المحاضرة 13: اللاهوتُ الطَّبِيعِيُّ (الجُزْءُ الثَانِي)
يواصل د. سبرول دراسة موضوع اللاهوت الطبيعي. في محاضرة "اللاهوت الطبيعي"، يُعرِّف د. سبرول مصطلح اللاهوت الطبيعي ثم ينظر إلى بعض المبادئ التاريخية التي تطورت فيما يتعلق بهذا المبدأ.
نُتَابِعُ الْآنَ حَدِيثَنَا عَنْ مَفْهُومِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ وَعَلَاقَتِهِ بِالْإِعْلَانِ الْعَامِّ. وَكَمَا ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الدِّرَاسَةِ، إِنَّ اللَّاهُوتَ الطَّبِيعِيَّ، مَعَ أَنَّ بُولُسَ عَلَّمَهُ فِي رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ، وَالْقِدِّيسَ أُوغُسْطِينُوسَ شَرَحُهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي فَتْرَةٍ مُبَكِّرَةٍ، هُوَ مُتَّصِلٌ بِشَكْلٍ يَكَادُ يَكُونُ حَصْرِيًّا بِلَاهُوتِ تُومَا الْأَكْوِينِيِّ. وَكَثِيرُونَ، وَلَا سِيَّمَا مِنْ الْبْرُوتِسْتَانْتِيِّينَ، لَدَيْهِمْ نُفُورٌ أَوْ تَحَفُّظٌ عَلَى اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ. فَهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ كَاثُولِيكِيًّا بِالطَّبِيعَةِ، وَبِالتَّالِي مُتَعَارِضًا مَعَ الْبْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ. لَكِنَّنِي أَخْتَلِفُ مَعَ هَذَا الرَّأْيِ، وَأَرَى أَيْضًا أَنَّ الْقِدِّيسَ تُومَا تَعَرَّضَ لِهُجُومٍ عَنِيفٍ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ بِسَبَبِ إِسْهَامِهِ، السَّلْبِيِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، فِي الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا مَعَ الْفَلْسَفَةِ الْعِلْمَانِيَّةِ الْيَوْمَ. كُنْتُ أَعْتَبِرُ فْرَنْسِيسَ شِيفِرْ (Francis Schaeffer) صَدِيقًا مُقَرَّبًا جِدًّا لِي. وَقَدْ فَعَلْنَا الْكَثِيرَ مَعًا. وَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ ضَخْمٌ عَلَيَّ. وَكُنَّا مُتَّفِقَيْن عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا فِي اللَّاهُوتِ وَالْفَلْسَفَةِ. لَكِنَّ الْأَمْرَ الْوَحِيدَ الَّذِي اخْتَلَفْنَا حَوْلَهُ هُوَ تَقْيِيمُهُ لِتُومَا الْأَكْوِينِيِّ، لِأَنَّ د. شِيفَرْ صَرَّحَ مِرَارًا بِأَنَّ الْقِدِّيسَ تُومَا الْأَكْوِينِيَّ هُوَ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ.
أَوَدُّ الْيَوْمَ أَنْ أُوَضِّحَ ذَلِكَ قَلِيلًا. فَالْفِكْرَةُ الَّتِي تَحَدَّثَ عَنْهَا شِيفَرْ هِيَ أَنَّ النِّعْمَةَ، أَوْ مَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَّبِيعَةِ، هُوَ بِالْأَعْلَى، وَالطَّبِيعَةُ أَسْفَلَهُ، وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَالَمُ الْفَائِقُ لِلطَّبِيعَةِ مُنْفَصِلًا عَنْ عَالَمِ الطَّبِيعَةِ. وَلِذَا، يَعْتَبِرُ الْمَنْطِقَ وَالْإِيمَانَ مُتَعَارِضَيْنِ - أَوْ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ وَمَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَّبِيعَةِ، أَوْ النِّعْمَةُ وَالطَّبِيعَةُ، إِلَى آخِرِهِ. وَجَاءَ دِفَاعِي عَنِ الْقِدِّيسِ تُومَا الْأَكْوِينِيِّ كَالتَّالِي: أَنَّ مَا لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ عَلَى بَالِ الْقِدِّيسِ تُومَا فِيمَا كَانَ يَكْتُبُ كِتَابَيْهِ - "Summa Contra Gentiles"، وَ"Summa Theologiae" - هَذَيْنِ الْمُؤَلَّفَيْنِ الرَّائِعَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ وَالدِّفَاعِيَّاتِ - هُوَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ. بَلْ فِي الْوَاقِعِ، مَا حَاوَلَ فِعْلَهُ فِي بَحْثِهِ الْفَلْسَفِيِّ وَدِفَاعِهِ عَنِ الْمَسِيحِيَّةِ هُوَ إِظْهَارُ الْوَحْدَةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ. وَلِذَا، أَعْتَقِدُ أَنَّ اتِّهَامَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا يَنِمُّ عَنْ سُوءِ فَهْمٍ كَبِيرٍ لِتَعْلِيمِهِ الْفِعْلِيِّ وَدَوَافِعِهِ. وَكَيْ نَفْهَمَ الْأَكْوِينِيَّ، أَعْتَقِدُ أَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَطْرَحَ السُّؤَالَ الْمِحْوَرِيَّ التَّالِيَ: مَا الْمُشْكِلَةُ الَّتِي كَانَ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ يُحَاوِلُ حَلَّهَا؟ كَيْ نُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، عَلَيْنَا فَحْصُ الظُّرُوفِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي عَمِلَ فِي ظِلِّهَا كَدِفَاعِيٍّ مَسِيحِيٍّ.
كَتَبَ الْقِدِّيسُ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ فِي فَتْرَةٍ كَانَ أَكْبَرُ تَهْدِيدٍ تَتَعَرَّضُ لَهُ الْكَنِيسَةُ فِيهَا هُوَ اجْتِيَاحُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ. كَانَ الْفِكْرُ الْإِسْلَامِيُّ يَتَقَدَّمُ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِنَ التَّارِيخِ - أَيْ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى - عَلَى يَدِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤَثِّرِينَ وَالْقَدِيرِينَ. طَرَحَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ فَلْسَفَةً تُسَمَّى بِالْأَرِسْطِيَّةِ التَّكَامُلِيَّةِ - الْأَرِسْطِيَّةِ التَّكَامُلِيَّةِ. قَدْ يَبْدُو هَذَا مُعَقَّدًا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، لَكِنْ حِينَ نَدْمُجُ شَيْئًا مَا، نَرَى أَنَّهُ مُتَكَامِلٌ مَعَ أَشْيَاءَ أُخْرَى. وَلِذَا، فَإِنَّ ابْنَ رُشْدٍ وَابْنَ سِينَا، بِصِفَتِهِمَا اثْنَيْنِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْعَرَبِ، حَاوَلَا التَّوْفِيقَ أَوْ الْجَمْعَ بَيْنَ الْفِكْرِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فِي مُحَاوَلَةٍ لِلدَّمْجِ بَيْنَ أَرِسْطُو وَالْإِسْلَامِ. وَمِنْ هُنَا، سُمِّيَ هَؤُلَاءِ بِالْأَرِسْطِيِّينَ التَّكَامُلِيِّينَ. وَإِحْدَى الْفَرْضِيَّاتِ الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي أَيَّدُوهَا بِحَمَاسٍ تُسَمَّى: "نَظَرِيَّةَ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ" - نَظَرِيَّةَ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةَ.
سَأُخَصِّصُ الْآنَ بَعْضَ الْوَقْتِ لِدِرَاسَةِ ذَلِكَ، لَيْسَ فَقَطْ بِسَبَبِ اهْتِمَامِنَا بِالْجِدَالَاتِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنَّمَا لِأَنَّ مَا كَانَ الْأَكْوِينِيُّ يُصَارِعُ مَعَهُ فِي أَيَّامِهِ، مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَثِيرُ الشَّبَهِ بِمَا نُوَاجِهُهُ فِي عَالَمِ الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ. عَلَّمَتْ نَظَرِيَّةُ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ بِبَسَاطَةٍ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِأَمْرٍ مَا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَلْسَفِيًّا وَخَاطِئًا دِينِيًّا فِي الْآنِ ذَاتِهِ. أَوْ عَلَى النَّقِيضِ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا دِينِيًّا وَخَاطِئًا فَلْسَفِيًّا. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، يُمْكِنُ لِلشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا عِلْمِيًّا وَخَاطِئًا لَاهُوتِيًّا، أَوْ صَحِيحًا لَاهُوتِيًّا وَخَاطِئًا عِلْمِيًّا.
وَإِذَا أَرَدْتُ تَرْجَمَةَ هَذِهِ الْفِكْرَةِ إِلَى لُغَتِنَا الْمُعَاصِرَةِ، سَتَكُونُ كَالتَّالِي: ثَمَّةَ أُنَاسٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ يُؤْمِنُونَ بِالتَّطَوُّرِ الْكَبِيرِ، وَبِأَنَّ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ وَالْكَوْنَ وُجِدَا نَتِيجَةَ تَصَادُمٍ غَيْرِ مُبَرَّرٍ لِلذَّرَّاتِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ جَاءَ مِنَ الطِّينِ نَتِيجَةَ مُصَادَفَةٍ كَوْنِيَّةٍ، دُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ غَايَةٌ مُحَدَّدَةٌ، وَبِأَنَّ مَصِيرَهُ الْفَنَاءُ. وَهَذَا يَجْعَلُ أَصْلَ الْبَشَرِ وَمَصِيرَهُمْ بِلَا مَعْنًى.
أَمَّا اَلْإِيمَانُ اَلْمَسِيحِيُّ - أَوْ اَلْيَهُودِيُّ أَوْ الْإِسْلَامِيُّ - فَيُعَلِّمُ بِأَنَّنَا نِتَاجُ الْعَمَلِ الْمُتَعَمَّدِ لِكَائِنٍ كُلِّيِّ الْوُجُودِ وَسَرْمَدِيٍّ وَذَاتِيِّ الْوُجُودِ؛ وَبِأَنَّ اللَّهَ، بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، تَعَمَّدَ خَلْقَ الْبَشَرِ عَلَى صُورَتِهِ لِغَرَضٍ أَبَدِيٍّ. هَذَانِ الرَّأْيَانِ عَنْ أَصْلِ الْبَشَرِ وَمَصِيرِهِمْ وَمَعْنَى وُجُودِهِمْ - لَسْتُ أَظُنُّ أَنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَجِدَ رَأْيَيْنِ أَشَدَّ تَعَارُضًا مِنْهُمَا. لَكِنْ لَوْ تَبَنَّيْنَا الْيَوْمَ نَظَرِيَّةَ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ، سَيَبْدُو الْأَمْرُ كَالتَّالِي: كَمَسِيحِيٍّ، سَأُؤْمِنُ يَوْمَ الْأَحَدِ بِالْخَلْقِ الْإِلَهِيِّ لِلْكَوْنِ وَالْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، وَبِأَنَّنِي مَخْلُوقٌ عَلَى صُورَةِ اللَّهِ، وَبِأَنَّنِي وُجِدْتُ نَتِيجَةَ عَمَلِهِ الْمُتَعَمَّدِ. ثُمَّ فِي أَيَّامِ الْإِثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَالْجُمْعَةِ، وَالسَّبْتِ، سَأُؤْمِنُ بِأَنَّنِي نِتَاجُ مُصَادَفَةٍ كَوْنِيَّةٍ جَاءَتْ مِنَ الطِّينِ، وَبِأَنَّنِي جُرْثُومَةٌ نَاضِجَةٌ، عَدِيمَةُ اَلْأَهَمِّيَّةِ تَمَامًا. وَإِيمَانِي بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ.
قَالَتْ نَظَرِيَّةُ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ الَّتِي قَدَّمَهَا الْفَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمُونَ إِنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَانِ وَاللَّاهُوتِ، وَفِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، نَرْفُضَهُ كَعُلَمَاءَ. وَبِحَسَبِ الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَنْظُرُ مِنْهَا، يَكُونُ كِلَا الْمَنْظُورَيْنِ صَحِيحًا. هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ. فَمَعَ أَنَّ الرَّأْيَيْنِ مُتَضَارِبَانِ تَمَامًا فَلْسَفِيًّا، وَلَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا، غَيْرَ أَنَّ كِلَيْهِمَا صَحِيحٌ، بِحَسَبِ الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى الْأَمْرِ، سَوَاءٌ عِلْمِيًّا أَوْ مِنْ مَنْظُورِ الْإِيمَانِ أَوْ الدِّينِ.
هَذِهِ النِّسْبِيَّةُ الْبَحْتَةُ، الَّتِي هَدَّدَتِ الْمَسِيحِيَّةَ وَالْعِلْمَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، هِيَ الَّتِي قَدَّمَ ضِدَّهَا الْقِدِّيسُ تُومَا دِفَاعَهُ عَنِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، كَيْ يَدْحَضَ نِسْبِيَّةَ نَظَرِيَّةِ الْحَقِيقَةِ الْمُزْدَوِجَةِ. وَكَيْ يُوَاجِهَ هَذِهِ اَلْمُشْكِلَةَ، مَيِّزَ بَيْنَ اَلطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ؛ أَوْ بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، بَيْنَ اَلْمَنْطِقِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ. وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَخْتَلِفُ تَمَامًا عَنِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. أَقُولُ لِطُلَّابِي فِي كُلِّيَّةِ اللَّاهُوتِ إِنَّ إِحْدَى أَهَمِّ الْمُقَارَنَاتِ الَّتِي سَيَتَعَلَّمُونَهَا كَطُلَّابِ لَاهُوتٍ هِيَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ التَّمْيِيزِ وَالْفَصْلِ. وَكَمَا ذَكَرْتُ مِرَارًا فِي بَرْنَامَجِنَا الْإِذَاعِيِّ، إِذَا مَيَّزْتُ بَيْنَ جَسَدِكَ وَنَفْسِكَ، لَا أَكُونُ قَدْ أَلْحَقْتُ بِكَ أَيَّ ضَرَرٍ. لَكِنْ إِذَا فَصَلْتُ بَيْنَ جَسَدِكَ وَنَفْسِكَ، أَكُونُ قَدْ قَتَلْتُكَ. وَلِذَا، أَرْجُو أَنْ نُدْرِكَ وُجُودَ فَرْقٍ وَاضِحٍ بَيْنَ التَّمْيِيزِ وَالْفَصْلِ.
قَالَ الْأَكْوِينِيُّ إِنَّكَ تَسْتَطِيعُ، بَلْ وَيَنْبَغِي، أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ. وَبِذَلِكَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ قَصَدَ الْآتِي: أَنَّه ثَمَّةَ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا مِنَ الطَّبِيعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا مِنَ النِّعْمَةِ. وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ ثَمَّةَ حَقَائِقُ مُعَيَّنَةٌ نَكْتَشِفُهَا بِدِرَاسَةِ هَذَا الْعَالَمِ، وَالْبَحْثِ فِي مَجَالِ الْعِلْمِ. وَأَنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ أُمُورًا عَنْ طَرِيقِ دِرَاسَةِ الْعَالَمِ مِنْ حَوْلِنَا لَنْ نَعْرِفَهَا الْبَتَّةَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ لَا يُعَلِّمُنَا شَيْئًا عَنِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ فِي جِسْمِ الْإِنْسَانِ. وَلَا يُعَلِّمُنَا شَيْئًا عَنْ عِلْمِ الْأَحْيَاءِ الْجُزَيْئِيِّ. فَهَذِهِ أُمُورٌ نَكْتَشِفُهَا بِالدِّرَاسَةِ الْمُتَمَعِّنَةِ لِلْعَالَمِ مِنْ حَوْلِنَا، أَيْ بِدِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ، الَّتِي يَنْتُجُ عَنْهَا أُمُورٌ لَا نَسْتَطِيعُ مَعْرِفَتَهَا مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، ثَمَّةَ أُمُورٌ نَعْرِفُهَا مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لَنْ نَعْرِفَهَا الْبَتَّةَ فِي الْمُخْتَبَرِ. يُمْكِنُكَ أَنْ تَدْرُسَ الطَّبِيعَةَ قَدْرَ مَا تَشَاءُ، وَلَنْ تَتَوَصَّلَ الْبَتَّةَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَسِيلَةِ اللَّهِ لِلْخَلَاصِ. فَإِنَّنَا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إِعْلَانِهِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَهَذَا مُحْتَوًى مِنَ الْمَعْرِفَةِ مُتَوَفِّرٌ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَغَيْرُ مُتَوَفِّرٍ فِي الْمُخْتَبَرِ الْعِلْمِيِّ. أَرَأَيْتُمْ إِذَنْ كَيْفَ مَيَّزَ هُنَا بَيْنَ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِدِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ وَحْدَهَا، وَمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِدِرَاسَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ؟
لَكِنَّ الْفِئَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الَّتِي أُثِيرَ حَوْلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْجَدَلِ. قَالَ الْأَكْوِينِيُّ إِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِدِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتِلْكَ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، ثَمَّةَ فِئَةٌ ثَالِثَةٌ دَعَاهَا "أَرْتِيكُولُوسْ مِيكْسْتُوسْ"(articulus mixtus)، وَمَعْنَاهَا "الْمُحْتَوَى الْمُخْتَلِطُ". يُقْصَدُ بِالْمُحْتَوَى الْمُخْتَلِطِ تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا أَوْ تَعَلُّمُهَا سَوَاءٌ مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ أَوْ مِنْ دِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ. وَأَبْرَزُ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا سَوَاءٌ بِدِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ أَوْ بِدِرَاسَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ هِيَ وُجُودُ اللَّهِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، قَالَ الْأَكْوِينِيُّ إِنَّكَ لَسْتَ مُضْطَرًّا أَنْ تَقْرَأَ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ لِتَعْرِفَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ. وَلِمَاذا قَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِكُمْ؟ لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَيِّدًا لِلَاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ. وَقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ نَفْسَهُ يُعَلِّمُنَا عَنْ وُجُودِ وَسِيلَةٍ أُخْرَى نَعْرِفُ بِهَا أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ، وَهِيَ دِرَاسَةُ الطَّبِيعَةِ. وَبِالْمِثْلِ، يُمْكِنُ قَطْعًا مَعْرِفَةُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ مِنْ خِلَالِ فَتْحِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
مَاذَا يَحْدُثُ حِينَ نَفْتَحُ أُولَى صَفَحَاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ؟ تَقُولُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ". يُضَخِّمُ بَعْضُ الدِّفَاعِيِّينَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ قَائِلِينَ: "انْظُرْ إِلَى ذَلِكَ! مُنْذُ أُولَى صَفَحَاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، اللَّهُ مُعْلَنٌ، وَظَاهِرٌ، وَوُجُودُهُ مُسَلَّمٌ بِهِ. فَلَمْ يُحَاوِلْ كَاتِبُ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ، قَبْلَ الْحَدِيثِ عَنْ عَمَلِ اللَّهِ. بَلْ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ مُسَلَّمًا بِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي اَلْبِدَايَةِ هُوَ: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللَّهُ". وَيَعْتَقِدُ الْبَعْضُ أَنَّ هَذِهِ ضَرْبَةٌ قَاضِيَةٌ لِعِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ، قَائِلِينَ إِنَّنَا يَجِبُ أَلَّا نُحَاوِلَ حَتَّى أَنْ نُثْبِتَ وُجُودَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ لَمْ يُحَاوِلْ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ، لَكِنَّهُ يُسَلِّمُ بِوُجُودِ اللَّهِ. وَرَدِّي عَلَى ذَلِكَ، وَرَدُّ الْقِدِّيسِ تُومَا أَيْضًا، هُوَ أَنَّ مُحَاوَلَةَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ تُشْبِهُ مُحَاوَلَةَ بَيْعِ الْمَاءِ فِي حَارَةِ السَّقَايِينِ. فَهَذَا غَيْرُ ضَرُورِيٍّ تَمَامًا، لِأَنَّهُ قَبْلَ كِتَابَةِ أَيَّةِ كَلِمَةٍ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَمُنْذُ يَوْمِ الْخَلْقِ، أَثْبَتَ إِلَهُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وُجُودَهُ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ مِنْ خِلَالِ الطَّبِيعَةِ. وَلِذَا، فَحِينَ يَقْرَأُ أَحَدُهُمْ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، يَتَعَلَّمُ عَنِ اللَّهِ قَدْرًا أَكْبَرَ مِمَّا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ بِدِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ، أَوْ يَقْرَأُ النَّاسُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ بَعْدَ تَلَقِّيهِمْ بِالْفِعْلِ الْإِعْلَانَ الْعَامَّ عَنِ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا إِيَّاهُ فِي الطَّبِيعَةِ. إِذَنْ، لَا يَحْتَاجُ اللَّهُ أَنْ يُثْبِتَ وُجُودَهُ مَرَّتَيْنِ، إِنْ جَازَ التَّعْبِيرُ. فَقَدْ أَعْلَنَ عَنْ ذَاتِهِ بِالْفِعْلِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْقِرَاءَةِ، مِنْ خِلَالِ قِرَاءَةِ الطَّبِيعَةِ. إِذَنْ، قَالَ أُوغُسْطِينُوسُ إِنَّ وُجُودَ اللَّهِ مُثْبَتٌ مِنْ خِلَالِ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءَ. وَهَاتَانِ الدَّائِرَتَانِ مِنَ الْبَحْثِ - أَيِ الدِّينُ وَالْعِلْمُ - لَيْسَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ أَوْ مُتَعَارِضَتَيْنِ، لَكِنَّهُمَا فِعْلِيًّا مُتَّفِقَتَانِ مَعًا. وَاحْتِذَاءً بِأُوغُسْطِينُوسَ، عَلَّمَ اَلْأَكْوِينِيُّ مَا يَلِي: أَنَّ كُلَّ حَقٍّ هُوَ حَقُّ اَللَّهِ، وَكُلَّ اَلْحَقَائِقِ تَلْتَقِي مَعًا عِنْدَ الْقِمَّةِ. وَإِذَا كَانَ أَمْرٌ مَا صَحِيحًا عِلْمِيًّا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لَاهُوتِيًّا أَيْضًا. وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا لَاهُوتِيًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا عِلْمِيًّا أَيْضًا.
هَلْ رَأَيْنَا قَبْلًا أَيَّ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ وَالْكَنِيسَةِ؟ أَجَلْ رَأَيْنَا ذَلِكَ دُونَ شَكٍّ، مَثَلًا فِي حَادِثَةِ جَالِيلْيُو، وَمُحَاكَمَةِ الْقِرْدِ فِي تِينِيسِي. كَمَا نُلَاحِظُ هَذَا النِّزَاعَ اَلْمُسْتَمِرَّ بَيْنَ مَا يُسَمَّى بِالْبَحْثِ اَلْعِلْمِيِّ، وَمَا يُسَمَّى بِالْبَحْثِ اللَّاهُوتِيِّ. وَإِذَا كَانَ اَللَّهُ يُعْلِنُ عَنْ ذَاتِهِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ الْأَسَاسِيُّ لِعَالِمِ اللَّاهُوتِ هُوَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ، وَالْمَرْجِعُ الْأَسَاسِيُّ لِعَالَمِ الْفِيزْيَاءِ أَوِ الْفَلَكِ أَوِ الْأَحْيَاءِ هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُعْلِنُ عَنْ ذَاتِهِ مِنْ خِلَالِ هَذَيْنِ الْمَجَالَيْنِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ إِلَهُ الْحَقِّ، فَفِي الظُّرُوفِ الْمِثَالِيَّةِ، لَنْ يَنْشَأَ أَيُّ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَوْ بَيْنَ الْمَنْطِقِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَمَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَّبِيعَةِ، أَوْ بَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ. تِلْكَ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي طَرَحَهَا تُومَا الْأَكْوِينِيُّ. لَكِنَّهُ أَدْرَكَ أَيْضًا أَنَّنَا لَا نَعِيشُ فِي عَالَمٍ مِثَالِيٍّ. فَثَمَّةَ لَاهُوتِيُّونَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، وَيُسِيئُونَ فَهْمَ مَا يَقُولُهُ. فِي الْقَرْنِ السَادِسَ عَشَرَ، كَانَ الْجَمِيعُ تَقْرِيبًا يُؤْمِنُونَ بِمَرْكَزِيَّةِ الْأَرْضِ، أَيْ بِأَنَّ الْأَرْضَ هِيَ مَرْكَزُ الْمَجْمُوعَةِ الشَّمْسِيَّةِ. لَمْ يَكُنْ الْبَابَا وَأَسَاقِفَتُهُ فِي رُومَا وَحْدَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، بَلْ كَانَ هَذَا أَيْضًا هُوَ إِيمَانُ مَارْتِنْ لُوثَرْ وَجُونْ كَالْفَنْ، اللَّذَيْنِ اعْتَبَرَا كُوبَرْنِيكُوسْ عَمِيلًا لِلشَّيْطَانِ، يُقَوِّضُ مِنْ مِصْدَاقِيَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، لِأَنَّ كُوبَرْنِيكُوسْ لَمْ يَكْتَفِ بِإِثْبَاتِ خَطَأِ النِّظَامِ الْفَلَكِيِّ الْبَطْلَمِيِّ، بَلْ أَثْبَتَ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ أَيْضًا أَنَّ فَهْمَ الْكَنِيسَةِ لِعِلْمِ الْفَلَكِ فِي هَذَا الشَّأْنِ خَاطِئٌ. وَهَذَا مِثَالٌ حَيٌّ عَلَى تَقْوِيمِ الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ لِلْكَنِيسَةِ. غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقَوِّمِ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، بَلْ قَوَّمَ سُوءَ فَهْمِ الْكَنِيسَةِ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَاهُوتِيِّينَ أَنْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي دِرَاسَتِهِمْ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ كُلَّمَا نَشَأَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ وَالْمُجْتَمَعِ اَلْكَنَسِيِّ، يَكُونُ اللَّاهُوتِيُّونَ هُمُ الْمُخْطِئُونَ. فَإِذَا تَحَدَّثَ الْعَالِمُ عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ، فَكَلَامُهُ لَنْ يَكُونَ فَقَطْ لَاهُوتًا رَدِيئًا، بَلْ أَيْضًا عِلْمًا رَدِيئًا، لِأَنَّهُ يَنْطِقُ بِهُرَاءٍ. وَعِنْدَئِذٍ، نَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ الْفَيْلَسُوفُ وَاللَّاهُوتِيُّ: "كَلَّا، كَلَّا، كَلَّا، كَلَّا، إِيَّاكَ وَالتَّرْوِيجَ لِتِلْكَ الْأُمُورِ هُنَا". وَبِالتَّالِي، عَلَى الْكَنِيسَةِ أَنْ تَقَوِّمَ الْعُلَمَاءَ مِنْ آنٍ لِآخَرَ، مَعَ أَنَّ ثَائِرَتَهُمْ تَثُورُ إِذَا اقْتَرَحْنَا يَوْمًا وُجُوبَ حُدُوثِ ذَلِكَ. لَكِنْ مُجَدَّدًا، لَمْ يَقُلْ الْأَكْوِينِيُّ إِنَّهُ تُوجَدُ دَائِرَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ. غَيْرَ أَنَّ الْمُجْتَمَعَ الْيَوْمَ يَقُولُ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِالدِّينِ، فَلَا بَأْسَ، اذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ، وَادْخُلْ غُرْفَتَكَ، وَارْفَعْ صَلَوَاتِكَ، وَأَنْشِدْ تَرَانِيمَكَ. وَإِذَا تَسَبَّبَ لَكَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِاكْتِفَاءِ الْعَاطِفِيِّ، فَلَا بَأْسَ. لَكِنْ لَا تُسَمِّ ذَلِكَ عِلْمًا، وَلَا تُسَمِّهِ مَعْرِفَةً، وَلَا تُسَمِّهِ حَقًّا. لَكَ مُطْلَقُ الْحُرِّيَّةِ أَنْ تَخُوضَ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ الشَّخْصِيَّةَ الَّتِي تُسَمِّيهَا بِالدِّينِ، لَكِنَّ الْأَذْكِيَاءَ لَا يُذْعِنُونَ لِتِلْكَ الْأُمُورِ. أَرَأَيْتُمْ؟ هَذَا مَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ قَائِلًا: "مَهْلًا! إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَقْلَانِيًّا، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عِلْمِيًّا، وَإِذَا أَرَدْتَ حَقًّا أَنْ تَكُونَ ذَكِيًّا، فَإِنَّكَ سَتَنْسَاقُ عَنْ قَنَاعَةٍ إِلَى اسْتِنْتَاجِ وُجُودِ اللَّهِ، وَفَقَطِ الْجَاهِلُ هُوَ مَنْ يَقُولُ فِي قَلْبِهِ لَيْسَ إلَهٌ. إِذَنْ، قَالَ الْأَكْوِينِيُّ إنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، وَالْعِلْمَ أَيْضًا، يُعْلِنَانِ الْحَقَّ ذَاتَهُ، وَيُؤَيِّدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِأَنَّ إعْلَانَ اللَّهِ فِي الطَّبِيعَةِ هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَمَامًا بِقَدْرِ إِعْلَانِ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَهُمَا مُتَّحِدَانِ، مُخْتَلِفَانِ لَكِنْ مُتَّحِدَانِ. وَلِهَذَا أَقُولُ عَنْ صَدِيقِي الْعَزِيزِ د. شِيفَرْ إِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْأَكْوِينِيَّ فَصَلَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. يَفْصِلُ الْمُجْتَمَعُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. لَكِنْ رَجَاءً، لَا تُلْقُوا بِاللَّوْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى تُومَا الْأَكْوِينِيِّ، لِأَنَّ هَذَا تَحْدِيدًا هُوَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ. لَكِنَّهُ كَانَ يُحَاوِلُ إِظْهَارَ التَّوَافُقِ بَيْنَ الْمَنْطِقِ وَالْإِيمَانِ، وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَبَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ، مُؤَكِّدًا مُجَدَّدًا أَنَّ كُلَّ حَقٍّ هُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَكُلَّ الْحَقَائِقِ تَلْتَقِي مَعًا عِنْدَ الْقِمَّةِ. وَلِهَذَا وَضَعَ أُوغُسْطِينُوسُ، مِنْ قَبْلِ الْأَكْوِينِيِّ، هَذَا التَّحَدِّي أَمَامَ تَلَامِيذِهِ، مُوصِيًا إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا أَكْبَرَ قَدْرٍ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ عَنْ أَكْبَرِ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ دِرَاسَتُهَا، لِأَنَّهُمْ أَيْنَمَا وَجَدُوا الْحَقَّ، سَيَكْتَشِفُونَ حَقَّ اللَّهِ.