المحاضرة 12: اللاهوتُ الطَّبِيعِيُّ (الجُزْءُ الأَوَّلُ)

اللاهوت الطبيعي هو فكرة مهمة للغاية وتعتبر أساسية للدفاع التاريخي عن المسيحية. يقول د. سبرول في هذه المحاضرة أنه في القرن العشرين تعرض هذا الجانب من اللاهوت لهجوم شديد وأن العديد من اللاهوتيين والمدافعين عن الإيمان في عصرنا يرفضون فكرة اللاهوت الطبيعي برمتها. في محاضرة "اللاهوت الطبيعي"، يُعرِّف د. سبرول مصطلح اللاهوت الطبيعي ثم ينظر إلى بعض المبادئ التاريخية التي تطورت فيما يتعلق بهذا المبدأ.

بَيْنَمَا نُتَابِعُ الْآنَ دِرَاسَتَنَا لِعِلْمِ الدِّفَاعِ عَنِ الْإِيمَانِ، تَذَكَّرُوا أَنَّنَا تَنَاوَلْنَا فِي الْمُحَاضَرَاتِ الْقَلِيلَةِ الْمَاضِيَةِ بَعْضَ الْمَبَادِئِ الْإِبِيسْتِيمُولُوجِيَّةِ، أَوْ مَبَادِئِ الْمَعْرِفَةِ، اللَّازِمَةِ لِفَهْمِ كَيْفِيَّةِ الدِّفَاعِ عَنِ الْإِيمَانِ. فَتَنَاوَلْنَا قَانُونَ عَدَمِ التَّنَاقُضِ، وَقَانُونَ السَّبَبِيَّةِ، وَالْمَوْثُوقِيَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِلْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، وَالِاسْتِخْدَامَ التَّشَابُهِيَّ لِلُّغَةِ. وَمِنْ هُنَاكَ، انْتَقَلْنَا إِلَى الْمَفَاهِيمِ الَّتِي يَتِمُّ الْخَلْطُ بَيْنَهَا عَادَةً فِي يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا سِيَّمَا فِكْرَةُ التَّنَاقُضِ، وَفِكْرَةُ الْمُفَارَقَةِ، وَفِكْرَةُ اللُّغْزِ.

ثُمَّ بَعْدَمَا بَلَغْنَا نِهَايَةَ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ السِّلْسِلَةِ، أَوَدُّ أَنَّ أُوَجِّهَ انْتِبَاهَكُمْ الْيَوْمَ فِي اتِّجَاهٍ مُخْتَلِفٍ قَلِيلًا. وَسَنَتَطَرَّقُ إِلَى فِكْرَةٍ مُهِمَّةٍ جِدًّا وَحَيَوِيَّةٍ فِي الدِّفَاعِ التَّارِيخِيِّ عَنِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَتُدْعَى بِمَبْدَأِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ - اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ. أَقُولُ إِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ حَيَوِيَّةٌ لِأَنَّهُ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، تَعَرَّضَتْ فِكْرَةُ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، الَّتِي تَطَوَّرَتْ بِعِنَايَةٍ عَبْرَ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، لِهُجُومٍ عَنِيفٍ. فَالْكَثِيرُ مِنَ اللَّاهُوتِيِّينَ وَالدِّفَاعِيِّينَ فِي يَوْمِنَا هَذَا يَرْفُضُونَ فِكْرَةَ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ بِرُمَّتِهَا.

حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، فَإِنَّ الِاسْمَ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ عَادَةً مِنْ بَيْنِ اللَّاهُوتِيِّينَ هُوَ الْقِدِّيسُ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ. وَالْبَعْضُ يُسِيئُونَ الْفَهْمَ بِظَنِّهِمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ هُوَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْقِدِّيسِ تُومَا. لَكِنْ فِعْلِيًّا، عِنْدَمَا قَدَّمَ الْقِدِّيسُ تُومَا الْأَكْوِينِيُّ اللَّاهُوتَ الطَّبِيعِيَّ الْخَاصَّ بِهِ، كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ إِلَى الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسَ السَّابِقِ لَهُ. وَبِالطَّبْعِ، عِنْدَمَا قَدَّمَ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ مَفْهُومَهُ عَنِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، كَانَ مَدِينًا لِتَعْلِيمِ الرَّسُولِ بُولُسَ نَفْسِهِ.

إِذَنْ، فِي تَنَاوُلِنَا لِهَذَا الْمَوْضُوعِ، دَعُونِي أَبْدَأُ بِتَقْدِيمِ تَعْرِيفٍ بَسِيطٍ لِمُصْطَلَحِ "اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ"، ثُمَّ نَتَنَاوَلُ مَعًا بَعْضَ الْمَبَادِئِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي صَاحَبَتْهُ. يُشِيرُ مَفْهُومُ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ بِبَسَاطَةٍ إِلَى مَعْرِفَةٍ لِلَّهِ - تَذَكَّرُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّاهُوتِ مَعْنَاهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ - مُسْتَمَدَّةٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ. فَإِلَى جَانِبِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ الَّتِي نَسْتَمِدُّهَا مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَبِانْفِصَالٍ عَنْهَا، يُوجَدُ مَصْدَرٌ آخَرُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الطَّبِيعَةُ نَفْسُهَا. قَبْلَ أَنْ أُتَابِعَ حَدِيثِي، يَجِبُ أَنْ أَقُولَ بِدَايَةً إِنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ وُجْهَاتُ نَظَرٍ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، وَأَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ. وَهَذَا يُفَسِّرُ جُزْئِيًّا الْجَدَلَ الْمُصَاحِبَ لِلْمُصْطَلَحِ.

لَكِنْ تَارِيخِيًّا، وَبِحَسْبِ التَّقْلِيدِ الْمَسِيحِيِّ، يُعْتَبَرُ اللَّاهُوتُ الطَّبِيعِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، نُسَمِّيهِ "الْإِعْلَانَ الْعَامَّ". وَفِي الْوَاقِعِ، يَخْلِطُ النَّاسُ أَحْيَانًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ. يُشِيرُ الْإِعْلَانُ الْعَامُّ إِلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ اللَّهُ، بَيْنَمَا يُشِيرُ اللَّاهُوتُ الطَّبِيعِيُّ إِلَى فِعْلٍ نَفْعَلُهُ نَحْنُ. فَاللَّاهُوتُ الطَّبِيعِيُّ هُوَ نِتَاجُ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ.

دَعُونِي أُكَرِّسُ الْآنَ بِضْعَ لَحَظَاتٍ لِتَقْدِيمِ تَعْرِيفَاتٍ. حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنِ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ، فَإِنَّ كَلِمَةَ "عَامٍّ" هِيَ نَقِيضُ كَلِمَةِ "خَاصٍّ". وَلِهَذَا نُشِيرُ فِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ إِلَى الْإِعْلَانِ الْعَامِّ وَالْإِعْلَانِ الْخَاصِّ. مُجَدَّدًا، إِذَا أَرَدْتُ التَّعَمُّقَ أَكْثَرَ، سَأَقُولُ إِنَّ الْإِعْلَانَ الْعَامَّ يُدْعَى كَذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ. السَّبَبُ الْأَوَّلُ وَرَاءَ تَسْمِيَتِهِ بِالْإِعْلَانِ الْعَامِّ هُوَ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى إِعْلَانٍ مِنَ اللَّهِ مُقَدِّمٍ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، بِمَعْنَى أَنَّ مُسْتَقْبِلِي الْإِعْلَانِ الْعَامِّ هُمُ الْجَمِيعُ. فَكُلُّ إِنْسَانٍ فِي الْعَالَمِ يَتَلَقَّى الْإِعْلَانَ الْعَامَّ. لَمْ يَنَلْ كُلُّ شَخْصٍ فِي الْعَالَمِ امْتِيَازَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْإِعْلَانِ الْخَاصِّ الْمَوْجُودِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. نَعْلَمُ أَنَّ ثَمَّةَ قَبَائِلَ وَشُعُوبًا فِي هَذَا الْعَالَمِ لَمْ يَحْظَوْا بِتَرْجَمَةٍ لِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ إِلَى لُغَتِهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا أَيَّةَ كَلِمَةٍ مِنْ مُحْتَوَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ أَدَاةَ الْإِعْلَانِ الَّذِي نُسَمِّيهِ "الْخَاصَّ" - أَيْ كَلِمَةَ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ - لَيْسَتْ مُتَاحَةً بَعْدُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ. أَمَّا الْإِعْلَانُ الْعَامُّ، فَيَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. السَّبَبُ الثَّانِي وَرَاءَ تَسْمِيَةِ الْإِعْلَانِ اَلْعَامِّ بِهَذَا الِاسْمِ هُوَ مُحْتَوَاهُ. يَكْشِفُ الْإِعْلَانُ الْعَامُّ مَعْرِفَةً عَامَّةً عَنِ اللَّهِ. فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْتَسِبُ فِي الْإِعْلَانِ الْعَامِّ فَهْمًا وَاضِحًا لِلثَّالُوثِ، أَوْ لِخُطَّةِ اللَّهِ لِلْفِدَاءِ، بَلْ فَقَطْ بَعْضَ الْمَعْلُومَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ عَنْ طَبِيعَةِ اللَّهِ وَوُجُودِهِ هِيَ الَّتِي تُعْلَنُ فِي الْإِعْلَانِ الْعَامِّ.

بِمَا أَنَّنَا نُحِبُّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأُمُورِ، سَأُقَدِّمُ لَكُمْ تَمْيِيزًا آخَرَ. مُجَدَّدًا، حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنِ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ، نُشِيرُ إِلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنَ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ. يُسَمَّى هَذَانِ النَّوْعَانِ بِالْإِعْلَانِ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ وَالْإِعْلَانِ الْمُبَاشِرِ. إِذَنْ، نَسْتَطِيعُ التَّحَدُّثَ عَنْ إِعْلَانٍ عَامٍّ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، أَوْ إِعْلَانٍ عَامٍّ مُبَاشِرٍ. وَإِلَيْكُمْ الْفَرْقَ. الْإِعْلَانُ الْعَامُّ غَيْرُ الْمُبَاشِرِ هُوَ الْإِعْلَانُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ اللَّهُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ خِلَالِ وَسِيطٍ. فَهُوَ لَيْسَ مُبَاشِرًا، بَلْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ. سَأُعْطِيكُمْ مِثَالًا لِذَلِكَ. حِينَ قَالَ الْمَزْمُورُ إِنَّ "السَّمَاوَاتِ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللَّهِ، وَالْفَلَكَ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ"، كَانَ يَقْصِدُ أَنَّهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الطَّبِيعَةِ، وَعِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْأَرْضِ، وَعِنْدَ النَّظَرِ إلَى النُّجُومِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاوَاتِ - أَيْ حِينَ نَرَى تِلْكَ الْأَشْيَاءَ - نُدْرِكُ أَنَّ النُّجُومَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ وَغَيْرَ ذَلِكَ لَيْسَتْ هِيَ اللَّهَ، لَكِنَّهَا تُعْلِنُ قَدْرًا مِنْ مَجْدِ خَالِقِهَا، تَمَامًا مِثْلَمَا يَتْرُكُ رَسَّامٌ عَظِيمٌ بَصْمَتَهُ عَلَى اللَّوْحَاتِ الَّتِي يَرْسُمُهَا. إِذَنْ، الْكَوْنُ نَفْسُهُ هُوَ وَسِيطٌ يُعْلِنُ شَيْئًا مَا عَنْ طَبِيعَةِ اللَّهِ. وَلِهَذَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ الْعَامِّ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ - أَيِ الْإِعْلَانِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ اللَّهُ عَنْ ذَاتِهِ فِي الطَّبِيعَةِ وَمِنْ خِلَالِهَا.

أَمَّا الْإِعْلَانُ الْمُبَاشِرُ - immediate revelation - فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَرِيعٌ أَوْ فُجَائِيٌّ، لَكِنَّهُ يَحْدُثُ دُونَ تَدَخُّلِ وَسِيطٍ. مَثَلًا، يُخْبِرُنَا الْأَصْحَاحُ الثَّانِي مِنْ رِسَالَةِ رُومِيَةَ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ نَامُوسَهُ عَلَى قُلُوبِنَا، وَبِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُولَدُ وَلَدَيْهِ ضَمِيرٌ. يَغْرِسُ اللَّهُ وَعْيًا دَاخِلِيًّا بِهِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ فِي نَفْسِ كُلِّ مَخْلُوقٍ، بِحَيْثُ فَقَطْ بِحُكْمِ كَوْنِنَا بَشَرًا، يَكُونُ لَدَيْنَا وَعْيٌ دَاخِلِيٌّ بِحَقِيقَةِ وُجُودِ اللَّهِ، يَغْرِسُهُ اللَّهُ فِي ضَمِيرِ أَوْ ذِهْنِ كُلِّ مَخْلُوقٍ. فَهُوَ لَيْسَ اسْتِنْتَاجًا نَسْتَخْلِصُهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ، لَكِنَّهُ مَغْرُوسٌ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ دَاخِلَ النَّفْسِ. وَهَذَا مَا دَعَاهُ جُونْ كَالْفَنْ "سِينْسُوسْ دِيفِينِيتَاتِيسْ" (sensus divinitatis)، أَوِ الْوَعْيَ بِاللَّهِ الْمَوْجُودِ دَاخِلَ كُلٍّ مِنَّا. هَذَا مِثَالٌ لِلْإِعْلَانِ الْعَامِّ الْمُبَاشِرِ. نَرَى بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُعْلِنُ عَنْ ذَاتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ بِطَرِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، بِوَاسِطَةِ الطَّبِيعَةِ، وَبِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَبْرَ بَصْمَةِ الْوَعْيِ بِوُجُودِهِ دَاخِلَ النَّفْسِ.

حِينَ يَدُورُ نِقَاشٌ حَوْلَ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ، وَلَا سِيَّمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، يُطْرَحُ السُّؤَالُ التَّالِي: "مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ عَنْ ذَلِكَ؟" وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى قَنَاعَةٍ، مَثَلًا، بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ صَادِقٌ. وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ يَقُولُ إِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، يُوجَدُ مَصْدَرٌ آخَرُ لِلْإِعْلَانِ، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَيَقْبَلُونَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنَ الْإِعْلَانِ. وَبِالطَّبْعِ، النَصُّ الشَهِيرُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الَذِي يُقَدِّمُ عَقِيدَةَ الإِعْلانِ الْعَامِّ، وَفِكْرَةَ اللاهُوتِ الطَبِيعِيِّ، هُوَ الأَصْحَاحُ الأَوَّلُ مِنْ رِسَالَةِ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ.

فِي الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ، وَالآيَةِ الثَامِنَةَ عَشْرَةَ، كَتَبَ الرَسُولُ مَا يَلِي: "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ". دَعُونِي أَتَوَقَّفُ هُنَا سَرِيعًا. فَهَذَا مُذْهِلٌ وَصَادِمٌ نَوْعًا مَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَطْ بِبِضْعِ آيَاتٍ، قَدَّمَ بُولُسُ الْإِعْلَانَ الْمَجِيدَ عَنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ. وَكَانَ الْغَرَضُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ هُوَ أَنْ يُعْلِنَ لِقُرَّائِهِ مُحْتَوَى الْإِنْجِيلِ، الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ السَّارُّ. إِذَنْ، كُنَّا لِنَتَوَقَّعَ بَعْدَ حَدِيثِهِ عَنِ الْإِنْجِيلِ أَنْ يَنْتَقِلَ فِي الْحَالِ إلَى شَرْحِ هَذَا الْإِنْجِيلِ. لَكِنْ فِي الْمُقَابِلِ، رَجَعَ بُولُسُ إِلَى الْوَرَاءِ، وَتَحَدَّثَ عَنْ إِعْلَانٍ مُخْتَلِفٍ، وَعَنْ غَضَبِ اللَّهِ الْمُعْلَنِ.

وَأَعْتَقِدُ أَنَّ سَبَبَ قِيَامِهِ بِذَلِكَ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ حَاوَلَ أَنْ يُبَيِّنَ لِقُرَّائِهِ لِمَاذَا كَانَ الْإِنْجِيلُ ضَرُورِيًّا مِنَ الْأَسَاسِ، وَلِمَاذَا كَانَ مَجِيءُ الْمَسِيحِ ضَرُورِيًّا لِخَلَاصِنَا. وَلِهَذَا رَجَعَ إِلَى الْوَرَاءِ لِيُبَيِّنَ لِمَاذَا وَقَفَ جَمِيعُ الْبَشَرِ فِي الْعَالَمِ أَمَامَ مِنَصَّةِ قَضَاءِ اللَّهِ، فَوُجِدُوا مُذْنِبِينَ. وَمَا اسْتَنْتَجَهُ بُولُسُ فِي الأَصْحَاحِ الثَالِثِ هُوَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، وَالْجَمِيعَ بِحَاجَةٍ إِلَى الإِنْجِيلِ، لَيْسَ لأَنَّهُمْ رَفَضُوا يَسُوعَ الَذِي لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ قَطُّ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ مَا يَفْعَلُونَهُ بِالْمَعْرِفَةِ الَتِي لَدَيْهِمْ بِالْفِعْلِ عَنِ اللهِ.

لِنَنْظُرْ إِذَنْ إِلَى ذَلِكَ. قَالَ بُولُسُ: "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ". سَأَقُولُ سَرِيعًا وَبِشَكْلٍ عَابِرٍ إِنَّهُ بِحَسَبِ التَرْكِيبِ اللُّغَوِيِّ لِهَذَا النَصِّ، يُشِيرُ اللَفْظَانِ "فُجُورٌ" وَ"إِثْمٌ" إِلَى الْمَعْنَى ذَاتِهِ. فَثَمَّةَ خَطِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَقْصُودَةٌ هُنَا، يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فُجُورًا وَإِثْمًا عَلَى حَدٍّ سَوَاءَ. تَابَعَ بُولُسُ مُوَضِّحًا مَاهِيَّةَ هَذِهِ الْخَطِيَّةِ: "الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ". مُجَدَّدًا، دَعُونِي أَتَوَقَّفُ هُنَا وَأَقُولُ إِنَّ الْخَطِيَّةَ الْعَامَّةَ الرَئِيسِيَّةَ لِلْبَشَرِيَّةِ السَاقِطَةِ هِيَ حَجْزُ الْحَقِّ، لَيْسَ فَقَطْ الْحَقَّ بِوَجْهٍ عَامٍّ، بَلْ ثَمَّةَ حَقٌّ مُحَدَّدٌ تَعَرَّضَ لِلْحَجْزِ. لِنَرَ مَا هُوَ: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ". أَتُلاحِظُونَ مَا يَقُولُهُ بُولُسُ هُنَا؟ يَقُولُ بُولُسُ إِنَّ اللهَ يُعْلِنُ غَضَبَهُ عَلَى الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، لأَنَّ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ مُذْنِبٌ بِجَرِيمَةِ حَجْزِ الْحَقِّ عَنِ اللهِ، الَذِي قَالَ فِي الْبِدَايَةِ إِنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ. إِذَنْ، حَتَّى الآنَ، تَحَدَّثَ بُولُسُ عَنْ حَجْزٍ لِمَعْرِفَةٍ مُمْكِنَةٍ بِاللهِ. وَلِمَاذَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّ اللهَ، كَمَا قالَ بُولُسُ، أَظْهَرَهَا لَهُمْ. ثُمَّ يَزْدَادُ الأَمْرُ سُوءًا. فَقَدْ تَابَعَ قَائِلاً: "لِأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ ٱلْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةَ وَلَاهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلَا عُذْرٍ".

فَمُنْذُ الْخَلْقِ، أَعْلَنَ اللَّهُ بِوُضُوحٍ (كَلِمَةُ "تُرَى" هُنَا جَاءَتْ مِنْ كَلِمَةِ "فَانِيرُوسْ" (phaneros)، وَمَعْنَاهَا "وَاضِحٌ" وَ"ظَاهِرٌ" وَ"جَلِيٌّ"). فَلَا يُخْفِي اللَّهُ بَعْضَ مَفَاتِيحِ حَلِّ اللُّغْزِ وَرَاءَ الشُّجَيْرَاتِ، وَفَقَطِ الْبَاحِثُ الْيَقِظُ وَالْفَطِنُ هُوَ مَنْ رُبَّمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْصُدَهَا إِنْ كَانَ مَاهِرًا كِفَايَةً، مُسْتَنْتِجًا أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ. كَلَّا، فَالْإِعْلَانُ الَذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ وَاضِحٌ وَجَلِيٌّ لِدَرَجَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ يَرَوْنَهُ. وَهُوَ مُدْرَكٌ بِوُضُوحٍ بِالْمَصْنُوعَاتِ فِي الْخَلِيقَةِ وَمِنْ خِلَالِهَا. فَإِنَّنَا نَرَاهُ جَمِيعًا، وَهَذَا يَجْعَلُنَا بِلَا عُذْرٍ. مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الرَّسُولُ هُنَا، وَاَلَّذِي أَدْرَكَ أَنَّ الْبَشَرَ سَيُحَاوِلُونَ التَّذَرُّعَ بِهِ فِي يَوْمِ الدَّينُونَةِ حِينَ يَمْثُلُونَ أَمَامَ اللَّهِ، هُوَ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ: "يَا رَبُّ، فَقَطْ لَوْ كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّكَ مَوْجُودٌ، كُنْتُ لِأَحْيَا حَيَاةً مُخْتَلِفَةً، وَأُصْبِحَ تِلْمِيذًا مُخْلِصًا لَكَ، وَأُطِيعَكَ وَأَعْبُدَكَ وَأَخَافَكَ". بَلْ يَقُولُ اللَّهُ: "كَلَّا، كَلَّا، كَلَّا، كَلَّا. هَذَا الْعُذْرُ لَنْ يُجْدِيَ أَيَّ نَفْعٍ، لأَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ بِالْفِعْلِ أَنَّنِي مَوْجُودٌ، وَعَلِمْتُمْ قُدْرَتِي السَرْمَدِيَّةَ، وَلاهُوتِي، لأَنَّنِي أَظْهَرْتُها لَكُمْ، وَبِوُضُوحٍ. فَإِنَّكُمْ لَمْ تَتْبَعُونِي لَيْسَ بِسَبَبِ جَهْلِكُمْ، أَوْ عَدَمِ مَعْرِفَتِكُمْ بِي، بَلْ بِسَبَبِ بُغْضَتِكُمْ لِي، وَرَفْضِكُمْ الانْتِبَاهَ إِلَيَّ". هَذَا هُوَ الاتِّهامُ الَذِي يُوَجِّهُهُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ. ثُمَّ تَابَعَ يَقُولُ: "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ".

سَأَمْحُو مَا دَوَّنْتُهُ عَلَى السُّبُورَةِ، وَأَرْسُمُ لَكُمْ صُورَةً أُخْرَى، إِذَا اسْتَطَعْتُ. لَدَيْنَا أَوَّلًا مَا يُعْرَفُ بِإِعْلَانِ اللَّهِ. سَأَرْسُمُ خُطُوطًا تَنْبَعِثُ مِنَ الشَّمْسِ كَرَمْزٍ لِلنُّورِ الَّذِي يَسْطَعُ مِنْهَا. وَهَذَا النُّورُ سَيُمَثِّلُ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ. فَهُوَ يُعْلِنُ. وَهَا نَحْنُ ذَا فِي هَذِهِ الدَّائِرَةِ، تَحْتَ هَذِهِ الْأَشِعَّةِ، وَسَنُسَمِّي ذَلِكَ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ. يَنْظُرُ الْبَعْضُ إِلَى الْأَمْرِ هَكَذَا، قَائِلِينَ: "هَذِهِ هِيَ خَطِيَّةُ الْبَشَرِ: أَنَّ اللَّهَ يُعْلِنُ عَنْ ذَاتِهِ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ وَظَاهِرٍ، لَكِنْ ثَمَّةَ حَاجِزٌ بَيْنَ اللَّهِ وَالْإِنْسَانِ، وَهَذَا الْحَاجِزُ هُوَ خَطِيَّةُ الْبَشَرِ وَفَسَادُهُمْ. وَنَتِيجَةً لِتِلْكَ الْخَطِيَّةِ وَهَذَا الْفَسَادِ، يَرْتَطِمُ الْإِعْلَانُ بِالْحَاجِزِ، فَيَرْتَدُّ عَنْهُ، وَلَا يَخْتَرِقُ الْبَتَّةَ ذِهْنَ الْمَخْلُوقَاتِ. يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ ثَمَّةَ إِعْلَانًا مَوْضُوعِيًّا فَوْقَ الْخَطِّ، لَكِنَّهُ لَا يَصِلُ الْبَتَّةَ إِلَى الْمُسْتَهْدَفِينَ". لَيْسَ هَذَا مَا قَصَدَهُ الرَّسُولُ هُنَا. لَمْ يَقْصِدِ الرَّسُولُ أَنَّ دَيْنُونَةَ اللَّهِ مُعْلِنَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَنَ عَنْ ذَاتِهِ، لَكِنَّ الْبَشَرَ رَفَضُوا السَّمَاحَ لِذَلِكَ الْإِعْلَانِ بِاخْتِرَاقِ عُقُولِهِمْ. لَيْسَ هَذَا هُوَ أَسَاسُ الِاتِّهَامِ، لِأَنَّهُ تَابَعَ يَقُولُ: "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ".

إِذَنْ، مَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهُ مِنْ رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ هُوَ أَنَّ هَذَا الْإِعْلَانَ الْآتِيَ مِنَ اللَّهِ يَعْبُرُ الْحَاجِزَ، وَيَخْتَرِقُ ذِهْنَ الْإِنْسَانِ، لَكِنَّنَا نُحَرِّفُهُ دَائِمًا، وَنَسْتَبْدِلُ الْحَقَّ بِالْكَذِبِ، فَنَصِيرُ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، إِلَى آخِرِهِ. فَإِنَّنَا نَحْجِزُهُ وَنُخْفِيهِ وَنَسْتَبْدِلُهُ بِالْكَذِبِ، لَكِنْ فَقَطْ بَعْدَ وُصُولِ الْمَعْرِفَةِ إِلَيْنَا. إِذَنْ، الْفِكْرَةُ الَّتِي حَاوَلَ الرَّسُولُ التَّعْبِيرَ عَنْهَا هِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فَقَطْ ثَمَّةَ إِعْلَانٌ إِلَهِيٌّ فِي الطَّبِيعَةِ - أَيَّ إِعْلَانٌ طَبِيعِيٌّ - بَلْ هَذَا الْإِعْلَانُ الطَّبِيعِيُّ يُؤَدِّي إِلَى مَاذَا؟ إِلَى لَاهُوتٍ طَبِيعِيٍّ. وَاللَّاهُوتُ الطَّبِيعِيُّ هُوَ أَسَاسُ الْجُرْمِ الْعَامِّ لِلْإِنْسَانِ.

مِنْ أَكْثَرِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي أَسْمَعُهَا هُوَ: "مَاذَا سَيَحِلُّ بِالسُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ الْأَبْرِيَاءِ فِي أَفْرِيقْيَا الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا قَطُّ بِرِسَالَةِ الْإِنْجِيلِ؟" فَيَأْتِي جَوَابِي صَارِمًا نَوْعًا مَا، وَدَائِمًا مَا يَكُونُ صَادِمًا، فَأُجِيبُ: "لَا شَيْءَ سَيَحِلُّ بِالسُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ الْأَبْرِيَاءِ فِي أَفْرِيقْيَا الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا قَطُّ بِرِسَالَةِ الْإِنْجِيلِ. فَالسُّكَّانُ الْأَصْلِيُّونَ الْأَبْرِيَاءُ فِي أَفْرِيقْيَا لَيْسُوا بِحَاجَةٍ إِلَى سَمَاعِ الْإِنْجِيلِ. لَكِنَّ السُّكَّانَ الْأَصْلِيِّينَ الْأَبْرِيَاءَ فِي أَفْرِيقْيَا سَيَذْهَبُونَ إِلَى السَّمَاءِ مُبَاشَرَةً عِنْدَ مَوْتِهِمْ، دُونَ الْمُرُورِ بِضَابِطِ الْجَوَازَاتِ، وَدُونَ تَأْشِيرَةِ دُخُولٍ. فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ مَا يَقْلَقُونَ حِيَالَهُ، وَمَا كُنْتُ لِأُنْفِقَ جُنَيْهًا وَاحِدًا عَلَى إِرْسَالِيَّةِ كِرَازَةٍ لِلسُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ الْأَبْرِيَاءِ فِي أَفْرِيقْيَا أَوْ أُسْتُرَالِيَا أَوْ نِيُوزِيلَانْدَا أَوْ أَمْرِيكَا الْجَنُوبِيَّةِ أَوْ أَيِّ مَوْضِعٍ آخَرَ". فَالْأَبْرِيَاءُ، يَا أَحِبَّائِي، لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِنْجِيلِ.

السُؤَالُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ: "كَمْ عَدَدُ الْأَبْرِيَاءِ بَيْنَ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ فِي أَفْرِيقْيَا أَوْ أَمْرِيكَا الْجَنُوبِيَّةِ أَوْ أُسْتُرَالِيَا؟" إِذَا أَجَدْنَا فَهْمَ كَلَامِ بُولُسَ هُنَا، سَنَجِدُهُ يَقُولُ إِنَّهُ مَا مِنْ أَبْرِيَاءَ، وَإِنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِي أَفْرِيقْيَا وَأُسْتُرَالِيَا وَالْعَالَمِ أَجْمَعَ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِعْلَانَ الْوَاضِحَ عَنِ اللَّهِ الْآبِ، وَجَمِيعَهُمْ حَجَزُوا تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ، وَاسْتَبْدَلُوهَا بِالْكَذِبِ، وَاخْتَارُوا عِبَادَةَ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْإِلَهِ الْحَقِيقِيِّ الْوَحِيدِ. وَإِلَى هَذَا الْعَالَمِ الرَّازِحِ بِالْفِعْلِ تَحْتَ الدَّيْنُونَةِ أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَسِيحَ مُخَلِّصًا. لَكِنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى عَالَمٍ وَاقِعٍ بِالْفِعْلِ تَحْتَ دَيْنُونَةِ الْآبِ، بِسَبَبِ الْإِعْلَانِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي قَدَّمَهُ عَنْ ذَاتِهِ بِوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ شَدِيدَيْنِ، وَالَّذِي اخْتَرَقَ الْأَذْهَانَ. إِذَنْ، مَا نَقْصِدُهُ بِاللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ بِمَعْنَاهُ الْأَبْسَطِ هُوَ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ عَنِ اللَّهِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ كَنَتِيجَةٍ مُبَاشِرَةٍ لِلْإِعْلَانِ الْعَامِّ. فَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ الَّتِي نَسْتَمِدُّهَا مِنَ الطَّبِيعَةِ.

وَمُجَدَّدًا، حِينَ تَحَدَّثَ أُوغُسْطِينُوسُ عَنِ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ، اسْتَنَدَ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ إِلَى رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ. وَحِينَ أَنْشَأَ الْأَكْوِينِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرُونٍ نِظَامَ اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ الْخَاصَّ بِهِ، اسْتَنَدَ لَيْسَ فَقَطْ إِلَى رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ، بَلْ أَيْضًا إِلَى كِتَابَاتِ أُوغُسْطِينُوسَ، وَاقْتَبَسَ مِنْ أُوغُسْطِينُوسَ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْمَقَاطِعِ، قَائِلًا: "أَجَلْ، بِسَبَبِ رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ، وَبِسَبَبِ الْإِعْلَانِ الْعَامِّ، صَارَتْ هُنَاكَ مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ بِاللَّهِ". يَظُنُّ كَثِيرُونَ أَنَّ مَا قَصَدَهُ الْقِدِّيسُ تُومَا بِذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ، بِمَنْطِقِهِ الْمُجَرَّدِ، وَدُونَ أَيَّةِ مُسَاعَدَةٍ مِنَ الْإِعْلَانِ الْإِلَهِيِّ، لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ وَيَصِلَ إِلَى مَعْرِفَةٍ بِاَللَّهِ. لَيْسَ هَذَا مَا عَلَّمَ بِهِ تُومَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ مَا عَلَّمَ بِهِ أُوغُسْطِينُوسُ. فَكِلَاهُمَا قَالَ: "إِنَّنَا نَحْصُلُ عَلَى اللَّاهُوتِ الطَّبِيعِيِّ بِوَاسِطَةِ الْإِعْلَانِ الْإِلَهِيِّ - أَيْ الْإِعْلَانِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَاتِهِ فِي الطَّبِيعَةِ". أَسْفَرَتْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ عَنْ نَتَائِجَ ضَخْمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ. وَهَذَا مَا أَرْجُو أَنْ نَدْرُسَهُ فِي الْمُحَاضَرَاتِ الْمُقْبِلَةِ.