المحاضرة 23: حُجَّةُ كَانْط الأَخْلَاقِيَّةُ

هنا نلقي نظرة على بعض الاعتبارات التي نجدها في العهد الجديد فيما يتعلق بالرهان الأخلاقي. قدم كانط حجة أخلاقية شهيرة عن وجود الله، قائلاً "إن كل شخص في العالم لديه إحساس متأصل عن الصواب والخطأ". نجد أن الناس لا يريدون الله ولكنهم ما زالوا يريدون الأخلاق، لكن ما يقوله كانط هنا هو أنه لا يمكنك الحصول على الإثنين.

فِي جُزْءٍ سَابِقٍ مِنْ دِرَاسَتِنَا لِعِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ، ذَكَرْتُ التَّأْثِيرَ الشَّدِيدَ لِنَقْدِ إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ لِلْحُجَجِ التَّقْلِيدِيَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللَّهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي كَانَ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ جَاءَ فِي كِتَابِهِ بِعُنْوَانِ "نَقْدُ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ". لَكِنْ مَعَ أَنَّ كَانْطْ كَانَ لَاأَدْرِيًّا، مِنْ جِهَةِ إِمْكَانِيَّةِ إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ بِالْفِكْرِ النَّظَرِيِّ، كَانَ هُوَ نَفْسُهُ مُؤْمِنًا بِوُجُودِ اللَّهِ. فَقَدْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَكِنَّهُ فَقَطْ رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ وُجُودِ اللَّهِ. وَقَدْ أَلَّفَ كِتَابًا آخَرَ بِعُنْوَانِ "نَقْدُ الْمَنْطِقِ الْعَمَلِيِّ"، تَطَرَّقَ فِيهِ إِلَى مَوْضُوعِ اللَّهِ، لَيْسَ مِنْ مَنْظُورٍ نَظَرِيٍّ، بَلْ انْطِلَاقًا مِنِ اعْتِبَارَاتٍ عَمَلِيَّةٍ. وَأُحِبُّ وَصْفَ كَانْطْ بِأَنَّهُ، مِنْ نَاحِيَةٍ، طَرَدَ اللَّهَ بِوَقَاحَةٍ مِنَ الْبَابِ الْأَمَامِيِّ لِلْمَنْزِلِ، ثُمَّ رَكَضَ إِلَى بَابِ الْمَطْبَخِ، وَأَدْخَلَهُ مِنَ الْبَابِ الْخَلْفِيِّ. فَهَكَذَا فَعَلَ، لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ "الْمَنْطِقُ الْعَمَلِيُّ"، قَدَّمَ حُجَّتَهُ الْأَخْلَاقِيَّةَ الشَّهِيرَةَ الْمُؤَيِّدَةَ لِوُجُودِ اللَّهِ، الَّتِي سَنَدْرُسُهَا بَعْدَ قَلِيلٍ. لَكِنْ قَبْلَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، أَوَدُّ صَرْفَ بِضْعِ لَحَظَاتٍ فِي تَنَاوُلِ بَعْضِ الْأَفْكَارِ الَّتِي تَرِدُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُجَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ.

حِينَ كَتَبَ بُولُسُ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ، فِي الْأَصْحَاحِ الْأَوَّلِ مِنْ رِسَالَتِهِ، الَّذِي سَبَقَ أَنْ تَنَاوَلْنَاهُ فِي تَصْرِيحِهِ فِي جُزْءٍ سَابِقٍ مِنَ الْأَصْحَاحِ بِأَنَّ أُمُورَ اللَّهِ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْمَصْنُوعَاتِ. لَكِنْ فِي جُزْءٍ لَاحِقٍ مِنَ الْأَصْحَاحِ الْأَوَّلِ، فِي الْآيَةِ الثَامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ، حَيْثُ كَانَ بُولُسُ بِصَدَدِ تَوْجِيهِ الِاتِّهَامَاتِ إِلَى كُلِّ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ فِي حَالَتِهِ السَّاقِطَةِ وَالْفَاسِدَةِ، قَالَ عَنِ الْبَشَرِ، فِي الْآيَةِ الثَامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ: "وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ، لِيَفْعَلُوا مَا لَا يَلِيقُ، مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًى وَشَرٍّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلًا وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا، نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ مُبْغِضِينَ لِلَّهِ ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ، بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ". هَذِهِ الْقَائِمَةُ لَيْسَتْ شَامِلَةً، لَكِنَّهَا قَدْ تَبْدُو كَذَلِكَ بِالتَّمَعُّنِ فِيهَا، لأَنَّهَا تَسْرُدُ كُلَّ الطُّرُقِ الَّتِي يُؤْذِي بِهَا الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِسُلُوكِهِمْ غَيْرِ الأَخْلاقِيِّ.

لَكِنْ يَكْمُنُ بَيْتُ الْقَصِيدِ فِي الآيَةِ الثَانِيَةِ وَالثَلاثِينَ: "الَّذِينَ" - أَيِ الَذِينَ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الأُمُورَ- "إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ، لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ!" يَقُولُ الرَّسُولُ هُنَا بِوُضُوحٍ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَنَ عَنْ طَبِيعَتِهِ الْمُقَدَّسَةِ لِكُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْرِفُ بِرَّ اللَّهِ، وَمَا يُطَالِبُنَا بِهِ هَذَا الْبِرُّ مِنْ جِهَةِ سُلُوكِنَا. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، قَالَ بُولُسُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ السُّلُوكَ الْجِنْسِيَّ الصَّحِيحَ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ أَلَّا نَسْرِقَ أَحَدًا، أَوْ نَقْتُلَ أَحَدًا، أَوْ نَكُونَ خُبَثَاءَ، أَوْ طَمَّاعِينَ، أَوْ مُبْغِضِينَ، وَسَائِرَ الْأُمُورِ الْأُخْرَى الْمَذْكُورَةِ هُنَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرٌّ، وَأَنَّهَا خَاطِئَةٌ. ثُمَّ قَالَ إنَّهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ مَعْرِفَتِنَا الْوَاضِحَةِ بِذَلِكَ، لِأَنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ نُبْقِيَ اللَّهَ فِي عُقُولِنَا، أَوْ فِي فِكْرِنَا، لَا نَكْتَفِي بِالسُّلُوكِ الشِّرِّيرِ، وَلَا نَكْتَفِي بِالْمُصَادَقَةِ عَلَيْهِ - مَعَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَدِينُنَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَسْتَوْجِبُ دِينُونَتَهُ - لَكِنَّنَا نَدْعَمُ الْآخَرِينَ، وَنُشَجِّعُهُمْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. اخْتَرْ أَيَّةَ خَطِيَّةٍ، وَسَتَجِدُ أُنَاسًا يُدَافِعُونَ بِشِدَّةٍ عَنْ تَقَبُّلِهَا فِي مُجْتَمَعٍ مُتَحَضِّرٍ وَعَادِلٍ.

ثُمَّ فِي الْأَصْحَاحِ الثَّانِي، تَابَعَ الرَّسُولُ قَائِلًا، فِي الْآيَةِ الثَانِيَةَ عَشْرَةَ: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ. وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ". ثُمَّ قَالَ فِي الآيَةِ الرَابِعَةَ عَشْرَةَ: "لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ" - أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَامُوسُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ - "مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهَؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ". يَقُولُ بُولُسُ هُنَا إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَقَطْ يُعْطِي النَّامُوسَ لِإِسْرَائِيلَ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يَكْتُبُ نَامُوسَهُ فِي قُلُوبِ جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالْبُرْهَانُ عَلَى وُجُودِ هَذَا النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ هُوَ ذَلِكَ الْجِهَازُ الَّذِي نُسَمِّيهِ "الضَّمِيرَ". فَالضَّمِيرُ جُزْءٌ مِنْ تَكْوِينِ كُلِّ إِنْسَانٍ. نَعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلضَّمَائِرِ أَنْ تَفْسُدَ، أَوْ تُوسَمَ، أَوْ تَتَقَسَّى، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَعْدُومَ الضَّمِيرِ تَمَامًا، سَنُسَمِّيهِ مُضْطَرِبًا عَقْلِيًّا، أَوْ مُعْتَلًّا اجْتِمَاعِيًّا، وَهُوَ شَخْصٌ قَادِرٌ عَلَى اِرْتِكَابِ شُرُورٍ مُؤْذِيَةٍ، دُونَ أَدْنَى شُعُورٍ بِالذَّنْبِ. وَنَعْتَبِرُ ذَلِكَ تَشَوُّهًا فِي الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ نَفْسِهَا.

مُجَدَّدًا، يَقُولُ الرَّسُولُ، فِي الْأَصْحَاحَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، إِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَبْرَ غَرْسِ نَامُوسِهِ الْأَخْلَاقِيِّ فِي عَقْلِ كُلِّ إِنْسَانٍ.

أَعْلَمُ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ أَوْ الرَّدَّ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الْمُجْتَمَعُ الْإِلْحَادِيُّ هُوَ أَنَّ ضَمِيرَنَا لَيْسَ سِوَى نِتَاجِ مُحَرَّمَاتِ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ - كَتَأْثِيرِ الْمَلِكَةِ فِيكْتُورْيَا، وَالْبْيُورِيتَانِيِّينَ الَّذِينَ عَاشُوا فِي نْيُو إِنْجْلَانْدْ، وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ غَرَسُوا تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي ثَقَافَتِنَا. حَاوَلَ فْرُويْدْ أَنْ يُثْبِتَ فِي كِتَابَاتِهِ، مِثْلَ "The Future of an Illusion"، مَثَلًا، وَ"Civilization and its Discontents"، بِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَفْرِضُهَا عَلَيْنَا الثَّقَافَةُ، وَالْإِعَاقَاتُ النَّفْسِيَّةُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُرَّ عَنْ بَشَرِيَّتِنَا يَتَجَلَّى فِي سُلُوكِنَا الْجِنْسِيِّ بِلَا كَابِحٍ.

لَكِنَّنَا جَمِيعًا أَحْكَمُ مِنْ أَنْ نَقْبَلَ بِذَلِكَ. فَالضَّمِيرُ بِبَسَاطَةٍ لَنْ يَتَلَاشَى. يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّهُ فِي مُجْتَمَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، تُحْسَبُ أُمُورٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَبَعْضُ الْمُجْتَمَعَاتِ تُحَرِّمُ شُرْبَ الْخُمُورِ، فِيمَا تَشْرَبُ مُجْتَمَعَاتٌ أُخْرَى الْخَمْرَ دُونَ شُعُورٍ بِالذَّنْبِ، وَهَكَذَا. نَعْلَمُ بِوُجُودِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ مِنْ زَمَنٍ إِلَى آخَرَ. لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ أَيَّ مُجْتَمَعٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ فِي الْعَالَمِ - عَلَى عَكْسِ رَأْيِ مَارْجْرِيتْ مِيدْ - بِلَا نِظَامٍ أَخْلَاقِيٍّ مِنْ نَوْعٍ مَا، لِأَنَّ النِّظَامَ الْأَخْلَاقِيَّ ضَرُورِيٌّ لِلتَّفَاعُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَلِلْحِفَاظِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْحَضَارَةِ.

يُدْعَى مُجْتَمَعُنَا الْيَوْمَ بِالْمُجْتَمَعِ "مَا بَعْدَ الْمَسِيحِيِّ"، وَبِالْمُجْتَمَعِ "الْوَثَنِيِّ الْحَدِيثِ". وَأَظُنُّ أَنَّ الْوَصْفَ الْأَنْسَبَ لِلْمُجْتَمَعِ الْأَمِيرِكِيِّ الْيَوْمَ هُوَ الْمُجْتَمَعُ "الْبَرْبَرِيُّ الْحَدِيثُ". فَمَعَ تَفَشِّي النِّسْبِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، عَلَى الْأَقَلِّ لَدَى خَمْسِينَ بِالْمَائَةِ مِنَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ، صَارَ مُجْتَمَعًا عَدِيمَ الْأَخْلَاقِ وَبَرْبَرِيًّا. فَقَدْ أَنْشَأْنَا بَرَابِرَةً فِي مُجْتَمَعِ الْيَوْمِ. هَذِهِ هِيَ الثَّوْرَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ الْمُنْدَلِعَةُ فِي هَذِهِ الدَّوْلَةِ. لَكِنْ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ، لَا يُمْكِنُ إِخْمَادُ الضَّمِيرِ تَمَامًا. وَهُنَا بَرَزَتْ حُجَّةُ كَانْطْ الْعَمَلِيَّةُ وَالْحُجَّةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ إِلَى السَّطْحِ.

قَالَ كَانِطْ إِنَّهَا لَظَاهِرَةٌ عَامَّةٌ أَنْ يَكُونَ لَدَى كُلِّ إِنْسَانٍ فِي الْعَالَمِ حِسُّ الْوَاجِبِ، أَيْ مَا نُسَمِّيهِ بِبَسَاطَةٍ بِالْحِسِّ الدَّاخِلِيِّ وَالْفِطْرِيِّ بِالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ. وَوَصَفَ كَانِطْ حِسَّ الْوَاجِبِ هَذَا بِعِبَارَةِ "الضَّرُورَةُ الْحَتْمِيَّةُ". وَتُمَثِّلُ الضَّرُورَةُ الْحَتْمِيَّةُ وَصِيَّةً مُطْلَقَةً، دُونَ نِسْبِيَّةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ. لَكِنْ يَقُولُ كَانْطْ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي الْعَالَمِ لَدَيْهِ حِسُّ الْوَاجِبِ الَّذِي يُطَالِبُهُ أَوْ يُلْزِمُهُ بِالسُّلُوكِ بِطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ. يُمْكِنُنَا بَذْلُ كُلِّ مَا بِوُسْعِنَا لِمَحْوِهِ، أَوْ إِنْكَارِهِ، أَوْ الْهُرُوبِ مِنْهُ، لَكِنْ يَسْتَحِيلُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ. يُشْبِهُ ذَلِكَ اللِّيدِي مَاكْبِثْ، الَّتِي بَعْدَ ارْتِكَابِهَا جَرِيمَةَ الْقَتْلِ، حَاوَلَتْ كَشْطَ يَدَيْهَا الْمُلَطَّخَتَيْنِ بِالدِّمَاءِ بِالصَّابُونِ، فَلَمْ تَسْتَطِعِ التَّخَلُّصَ مِنَ الدِّمَاءِ، فَصَرَخَتْ "أَيَّتُهَا اللَّطْخَةُ اللَّعِينَةُ!" لَكِنَّ مُحَاوَلَاتِهَا كَانَتْ غَيْرَ مُجْدِيَةٍ. فَأَكْبَرُ مُشْكِلَةٍ يُعَانِي مِنْهَا الْبَشَرُ وَيَعْجِزُونَ عَنْ حَلِّهَا هِيَ الشُّعُورُ بِالذَّنْبِ.

أَقُولُ ذَلِكَ عَادَةً لِلنَّاسِ حِينَ أَتَحَدَّثُ عَنِ الدِّينِ، وَاللَّاهُوتِ، وَالدِّفَاعِيَّاتِ. فَبَعْدَ انْتِهَائِنَا مِنْ دِرَاسَةِ الْحُجَجِ الْفَلْسَفِيَّةِ، يَقِفُ أَحَدُهُمْ فِي الْوَسَطِ وَيُخْبِرُنِي بِأَنَّهُ مُلْحِدٌ، فَأُقَاطِعُهُ قَائِلًا: "أَخْبِرْنِي، كَيْفَ تَتَعَامَلُ مَعَ شُعُورِكَ بِالذَّنْبِ؟" لَمْ يَحْدُثْ حَتَّى الْآنَ أَنْ نَظَرَ أَحَدٌ فِي عَيْنَيَّ قَائِلًا: "لَيْسَ لَدَيَّ أَيُّ شُعُورٍ بِالذَّنْبِ"، لِأَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ جَيِّدًا أَنَّنِي سَأَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ صَادِقِينَ. وَفَجْأَةً، يَتَّخِذُ الْحَدِيثُ مَنْحًى آخَرَ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُدْرِكُونَ أَنَّهُمْ يُعَانُونَ مُشْكِلَةَ الشُّعُورِ بِالذَّنْبِ الَّتِي لَمْ تُحَلَّ بَعْدُ.

يَقُولُ كَانِطْ إِنَّ الشُّعُورَ بِالذَّنْبِ نَاتِجٌ عَنْ إِخْفَاقِنَا فِي تَأْدِيَةِ وَاجِبِنَا، وَفِي فِعْلِ مَا نَحْنُ مُلْزَمُونَ أَخْلَاقِيًّا بِفِعْلِهِ. عِنْدَ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنْ حُجَّةِ كَانْطْ، اتَّبَعَ نَهْجًا وَصَفَهُ بِالتَّسَامِي، وَكَانَ أَسَاسِيًّا لِمَنْهَجِيَّتِهِ الْفَلْسَفيَّةِ بِرُمَّتِهَا. فَإِنَّ نَقْدَهُ، بَلْ وَكِتَابَ "نَقْدُ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ"، وَنَظَرِيَّتَهُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى هَذِهِ الْمَنْهَجِيَّةِ الْمُتَسَامِيَةِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، حِينَ تَطَرَّقَ إِلَى مَسْأَلَةِ الْمَعْرِفَةِ، لَمْ يَقُلْ: "هَكَذَا تَحْدُثُ الْمَعْرِفَةُ"؛ وَلَمْ يَبْدَأْ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُمْكِنَةٌ، بَلْ بَدَأَ بِطَرْحِ السُّؤَالِ التَّالِي: "إِذَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ مُمْكِنَةً، فَمَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ؟ وَمَا الْعَنَاصِرُ الضَّرُورِيَّةُ لِتَكُونَ الْمَعْرِفَةُ مُمْكِنَةً؟" ثُمَّ بَنَى فَلْسَفَتَهُ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ.

بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، سَمَا كَانْطْ فَوْقَ الْمُشْكِلَةِ، وَارْتَفَعَ فَوْقَهَا قَائِلًا: "لَا أَعْلَمُ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ مُمْكِنَةً، لَكِنْ إِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً، فَمَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ؟" هَذَا هُوَ النَّهْجُ الَّذِي اتَّبَعَهُ، وَهُوَ نَهْجٌ مُبْتَكَرٌ لِحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فَلْسَفِيًّا. لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، حِينَ تَطَرَّقَ إِلَى الْحُجَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ عَنِ اللَّهِ، طَرَحَ السُّؤَالَ التَّالِي: "إِنَّهَا لَحَقِيقَةٌ مُسْلَّمٌ بِهَا أَنَّ لَدَيْنَا هَذَا الْحِسَّ الْعَامَّ بِالْوَاجِبِ. هَذَا الْحِسُّ الْعَامُّ بِالْوَاجِبِ قَدْ يَكُونُ خَلَلًا فِي تَكْوِينِ الْبَشَرِ. فَفِي النِّهَايَةِ، يَقُولُ الْعَدَمِيُّونَ - مِثْلُ نِيتْشَهْ وَغَيْرِهِ - إِنَّ هَذَا الْحِسَّ، هَذَا الْحِسَّ الْأَخْلَاقِيَّ، لَيْسَ لَهُ مَعْنًى أَوْ هَدَفٌ، وَيَجْدُرُ بِنَا التَّخَلُّصُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَدِيمُ الْأَهَمِّيَّةِ.

لَمْ يَتْبَعْ كَانْطْ هَذَا الْأُسْلُوبَ، لَكِنَّهُ قَالَ: "كَيْ يَكُونَ لِهَذَا الْحِسِّ مَعْنًى - لَا أَعْلَمُ إِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى أَمْ لَا، وَلَا أَسْتَطِيعُ إِثْبَاتَ أَنَّ لَهُ مَعْنًى، لَكِنْ إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنًى - فَمَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ؟" بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، مَا اللَّازِمُ كَيْ يَكُونَ هناكَ مَعْنًى لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَخْلَاقِيَّاتِ السَّلِيمَةِ، الَّتِي تَفْرِضُ عَلَيْنَا وَاجِبَاتٍ؟ وَطَرَحَ هَذَا السُّؤَالَ لِسَبَبٍ عَمَلِيٍّ، وَهُوَ إِدْرَاكُهُ أَنَّهُ بِدُونِ مِقْيَاسٍ مُطْلَقٍ لِلسُّلُوكِ، يَصِيرُ وُجُودُ مُجْتَمَعٍ وَحَضَارَةٍ، فِي النِّهَايَةِ، مُسْتَحِيلًا. فَالْقَانُونُ السَّائِدُ سَيَكُونُ هُوَ "الْبَقَاءُ لِلْأَقْوَى". وَسَيَنْتَهِي بِنَا الْحَالُ إِلَى شَرِيعَةِ الْغَابِ، مِمَّا سَيَقْضِي لَا مَحَالَةَ عَلَى الْحَضَارَةِ. وَهَذَا مَا أَخْشَى أَنَّنَا صِرْنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ إِلَى حَدٍّ مَا.

لِهَذَا قَالَ دُوسْتُوِيفِسْكِي إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلَهٌ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَسَاسٌ مُطْلَقٌ لِلصَّوَابِ، يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ مُبَاحًا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَسَاسٌ مُطْلَقٌ لِلصَّوَابِ، يَتَحَوَّلُ الْأَمْرُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى صِرَاعَاتٍ تَفْضِيلِيَّةٍ، بَيْنَ مَا أُفَضِّلُهُ أَنَا وَمَا تُفَضِّلُهُ أَنْتَ. وَسَيَفْعَلُ الْجَمِيعُ مَا يَرَوْنَهُ صَائِبًا، مِمَّا سَيُوَلِّدُ نِزَاعًا وَحُرُوبًا بَيْنَ طَبَقَاتِ الْبَشَرِ، أَيْ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، لِأَنْ لَيْسَ لِلْقَوَانِينِ أَيُّ أَسَاسٍ. كَانَ كَانِطْ عَلَى وَعْيٍ شَدِيدٍ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ مَا عَلَى الْمِحَكِّ هُنَا هُوَ الْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ، وَلَيْسَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. فَطَرَحَ السُّؤَالَ التَّالِي: "مَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ لِيَكُونَ لِلضَّرُورَةِ الْحَتْمِيَّةِ مَعْنًى؟" فَقَالَ: "أَوَّلُ مَا يَلْزَمُ لِيَكُونَ لِأَيَّةِ أَخْلَاقِيَّاتٍ مَعْنًى هُوَ الْعَدَالَةُ. فَإِذَا كَانَتِ الْجَرِيمَةُ تُفِيدُ، لَمَا وُجِدَ سَبَبٌ وَجِيهٌ لِلْفَضِيلَةِ، أَوْ سَبَبٌ وَجِيهٌ لِعَدَمِ الْأَنَانِيَّةِ. إِذَنْ، لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ عَدَالَةٍ، حَيْثُ يُكَافَأُ السُّلُوكُ الصَّائِبُ، وَيُعَاقَبُ السُّلُوكُ الْخَاطِئُ". وَقَالَ: "وَمَا اللَّازِمُ لِتَحْقِيقِ الْعَدَالَةِ؟" أَجَابَ: "أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يُوجَدَ كَيْ تَتَحَقَّقَ الْعَدَالَةُ هُوَ وُجُودُ حَيَاةٍ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَا يُوَزِّعُ الْعَدَالَةَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ. فَثَمَّةَ أَبْرِيَاءُ يَمُوتُونَ عَلَى يَدِ مُذْنِبِينَ".

طَرَحَ أَحَدُ قِدِّيسِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ السُّؤَالَ التَّالِيَ: "لِمَ يَزْدَهِرُ الشِّرِّيرُ وَيَتَأَلَّمُ الصِّدِّيقُ؟" لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ إِلَّا فِي بِيئَةٍ لَا تُجْرَى فِيهَا الْعَدَالَةُ بِشَكْلٍ كَامِلٍ. وَلِهَذَا قَالَ: "بِمَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ عَدْلٌ مُطْلَقٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ فَقَطْ قَدْرٌ مِنَ الْعَدْلِ. فَنَحْنُ نَطْلُبُ الْعَدَالَةَ، وَلَدَيْنَا مَحَاكِمُ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، لَكِنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْجَحُ دَائِمًا". وَلِذَا قَالَ: "يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَدْلٌ كَامِلٌ، وَلِذَا يَجِبُ أَنْ تُوجَدَ حَيَاةٌ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ". يَنْبَغِي أَنْ نَحْيَا بَعْدَ الْقَبْرِ لِنَخْتَبِرَ الْعَدْلَ الْكَامِلَ. لَكِنْ حَتَّى إِذَا نَجَوْنَا مِنَ الْقَبْرِ، رُبَّمَا تُعَانِي الْحَيَاةُ التَّالِيَةُ مِنْ كُلِّ النَّقَائِصِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ. إِذَنْ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَدَيْنَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَاضٍ يَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ كَامِلًا أَخْلَاقِيًّا، أَوْ بَارًّا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي الَّذِي سَيُحَاكِمُنَا بَارًّا تَمَامًا، فَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ يَرْتَكِبُ ظُلْمًا، لِأَنَّهُ فَاسِدٌ، أَوْ مُرْتَشٍ، أَوْ أَنَانِيٌّ، إِلَى آخِرِهِ. إِذَنْ، لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ التَّامِّ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حُكْمٌ سَلِيمٌ. وَلِيَكُونَ هُنَاكَ حُكْمٌ سَلِيمٌ، يَلْزَمُنَا قَاضٍ كَامِلٌ، فَوْقَ الشُّبُهَاتِ، وَبَعِيدٌ عَنِ الْفَسَادِ.

لَكِنْ لِنَفْتَرِضْ، مَثَلًا، أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ الْكَامِلَ مَوْجُودٌ، وَكَانَ مُسْتَقِيمًا أَخْلَاقِيًّا، لَكِنَّهُ بَذَلَ كُلَّ مَا بِوُسْعِهِ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، لَكِنْ لِلْأَسَفِ، كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ مَحْدُودَةً. وَفِي ضَوْءِ مَحْدُودِيَّةِ مَعْرِفَتِهِ، ارْتَكَبَ الْأَخْطَاءَ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ كُلَّ الْحَقَائِقِ أَوْ كُلَّ ظُرُوفِ الْقَضَايَا الَّتِي تُرْفَعُ أَمَامَهُ. وَلِهَذَا يُخْطِئُ، لَيْسَ عَنْ فَسَادٍ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ مَحْدُودِيَّةِ مَعْرِفَتِهِ. إِذَنْ، إِذَا أَرَدْنَا إِقَامَةَ عَدْلٍ كَامِلٍ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي لَيْسَ فَقَطْ كَامِلًا أَخْلَاقِيًّا، بَلْ كُلِّيَّ الْعِلْمِ أَيْضًا. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ الْحَقَائِقِ، حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي يُصْدِرُهُ بِلَا خَطَأٍ أَوْ عَيْبٍ.

لِنَفْتَرِضْ أَنَّهُ تُوجَدُ حَيَاةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمٌ أَخِيرٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ الْأَخِيرُ يَتَوَلَّاهُ قَاضٍ بَارٌّ تَمَامًا، وَيَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ، هَلْ يَضْمَنُ ذَلِكَ إِقَامَةَ الْعَدْلِ؟ لَيْسَ بَعْدُ. يَجِبُ تَوَافُرُ عُنْصُرٍ آخَرَ لِضَمَانِ أَنْ يَسُودَ الْعَدْلُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ الْكَامِلَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالْكَامِلَ فِي دَوَافِعِهِ وَفَضَائِلِهِ، يَجِبُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْقُوَّةِ لِتَنْفِيذِ حُكْمِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِلَا قُوَّةٍ، أَوْ يَعُوقُهُ شَيْءٌ مِنَ الْخَارِجِ عَنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ بِأَيِّ شَكْلٍ، فَلَا شَيْءَ يَضْمَنُ إِقَامَةَ الْعَدْلِ. إِذَنْ، فِي النِّهَايَةِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَاضِي كُلِّيَّ الْقُدْرَةِ، أَيْ أَقْوَى مِنْ أَيَّةِ قُوَّةٍ مُضَادَّةٍ قَدْ تَعُوقُ تَنْفِيذَهُ لِأَحْكَامِهِ.

وَهَكَذَا، تَحَدَّثَ كَانْطْ بِطَرِيقَةٍ مُتَسَامِيَةٍ وَعَمَلِيَّةٍ قَائِلًا: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ لِحِسِّ اَلْوَاجِبِ لَدَيْكَ أَهَمِّيَّةٌ وَمَعْنًى، يَجِبُ أَنْ تُمَثِّلَ أَنْتَ أَهَمِّيَّةً، وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَحْيَا بَعْدَ الْقَبْرِ، وَأَنْ تُحَاكَمَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ كُلِّ مَا فَعَلْتَهُ فِي حَيَاتِك - أَيْ كُلِّ كَلِمَةٍ تَفَوَّهْتَ بِهَا، وَكُلِّ فِكْرَةٍ رَاوَدَتْكَ، وَكُلِّ عَمَلٍ قُمْتَ بِهِ، وَكُلِّ عَمَلٍ حَسَنٍ تَقَاعَسْتَ عَنْهُ. فَإِنَّكَ سَتُقَدِّمُ حِسَابًا، أَمَامَ قَاضٍ لَا يَضَعُ عُصَابَةً عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَا يَقْبَلُ الرَّشْوَةَ أَوِ الْفَسَادَ، لَكِنَّهُ قُدُّوسٌ وَصَالِحٌ وَبَارٌّ تَمَامًا. وَهُوَ يَعْرِفُكَ أَكْثَرَ كَثِيرًا مِمَّا تَعَرِفُ نَفْسَكَ. وَيَعْرِفُ كُلَّ مَا فَعَلْتَهُ وَقُلْتَهُ. وَهُوَ قَوِيٌّ كِفَايَةً لِتَنْفِيذِ حُكْمِهِ.

تَرَوْنَ إِذَنْ أَنَّ هَذَا الْفَيْلَسُوفَ الَّذِي دَحَضَ الْحُجَجَ التَّقْلِيدِيَّةَ الْمُؤَيِّدَةَ لِوُجُودِ اللَّهِ، تَوَجَّهَ إِلَى الْبَابِ الْخَلْفِيِّ، وَأَدْخَلَ مِنْهُ الْإِلَهَ الْمَسِيحِيَّ، أَيْ إِلَهَ الْيَهُودِيَّةِ-الْمَسِيحِيَّةِ، عَلَى أَسَاسِ حُجَجِهِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، قَائِلًا إِنَّ الْأَخْلَاقِيَّاتِ، إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، تَجْعَلُ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ اللَّهِ ضَرُورَةً عَمَلِيَّةً. وَلِذَلِكَ، اسْتَنْتَجَ كَانْطْ مَا يَلِي: يَجِبُ أَنْ نَعِيشَ كَمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ إِلَهٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَهٌ، فَلَا أَمَلَ فِي وُجُودِ حَضَارَةٍ أَوْ مُجْتَمَعٍ بَشَرِيٍّ.

بِالطَّبْعِ، جَاءَ نُقَّادُ كَانْطْ - أَيِ الْوُجُودِيُّونَ - بَعْدَهُ وَقَالُوا: "حَسَنًا، قَالَ كَانِطْ ذَلِكَ فَقَطْ لِأَنَّ الْبَدَائِلَ الْأُخْرَى غَيْرُ جَذَّابَةٍ". وَقَالَ نِيتْشِهْ: "لَا مَعْنَى لِلْحَيَاةِ وَلَا أَمَلَ". لَكِنَّ مُعْظَمَ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ يُحَاوِلُونَ التَّعْرِيجَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ. فَهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللَّهَ، لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْأَخْلَاقَ. وَهُمْ لا زَالُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ أَهَمِّيَّةٌ وَمَعْنًى. لَكِنْ يَقُولُ كَانْطْ هُنَا إِنَّهُ لا يُمْكِنُكَ الْحُصُولُ عَلَى كِلا الأَمْرَيْنِ مَعًا.