المحاضرة 5: هل يخلق الله عدم الإيمان؟

رُبَّما جاءَتْ أقْوى تصريحاتِ الأسفارِ المقدَّسةِ عن موضوعِ التَّعيينِ الْمُسبَقِ من الأصحاحِ التَّاسِعِ في رِسالَةِ بولُسَ إلى أَهْلِ رُومِيَةَ. يتحدَّثُ هَذا النَّصُّ عَنِ اخْتيارِ يَعقوبَ دُونَ عيسو. وقدْ تناوَلَ النَّصُّ بالتَّفصيلِ مَوْضُوعَ التَّعْيينِ الْمُسْبَقِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، لَكِنَّهُ أيْضًا تَعرَّضَ للسُّؤالِ الْجَدَلِيِّ عمَّا إِنْ كانَ التَّعْيِينُ الْمُسْبَقُ مُزْدَوِجًا أمْ لا.

لِنَصْرِفْ بَعْضَ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْمُحاضَرَةِ فِي النَّظرِ إِلَى الأصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ رِسالَةِ رُومِيَةَ، ونَنْتَبِهْ إلَى ما يَقُولُهُ الرَّسُولُ.

تَوْأَمَانِ لَمْ يُولَدَا بَعد:

سَأَبْدَأُ مِنَ الآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الأصْحاحِ التَّاسِعِ.

لِأَنَّ كَلِمَةَ الْمَوْعِدِ هِيَ هَذِهِ: «أَنَا آتِي نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ». وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لِأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلَا فَعَلَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الِاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ». (رومية 9: 9-13)

حاولَ بولُسُ هُنا تَوْضِيحَ فِكْرِهِ عنِ الاختيارِ الإِلَهيِّ، فاسْتخدَمَ مِثالًا توضيحيًّا عنْ رَجُلَيْنِ. ومِنَ الْمُهِمِّ أنَّ الاثنيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتارَهُما كانا أَخَوَيْنِ، وَلَيْسَ أَخَوَيْنِ فَقَطْ، بَلْ تَوْأَمَيْنِ. أَيْ مِنَ الْعائِلَةِ نَفْسِها، وَالْخَلْفِيَّةِ نَفْسِها، وَالْمَوْقِعِ الْجُغْرَافِيِّ نَفْسِهِ. كُلُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ تَخيُّلُهُ كانَ واحِدًا. هُمَا فِي الْحقيقَةِ "شَرِيكَا رَحِمٍ" (أَشْكُرُكَ. أَتَحَمَّسُ قَلِيلًا بَعْدَ دِراسَةٍ مُطَوَّلَةٍ لِلتَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ).

وَفِي مِثالِهِ هذا، طَرَحَ فِكْرَةَ تَفْضِيلِ الْواحِدِ عَلَى الآخَرِ قَبْلَ أَنْ يُولَدا. يُثِيرُ هذا التَّعْبِيرُ "وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ" مَوْضُوعَ مَعْرِفَةِ اللهِ المُسْبَقَةِ.

يُعَدُّ ما نسمِّيهِ الاختيارَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ المُسبقَةِ، أَشْهَرَ رَأْيٍ عنِ التعيينِ المُسبقِ رَافِضٍ للفِكْرِ الأوغُسْطينيِّ، وفرَضِيَّتُهُ الأساسِيَّةُ: أنَّ التعيينَ المسبقَ يعني ببساطةٍ أنَّ اللهَ منذُ الأزَلِ نَظَرَ عَبْرَ الزَّمنِ، فَعَلِمَ مُسْبَقًا ما سَيَفْعَلُهُ الْبَشَرُ، وبِناءً عَلَى معرفَتِهِ المُسْبَقَةِ، اخْتارَهُم.

نلاحظُ هُنا أنَّ الأصحاحَ التاسعَ مِنْ رسالَةِ رُومِيَةَ يتحدَّثُ عنْ هذهِ الفكرةِ بوضوحٍ شديدٍ. نقرأُ إِنَّهما "وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلَا فَعَلَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا" (رومية 9: 11). لِنَنْظُرْ إلى هذهِ الْجملةِ.

لَمْ يَقُلْ بولسُ هنا إنَّ اللهَ لمْ يعرِفْ ما سيفعلانِهِ، أوْ إِنَّهُ عرَفَ ما سيفعلانِهِ. بلْ فقطْ يقولُ إنَّ التوأمَيْنِ لمْ يَكُونا قَدْ وُلِدا بَعْد، وَلَمْ يكُونا قدْ فَعَلا شيْئًا. إذَنْ، كُلُّ ما يعلِّمُهُ النَّصُّ بِوضوحٍ هُوَ أنَّ اختيارَ اللهِ لِيَعْقوبَ دونَ عيسو تمَّ قَبْلَ أنْ يُولَدا.

أَغْرَبُ صَمْتٍ:

يَتَّفِقُ هُنَا رَأْيُ الْمَعرِفَةِ المُسْبَقَةِ على أنَّ تَعْيينَ اللهِ الْمُسْبَقَ حَدَثَ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعالمِ، قبلَ أنْ يولَدَ أحَدٌ. يَتَّفِقُ الْجَمِيعُ على أنَّ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ حَدَثَ فِي فكْرِ اللهِ قبْلَ خَلْقِ الْبَشَرِ، لكنْ يقولُ رأْيُ الْمَعرفَةِ المُسبقَةِ إِنَّ الاخْتِيارَ يَحْدُثُ قَبْلَ وِلادَةِ الْبَشَرِ، لَكِنْ فِي ضَوْءِ مَعْرِفَةِ اللهِ بِمَا سَيَفْعَلُونَهُ بَعْدَ وِلادَتِهِمْ.

هُنَا يَصْمُتُ النَّصُّ عن هذه الفكرَةِ بالتَّحْدِيدِ. ممَّا يُعَدُّ أَغْرَبَ صَمْتٍ بَيْنَ جِلْدَتَيِ الْكِتابِ.

فلوْ كانَ الرسولُ قدْ أرادَ توضيحَ أنَّ أفعالَ اللهِ في الاختيارِ والتعيينِ المُسبقِ تَحْدُثُ كرَدِّ فعْلٍ لأفعالِ الْبشرِ المستقبليَّةِ، فسيكونُ هذا أفضلَ سِياقٍ للتَّوْضِيحِ. أيْ لوْ كانَ المنظورُ الكتابيُّ هُوَ ما يتبنَّاهُ رأْيُ الْمَعْرِفَةِ المُسبقةِ، أيْ أنَّ اللهَ يختارُ دائِمًا في ضَوْءِ مَعْرِفتِهِ بِالقراراتِ الْمُستقبلِيَّةِ، فَأوَّلًا، لماذا لمْ يَذكُرِ الْكتابُ الْمُقدَّسُ هذا قَطْ؟ فهْوَ لَمْ يذكُرْ شَيْئًا عنهُ. ولو كانَتْ هناكَ فُرْصَةٌ لِيَذْكُرَ هذا، فَها هِي.

لَكِنْ، لَمْ يَذْكُرْهُ بولُسُ، بَلْ وصَرَفَ وَقْتًا لِيَقُولَ إِنَّ الاخْتِيارَ تمَّ قَبْلَ أَنْ يُولَدا، وَقَبْلَ أنْ يفْعَلا خَيْرًا أَوْ شَرًّا. علينا أنْ نسألَ لماذا أضافَ هذا؟ لوْ كانَ يريدُ أنْ يتحدَّثَ عنِ اختيارٍ بمعرفةٍ مُسبقةٍ، فإنَّ إِضافَةَ هذه الكلماتِ ستُحَيِّرُ شعْبَ اللهِ، أليسَ كذلك؟

يَثبُتُ قصْدُ اللهِ:

لَكِنْ لنتابِعْ. "لِأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلَا فَعَلَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا". علامَ ركَّز بولس هنا؟ "لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الِاخْتِيَارِ" (رومية 9: 11).

مرَّةً أخْرى، كانَ التَّرْكيزُ هُنا على قَصْدِ اللهِ. ويَقولُ بولُسُ إِنَّ سببَ اتِّخاذِ الْقرارِ قَبْلَ ولادَتِهِما، وَقَبْلَ أَنْ يَفْعَلا خيرًا أو شرًّا، هُوَ أنْ يَثبُتَ قَصْدُ اللهِ.

هَلْ تَرَوْنَ أَنَّ تَوَجُّهَ هذا النَّصِّ مُناقِضٌ تَمامًا لِمَفْهومِ التَّعْيينِ الْمُسْبَقِ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ الْمُسبَقَةِ؟ هَلْ لاحَظْتُمْ؟ فلماذا، وأيُّ سببٍ آخرَ يُمْكِنُ تقديمُهُ لِتَرْكيزِ الرَّسولِ على أنَّهُمَا لَمْ يَفْعلا خَيْرًا أَوْ شَرًّا؟

ليْسَ فقطْ أَنَّهُما لَمْ يَفْعَلا فِي الْمكانِ والزَّمانِ، بَلْ ضِمْنًا، أَيْضًا فِي ذِهْنِ اللهِ. أيْ مِنْ منظورِ اللهِ، لَمْ يؤخَذْ أيُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فِي الاعتبارِ، لأَنَّ النَّتيجَةَ هِيَ، وَسَبَبُ قَوْلِهِ هذا، أيْ السَّبَبُ الَّذي قدَّمَهُ الرَّسولُ لِهذا، هُوَ أنْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيارِ، "لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو".

يقولُ رأْيُ الْمَعْرفةِ المُسبقةِ إِنَّ اللهَ ينظُرُ إِلَى الْمُسْتَقْبلِ، ويَرَى أنَّ الْبَعْضَ سَيَتَّخِذُونَ الْقرارَ السَّلِيمَ، وَالْبَعْضَ سيتَّخذُونَ القرارَ الْخاطِئَ. تكْمُنُ مُشْكِلَةُ رَأْيِ الْمَعرِفَةِ الْمُسبَقَةِ في أنَّ الاختيارَ في هذا الرَّأْيِ يُبْنَى على عَمَلٍ صالِحٍ، ظانًّا بأنَّ هذا هُوَ عَمَلُ اللهِ، أنْ نُؤْمِنَ بِالَّذي أَرْسَلَهُ (يوحنا 6: 29). وأَسْمَى عَمَلٍ صالِحٍ هُوَ الإِيمانُ بِالرَّبِّ يسوعَ الْمَسِيحِ. وهذا أَحَدُ الْمعانِي الْكِتابِيَّةِ لِلْعَملِ الصَّالِحِ. لَكِنْ يَقولُ هُنا إِنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أنَّ الأمْرَ ليْسَ مِن أعمالٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو.

الرَّأْيُ الأَرْمِينيُّ–الَّذي لَهُ الْعَديدُ مِنَ الأَشْكالِ والصُّوَرِ–يجْعَلُ الْقرارَ الأَخِيرَ لخلاصِنا مُسْتَنِدًا إِلَى الاخْتيارِ الْبَشَرِيِّ، وليْسَ إلى فِعْلٍ إِلَهِيٍّ. أعتقدُ أنَّ بولُسَ يَهْدِمُ هذا الرأيَ هُنا، بأَقْوَى ما يُمْكِنُهُ، بالتَّشْدِيدِ على أنَّ هذا لَيْسَ مِنْ أَعْمالٍ، بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو. وأَنَّ الْفَضْلَ في فدائِكُمْ ينبغي أَنْ يُنسَبَ للهِ. وأنْ يَأْخُذَ وحدَهُ الْمَجْدَ.

ظُلْمٌ عنْدَ اللهِ؟

إذَنْ، كَيْ يَثْبُتَ هذا الْقَصْدُ، وكيْ لا يكونَ مِنْ أعمالٍ، بلْ مِنَ الَّذي يدْعُو، "قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ»" (رومية 9: 11-12). أيْ أنَّ سَبَبَ اخْتيارِ اللهِ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ سُمُوَّه وسُمُوَّ قَصْدِهِ.

"كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»" (رومية 9: 13). سأَعُودُ إلى هذهِ الآيَةِ بَعْدَ لَحَظاتٍ لأَنِّي أَعْرِفُ أنَّها تُثيرُ الْمُشْكِلاتِ بِسَبَبِ فِكْرَةِ الْبُغْضَةِ. لَكِنْ لِنَنْظُرْ إِلَى الآيَةِ 14.

الآيَةُ 14 سُؤالٌ بَلاغِيٌّ. "فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟"

كيفَ أجابَ بُولُسُ عنْ سُؤالِهِ؟ هَلِ اكْتَفَى بِقَوْلِ: "لا، لَيْسَ عِنْدَ اللهِ ظُلْمٌ؟" لا، فقدِ اسْتخدَمَ أقْوَى صُورَةِ تَوْكِيدٍ مُمْكِنَةٍ. بَعْضُ الْمُتَرْجِمِينَ كتَبُوها: "لا يُمْكِنُ أَبَدًا أنْ يَكُونَ هَذَا"، وآخرونَ "حَاشَا!". الإجابَةُ عَنْ هذا السؤالِ–هَلْ يَدُلُّ هذا عَلَى ظُلْمٍ عِنْدَ اللهِ–هيَ: كَلَّا الْبَتَّةَ! هذا غَيْرُ وَارِدٍ (رومية 9: 15).

اعتراضٌ مُتوقَّعٌ:

أُريدُ الآنَ أنْ نُخَمِّنَ مَعًا قَلِيلًا، وأريدُكُمْ أَنْ تُفكِّروا في هذا. في رأيِكُمْ، لماذا طَرَحَ الرَّسولُ هذا السؤالَ الْبَلاغِيَّ؟

بولُسُ معلِّمٌ، ويَعْرِفُ الْمُعلِّمُ أنَّهُ حينَ يَشْرَحُ الدَّرْسَ، سَيُعاني الطُّلابُ أحيانًا مِنْ صعوبَةٍ فِي فَهْمِ ما يُحاوِلُ الْمُعلِّمُ تَوْصِيلَهُ. وَالمعلِّمُ الْجَيِّدُ يتوقَّعُ الاعْتراضَ، وَمِنْ أيْنَ سَتَنْشَأُ الْمُشْكِلاتُ.

تَوَقَّعَ هُنا بُولُسُ، كَمُعلِّمٍ، اعْتِراضًا مِنْ سامِعِيهِ، حينَ قالَ: "فَمَاذَا نَقُولُ؟" ماذا توقَّعَ أنْ يَقولَ النَّاسُ حينَ يَسْمَعُونَ هَذا؟ "هذا ظُلْمٌ!" هذا لَيْسَ عَدْلًا، هَلْ عِنْدَ اللهِ ظُلْمٌ؟ (رومية 9: 14).

سُؤالِي هُوَ: لِماذَا تَوَقَّعَ هذا الاعْتِراضَ؟ حَسَنًا، هناكَ سَبَبَانِ مُحْتَمَلانِ.

رُبَّما تَوَقَّعَ هذا الاعْتِراضَ لأنَّهُ كانَ يُفَكِّرُ هكذا: "رُبَّما بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُونَنِي، أَوْ يَقْرَأُونَ هَذِهِ الرِّسالَةَ، طَائِشِينَ لِدَرَجَةِ أَنْ يَتَبَنَّوْا مَوْقِفًا أُوغُسْطِينيًّا، وَيَجِدُوا في كَلِماتي فِكْرًا أُوغُسْطِينِيًّا عَنِ الاخْتِيارِ، وهذا سيكونُ بِالفعلِ ظُلْمًا، ولِذَلِكَ، كلُّ ما عليَّ فعْلُهُ لِمَنْعِ هذا هُوَ أَنْ أقولَ: "أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ بالتَّأكِيدِ لا!" وَبِهذا يَدْحَضُ أُوغُسْطِينوسَ، والأَكْوِينِيَّ، وَكالْفِن، ولُوثَر، وَغَيْرَهُم". رُبَّما هذا ما تَوَقَّعَهُ.

أوْ، ربَّما كانَ بولُسُ نَفْسُهُ أُوغُسْطِينيًّا، ولَدَيْهِ خِبْرَةٌ فِي تَعْلِيمِ عَقِيدَةِ التَّعيينِ الْمُسْبَقِ، حَيْثُ كُلَّما أثارَ الْمَوْضُوعَ، يكونُ رَدُّ الْفِعْلِ الأَوَّلُ هُوَ: "هَذَا ظُلْمٌ!"

لديَّ اشْتِباهٌ خَفِيٌّ فِي أنَّ هذا هُوَ سَبَبُ طَرْحِ الرَّسُولِ لهذا السُّؤالِ الْبَلاغِيِّ، لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْرِفُوا ما مِنْ أَحَدٍ الْبَتَّةَ يطرَحُ هذا السؤالَ على الْفِكْرِ الأَرْمِينِيِّ. بَلْ أَنَّ الْفِكْرَ الأَرْمِينيَّ مُصَمَّمٌ بحَيْثُ يُلْغِي هذهِ الْمُشْكِلَةَ.

ما يُريحُنِي هُوَ أنَّ الأَسْئِلَةَ نَفْسَها الَّتِي تُثارُ بِشَأْنِ رَأْيِي عَنِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ هِيَ الَّتي تَناولَها بُولُسُ هُنا. "أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟" لأنَّ الأَمْرَ، ظَاهِرِيًّا، يَبْدُو كَذَلِكَ.

فَحِينَ نَتَحَدَّثُ عَنِ اختيارٍ إلَهِيٍّ سيادِيٍّ قبْلَ أنْ يَفْعَلَ أحَدٌ خَيْرًا أوْ شَرًّا، ودُونَ اعتبارٍ لأفعالِهِمِ الْمُسْتقبَلِيَّةِ، بَلْ تَمامًا بِحَسَبِ الْقَصْدِ السياديِّ للهِ، حتَّى تظْهَرَ مقاصِدُ اللهِ بأنَّها مِنْ نِعْمةٍ، ولَيْسَ مِنْ أعمَالِ بَشَرٍ، فإنَّ السُّؤالَ الْبَدِيهِيَّ الَّذي يُطرَحُ هُوَ: "كَيْفَ يكونُ هذا عَدْلًا؟"

يقولُ بُولُسُ: "أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟" ويُجِيبُ سُؤالَهُ بِلا قَاطِعَةٍ. "حَاشَا! لِأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: «إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ»" (رومية 9: 14-15).

يَرْحَمُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَ:

مرَّةً أُخْرَى، إِنْ أَمْكَنَ التَّخْمِينُ، وَإِنْ كُنْتُ مَكانَ الرَّسولِ، وكُنْتُ أُعلِّمُ عَنِ الاخْتِيارِ حَسَبَ الْمَعْرِفةِ الْمُسْبَقَةِ، وَأُثِيرَتْ هذهِ الاعْتِراضاتُ، ما الَّذي سأَلْجَأُ إِلَيْهِ؟

إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَحْسِمَ تَمامًا أَيَّ اتِّهامٍ للهِ بِالظُّلْمِ، فسَأَقُولُ: "انْتَظِرْ لَحْظَةً. اللهُ لَيْسَ ظَالِمًا. اللهُ لَيْسَ ظَالِمًا لأنَّهُ معَ أنَّهُ يَتَّخِذُ قَرارَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لَكِنَّهُ يختارُ فِي ضَوْءِ اخْتِيارَاتِهِمْ الْمُستَقْبَلِيَّةِ، إِذَنْ، أَنْتَ تَتَحَمَّلُ عواقِبِ اخْتِيارِكَ". وهذا سَيَحْسِمُ الْجَدَلَ إِلَى الأَبَدِ.

لكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هذا. بَلْ لَجَأَ إِلَى مَاذَا؟ إِلَى حَقِّ اللهِ فِي أَنْ يَرْحَمَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَ. مَعْنَى هذا النَّصِّ إِذَنْ هُوَ أنَّ الْبَعْضَ يَأَخْذُونَ قَدْرًا مِنَ الرَّحْمَةِ لا يَأْخُذُهُ آخَرُونَ.

مرَّةً أُخْرَى، اللهُ لا يَظْلِمُ أحَدًا. لم يَقَعِ الاخْتيارُ على عيسو كمَوْضُوعٍ لِلرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ، لَكِنْ هذا لَيْسَ ظُلْمًا لِعِيسُو، لأَنَّ عِيسُو، حَتَّى قَبْلَ أَنْ يُولَدَ، مَعْروفٌ عِنْدَ اللهِ كإنْسانٍ ساقِطٍ، لأنَّهُ حينَ يختارُ اللهُ، يفْعَلُ هذا دائِمًا في ضَوْءِ السُّقوطِ.

يختارُ اللهُ خُطاةً ساقِطينَ لِلْخلاصِ. فَجَمِيعُ اختياراتِ اللهِ للْخَلاصِ تَفْتَرِضُ مُسْبَقًا الْحاجَةَ إِلَى الْخَلاصِ، وإلَّا لا مَعْنَى لِلاخْتِيارِ. سيكونُ مَضْيَعَةً لِلْوَقْتِ أنْ يختارَ اللهُ أُنَاسًا لِلْخلاصِ لا يَحْتَاجُونَ لِلْخَلاصِ. إِذَنْ، عمَلِيَّةُ الاخْتِيارِ بِأَكْمَلِها تَحْدُثُ فِي ضَوْءِ جِنْسٍ بشريٍّ ساقِطٍ وضالٍّ.

يَنْظُرُ اللهُ إلى كُلِّ الْعالَمِ، وَيَعْرِفُ أَنَّ الْعالَمَ كُلَّهُ ساقِطٌ، ويعْرِفُ أنَّهُ لَوْ طبَّقَ الْعَدْلَ، ماذا سَيَحْدُثُ؟ لَوْ طبَّقَ اللهُ الْعَدْلَ فَقَطْ على جِنْسٍ ساقِطٍ، سَيَهْلِكُ الْجَمِيعُ. لَكِنِ اخْتَارَ اللهُ أَنْ يَرْحَمَ الْبَعْضَ. أَخَذَ يَعْقوبُ رَحْمَةً. ونالَ عيسو عَدْلًا.

هَلْ لَدَيْكَ مُشْكِلَةٌ فِي هذا؟ نَقولُ إِنَّ هذا ظُلْمٌ. وَمَا نَعْنِيهِ أَنَّهُ لا تُوجَدُ مُساوَاةٌ. وَفِكْرُنا مِنْ وراءِ هَذَا هُوَ: حَسَنًا، إِنْ قرَّرَ اللهُ أَنْ يَرْحَمَ – إِنْ كانَ هُناكَ رَجُلانِ حُكِمَ عَلَيْهِما بأنَّهُما مُذْنِبانِ، وَصَدَرَ الْحُكْمُ بِالإِعْدامِ–فَرَحِمَ اللهُ أَحدَهُمْ، ألا يَنْبَغِي أَنْ يَرْحَمَ الآخرَ؟ فَهَلْ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُطَبِّقَ الْحاكِمُ الرَّأْفَةَ عَلَى سَجِينٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْبَقِيَّةِ؟ حَسَنًا، قَطْعًا لا تُوجَدُ مُساواةٌ. لَكِنْ مَرَّةً أُخْرى، هَذَا الشَّخْصُ نَالَ نِعْمَةً، وَهَذا الشَّخْصُ نالَ عَدْلًا. لَيْسَ لَدَيْهِ أَيُّ حَقٍّ فِي التَّذمُّرِ. مَا مِنْ ظُلْمٍ فِي هذا.

اتِّهامٌ وتَجْدِيفٌ:

ويذكِّرُنا اللهُ، مِرارًا، أنَّ مِنْ حَقِّهِ أنْ يَرْحَمَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَ. وَإِنْ رَحِمَ واحِدًا، فَهْوَ لَيْسَ مُلْزَمًا بِأَنْ يَرْحَمَ الآخرَ.

مَرَّةً أُخْرَى، إِنِ اعْتَقَدْنا أَنَّ اللهَ مُلْزَمٌ بِأَنْ يَرْحَمَ، فَما مَعْنَى هَذا؟ لَمْ تَعُدْ هَذِهِ رَحْمَةً، لأَنَّ الرَّحْمَةَ بِحُكْمِ تَعْرِيفِها لَيْسَتْ إِلْزامِيَّةً. بَلِ الرَّحْمَةُ شَيْءٌ يَعْمَلُهُ اللهُ طَوْعِيًّا. وَلَيْسَ مُلْزَمًا بِهِ. وَلَيْسَ مُجْبَرًا أنْ يَفْعَلَهُ. وَلَيْسَ مُطالَبًا بِهِ. بَلْ هُوَ يَفْعَلُهُ فَقَطْ بِفَضْلِ صَلاحِ قَلْبِهِ.

وَيَنْبَغِي أَلَّا نَقولَ لإِلَهٍ رَحِيمٍ–الأَمْرُ الَّذِي يُرْعِبُني-أَرْجُو أَلَّا تَقولُوا أَبَدًا لإِلَهٍ رَحِيمٍ: "يا اللهُ، لَسْتَ رَحِيمًا بِمَا يَكْفِي". هَذَا تَجْدِيفٌ، أنْ نَتَّهِمَ اللهَ بِأَنَّهُ لَيْسَ رَحِيمًا بِمَا يَكْفِي، لأَنَّ هَذَا الاتِّهامَ يُوحِي ضِمْنًا بِأَنَّ اللهَ قَدْ يُخْطِئُ، أَيْ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ كَمَا يَنْبَغِي. كانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ رَحْمَةً.

وَمَنْ أَنْتَ لِتَقولَ لِخَالِقِكَ، الَّذِي بِرَحْمَتِهِ أَنْتَ تَتَنَفَّسُ الآنَ، إِنَّ رَحْمَتَهُ نَاقِصَةٌ.

"لِأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: «إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ»" (رومية 9: 15).

لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ:

الآنَ تَأْتِي الضَّرْبَةُ الْقاضِيَةُ، وَالآيَةُ الَّتِي أَعْتَقِدُ، حَقًّا، أنَّها يَجِبُ أَنْ تَهْدِمَ الأَرْمِينِيَّةَ إِلَى الأَبَدِ. "فَإِذًا" هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةُ. "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَا لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ لِلهِ الَّذِي يَرْحَمُ" (رومية 9: 16).

لا يقولُ الْفِكْرُ الأَرْمِينِيُّ إِنَّ الأمْرَ بِأَكْمَلِهِ مُعْتَمِدٌ عَلَى الإِنْسانِ، ولَيْسَ عَلَى اللهِ، لَكِنَّ الْفِكْرَ الأَرْمِينِيَّ يقولُ إِنَّهُ دونَ رَحْمَةِ اللهِ، لا خَلاصَ. وَهَذا صَحِيحٌ. لَكِنْ يَعْتَمِدُ الأَمْرُ أيْضًا عَلَى اخْتِيارِنا. فَهْوَ يَعْتَمِدُ عَلَى كُلٍّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ واخْتِيارِنا، وَإِنَّنَا يَنْبَغِي أنْ نُمارِسَ إِرادَتَنا بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّدخُّلِ الإِلَهِيِّ، كَيْ نَخلُصَ. إِذَنْ، يَعْتَمِدُ الاخْتِيارُ فِي رَأْيِ الْمَعْرِفَةِ المُسْبَقَةِ على اخْتِياراتِ الْبَشَرِ. يَقولُ بُولُسُ: "هَذَا لَيْسَ صَحِيحًا".

كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَضِّحَ أكْثَرَ؟ لا يَعْتَمِدُ الأَمْرُ عَلَى مَن يَشَاءُ، أَوْ مَنْ يَسْعَى، بَلْ عَلَى اللهِ. هَذَا هُوَ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مَنْحِ الرَّحْمَةِ.

ثُمَّ تابَعَ قائلًا: "لِأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: «إِنِّي لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الْأَرْضِ». فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ" (رومية 9: 17-18). هذا كَلامٌ صَعْبٌ. لِنَدْرُسْهُ مَعًا قَلِيلًا.

بُغْضَةٌ مُقَدَّسَةٌ:

ذَكَرْتُ قَبْلًا مُشْكِلَةَ "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ" (رومية 9: 13). ما مَعْنَى أَنَّ اللهَ أَبْغَضَ عِيسُو؟

حِينَ نَسْتَخْدِمُ كَلِمَةَ "يُبْغِضُ" فِي لُغَتِنَا، نُفَكِّرُ فِي تَوَجُّهٍ نَابِعٍ مِنْ شُعورٍ بِالضَّغِينَةِ؛ لَقَدْ نُهِينا عَنْ بُغْضَةِ الآخَرِينَ، وَأُوصِينا بِمَحَبَّةِ حَتَّى أَعْدَائِنا (متى 5: 44).

لَكِنْ هَلِ اسْتَخْدَمَ الْكتابُ الْمُقدَّسُ كَلِمَةَ "بُغْضَةَ" بِأَيَّةِ طَرِيقَةٍ أُخْرَى لا تَحْمِلُ هَذِهِ الدَّلالَةَ الشِّرِّيرَةَ؟ نَعَمْ. هُناكَ بُغْضَةُ الْخَطِيَّةِ. تَذَكَّرُوا داوُدَ، فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، حِينَ قالَ: "بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ" (مزمور 139: 22)؟

هناكَ بُغْضَةٌ مُقَدَّسَةٌ. بُغْضَةٌ لِلشَّرِّ، نَعَمْ. لكنْ لا يقولُ النَّصُّ هنا–كما نَسْمَعُ، تَعْبِيرَ "يُبْغِضُ الْخَطِيَّةَ وَلَيْسَ الْخَاطِئَ"؟ لَمْ يَقُلِ اللهُ هُنَا: "أَحْبَبْتُ يَعْقوبَ، وَأَبْغَضْتُ خَطِيَّةَ عِيسُو"، بَلْ "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ".

لَدَيْنا هُنَا (رومية 9: 13) تَوَازٍ طِباقيٍّ فِي اللُّغةِ الْعِبْرِيَّةِ. كُلُّ ما تَعْنِيهِ "الْبُغْضَةُ" فِي هذا النَّصِّ هُوَ غِيابُ الإِحْسانِ الإِلَهِيِّ الْخاصِّ، إِذْ يُعْطِي اللهُ إِحْسانًا إِلَهِيًّا خَاصًّا، وَفِعْلَ رَحْمَةٍ، وَمَحَبَّةً لإنْسانٍ، وَيَمْنَعُهُ عَنِ الآخَرِ. لا يَعْنِي هَذَا أنَّ اللهَ يَكُنُّ مشاعِرَ داخِلِيَّةً سَيِّئَةً مِنَ الضَّغِينَةِ تُجاهَ عِيسُو. لَكِنَّ اللهَ يَمْنَعُ هَذَا الإِحْسانَ الإِلَهِيَّ الخاصَّ عَنْ عِيسُو. أخذَ يَعْقوبُ عَطِيَّةً لَمْ يَأْخُذْها عِيسُو. هذا هُوَ ما قَصَدَهُ الْيَهُودُ بِهَذا. لَكِنْ، يُثيرُ هذا سُؤالَ إنْ كانَ التَّعْيِينُ الْمُسْبَقُ مُزْدَوِجًا أَمْ لا.

رأيانِ عَنِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ الْمُزْدَوِجِ:

سَمِعْتُ كَثِيرينَ يَقولُونَ: "أُؤْمِنُ بالتَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ، لَكِنْ لا أُطِيقُ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ الْمُزْدَوِجَ".

ظَهَرَ رَأْيَانِ مُخْتَلِفانِ عَنِ التَّعْيِينِ المُسْبَقِ الْمُزْدَوِجِ فِي تارِيخِ الْكَنِيسَةِ، وَتَراوَحَ التَّنافُسُ عَلَى القُبولِ بَيْنَهُما.

القضاءُ المُتَساوِي:

الأَوَّلُ هُوَ ما نُسَمِّيهِ "القَضاءَ المُتساوِي"، أَو نُسَمِّيهِ أَحْيانًا الرَّأْيَ "المُتَناظِرَ" عَنِ التَّعيِينِ الْمُسْبَقِ، أَيْ أَنَّ التَّعيِينَ الْمُسْبَقَ لَهُ وَجْهانِ: الاخْتِيارُ وَالرَّفضُ، الْخلاصُ وَالدَّينونَةُ. وأَنَّ اللهَ يَعْمَلُ فِي كِلا الْوَجْهَيْنِ تَناظُرِيًّا، أَيْ يَعْمَلُ اللهُ فِي حياةِ يَعْقوبَ وَيَعْمَلُ في حياةِ عِيسُو.

يُمْكِنُ أَنْ نُسَمِّيَ هذا أيضًا الأَحكامَ "الإيجابِيَّةَ الإيجابِيَّةَ". هَذَا هُوَ التَّقسيمُ الإيجابيُّ الإيجابيُّ. فَهْوَ يَعْنِي أنَّ في حالَةِ المُخْتَارِينَ، يُعيِّنُ اللهُ البَعْضَ مُسْبَقًا، مِثْلَ يَعْقُوبَ، لِلْخلاصِ، وَيَضْمَنُ خَلاصَهُمْ مِنْ خلالِ تَدَخُّلٍ مِنْ طَرَفٍ واحِدٍ فِي حَياتِهِمْ، لِيَخْلُقَ الإِيمانُ فِي قلوبِهِم؛ وَفِي حالَةِ الْمَرْفوضِينَ، أيْضًا يُعَيِّنُ اللهُ مُسْبَقًا دَيْنُونَتَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ يتدخَّلُ في حياتِهِمْ خالِقًا الشَّرَّ أو عدَمَ الإِيمانِ فِي قُلُوبِهِم. إِذَنْ، هُناكَ فِعْلٌ إِيجابِيٌّ فِي حَياةِ كِلا الْجانِبَيْنِ، خَلْقُ الإيمانِ فِي حَياةِ أَحَدِهِمْ، وَعَدَمِ الإيمانِ في قَلْبِ الآخَرِ. أتَفْهمونَ الْمَقْصودَ الآنَ بِالرَّأيِ "الْمُتَناظِرِ"؟

رَفَضَ الأُوغُسْطِينِيُّونَ وَالكالفِينيُّونَ هذا الرَّأْيَ بِالإِجْماعِ. لَيْسَ هذا هُوَ الرَّأْيَ الأُوغُسْطِينِيَّ. الْبَعضُ يُسمُّونَهُ "فَوْقَ الكَالْفِينِيَّةِ". أَعْتَقِدُ أَنَّ هذهِ إِهَانَةٌ كَبِيرَةٌ لِجُون كالفِنْ أَنْ نُسَمِّيَ هذَا "فَوْقَ الكَالْفِينِيَّةِ"، لأَنَّ هذا الرَّأيَ لَيْسَ "فَوْقَ الكالفِينِيَّةِ"، بَلْ شَيْءٌ "دُونَ الْكَالْفِينِيَّةِ"، أَوْ "ضِدَّ الْكالْفِينِيَّةِ". إِنَّ "فَوْقَ الْكالْفِينِيَّةِ" قَدْ تَعْنِي الكالفينيَّةَ الْفائِقَةَ. لَمْ يَكُنْ كَالْفِنْ لِيُحِبَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ.

الرأْيُ الأُوغُسْطِينِيُّ:

ولَكِنَّ الرَّأْيَ الأُوغُسْطِينِيَّ هُوَ أنَّ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ قَطْعًا مُزْدَوِجٌ، لأَنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ يَخْلُصُونَ. وأَنَّ لَهُ وَجْهَيْنِ. فَالْبَعْضُ مُختارُونَ والآخَرُونَ لَيْسُوا كَذَلِكَ. إِذَنْ، هُناكَ وَجْهانِ لِلْعُمْلَةِ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعامَلَ مَعَ كِلا وَجْهَيْ الْمُشْكِلَةِ. وَلَكِنَّ التَّقْسِيمَ هُنَا "إِيجابِيٌّ سَلْبِيٌّ".

يَعْنِي هذا أنَّ في حالةِ المُخْتارِينَ، يتدخَّلُ اللهُ بِالْفِعْلِ فِي حَياتِهِمْ، وَيَخْلُقُ فِي سِيادَتِهِ الإِيمانَ فِي قُلُوبِهِمْ. لَكِنْ فِي حَالَةِ بَقِيَّةِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، يَتْرُكُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ. فَهْوَ لا يَتَدَخَّلُ وَيَخْلُقُ الشَّرَّ في قُلُوبِهِمْ، أَوْ يَخْلُقُ عَدَمَ الإِيمانِ فِي قُلُوبِهِمْ. لَكِنَّهُ يَعْبُرُ عَنْهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ. إِذَنْ، عَمَلُ اللهِ هُنَا سَلْبِيٌّ، لا إِيجَابِيٌّ.

هلْ تَفهمونَ الْفَرْقَ؟ هُنا، يَفْعَلُ الْمَرْفوضونَ ما يُريدونَ دونَ تأْثِيرٍ خارِجِيٍّ. لا يَخْلُقُ اللهُ شَرًّا جَديدًا فِي قُلُوبِهِمْ، أو شَيْئًا مِنْ هذا. لا يَدْفَعُهُمُ اللهُ إِجْبَارِيًّا إِلَى الدَّيْنُونَةِ. لَكِنَّهُ فَقَطْ يَعْبُرُ عَنْهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ لِشَأْنِهِم.

لكِنَّ السُّؤالَ الْفَوْرِيَّ الَّذي يَظْهَرُ هُوَ: "حَسَنًا، لِماذا يَقولُ بولُسُ فِي رُومْيَةَ 9 (تِسْعَةٍ) إِنَّ اللهَ يَرْحَمُ الْبَعْضَ وَيُقَسِّي الْبَعْضَ الآخَرَ؟"

تَقْسِيَةُ قَلْبِ فِرْعَوْنَ:

وَالْمِثالُ الْقَديمُ عَنِ التَّقْسِيَةِ هُوَ تَقْسِيَةُ اللهِ لِقَلْبِ فِرْعَوْنَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. وَهَذا مِثالٌ صَعْبٌ. لَدَيَّ دَقِيقَةٌ ونِصْفٌ فَقَطْ لأُجِيبَ عَلَيْهِ، وَسَأُحاوِلُ هَذَا سَرِيعًا.

فَحَتَّى حينَ نتحدَّثُ عَنِ التَّقْسِيَةِ، عَلَيْنا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ التَّقْسِيَةِ الإِيجَابِيَّةِ والتَّقْسِيَةِ السَّلْبِيَّةِ، أَوْ ما يُمْكِنُ أَنْ نُسَمِّيَهُ التَّقْسِيَةَ الْمُباشَرَةَ أَوِ التَّقْسِيَةَ غَيْرَ الْمُباشَرَةِ.

هُنَاكَ وَسِيلَتانِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَسِّيَ بِهِما اللهُ قَلْبَ فِرْعَوْنَ. الأُولَى هِيَ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَتَدَخَّلَ فِي حَيَاةِ فِرْعَوْنَ، وَيَخْلُقَ الشَّرَّ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ. فَكَيْ يُتَمِّمَ اللهُ مَقاصِدَهُ كانَ بِإِمْكانِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِرْعَوْنَ يُخْطِئُ. لَكِنْ إِنْ فَعَلَ هَذَا، فَماذَا إِذَنْ؟ كَيْفَ يُمْكِنُ للهِ، إِنْ كانَ عادِلًا وَبارًّا، أَنْ يُجْبِرَ فِرْعَوْنَ أَنْ يُخْطِئَ، ثُمَّ يُعاقِبَهُ على هذهِ الْخَطِيَّةِ؟ سَيَجْعَلُ هذا اللهَ مَصْدَرَ الْخَطِيَّةِ، وَهَذا مَرْفُوضٌ تمامًا في الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ.

لَكِنْ تُوجَدُ وَسِيلَةٌ أُخْرَى كانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَقسَّى بِهَا قَلْبُ فِرْعَوْنَ. تَذَكَّرُوا أنَّ فِرْعَوْنَ خَاطِئٌ، وَجَمِيعُنا خُطاةٌ. لَكِنَّ خطايانا جَمِيعًا هِيَ بِدَرَجَةٍ ما تَحْتَ السَّيْطرةِ أَوْ مُقَيَّدَةٌ، مِنْ خلالِ بَعْضِ الْمُقاوَمَةِ مِنْ حَوْلِنا، تَمْنَعُنا مِنْ أَنْ نَفْسُدَ تَمامًا.

وَحِينَ يَصِلُ الْبَشَرُ إِلَى قَدَرٍ مِنَ النُّفوذِ يَجْعَلُهُمْ يَعْبُرُونَ الْحَواجِزَ الطَّبِيعِيَّةَ، تَتزايَدُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى ارْتِكابِ الْخَطِيَّةِ بِحُرِّيَّةٍ. أَعْنِي أَنَّ الشيْءَ الْوَحِيدَ الَّذِي يَمْنَعُ فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شِرِّيرًا بِالْكامِلِ هِيَ قُوَّةُ اللهِ الْمُقَيِّدَةُ. قَطْعًا لَمْ تَكُنْ حُكومَةُ مِصْرَ هِيَ الَّتي تُسَيْطِرُ عَلَيْهِ. فَقَطْ قُيودُ اللهِ مَنَعَتْ فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَشَرَّ مِمَّا كانَ بِالْفِعْلِ.

إِنْ أرادَ اللهُ أَنْ يُقَسِّيَ قَلْبَ فِرْعَوْنَ، هلْ كانَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُقَ فِيهِ شَرًّا جَدِيدًا؟ كُلُّ ما يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ، وَيُعْطِيَ فِرْعَوْنَ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتاجُهَا. هَكَذا تَقَسَّى قَلْبُ فِرْعَوْنَ، وَهَذا فِي حَدِّ ذاتِهِ فِعْلُ دَيْنُونَةٍ إِلَهِيٌّ–دَيْنُونَةٌ إلَهِيَّةٌ عادِلَةٌ وَقَعَتْ عَلَيْهِ.

هذا هُوَ ما يفْعَلُهُ الإِنْجيلُ فِي حَياةِ الْمَرْفُوضِينَ. كُلَّما سَمِعَ النَّاسُ الإِنْجِيلَ وَرَفَضُوهُ بِإِرادَتِهِمْ، تَقَسَّت قُلُوبُهُمْ أَكْثَرُ. إِذَنْ، في هَذِهِ الْقِصَّةِ، فِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي قَسَّى قَلْبَهُ. كُلُّ ما فَعَلَهُ اللهُ هُوَ إِزَالَةُ الْحَواجِزِ. إِذَنْ، فِرْعَوْنُ هُوَ الْمَسْؤُولُ عَنْ تَقْسِيَةِ قَلْبِهِ.

إِذَنْ، مَرَّةً أُخْرَى نَرَى فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَفِي مَفْهومِ الاخْتِيارِ، أنَّ الْجَمِيعَ سَاقِطُونَ، وَالْجَميعَ أَشْرارٌ. يَرْحَمُ اللهُ الْبَعْضَ، كَمَا فِي حَالَةِ يَعْقُوبَ، وَيَتْرُكُ الآخَرِينَ لأَنْفُسِهِمْ. لِيَأْخُذُوا الْعَدْلَ. تَأْخُذُ هَذِهِ الْمَجْموعَةُ رَحْمَةً حَتَّى يَتَمَجَّدَ اللهُ، وَحَتَّى يَثبُتَ قَصْدُ اللهِ.

تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.