِلْكَ الْأَزْمَةِ. أَمَّا السَلْبِيُّ فِي الْأَمْرِ، هُوَ أَنَّهُ عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ إِنْ نَادَى بِمَرْكَزِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّاتِ فِي تَعَالِيمِ يَسُوعَ، إِلَّا أَنَّ يَسُوعَ كَانَ مُخْطِئًا بِالطَبْعِ وَخَابَ أَمَلُهُ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ. ثُمَّ تَحَدَّثَ عَمَّا يُعْرَفُ فِي اللُغَةِ الْأَكَادِيمِيَّةِ بِالْمَجِيءِ الثَانِي الْمُؤَجَّلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَسُوعَ وَحْدِهِ أَنْ يُؤَجِّلَ تَوَقُّعَهُ لِمَجِيئِهِ وَاسْتِعْلَانِ مَجْدِهِ، بَلْ كَانَ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْأُولَى أَيْضًا أَنْ تَصِلَ إِلَى الْمَجِيءِ الثَانِي الْمُؤَجَّلِ. بِحَيْثُ إِنَّهُ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ، كَانَ عَلَى الْكَنِيسَةِ أَنْ تَقُومَ بِشَتَّى أَنْوَاعِ التَعْدِيلَاتِ لِلسَمَاحِ، لَيْسَ فَقَطْ بِفَشَلِ مَجِيءِ الْمَلَكُوتِ فِي أَيَّامِ يَسُوعَ، بَلْ أَيْضًا بِفَشَلِ يَسُوعَ فِي الْعَوْدَةِ فِي أَيَّامِهَا، لِنَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى السُؤَالِ الَذِي طَرَحْنَاهُ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْأُولَى بِشَأْنِ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ لِعَوْدَةِ يَسُوعَ الْمَجِيدَةِ.

لَكِنْ لَمْ يَخْضَعِ الْجَمِيعُ وَيَدَعُوا اسْتِنْتَاجَاتِ سْوَايْتِزَرْ السَلْبِيَّةَ هَذِهِ تَمُرُّ هَكَذَا. فَجَاءَ عُلَمَاءُ مُحَاوِلِينَ التَعْلِيقَ عَلَى مَبْدَأِ الْمَجِيءِ الثَانِي الْمُؤَجَّلِ، وَأَحَدُ أَهَمِّ هَؤُلَاءِ، الْعَالِمُ الْبْرِيطَانِيُّ الَّذِي يُدْعَى "سِي. اتْشْ. دُودْ" (C. H. Dodd)، الَذِي كَتَبَ عَنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا وَعَنْ أَمْثَالِ يَسُوعَ الَتِي رَكَّزَتْ عَلَى تَعْلِيمِ يَسُوعَ عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ. تِلْكَ الْأَمْثَالُ الَتِي تَبْدَأُ بِالْقَوْلِ: "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللَّهِ هَذَا الْأَمْرَ"، "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللَّهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ". وَتَرْجِعُ أَهَمِّيَّةُ سِي. اتْشْ. دُودْ فِي تَطْوِيرِ مَا يُعْرَفُ بِالْأُخْرَوِيَّاتِ الْمُتَمَّمَةِ، حَيْثُ رَأَى دُودْ أَنَّ مُعْظَمَ نُبُوَّاتِ يَسُوعَ قَدْ تَمَّتْ ضِمْنَ الْإِطَارِ الزَمَنِيِّ لِلْقَرْنِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ قَالَ إِنَّهُ عَلَيْنَا أَخْذُ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ لِاقْتِرَابِ مَجِيءِ يَسُوعَ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ، لَكِنَّهُ اسْتَنْتَجَ أَنَّهُ لَمْ يَخِبْ أَمَلُ يَسُوعَ، وَأَنَّ الْأُمُورَ لَمْ تَفْشَلْ فِي أَنْ تَتَحَقَّقَ ضِمْنَ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ الْمُحَدَّدَةِ، بَلْ فِي الْوَاقِعِ، إِنَّ تَنَبُّؤَاتِ يَسُوعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ تَمَّتْ فِعْلًا فِي الْإِطَارِ الزَمَنِيِّ الَذِي حَدَّدَهُ، وَإِنَّمَا بِالْمَعْنَى الرُوحِيِّ.

فَمَثَلًا نَعُودُ إِلَى تِلْكَ النُصُوصِ الثَلَاثَةِ الَتِي أَثَارَتْ جَدَلًا كَبِيرًا – لَاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الْإِنْسَانِ بِقُوَّتِهِ. لَقَدْ شَهِدَ التَلَامِيذُ اسْتِعْلَانَ ابْنِ الْإِنْسَانِ وَاسْتِعْلَانَ مَلَكُوتِ اللَّهِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ يَتَضَمَّنُ إِشَارَاتٍ وَاضِحَةً إِلَى حُضُورِ مَلَكُوتِ اللَّهِ. فَلَقَدْ جَاءَ يُوحَنَّا قَائِلًا: "لَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ"، وَعِنْدَمَا ظَهَرَ يَسُوعُ قَالَ: "لِأَنَّ هَا مَلَكُوتُ اللَّهِ دَاخِلُكُمْ"، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ اللَّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ"، "فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ". إِذَنْ، كَانَ مُجَرَّدُ حُضُورِ يَسُوعَ بِمَثَابَةِ اسْتِعْلَانِ ابْنِ الْإِنْسَانِ وَمَجِيئِهِ بِمَلْكُوتِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: "إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْمًا لَاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الْإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ"، وَذَلِكَ فِي إِشَارَةٍ إِلَى حَدَثٍ تَمَّ فِي غُضُونِ أُسْبُوعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ التَجَلِّي. لِأَنَّ بَعْضَ الْمَوْجُودِينَ هُنَاكَ كَانُوا شُهُودَ عِيَانٍ عَلَى ظُهُورِ يَسُوعَ الْمَجِيدِ أَوْ قِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ. فَفِي الْقِيَامَةِ وَالصُعُودِ، اسْتُعْلِنَ مَجْدُ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ، وَجَمِيعُ تِلْكَ الْأُمُورِ تَمَّتْ ضِمْنَ نِطَاقِ ذَلِكَ الْجِيلِ. إِذَنْ، بِالنِسْبَةِ إِلَى دُودْ، تَحَقَّقَتِ الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ الْمُسْتَقْبَلِيَّةُ بِشَكْلٍ تَامٍّ. وَالنُبُوَّاتُ الَّتِي أَعْلَنَهَا يَسُوعُ لَمْ تَكُنْ تَتَعَلَّقُ بِحَدَثٍ مُسْتَقْبَلِيٍّ فِي نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ، بَلْ هِيَ تَتَعَلَّقُ بِاسْتِعْلَانٍ رُوحِيٍّ تَمَّ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ.

أَمَّا الرَجُلَانِ الْآخَرَانِ اللَذَانِ شَارَكَا فِي تِلْكَ الْمُنَاقَشَاتِ بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ، فَهُمَا أُوسْكَارْ كُولْمَانْ (Oscar Cullman) وَهِيرْمَانْ رِيدِيرْبُوسْ (Herman Ridderbos)، عَالِمُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الْهُولَنْدِيُّ. طَوَّرَ كُولْمَانْ نَظَرِيَّةً تُعْرَفُ بِنَظَرِيَّةٍ تُشَابِهُ الْيَوْمَ "دِي" وَقَدْ لَقِيَتْ قَبُولًا كَبِيرًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، أَوْ بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنَ الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَانِيَةِ، حَيْثُ تَكَلَّمَ عَنِ التَشَابُهِ أَوْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْيَوْمِ "دِي"، أَوْ اجْتِيَاحِ الْحُلَفَاءِ لِنُورْمَنْدِي الَذِي تَمَّ فِي شَهْرِ يَنَايِرَ مِنْ عَامِ 1944، قَبْلَ عِدَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ اسْتِسْلَامِ أَلْمَانْيَا. لَمْ تَنْتَهِ الْحَرْبُ إِلَّا فِي رَبِيعِ عَامِ 1945، لَكِنَّ نُقْطَةَ التَحَوُّلِ فِي الْحَرْبِ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ "دِي". وَقَالَ كُولْمَانْ الْآتِي: "كَمَا أَنَّ الْيَوْمَ "دِي" أَشَارَ إِلَى نِهَايَةِ الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَانِيَةِ، فَإِنَّ الْحَرْبَ انْتَهَتْ عَمَلِيًّا فِي شَهْرِ يُونْيُو فِي عَامِ 1944، رَغْمَ أَنَّهَا لَمْ تَنْتَهِ فِعْلِيًّا إِلَّا فِي شَهْرِ أَبْرِيلَ أَوْ مَايُو مِنْ عَامِ 1945". صَرَّحَ أَنَّهُ بِالطَرِيقَةِ نَفْسِهَا فَإِنَّ الْمَلَكُوتَ الْمُسْتَقْبَلِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِهِ يَسُوعُ قَدْ تَحَقَّقَ بِشَكْلٍ حَاسِمٍ خِلَالَ خِدْمَتِهِ الْأَرْضِيَّةِ بِقِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ، وَالْأَمْرُ الْوَحِيدُ الْمُتَبَقِّي هُوَ مُلْحَقٌ فِي نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ، لَكِنْ بِشَكْلٍ عَمَلِيٍّ لَقَدْ أَتَى مَلَكُوتُ اللَّهِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ، وَالْبَاقِي هُوَ مُجَرَّدُ أُمُورٍ ثَانَوِيَّةٍ.

لَكِنَّ السُؤَالَ الَذِي يُطْرَحُ فِي الْحَالِ هُوَ أَيُمْكِنُكَ تَوَقُّعُ نِهَايَةِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنَ الْيَوْمِ "دِي"؟ وَهُنَا يَنْحَلُّ التَشَابُهُ. اتَّخَذَ هِيرْمَانْ رِيدِيرْبُوسْ الرَّأْيَ نَفْسَهُ، وَطَوَّرَ مَفْهُومًا يُعْرِفُ بِاللُغَةِ الْهُولَنْدِيَّةِ "أَلْسْ أَنْدْ ثِي نُخْتِسْ نَخْتْ" (Als and the nochtis neicht) أَوْ "مَا حَدَثَ بِالْفِعْلِ وَلَكِنْ لَيْسَ بَعْدُ". حَيْثُ قَالَ إِنَّنَا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَفْهَمَ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ فَيَجِبُ أَنْ نَرَى أَنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِالْفِعْلِ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ. فَهُنَاكَ مَا تَمَّ بِالْفِعْلِ "أَلْسْ" (Als) فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ، لَكِنْ يَبْقَى أَنْ يَتِمَّ فِي نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ الِاكْتِمَالُ النِهَائِيُّ لِلْمَلْكُوتِ الَذِي لَمْ يَحْدُثْ بَعْدُ "نُخْتِسْ نَخْتْ" (nochtis neicht).

وَهَذَا يَرْتَبِطُ غَالِبًا بِنَظَرِيَّةِ التَتْمِيمِ الْأَوَّلِيِّ وَالْإِضَافِيِّ، أَيْ أَنَّ مُعْظَمَ تَعَالِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ قَدْ تَمَّ بِشَكْلٍ أَوَّلِيٍّ فِي زَمَانِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، رَغْمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ تَتْمِيمٌ إِضَافِيٌّ آخَرُ فِي نِهَايَةِ الْأَزْمِنَةِ. هَذِهِ هِيَ بَعْضُ الطُرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ الَتِي تَطَرَّقَ بِهَا النَاسُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْإِطَارِ الزَمَنِيِّ. وَبِالْمُنَاسَبَةِ، يُؤْمِنُ الْفِكْرُ التَدْبِيرِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا سَتَتِمُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَسَوْفَ نَتَنَاوَلُ وُجْهَةَ نَظَرٍ تُجَسِّدُ عَنَاصِرَ مُتَعَدِّدَةً مِنْ هَذِهِ الطُرُقِ لِفَهْمِ الْمَوْضُوعِ، وَسَنَبْدَأُ هَذَا التَحْلِيلَ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمُقْبِلَةِ.