المحاضرة 11: المحبة الثابتة

نُتابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنا لِكُورِنْثُوسَ الأُولَى 13حَيْثُ نَرَى انْعِكاسًا لِمَحَبَّةِ اللهِ نَفْسِها، وَقَدْ قِيلَ لَنَا إِنَّ الْمَحَبَّةَ لا تَحْسِدُ. فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَتِمُّ اتِّباعُ أُسْلُوبِ النَّفْيِ. مَا يَقُولُهُ لَنَا بُولُسُ لا يَصِفُ مَاهِيَّةَ الْمَحَبَّةِ، بَلْ إِنَّهُ يُخْبِرُنَا بِمَا لَيْسَتِ الْمَحَبَّةُ عَلَيْهِ، وَالْمَحَبَّةُ لا تَحْسِدُ. أَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ أَنَّ إِحْدَى الْوَصايَا الْعَشْرِ، إِحْدَى الْخَطايَا الْعَشْرِ الأُولَى الَّتِي يَحْظُرُهَا اللهُ، هِيَ حَظْرٌ لِخَطِيَّةِ اشْتِهاءِ مُلْكِ الْغَيْرِ، لأَنَّ الاشْتِهاءَ هُوَ أَسَاسُ الْعُنْفِ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدُنا بِالآخَرِ، فَبِدَافِعِ الْغَيْرَةِ وَبِدافِعِ الْحَسَدِ يُمَزِّقُ النَّاسُ أَحَدُهُمْ الآخَرَ.

ذَاتَ مَرَّةٍ قَرَأْتُ مَقَالَةً عَنِ التَّخْرِيبِ الْمُتَعَمِّدِ، مَفَادُهَا أَنَّهُ الشَّكْلُ الأَكْثَرُ شَرَاسَةً لانْتِهاكِ مُمْتَلَكاتِ الآخَرِينَ، لأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُخَرِّبُ وَمَا يُمَيِّزُهُ عَنِ السَّارِقِ هُوَ أَنَّ السَّارِقَ يَسْلُبُ مُمْتَلَكاتِ الْغَيْرِ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْمُخَرِّبُ هُوَ تَدْمِيرُ مُمْتَلَكاتِ الآخَرِ. إِنَّهُ يَمْشِي فِي مَوْقِفِ السَّيَّاراتِ وَيَرَى سَيَّاراتٍ بَاهِظَةَ الثَّمَنِ لا يُمْكِنُهُ شِراؤُهَا فَيُخْرِجُ مُفْتَاحَهُ وَيَعْبَثُ بِاللَّمْسَةِ الأَخِيرَةِ لِتِلْكَ السَّيَّاراتِ، إِنَّهُ لا يَسْعَى إِلَى الْحُصُولِ عَلَى تِلْكَ السَّيَّارَةِ. مَا فَعَلَهُ هُوَ بِبَساطَةٍ تَخْرِيبُ مُمْتَلكاتِ أَحَدِهِمْ. مَا الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ؟ إِنَّهُ الْحَسَدُ وَالْغَيْرَةُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَحَبَّةِ فِعْلُ أَمْرٍ مُمَاثِلٍ بِأَحَدِهِمْ.

رُبَّمَا الْقِصَّةُ الأَكْثَرُ إِثَارَةً لِلْمَشاعِرِ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ عَنْ عَوَاقِبِ الْحَسَدِ هِيَ قِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، الَّذِي، وَنَتِيجَةَ حُصُولِهِ عَلَى ذَلِكَ الْقَمِيصِ الرَّائِعِ وَالْمُلَوَّنِ مِنْ أَبِيهِ، حَنِقَ بَاقِي إِخْوَتِهِ غَيْرَةً، وَحَوَّلُوا عَدائِيَّتَهُمْ ضِدَّ يُوسُفَ وَبَاعُوهُ لِتُجَّارِ الرَّقِيقِ، فَانْتَهَى بِهِ الأَمْرُ مَرْمِيًّا فِي السِّجْنِ سَنْةً بَعْدَ سَنَةٍ بَعْدَ سَنَةٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ نَتِيجَةَ حَسَدِ إِخْوَتِهِ. إِذًا، إِنْ نَظَرْنا إِلَى الْعَالَمِ الْيَوْمَ وَرَأَيْنا نِسْبَةَ الضَّرَرِ الْمُلْحَقِ بِالْمُمْتَلكاتِ وَالْبَشَرِ نَتِيجَةَ الْحَسَدِ، فَإِنَّنا نَرَى لِمَاذَا حَظَرَهُ اللهُ ضِمْنَ الْوَصايَا الْعَشْرِ الأُولَى الَّتِي أَعْطاهَا لإِسْرائِيلَ، وَكَيْفَ أَنَّهُ مُناقِضٌ لِلْمَحَبَّةِ، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَفْرَحُ بِازْدِهارِ الآخَرِ. الْمَحَبَّةُ تَفْرَحُ بِسَعَادَةِ الآخَرِ. إِنْ كُنَّا نُحِبُّ الآخَرِينَ فَإِنَّنَا نَفْرَحُ بِرُؤْيَتِهِمْ يَحْصُلونَ عَلَى بَرَكاتٍ فَشِلْنا نَحْنُ أَنْفُسُنا فِي الْحُصُولِ عَلَيْها.

إذًا، يُطْلِعُنا بُولُسُ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحَبَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ اللهَ يَحْسِدُ شَخْصًا أَوْ شَيْئًا؟ هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ الْمَسِيحَ يَغارُ مِنْ أَحَدِهِمْ؟ ثُمَّ يُتابِعُ قَائِلًا "الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ". حِينَ كَلَّمَ يَسوعُ تَلامِيذَهُ فِي إِنْجيلِ مَتَّى، نَجِدُ سَرْدًا لِذَلِكَ فِي مَتَّى 23، حَيْثُ قالَ يَسُوعُ "عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ، وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ: فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!"

إِنَّهُ يَصِفُ هُنَا مَاهِيَّةَ تِلْكَ الْمَجْمُوعَةِ مِنَ الأَشْخاصِ الَّذِينَ كَانُوا أَلَدَّ أَعْدَاءٍ لِيَسُوعَ وَكَانُوا مُرَائِينَ. كَانُوا قَوْمًا مُنْتَفِخِينَ. قِيلَ لَنَا إِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَنْفُخُ أَمَّا الْمَحَبَّةُ فَهْيَ تَبْنِي، لَكِنَّ الْفِرِّيسِيِّينَ سَعَوْا إِلَى أَنْ يَعْرِضُوا بِتَباهٍ مَكانَتَهُمْ وَغِناهُمْ وَمَنْصِبَهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ، وَأَحَبُّوا أَفْضَلَ الْمَقاعِدِ فِي الْمَجْمَعِ، وَأَحَبُّوا الْعَظَمَةَ وَالأُبَّهَةَ الَّتِي كانُوا يَنالُونَها حِينَ يَهْتَمُّ الناسُ بِهِمْ. ونَحْنُ جَمِيعًا عُرْضَةٌ لِهَذا النَّوْعِ مِنَ الإِغْراءِ لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ مَحَبَّةً، فَالْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِها. الْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ الأَضْواءَ طَوالَ الْوَقْتِ، وَالْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ عَرْضًا مُتَبَاهِيًا لِنَفْسِها. "الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ"، هَذَا مَا يَقُولُهُ بُولُسُ عَنْها.

أَحْيانًا يَتِمُّ وَصْفُنا عَلَى أَنَّنَا نَتَباهَى كَالطَّاوُوسِ، لأَنَّنَا نَرَى كَيْفَ أَنَّ الطَّاووسَ يَخْتَالُ وَيَنْفُخُ رِيشَ ذَيْلِهِ مُبَيِّنًا جَمالَهُ الرَّائعَ. وأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ التَّباهِي يُنْسَبُ إِلَى الدِّيكِ أَكْثَرَ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الطَّاوُوسِ. إِنْ لَمْ تَتَسَنَّ لَكَ أَبَدًا فُرْصَةُ رُؤْيَةِ دِيكٍ رُومِيٍّ يَخْتالُ فِي مَوْسِمِ التَّزاوُجِ، فَقَدْ فاتَكَ واحِدٌ مِنْ أَرْوَعِ الْمَشاهِدِ فِي الطَّبِيعَةِ. رُبَّمَا رَأَيْتُ أَلْفَيْ دِيكٍ رُومِيٍّ فِي الْغَابَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَسَنَّى لِي فُرْصَةُ رُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي مَوْسِمِ التَّزَاوُجِ، حِينَ يَنْتَفِخُ وَيَنْفُخُ رِيشَ ذَيْلِهِ، وَالدِّيكُ الرُّومِيُّ يَتَجَوَّلُ قَائِلًا "انْظُرُوا إِلَيَّ"، كما جَاءَ فِي الْمَقُولَةِ الْقَدِيمَةِ "أَنَا أَعْظَمُ نِمْرٍ فِي الأَدْغالِ"، "أَنَا أَعْظَمُ طَيْرٍ فِي الْغَابَةِ"، هَذَا مَا يَقُولُهُ الدِّيكُ الرُّومِيُّ وَهْوَ يَتَباهَى أَمَامَ الدَّجاجَةِ. هَذَا ما نَحْنُ عَلَيْهِ، نَحْنُ نُحِبُّ التَّفاخُرَ وَالانْتِفاخَ قَائِلِينَ "انْظُرْ إِلَيَّ". يَقُولُ بُولُسُ "لَيْسَتْ هَذِه مَحَبَّةً"، "الْمَحَبَّةُ لاَ تَنْتَفِخُ وَلاَ تُقَبِّحُ".

مُؤَخَّرًا وَفِي أَحَدِ مُؤْتَمَراتِ خِدْمَةِ "لِيجُونِير"، رَوَى القِصَّةَ "سِينْكْلِير فِيرْغُوسُون" مِنِ اسْكُتْلَنْدا حَوْلَ مَا جَرَى سَابِقًا فِي إِنْكِلْتْرا حِينَ كانَتِ الْمَلِكَةُ إِلِيزَابِيث لا تَزَالُ أَمِيرَةً وَأُخْتُهَا الأَمِيرَةُ مَارْغَارِيت تَلَقَّيَتا دَعْوَةً إِلَى حَفْلَةٍ رَاقِصَةٍ حِينَ كانَتَا لا تَزالانِ مُرَاهِقَتَيْنِ. كانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ الأَمِيرَةُ إِلِيزابِيث مَلِكَةً، فَاسْتَدْعَتِ الأُمُّ الْمَلِكَةُ الْفَتاتَيْنِ إِلَى غُرْفَتِهِمَا وَقالَتْ لَهُما "تَذَكَّرَا أَيَّتُها الْفَتاتانِ حِينَ تَخْرُجَانِ اللَّيْلَةَ إِلَى الْحَفْلَةِ الرَّاقِصَةِ الآدابَ الْمَلَكِيَّةَ"، الآدابَ الْمَلَكِيَّةَ. أَنَا أَقْرَأُ كِتابًا الآنَ بِقَلَمِ "جِيرامايا بُورُوز" الْكاتِبِ الْبُورِيتانِيِّ، حَوْلَ مُحادَثاتِ الإِنْجِيلِ. وَكَمَا جاءَ فِي عِظاتِهِ حَوْلَ رِسالَةِ فِيلِبِّي إِنَّهُ يَجْدُرُ بِمُحادَثاتِنا أَنْ تَكُونَ كَمَا يَحِقُّ لِلإِنْجِيلِ. وَبِالطَّبْعِ، حِينَ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ "مُحَادَثَةٍ"، فَهْوَ لا يَتَكَلَّمُ عَنْ تَحَدُّثِ النَّاسِ أَحَدُهُمْ مَعَ الآخَرِ. إِنَّهَا الْكَلِمَةُ الْبُورِيتانِيَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى السُّلوكِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، يَدْعُونَا الْعَهْدُ الْجَدِيدُ مِرارًا وَتَكْرارًا إِلَى أَنْ نَسْلُكَ كَمَا يَحِقُّ لِمُجاهَرَتِنا بِالإِنْجِيلِ، تَمامًا كَمَا قالَ "سِينْكْلِير فِرْغُوسُون".

حِينَ ذَهَبَتْ هَاتَانِ الأَمِيرَتانِ إِلَى الْحَفْلَةِ الرَّاقِصَةِ كَانَ عَلَيْهِمَا السُّلُوكُ وِفْقَ مَعايِيرَ سَامِيَةٍ، كانَ عَلَيْهِما أَنْ تَكُونَا مِثالًا لآدابِ الْبَلاطِ الْمَلَكِيِّ. بِالْمُناسَبَةِ، عَبْرَ دَمْجِ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ "الْبلاطِ الْمَلَكِيِّ" وَ"الآدَابِ" نَحْصُلُ عَلَى كَلِمَةِ "كِيَاسَةٍ"، فَالْكِياسَةُ تَعْنِي آدابَ الْبلاطِ الْمَلَكِيِّ. إِذًا، ذَكَّرَتِ الأُمُّ الْمَلِكَةُ الْفَتاتَيْنِ قَائِلَةً "حِينَ تَخْرُجانِ إِلَى الأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ أَنْتُما تُمَثِّلانِ التَّاجَ الْمَلَكِيَّ. أَنْتُما تُمَثِّلانِ الْمَمْلَكَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سُلُوكُكُمَا مَلَكِيًّا. يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سُلُوكًا يَلِيقُ بِالْمَمْلَكَةِ، سُلُوكًا مَلَكِيًّا أَيَّتُهَا الْفَتاتانِ". وَنَحْنُ أَوْلادُ مَلِكِ الْمُلوكِ، ولا يَجْدُرُ بِأَوْلادِ مَلِكِ الْمُلُوكِ أَنْ يُقَبِّحُوا. لا يَجْدُرُ بِأَوْلادِ مَلِكِ الْمُلُوكِ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُهَذَّبِينَ، لَكِنَّنَا دُعِينَا كَمُؤْمِنِينَ إِلَى السُّلُوكِ بِآدابٍ أَخْلاقِيَّةٍ أَسْمَى مِنْ آدابِ ابْنَتَيْ مَلِكَةِ إِنْكِلْتْرا. دُعِينَا إِلَى السُّلوكِ بِآدابٍ مَلَكِيَّةٍ فَائِقَةٍ لِلطَّبِيعَةِ.

إذًا، يَقُولُ الرَّسُولُ إِنَّ الْمَحَبَّةَ، مَحَبَّةَ اللهِ الـ"أَغابِي"، "لاَ تُقَبِّحُ وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا". حِينَ أَقُولُ إِنِّي أَتَساءَلُ لِمَاذَا يُحِبُّ النَّاسُ هَذَا النَّصَّ كَثِيرًا فِي حِينِ أَنَّهُ مُدَمِّرٌ جِدًّا فِي نَقْدِهِ لِسُلُوكِنا، يَكُونُ ذَلِكَ أَثْناءَ تَفْكِيرِي فِي هَذَا الْجَانِبِ: "(الْمَحَبَّةُ) لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا". أَصْعَبُ أَمْرٍ عَلَى أَيِّ مُؤْمِنٍ وَعَلَى أَيِّ إِنْسانٍ هُوَ طَلَبُ رَفَاهِيَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَوْقَ رَفَاهِيَّتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. نَحْنُ نَعِيشُ مَعًا وَلَدَيْنا عَائِلاتُنا وَلَدَيْنَا زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ، وَزَوْجَةٌ تُرِيدُ شَيْئًا ما فَأَقُولُ "حَسَنًا أَنْتِ تُرِيدِينَ ذَلِكَ يا حَبِيبَتِي لَكِنِّي أُفَضِّلُ إِنْفاقَ الْمَالِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى"، أَوْ "أُرِيدُ فِعْلَ هَذَا الأَمْرِ اللَّيْلَةَ بَدَلًا مِمَّا تُرِيدِينَ فِعْلَهُ". لَيْسَتْ هَذِهِ مَحَبَّةً، فَالْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِها وَلا تَطْلُبُ أَنْ تُحَقِّقَ مُبْتَغاها طَوَالَ الْوَقْتِ، لَكِنَّ الْمَحَبَّةَ حَسَّاسَةٌ إِلَى احْتِياجاتِ الآخَرِينَ وَرَغَباتِهِمْ.

هَذَا ما يَفْعَلُهُ يَسُوعُ، "أَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ". آخِرُ أَمْرٍ أُرِيدُ فِعْلُهُ هُوَ طَلَبُ مَا لِنَفْسِي، أُرِيدُ أَنْ أُتَمِّمَ مَشِيئَتَكَ لا مَشِيئَتِي. هَذَا الإِظْهارُ الْفَائِقُ لِلْمَحَبَّةِ يَفُوقُ فَهْمَنا، لأَنَّنَا بِطَبِيعَتِنَا أنَانِيُّونَ وَمُتَمَرْكِزُونَ حَوْلَ ذَوَاتِنا. نَحْنُ نَطْلُبُ مَا لأَنْفُسِنا أَوَّلًا بَدَلًا مِمَّا لِلآخَرِينَ، وَتَلْزَمُنا مَحَبَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِنَهْتَمَّ بِالآخَرِينَ قَبْلَ أَنْ نَهْتَمَّ بِأَنْفُسِنا. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ أَيَّ مُؤْمِنٍ يَتَذَكَّرُ أَوْقاتًا فِي حَيَاتِهِ أَعْطَى فِيهَا مَصالِحَ الآخَرِينَ أَوْلَوِيَّةً فَوْقَ مَصالِحِهِ، وَاتَّخَذَ قَراراتٍ لِمُساعَدَةِ الآخَرِينَ عَالِمًا أَنَّ الأَمْرَ يُؤْذِيهِ. أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ. أَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ، وَأَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ غَيْرُ طَبِيعِيٍّ، وأَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَا أَمْكَنَنا فِعْلُ ذَلِكَ لَوْلا هَذِهِ الْمَحَبَّةُ الْمُنْسَكِبَةُ فِي قُلُوبِنا.

لَكِنْ حَتَّى هَذِهِ الْمَحَبَّةُ الـ"أَغابِي" الْمُنْسَكِبَةُ فِي قُلُوبِنا لا تُخْرِجُ فَوْرًا مِنْ قُلُوبِنا جَمِيعَ الْمُيُولِ الآثِمَةِ وَالشَّهَواتِ الآثِمَةِ الَّتِي تُشَكِّلُ جُزْءًا مِنْ طَبِيعَتِنا السَّاقِطَةِ وَالْفَاسِدَةِ. مُجَدَّدًا، يَجِبُ أَنْ نَتَذَكَّرَ أَنَّ الْمَيْلَ الأَسَاسِيَّ لَدَى أَيِّ إِنْسانٍ هُوَ طَلَبُ مَا لِنَفْسِهِ أَوْ ما لِنَفْسِها، وَقَدْ أُعْطِيَتِ الْمَحَبَّةُ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى ذَلِكَ. كانَ لَدَيَّ صَدِيقٌ – كُنْتُ أَلْعَبُ الْوَرَقَ مَعَ الشُّبَّانِ فِي مَلْعَبِ الْغُولْفِ بَعْدَ أَنْ يَلْعَبُوا الْغُولْفَ – وَهْوَ كانَ لَطِيفًا دَائِمًا، وَكانَ يَسْتَمْتِعُ دَائِمًا بِالصَّداقَةِ وَبِلَعِبِ الْوَرَقِ مَعَ الشُّبَّانِ، وَكانَ يَرْبَحُ أَحْيانًا وَيَخْسَرُ فِي أَحْيانٍ أُخْرَى، وَلَمْ تَكُنْ تُلاحِظُ أَيَّ فَرْقٍ فِي سُلُوكِهِ حِينَ يَخْسَرُ مُقارَنَةً بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حِينَ يَرْبَحُ. فِي حِينِ أَنَّ بَعْضَ الشُّبَّانِ مَتَى خَسِرُوا كانُوا يُحْدِثُونَ نَوْباتِ غَضَبٍ، وَكانُوا يَأْخُذُونَ الْوَرَقَ وَيُمَزِّقونَهُ وَيَرْمُونَهُ فِي أَرْجَاءِ الْغُرْفَةِ. رَأَيْتُ أُناسًا يُمْسِكُونَ مَنَافِضَ السَّجائِرِ وَيَضْرُبُونَ بِها عَرْضَ الْحَائِطِ حِينَ يَخْسَرُونَ.

كانَ الأَمْرُ لا يُصَدَّقُ، في حِينَ يُحافِظُ هَذَا الشَّابُّ عَلَى رَباطَةِ جَأْشِهِ، وَإِنْ خَسِرَ لا بَأْسَ فِي الأَمْرِ. فَقُلْتُ لَهُ "بُوب، لا يَبْدُو أَنَّ الْخَسَارَةَ تُزْعِجُكَ"، فَقَالَ "لا"، فَقُلْتُ "لِماذا؟" فَقَالَ "أَنَا أَرْبَحُ حِينَ أَخْسَرُ"، فَقُلْتُ "مَا الَّذِي تَقْصِدُهُ؟" فَقالَ "إِنْ خَسِرْتَ فَهَذا يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ رِفَاقِي رَبِحَ، وَبِالتَّالِي فَهْوَ يَسْتَمْتِعُ بِالرِّبْحِ وَيُمْكِنُنِي الْمُشارَكَةُ فِي ذَلِكَ. يُمْكِنُنِي أَنْ أَسْتَمْتِعَ بِالأَمْرِ مَعَهُ. أَنَا أُمْضِي وَقْتًا مُمْتِعًا، لا يَهُمُّ مَا إِذَا رَبِحْتُ أَوْ خَسِرْتُ". وَهْوَ لَمْ يَكُنْ يَدَّعِي، فَهْوَ كانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِعْلًا، فَهْوَ كانَ مَوْجُودًا هُناكَ لِتَمْضِيَةِ الْوَقْتِ مَعَ أَصْدِقائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَهُمُّهُ فِعْلًا مَنْ يَرْبَحُ وَمَنْ يَخْسَرُ. وَتَرَوْنَ ذَلِكَ أَحْيانًا بَيْنَ الرِّياضِيِّينَ الْكِبارِ، يَقُولُ "مُهِمَّتِي تَقْضِي بِأَنْ أُقَدِّمَ أَفْضَلَ أَداءٍ، لَكِنْ إِنْ رَبِحَ خَصْمِي فَسَأُصَفِّقُ لَهُ وَسَأَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِحَماسَتِهِ وَمَرَحِهِ". ثَمَّةَ مَقُولَةٌ فِي الْغُولْفِ "كُلُّ ضَرْبَةٍ تَجْعَلُ أَحَدَهُمْ سَعِيدًا"، أَيْ أَنَّكَ إِنْ قُمْتَ بِتَسْدِيدَةٍ مُوَفَّقَةٍ تَكُونُ أَنْتَ سَعِيدًا، وَإِنْ قُمْتَ بِتَسْدِيدَةٍ غَيْرِ مُوَفَّقَةٍ يَكُونُ خَصْمُكَ سَعِيدًا". لَكِنَّ هَذِهِ نَظْرَةٌ ساخِرَةٌ لِلأَمْرِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَحَبَّةِ أَنْ تَسْمُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَجْدُرُ بِنا الاسْتِمْتاعُ بِازْدِهارِ الآخَرِ ونَجَاحِهِ.

"الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْتَدُّ." ما مَعْنَى ذَلِكَ؟ هذا يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَحَبَّةِ فَتِيلٌ قَصِيرٌ. الْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ سَيِّئَةَ الْمِزاجِ. ذاتَ مَرَّةٍ قَالَ لِي أَحَدُ مُقَدِّمِي الْمَشُورَةِ إِنَّ لَدَى الْكُلِّ أَلْغامًا فِي شَخْصِيَّتِهِ، أَيِ الأُمُورَ الَّتِي تُثِيرُ حَساسِيَّتَنا بِشَكْلٍ خَاصٍّ، أَوِ الأُمُورَ الَّتِي تُثِيرُ الانْفِعالَ. حِينَ تَرَى شَخْصًا هَادِئًا جِدًا يَسْهُلُ التَّعايُشُ مَعَهُ وَأَنْتَ تَعِيشُ مَعَهُ بِسلامٍ وَفَجْأَةً يَنْفَجِرُ، فَتَقُولُ "لَقَدْ دُسْتُ لِلتَّوْ عَلَى لَغْمٍ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ بِوُجودِهِ". لَدَى الْبَعْضِ شَخْصِيَّاتٌ مُكَوَّنَةٌ بِطَرِيقَةٍ تَجْعَلُها تَحْوِي أَلْغامًا قَلِيلَةً جِدًّا مَدْفُونَةً فِي حَقْلِها. يُمْكِنُكَ السَّيْرُ فِي حَقْلِهِمْ طَوالَ سَنَواتٍ عِدَّةٍ بِدُونِ أَنْ تَدُوسَ عَلَى أَيِّ لَغْمٍ، وَثَمَّةَ أُناسٌ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَحْتاجُ إِلَى بُوصْلَةٍ لِلسَّيْرِ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ. أَنْتَ تَسِيرُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ كَما عَلَى قِشْرِ بَيْضٍ، لأَنَّكَ أَيْنَما اسْتَدَرْتَ تَكادُ تَدُوسُ عَلَى لَغْمٍ، لأَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يُسْتَفَزُّونَ بِسُهولَةٍ، إِنَّهُمْ سَيِّئُو الْمِزاجِ.

أَذْكُرُ بِصَراحَةٍ أَنِّي وَقَبْلَ أَنْ أُؤْمِنَ بِالْمَسِيحِ كُنْتُ سَيِّئَ الْمِزاجِ، كُنْتُ مُتَهَوِّرًا. وَفِي سَنَتِي الأَخِيرَةِ فِي الْمَدْرَسَةِ الثَّانَوِيَّةِ كانَ لَدَيْنَا عَشْرُ مُبارَياتِ بَيْسْبُول خِلالَ الْفَصْلِ الدِّرَاسِيِّ، وَقَدْ تَمَّ طَرْدِي مِنْ ثَلاثٍ مِنْهَا بِسَبَبِ تَجادُلِي مَعَ الْحُكَّامِ. كانَ الْحُكَّامُ مُخْطِئِينَ لَكِنِّي جَادَلْتُ بِصَخَبٍ شَدِيدٍ وَجَلَسْتُ عَلَى الْمَقْعَدِ الْخَشَبِيِّ لأَنِّي فَقَدْتُ أَعْصابِي. أَظُنُّ أَنَّ أَعْظَمَ تَغْيِيرٍ شَهِدْتُهُ فِي تَصَرُّفِي حِينَ آمَنْتُ كَانَ فِي هَذَا الْمَجالِ، حَيْثُ شَعَرْتُ بِأَكْبَرِ تَبْكِيتٍ عَلَى خَطَايايَ لِدَرَجَةِ أَنِّي اعْتَبَرْتُ أَنَّ أَسْمَى فَضِيلَةٍ تَتَمَثَّلُ بِعَدَمِ فُقْدانِكَ أَعْصابِكَ أَبَدًا، وَبِعَدَمِ فُقْدَانِكَ صَوابِكَ أَبَدًا، وَبِعَدَمِ إِطْلاقِ الْعَنانِ لِغَضَبِكَ. وَبِالطَّبْعِ، كَانَتْ زَوْجَتِي تَعْرِفُنِي قَبْلَ أَنْ أُؤْمِنَ وَعَرَفَتْنِي بَعْدَ أَنْ آمَنْتُ وَكانَتْ قَدْ مَضَتْ عَشْرُ سَنَواتٍ عَلَى زَواجِنا، وذاتَ يَوْمٍ وَقَعَ خِلافٌ بَيْنَنا فِي مَطْبَخِنا وَكُنْتُ أَحْمِلُ كُوبَ ماءٍ بِيَدِي، وَبَدَأَ الْجِدالُ يَحْتَدِمُ لأَنِّي قُلْتُ لَها "هَذَا غَيْرُ عَادِلٍ لأَنَّهُ لا يُوجَدُ أَحَدٌ فِي هَذَا الْعالَمِ قَادِرٌ أَنْ يُثِيرَ غَضَبِي مِثْلَما تَفْعَلِينَ أَنْتِ، فَأَنْتِ تَعْرِفِينَ نِقاطَ ضَعْفِي كُلَّهَا، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ أَنا لا أَهْتَمُّ لأَمْرِ أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْكِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. إذًا، ما مِنْ أَحَدٍ يَقْدِرُ أَنْ يُغِيظَنِي أَكْثَرَ مِمَّا تَفْعَلِينَ أَنْتِ".

إذًا، احْتَدَمَ الْجِدالُ بَيْنَنا، وَفِي النِّهايَةِ غَضِبْتُ جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنِّي أَخَذْتُ ذَلِكَ الْكُوبَ وَضَرَبْتُ بِهِ عَرْضَ الْحَائِطِ، فَبَدَأَ الْمَاءُ وَالزُّجاجُ يَتَنَاثَرُ فِي كُلِّ مَكانٍ، فَنَظَرَتْ إليَّ "فِيسْتَا" وَبَدَأَتْ تَضْحَكُ، وَقالَتْ "لَمْ أَظُنَّ يَوْمًا أَنَّكَ قَدْ تَفْعَلُ ذَلِكَ"، قَالَتْ "جَرَّبْتُ طَوالَ عَشْرِ سَنَواتٍ وَمارَسْتُ ضَغْطًا عَلَيْكَ وَامْتَحَنْتُكَ لأَرَى أَيْنَ تَفْقِدُ أَعْصابَكَ وهَا قَدْ فَعَلْتَ"، ثُمَّ ضَحِكَتْ مِنِّي لَكِنِّي شَعَرْتُ بِالإِحْراجِ. كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي تَخَطَّيْتُ الأَمْرَ تَمامًا فِي حِينِ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ. لَكِنْ لا يَجِبُ أَنْ نُسْتَفَزَّ بِسُهولَةٍ. لِكُلٍّ مِنَّا تَصَرُّفاتٌ تُثِيرُ جُنونَهُ، لا يُمْكِنُنِي تَحَمُّل. لا يُمْكِنُنِي تَحَمُّلُ السَّائِقِ الْخَطِيرِ عَلَى الطَّرِيقِ السَّرِيعِ الَّذِي يَقُودُ بِدُونِ أَنْ يُبالِيَ بِحياةِ الآخَرِينَ، وَهْوَ يَتَنَقَّلُ بِسُرْعَةٍ بَيْنَ السَّيَّاراتِ ومَا إِلَى ذَلِكَ، فَأَضْرِبُ بُوقَ السَّيارَةِ وتَقُولُ "فِيسْتَا" "يَسُرُّنِي أَنَّ الأَوْلادَ لَيْسُوا فِي هَذِهِ السَّيَّارَةِ لأَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ سَوْفَ يَتَعَلَّمُونَهَا هِيَ "أَحْمَقُ". إِذًا، فِي مَوَاقِفَ مُعَيَّنَةٍ أَنَا أَفْقِدُ صَوابِي. لَكِنْ لا يُفْتَرَضُ بِنَا أَنْ نَكُونَ كَذَلِكَ، حَادِّي الطِّباعِ وَاسْتِفْزازِيِّينَ وَعَدِيمِي الصَّبْرِ مَعَ الآخَرِينَ.

يَجِبُ أَنْ أُسْرِعَ لِكَيْ أَخْتِمَ الْعِظَةَ. الْمَحَبَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ لَا تَظُنُّ السُّوءَ، كَمَا لَوْ أَنَّهُ يَتِمُّ حَثُّنا عَلَى أَنْ نَكُونَ سُذَّجًا. ما يَقُولُهُ بُولُسُ هُنَا هُوَ أَنَّهُ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نُعْطِيَ الآخَرِينَ ما يُعْرَفُ بِحُكْمِ الْمَحَبَّةِ، وَلَيْسَ أَنَّهُ يُفْتَرَضُ بِنَا أَنْ نَكُونَ سُذَّجًا. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ يَرْتَكِبُونَ الْخَطِيَّةَ فِعْلًا، لَكِنْ ما نَمِيلُ إِلَى فِعْلِهِ هُوَ أَنَّنَا نَظُنُّ أَنَّهُ حِينَ يُخْطِئُ أَحَدُهُمْ إِلَيْنا فَإِنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى تِلْكَ الْخَطِيَّةِ كَمَا لَوْ أَنَّها تَنِمُّ عَنِ أَسْوَأِ الدَّوافِعِ عَلَى الإِطْلاقِ، كَمَا لَوْ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ بَقِيَ مُسْتَيْقِظًا فِي اللَّيْلِ لِيُفَكِّرَ فِي طُرُقٍ يُؤْذِينَا بِهَا، فِي حِينِ أَنَّهُ قَلَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَال. مِنَ النَّادِرِ أَنْ نَكُونَ ضَحِيَّةَ أُناسٍ آذُونا وَهُمْ يُضْمِرُونَ لَنَا الشَّرَّ مُسْبَقًا. وَحُكْمُ الْمَحَبَّةِ يَجِدُ أَفْضَلَ تَفْسِيرٍ مُمْكِنٍ لِلْجَرْحِ. وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّنَا نَمِيلُ إِلَى الاحْتِفاظِ بِحُكْمِ الْمَحَبَّةِ لأَنْفُسِنا، نَسْمَحُ لأَنْفُسِنا بِإِثارَةِ كُلِّ الشُّكُوكِ وَلا نَسْمَحُ لِقَرِيبِنَا بِإِثارَةِ أَيِّ شَكٍّ. لَكِنْ هَذِهِ هِيَ خُلاصَةُ الأَمْرِ، إِنَّها لا تَظُنُّ السُّوءَ. مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأَمْرَ يَتَخَطَّى عَدَمَ مُراعاةِ أَفْكارٍ شِرِّيرَةٍ، لَكِنَّنَا لا نَظُنُّ السُّوءَ فِي كُلِّ مَنْ يُحِيطُ بِنا. قَدْ نَكُونُ سُذَّجًا، لَكِنْ مِنَ الأَفْضَلِ أَنْ نُخْطِئَ لِفَرْطِ السَّذاجَةِ عَلَى أَنْ نُخْطِئَ لِفَرْطِ الافْتِراءِ.

"(الْمَحَبَّةُ) لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ". يَقُولُ لَنَا بُولُسُ فِي رِسَالَةِ رُومِيَةَ 1 إِنَّ خَطِيَّتَنا كَبَشَرٍ لا تَقْتَصِرُ عَلَى ارْتِكَابِنَا الْخَطِيَّةَ، بَلْ عَلَى تَشْجِيعِنَا الآخَرِينَ عَلَى الانْضِمامِ إِلَيْنا. وَنَحْنُ نَفْرَحُ حِينَ نَشْهَدُ ارْتِكابَ الْخَطايَا لأَنَّ الأَمْرَ يُبَرِّرُنَا نَوْعًا مَا. الْمَحَبَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ لا بِالإِثْمِ. وَأَخِيرًا، يَقُولُ بُولُسُ إِنَّ "الْمَحَبَّةَ تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". الْمَحَبَّةُ هِيَ الْمُقَوِّمُ الَّذِي يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنَ الْمُثابِرَةِ، وَيُمَكِّنُ النَّاسَ مِنَ التَّحَمُّلِ وَمِنَ الاسْتِمْرارِ فِي تَحَمُّلِ الأُمُورِ، وَمِنْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الرَّجاءِ وَيَثْبُتُوا فِي الإِيمانِ. وَهْوَ يَقُولُ "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا. وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَالأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَالْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ، الْمَحَبَّةُ لا تَسْقُطُ. لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ الْعِلْمِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ." وَيَخْتِمُ بِالْقَوْلِ "لَمَّا كُنْتُ طِفْلًا كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلًا أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ. فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ".

إِنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى النُّضُوجِ كَمُؤْمِنِينَ. لا أَعْرِفُ كَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. هُنَا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّ اللهَ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ يَكُونَ لَنَا إِيمانُ الأَطْفالِ، هَذَا صَحِيحٌ بِمَعْنَى، لَكِنْ يَرَى أُناسٌ كُثُرٌ أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَنْضُجَ، لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُفَتِّشَ الْكُتُبَ، لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَسْعَى إِلَى النُّضُوجِ فِي إِيمانِي، وَفِي فَهْمِي يُمْكِنُنِي أَنْ أَكْتَفِيَ بِشُرْبِ الْحَلِيبِ إِلَى الأَبَدِ. يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِالطِّفْلِ وَالصِّبيَانِيَّةِ. قالَ بُولُسُ "لَمَّا كُنْتُ طِفْلًا كَطِفْلٍ كُنْتُ أَسْلُكُ، كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلًا، وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلًا أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ". إِنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ بِنُضُوجٍ. وَيَقُولُ أَخِيرًا "أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ"، هَذِهِ الْفَضائِلُ الْمَسِيحِيَّةُ الكْلاسِيكِيَّةُ الثَّلاثُ: الإِيمانُ، وَالرَّجاءُ، والْمَحَبَّةُ. "هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ"، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْعَطِيَّةُ، هَذَا هُوَ الثَّمَرُ الَّذِي يُظْهِرُ بِأَوْضَحِ طَرِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ صِفاتِ اللهِ نَفْسِهِ.