المحاضرة 1: وَقْتٌ لِلثِقَةِ
نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ وَقْتٍ لِلثِّقَةِ. لَكِنِّي لا أُرِيدُ أَنْ أَبْدَأَ مِنَ الْقَرْنِ الْحَادِي والْعِشْرِينَ؛ بَلْ أَرْغَبُ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى آباءِ الْكَنِيسَةِ. لِذَا، دَعُونِي أَرْوِي رِوَايَةً عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ آباءِ الْكَنِيسَةِ. يَتَذَكَّرُ جَمِيعُكُمْ بِالطَّبْعِ، رِوَايَةَ تْشَارْلْز دِيكِنْز "قِصَّةُ مَدِينَتَيْنِ" الَّتِي تَبْدَأُ بـ "كانَ أَحْسَنَ الأَزْمانِ، وَكَانَ أَسْوَأَ الأَزْمَانِ". حَسَنًا، لَوْ أَرَدْنَا إِخْبارَكُمْ القِصَّةَ، لقُلْنَا: "كانَ أَسْوَأَ الأَزْمَانِ. كانَ أَسْوَأَ الأَزْمَانِ". فِي الْعَامِ 420. إِبَّانَ الْعَقْدِ الأَخِيرِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كانَ هُناكَ الْوِنْدالُ وَالْبَرَابِرَةُ -أيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ رُومانِيًّا، حَسَنًا؟ فأَنْتَ بَرْبَرِيٌّ؛ إذًا كَانَتِ الْهُوِيَّةُ: إِمَّا أَنَّكَ رُومانِيٌّ أَوْ بَرْبَرِيٌّ. إِذْ كانَ الْبَرابِرَةُ حَرْفِيًّا عَلَى الأَبْوَابِ. فِي الْحَقِيقَةِ، لَقَدْ اقْتَحَمُوا الأَبْوَابَ. ما هَدَّدَ الإِمْبْرَاطُورِيَّةَ الرُّومَانِيَّةَ الْعَظِيمَةَ. لِذَا اسْتَجَابَ اثْنَانِ مِنْ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ. الأَوَّلُ هُوَ الْقِدِّيسُ جِيرُومُ. الآنَ، جِيرُومُ وُلِدَ في مُقَاطَعَةٍ رُومَانِيَّةٍ تُدْعَى دَلْمَاطِيَا، أيْ سْلُوفِينْيَا الْيَوْمَ. وَقَدْ أَظْهَرَ بَرَاعَةً اسْتِثْنَائِيَّةً فِي التَّعَلُّمِ فِي صِبَاهُ، وَكانَ لامِعًا، فَأَرْسَلُوهُ إِلَى رُومَا لِيَدْرُسَ. لِذَا يَسْهُلُ تَذَكُّرُ مَقُولَةِ: "جِيرُوم فِي بِلادِ الرُّوم". إِنَّه لَسَجَعٌ جَمِيلٌ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَذَهَبَ إِلَى رُومَا، وَأَصْبَحَ أُسْتَاذًا ضَلِيعًا. فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّهُ جِيرُومُ عَيْنُهُ مَنْ ذاعَ صِيتُهُ لِكَوْنِهِ قَدَّمَ لَنَا تَرْجَمَةَ فُولْجَاتَا اللَّاتِينِيَّةَ. و"الْفُولْجَاتَا" كَلِمَةٌ لاتِينِيَّةٌ تَعْنِي "الْعَامِّيَّةَ"، إِذْ كانَتِ اللَّاتِينِيَّةُ هِيَ اللُّغَةُ الْعَامِّيَّةُ فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ. فَمَعَ انْحِسَارِ اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ، ظَهَرَتِ اللَّاتِينِيَّةُ عَلَى السَّاحَةِ. لِذَلِكَ قَدَّمَ لَنَا جِيرُومُ تَرْجَمَةَ الْفُولْجَاتَا اللَّاتِينِيَّةَ. كَانَ عَالِمًا مُعْظَمَ حَيَاتِهِ. ثُمَّ فِي الْعُشْرِيَّةِ الأُولَى مِنَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ، بَدَأَتْ رُومَا تَنْهَارُ. بالنِّسْبَةِ لجِيرُومَ كَانَتْ رُومَا الأَسَاسَ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهَا مُخَلِّصَةُ الْعَالَمِ. وَحِينَمَا بَدَأَتْ تَنْهَارُ، اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَيَضِيعُ. فَقَضَى السَّنَةَ الأَخِيرَةَ مِنْ حَيَاتِهِ مُخْتَبِئًا فِي مَغَارَةٍ فِي مَدِينَةِ بَيْتِ لَحْمٍ. وَفِي عَامِ 420 ماتَ.
حسنًا أَبُ الْكَنِيسَةِ الثَّانِي هُوَ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ. جَمِيعُنَا عَلَى دِرَايَةٍ بِدُرَّةِ أَعْمَالِهِ كِتَابُ "الاعْتِرافَاتِ"، حَيْثُ يَرْوِي قِصَّةَ الْكَائِنِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي كَانَ يُطَارِدُهُ، وَكَيْفَ جَذَبَهُ اللهُ إِلَيْهِ. هَذَا وَقَدْ سِيمَ أُوغُسْطِينُوسُ أُسْقُفًا عَلَى هِيبُون رِيجْيُوس. إنَّها إِحْدَى مُقَاطَعَاتِ شَمَالِي أَفْرِيقْيَا. وَهْيَ مَدِينَةٌ إِسْلامِيَّةٌ الآنَ وَقَدْ كانَ أُوغُسْطِينُوسُ أُسْقُفًا عَلَيْهَا. وهكذا عَايَشَ الأَمْرَ ذَاتَهُ. فَمَاذَا فَعَلَ؟ أَخَذَ يَدْرُسُ وَكَتَبَ كِتابًا. كَتَبَ كِتَابًا رَائِعًا، بِعُنْوَانِ "مَدِينَةِ اللهِ". الآن، دَبَّرَ اللهُ أنْ كَانَتْ نُسْخَتِي مِنْ هَذَا الْكِتابِ مَوْضُوعَةً هُنَا. لَكِنَّهُ كِتابٌ كَبِيرٌ جدًّا، وَفِي بِدَايَتِهِ يُخْبِرُنَا أُوغُسْطِينُوسُ بِأَحَدِ الأُمُورِ إِذْ يَقُولُ: "إِنَّهُ عَمَلٌ ضَخْمٌ، إِنَّهُ لَعملٍ مُضْنٍ". وَلا يَقْصِدُ بِكَلِمَةِ ضَخْمٍ، أَنَّهُ كِتابٌ مُمْتَازٌ. بَلْ يَقْصِدُ أَنَّهُ كَبِيرٌ، لأَنَّهُ سَيَرْوِي فِيهِ تَارِيخَ الْبَشَرِ؛ إِنَّها رِوَايَةٌ عَنْ أَرْضَيْنِ: مَدِينَةِ اللهِ وَمَدِينَةِ الإِنْسَانِ. لِذَا يَقُولُ: "هَذَا عَمَلٌ مُضْنٍ، يَرْفَعُنَا، لا بِغُرُورٍ بَشَرِيٍّ مَحْضٍ، بَلْ بِنِعْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، فَوْقَ الْمَرَاكِزِ الأَرْضِيَّةِ الْمُتَزَعْزِعَةِ"-أَتُلاحِظُونَ الْعِبَارَةَ الَّتِي اسْتَخْدَمَهَا؟ -"الْمُتَزَعْزِعَةُ عَلَى هَذَا الْمَسْرَحِ الْمُتَغَيِّرِ".
الآنَ، إِنَّهُ النَّقِيضُ تَمَامًا. عِنْدَنَا جِيرُومُ. الَّذِي يَرَى الْبَرابِرَةَ عَلَى الأَبْوَابِ، فَيَقُولُ: "الْعَالَمُ يَنْهَارُ! نَعَمْ!" ثُمَّ يَهْرُبُ إِلَى مَغَارَتِهِ. بَيْنَمَا يَنْظُرُ أُوغُسْطِينُوُس إِلَى هَذَا وَيَقُولُ: "سَنَتَلَقَّى رُؤْيَةً -رُؤْيَةً سَامِيَةً -حِيالَ مَا يَحْدُثُ فِي أُفُقِ مَا هُوَ زَائِلٌ وَوَقْتِيٌّ وَأَرْضِيٌّ، لأَنَّ مَا يَحْدُثُ عَلَى الأَرْضِ كَالرِّمَالِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ".
لِذَا كَتَبَ كِتَابًا مِنْ 869 صَفْحَةً فِي نُسْخَتِي الإِنْجْلِيزِيَّةِ. سَأَتَجَاوَزُ لُبَّ الْكِتَابِ، لِضِيقِ الْوَقْتِ الَّذِي لَدَيْنَا مَعًا، وَسَأَقْفِزُ مُبَاشَرَةً إِلَى نِهَايَتِهِ. لَقَدْ رَوَيْتُ لَكُمُ الْبِدَايَةَ، فَسَأَرْوِي لَكُمْ مِنَ النِّهايَة، لَكِنْ غَالِبًا مَا سَتَعِدُونَنِي بِأَنَّكُمْ سَتَعُودُونَ لِقِراءَةِ لُبِّ الْكِتابِ كَامِلًا. في الْحَقِيقَةِ، فِي نِهَايَةِ هَذَا الْكِتابِ عِبَارَةٌ يَقُولُ فِيهَا: "قَدْ يَعْتَقِدُ الْبَعْضُ أَنِّي بَالَغْتُ فِي الْكِتابَةِ". لا أَعْرِفُ مَنْ هَذَا، مَنِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي الْكِتَابَةِ. "وَقَدْ يَعْتَقِدُ آخَرُونَ أَنَّنِي قَصَّرْتُ فِيهَا". ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ: "أَعْتَقِدُ أَنِّي أَوْفَيْتُ الأَمْرَ حَقَّهُ". شَيْءٌ مِنْ قَبِيلِ قِصَّةِ "ذَاتُ الشَّعْرِ الذَّهَبِيِّ وَالدِّبَبَةُ الثَّلاثَةُ"، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لَكِنْ فِي نِهَايَةِ الْكِتَابِ، هَذَا مَا يَقُولُهُ عَنْ مَلكُوتِ اللهِ حِينَ يَظْهَرُ كاملًا: "مَا أَعْظَمَ هَذِهِ السَّعَادَةَ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ والسَّعَادَةُ أَحَدُ مُرَادِفَاتِ الْهَنَاء.
مَا أَعْظَمَ هَذِهِ السَّعَادَةَ الَّتِي تَتَحَقَّقُ عِنْدَمَا يَبْطُلُ كُلُّ شَرٍّ، وَيَخْرُجُ كُلُّ خَيْرٍ إِلَى النُّورِ؛ والَّتِي لَنْ تَدَّخِرَ جُهْدًا لِمَدْحِ اللهِ الَّذِي سَيَكُونُ كُلًّا فِي الْكُلِّ. حَيْثُ سَيَتِمُّ التَّمَتُّعُ بالْجَمَالِ، واخْتِبَارُ الْمَجْدِ الْحَقِيقِي، وحيث يَسُودُ السَّلامُ الْحَقِيقِيُّ، وَحَيْثُ اللهُ نَفْسُهُ، نَبْعُ كُلِّ فَضِيلَةٍ، يَكُونُ مَوْجُودًا ويَكُونُ الْجَعَالَةَ.
أَتَرَوْنَ، حَمَلَ أُوغُسْطِينُوسُ رُؤْيَةً حِيالَ مَا كَانَ يَحْدُثُ فِي رُومَا، وَانْهِيَارِ إِمْبْرَاطُورِيَّتِهَا، إِذْ وَضَعَ ثِقَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الصَّحِيحِ. فَرَّ جِيرُومُ حِينَ بَدَأَتِ الرِّمَالُ تَتَحَرَّكُ وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُقَاوَمَةَ –لِأَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِقَدَمَيْهِ تَحْتَهُ. إِذْ كَانَ قَدْ وَضَعَ ثِقَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْخَطَأِ، وَضَعَ ثِقَتَهُ فِي قَيْصَرٍ، وَضَعَ ثِقَتَهُ فِي رُومَا. وَضَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ الْخَطَأِ. وَعِنْدَمَا اهْتَزَّ هَذَا الْمَوْضِعُ الْخَطَأُ، خَرَجَ مِثْلَ "فَرُّوجِ الْقِلَّةِ". أَتَذْكُرُونَ شَخْصِيَّةَ "فَرُّوجِ الْقِلَّةِ"؟ حِينَ كانَ نَائِمًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَسَقَطَ الْبَلُّوطُ عَلَى رَأْسِهِ، وَظَنَّ أَنَّ جُزْءًا مِنَ السَّمَاءِ قَدِ انْشَقَّ وَسَقَطَ، وَبَدَأَ يُحَذِّرُ مِنْ أَشْياءَ سَيِّئَةٍ لِلْغَايَةِ سَتَحْدُثُ لأَنَّ السَّمَاءَ تَسْقُطُ. وَهَكَذَا، ظَلَّ "فَرُّوجُ الْقِلَّةِ" يَجُوبُ قَائِلًا: "السَّمَاءُ تَسْقُطُ! "السَّماءُ تَسْقُطُ!" هَذَا بِالضَّبْطِ مَا فَعَلَهُ الْقِدِّيسُ جِيرُومُ، لأَنَّ الْعَالَمَ كَانَ سَيَنْتَهِي فِي عَامِ 420. هَلِ انْتَهَى؟ لا. حَسَنًا، فَنَحْنُ هُنَا الآنَ، بَعْدَ بِضْعَةِ قُرُونٍ مِنْ عامِ 420. يَا لَهَا مِنْ رِوَايَةٍ مُثِيرَةٍ. كَمَا أَنَّهَا تُمَهِّدُ الطَّرِيقَ لَنَا لِنَتَأَمَّلَ اللَّحْظَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا.
فَلْنَتَأَمَّلِ اللَّحْظَةَ الَّتِي نَحْيَاهَا الآنَ. فَلْنَخْتَرْ أَيَّ تَارِيخٍ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ. فَلْنَخْتَرْ صَيْفَ عَامِ 2015، وَلْنَتَحَدَّثْ عَنْ قَرَارِ الْمَحْكَمَةِ الْعُلْيَا بِتَقْنِينِ زَوَاجِ الْمِثْلِيِّينَ. أَوْ لِنَعُدْ إِلَى الصَّيْفِ السَّابِقِ لَهُ، وَنَخْتَرْ حَدَثًا أَقَلَّ أَهَمِّيَّةً مُرْتَبِطًا بِهِ، حِينَ أَصْدَرَ عُمْدَةُ هْيُوسْتِنْ مُذْكِّرَاتِ إِحْضَارٍ لِلْعِظاتِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَرَى مَا إِذَا كانَتْ تَحْمِلُ لُغَةَ كَرَاهِيَةٍ. بَدَا وَكَأَنَّهُ أَمْرٌ قَلِيلُ الأَهَمِّيَّةِ نِسْبِيًّا. قد نَنْظُرُ إلى هَذِهِ النَّوْعِيَّةَ مِنَ الأُمُورِ.
وَقَدْ نَنْظُرُ إِلَى الثَّقَافَةِ الشَّعْبِيَّةِ. كَانَ هُنَاكَ إِعْلانٌ تِجاريٌّ مُعَيَّنٌ كُنْتَ أُشاهِدُهُ، وَهُوَ يَحْكِي قِصَّةَ سَيِّدَةٍ تَسْتَيْقِظُ وَتَتَناوَلُ طَعامَ الإِفْطَارِ مَعَ ظِلالِ شَريكٍ لَهَا، وَبِانْتِهَاءِ الإِعْلانِ، نَكْتَشِفُ أَنَّهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى. أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ مُجَرَّدُ تَعْمِيمِ مَا كانَ مِنْ خَمْسِ سَنَواتٍ أَوْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ، لَمْ يَكُنْ فِي الأُفُقِ لا فِي التَّشْرِيعِ وَلا في قَرَارَاتِ الْمَحَاكِمِ وَلا فِي الإِعْلانَاتِ التِّجَارِيّةِ لِلاسْتِهْلاكِ الْعَامِّ.
لِذَا، نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ زَمَنِ التَّغْيِيرِ، زَمَنِ تَغْيِيرٍ أَتَجَرَّأُ وَأَقُولُ إِنَّهُ مَنْهَجِيٌّ وَسَرِيعٌ. كَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ زَمَنِ إِرْبَاكٍ. كُنْتُ أَقْرَأُ مُؤَخَّرًا مَقَالًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الاجْتِماعِ عَنِ "الإِرْبَاكِ الثَّقَافِيِّ". وَهَذا مُصْطَلَحٌ يُعَدُّ فَنِّيَّ الطَّابِعَ، رَغِبُوا فِي اسْتِخْدَامِهِ لِتَوْضِيحِ مَدَى تَخَالُطِ الْفِئاتِ الثَّقَافِيَّةِ. كَمَا أَنَّ هَذَا الإِرْبَاكَ الثَّقَافِيَّ يُسْهِمُ أَيْضًا، بِالإِضَافَةِ إِلَى تَخَالُطِ الْفِئاتِ، فِي قِلَّةِ الْقَرارَاتِ -سَواءٌ كَانَتْ قَرَارَاتٍ أَخْلاقِيَّةً مُجْتَمَعِيَّةً أَوْ قَرَارَاتٍ تَشْرِيعِيَّةً قَانُونِيَّةً- مَبْنِيَّةً عَلَى الْمَبَادِئِ. فَالإِرْبَاكُ قائِمٌ وَالتَّغْيِيرُ قَائِمٌ. وَعَدَمُ الْيَقِينِ هو ثَمَرَتُهُمَا. عَلَى شَاكِلَةِ "إِنِّي لا أَشْعُرُ بِقَدَمَيَّ تَحْتِي". وَمِنْ نَوْعِيَّةِ لَحْظَةِ "رِيب فَانْ وِينْكِل" بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ مُرُورِ الزَّمَن، فَقَدْ مَضَتْ سَنَتَانِ فَحَسْبُ. لذا يَجُوزُ أَنْ نُسَمِّيَهُ "إِصَابَةً ثَقَافِيَّةً"، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
فَهَذَا هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ. وَكَثِيرُونَ يُرِيدُونَ الصِّيَاحَ "يَا فَرُّوجَ الْقِلَّةِ، السَّمَاءُ تَتَدَاعَى. "النِّهَايَةُ اقْتَرَبَتْ"، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ نُرِيدُ أَنْ نَتَمَثَّلَ بِجِيرُومَ، وَنَهْرُبَ إِلَى كُهُوفِنَا فِي بَيْتِ لَحْمٍ لِنَقْضِيَ فِيهَا السَّنَةَ الأَخِيرَةَ مِنْ حَيَاتِنَا. لا أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الاسْتِجَابَةُ الصَّحِيحَةُ. بِمَعْنَى، قَدْ يَحْمِلُ بَعْضُ هَذَا التَّغْيِيرِ الثَّقافِيِّ فِي طَيَّاتِهِ جَانِبًا إِيجَابِيًّا. أَيْ قَدْ يَكُونُ هَذَا التَّغْيِيرُ الثَّقافِيُّ أَمْرًا صَالِحًا، لا سِيَّمَا إِذَا كُنَّا نُشْبِهُ جِيرُومَ بَعْضَ الشَّيْءِ، ونَضَعُ ثِقَتَنَا فِي الْمَوَاضِعِ الْخَاطِئَةِ، نَضَعُ ثِقَتَنَا فِي الثَّقَافَةِ، وَنَضَعُ ثِقَتَنَا فِي الْمَشَاهِيرِ، وَنَضَعُ ثِقَتَنَا فِي انْتِخابِ الرَّئِيسِ الْمُنَاسِبِ لِلْبِلادِ، وَنَضَعُ ثِقَتَنَا فِي تَعْيِينِ الْقُضَاةِ الْمُنَاسِبِينَ لِيَجْلِسُوا فِي الْمَحَاكِمِ الْمُنَاسِبَةِ.
إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ التَّغْيِيراتِ الثَّقافِيَّةِ قَدْ تَكُونُ فِي الْوَاقِعِ إِيجَابِيَّةً لأَنَّهَا تَدْفَعُنَا لِطَرْحِ سُؤَالِ: أَيْنَ نَضَعُ ثِقَتَنَا؟
هَلْ مِنْكُمْ فَرْدٌ فِي فَرِيقٍ رِيَاضِيٍّ وَلَهُ مُدَرِّبٌ؟ حَسَنًا. هَلْ قَالَ لَكَ مُدَرِّبُكَ قَبْلًا عِبَارَةَ: "تُعْوِزُكَ الثِّقَةُ". هَلْ سَمِعْتَهَا قَبْلًا مِنْ أَيِّ مُدَرِّبٍ؟ كَانَ مُدَرِّبِي في السِّبَاحَةِ يَحْمِلُ شَيْئَيْنِ: صَفَّارَةً وَلَوْحَ سِبَاحَةٍ. لَوْحُ السِّبَاحَةِ مُفيدٌ جِدًّا. لِأنَّهُ وَأَنْتَ تَسْبَحُ تَدْخُل الْمِيَاهُ إِلَى أُذُنِكَ، فَلا تَسْمَعُ أَيَّ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّكَ تَحْتَ الْمَاءِ. لِذَا كَانَ لَوْحُ السِّبَاحَةِ نَافِعًا، لأَنَّهُ حِينَ تَقْتَرِبُ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ وَيُرِيدُ الْمُدَرِّبُ إِخْبَارَكَ بِشَيْءٍ، كُلُّ مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ هو الإمْساكُ بِهَذَا اللَّوْحِ وَلَمْسُ رَأْسَكَ بِهِ لِيَجْذُبَ انْتِبَاهَكَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ إِخْبَارَكَ بِشَيْءٍ. وَأَنَا تَحْدِيدًا أَتَذَكَّرُ ذَلِكَ الْوَقْتَ. إِذْ كُنْتُ أَتَدَرَّبُ عَلَى السِّبَاحَةِ عَلَى الظَّهْرِ، وَكُنْتُ لا أُمَارِسُهَا عَلَى نَحْوٍ صَحِيحٍ. فَكُنْتُ أَسْبَحُ نَحْوَ الأَعْلَامِ، وَأَقْتَرِبُ مِنَ الْحَائِطِ لأُحَاوِلَ الالْتِفَافَ ثُمَّ أَخْرُجُ، ثُمَّ أَذْهَبُ إِلَى الْحَائِطِ. كُنْتُ أَتَدَرَّبُ عَلَى هَذَا مِرَارًا وَتَكْرَارًا، لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ أُؤَدِّيها بِالشَّكْلِ الصَّحِيحِ. فَأَتَى الْمُدَرِّبُ إِلَيَّ. وَلَمَسَ رَأْسِي. فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنٍ مُحْمَرَّةٍ وَقُلْتُ: "نَعَمْ يَا مُدَرِّبِي؟" فَقَالَ: "أَتَعْلَمُ مَا الْمُشْكِلَةُ؟" وَبَدَأَتْ مَوْسُوعَةُ ذِهْنِي الْمَعْرِفِيَّةُ فِي الْعَمَلِ. ظَنَنْتُ أَنَّ هُنَاكَ إِجَاباتٍ كَثِيرَةً لِذَلِكَ السُّؤالِ. فَقَالَ لِي: "تُعْوِزُكَ الثِّقَةُ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
كُنْتُ أَعْرِفُ صَدِيقًا يَافِعًا كانَ مُعْجَبًا بِفَتَاةٍ مُعَيَّنَةٍ ولَمْ يَنْجَحْ قَطُّ فِي مُوَاعَدَتِهَا. فَكُنْتُ فِي مَنْزِلِهِ ذَاتَ يَوْمٍ، وَكُنَّا نَتَحادَثُ. وَكَانَ وَالِدُهُ حَاضِرًا، وَكانَ يُحَاوِلُ شَرْحَ الْمَوْقِفِ لِوَالِدِهِ باحِثًا عَنْ أَيَّةِ نَصِيحَةٍ أَبَوِيَّةٍ. فَنَظَرَ وَالِدُهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: "أَتَعْلَمُ أَيْنَ تَكْمُنُ الْمُشْكِلَةُ؟" تُعْوِزُكَ –فَسَبَقَهُ وَقالَ: "أَعْلَمُ أَعْلَمُ. تُعْوِزُنِي الثِّقَةُ". فَقَالَ: "حَسَنًا كُنْتُ سَأَقُولُ تُعْوِزُكَ سَيَّارَةٌ، لَكِنْ تُعْوِزُكَ الثِّقَةُ أَيْضًا". سَأُوَضِّحُ مَاذا تَعْنِي الثِّقَةُ. أَحْيَانًا، إِنَّهَا مَسْأَلَةُ دَرَجَاتٍ. أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ رِيَاضِيًّا، وَتُرِيدُ تَحْقِيقَ الْهَدَفِ، عَلَيْكَ التَّحَلِّي بِالثِّقَةِ. أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لِتُنْجِزَ أَيَّ مَشْرُوعِ عَمَلٍ، لا بُدَّ أَنْ تَتَحَلَّى بِبَعْضِ الثِّقَةِ. وَأَنْتَ مُتَّجِهٌ نَحْوَ مَوْقِفٍ يَتَطَلَّبُ مُعَالَجَةً دَقِيقَةً، سَوْفَ تَحْتَاجُ إِلَى الثِّقَةِ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا إِحْسَاسًا بِأَنَّ الثِّقَةَ لا تَتَعَلَّقُ حَقًّا بِدَرَجَتِها. إِنَّهَا لَيْسَتْ مُتَوَاصِلَةً. فَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ لِمَاذَا أَحْتَاجُ إِلَى الْمَزِيدِ مِنَ الثِّقَةِ. بَلِ السُّؤَالُ الأَوْقَعُ هُوَ "مَا مَحَلُّ ثِقَتِي؟"
فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّنِي أَسْتَطِيعُ الإِجَابَةَ عَنْ هَذَا السُّؤالِ. فَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْهُ، أَنَّنا فِي وَقْتٍ يَتَطَلَّبُ ثِقَةً. تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْكَلِمَةُ.
أَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِإِمْكانِنَا القَوْلُ إِنَّهُ وَقْتٌ لِلشَّجَاعَةِ. وسَنَظَلُّ نَقُولُ هَذَا. إِنَّهُ وَقْتٌ للشَّجَاعَةِ الأَخْلاقِيَّةِ. فِي أَحَدِ الْمَوَاقِفِ فِي رِوَايَةِ "السَّائِحِ الْمَسِيحِيِّ"، جَعَلَ بَنْيَانْ الْمَسِيحِيَّ يَقُولُ: "كُنْتُ أَسْتَطِيعُ مُسَايَرَةَ الْحَشْدِ". إِنْ جَازَ التَّعْبِيرُ. "كُنْتُ أَسْتَطِيعُ هُنَا مُجَارَاةَ التَّوَقُّعَاتِ، لَكِنِّي لَمْ أَفْعَلْ. حَتَّى وَإِنْ عَنَى ذَلِكَ وُقُوفِي حَيْثُ أَنَا حَتَّى تُغَطِّيَ الرِّمَّةُ عَيْنيَّ". أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ "أُصَلِّي بِأَنْ يَهَبَنِي اللهُ الشَّجَاعَةَ لِفِعْلِ الصَّوَابِ". فَلْنُطْلِقْ عَلَيْهِ إِذَنْ وَقْتًا للشَّجَاعَةِ بِسَبَبِ الارْتِباكِ الأَخْلاقِيِّ، وَبِسَبَبِ الرِّمَالِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَبِسَبَبِ مَا نُوَاجِهُهُ.
كَمَا يُمْكِنُنَا التَّحَدُّثُ عَنِ الاقْتِناعِ. وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ. إِنَّهُ وَقْتٌ لِلاقْتِنَاعِ. عِنْدَمَا تَحَوَّلَ الضَّغْطُ الثَّقَافِيُّ الآنَ -اسْتَمْتَعْنَا بِلَحْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بِخَاصَّةٍ الْمَسِيحِيَّةُ الأَمْرِيكِيَّةُ، إِذْ كَانَ مَقْبُولًا لِلْغَايَةِ أَنْ تَكُونَ مَسِيحِيًّا، وَمَقْبُولًا لِلْغَايَةِ أَنْ تَكُونَ مُرْتَادًا لِلْكَنِيسَةِ، وَمَقْبُولًا لِلْغَايَةِ التَّحَدُّثُ عَنِ الْكِتابِ الْجَيِّدِ ثَقَافِيًّا. وَيُعَدُّ مُعْظَمُ ذَلِكَ انْجِرَافًا. لِذَا يُعَدُّ الضَّغْطُ: "حَسَنًا، رُبَّمَا عَلَيَّ الانْسِحابُ وَالتَّرَاجُعُ قَلِيلًا. رُبَّمَا عَلَيَّ أَلَّا أُفْرِطَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ مُعْتَقَدَاتِي. رُبَّمَا عَلَيَّ جَحْدُ بَعْضِ الآرَاءِ الَّتِي لَمْ تَعُدْ بِبَسَاطَةٍ مَقْبُولَةً ثَقَافِيًّا بَعْدَ الآنَ". حِينَهَا يُخَيِّمُ جُبْنُنَا، وَنَبْدَأُ نَخْبُو، حَتَّى إِنَّنَا نَسْتَسْلِمُ بِبَسَاطَةٍ وَنَتَخَلَّى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِمُجَرَّدِ أَنْ نَنْحَازَ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ. سَوْفَ نَتَحَدَّثُ عَنْ هَذَا فِي مُحَاضَرَاتٍ قَادِمَةٍ، وَتَحْدِيدًا فِي طَوْرِ حَدِيثِنَا عَنْ ضَرُورَةِ وَضْعِ ثِقَتِنَا فِي الْكَلِمَةِ وَفِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ خَاصَّةً عِنْدَمَا تُقاوَمُ الْكَلِمَةُ. بِلا أَدْنَى شَكٍّ نَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْمُقَاوَمَاتِ الثَّقَافِيَّةَ الْجَارِيَةَ تَنْطَوِي عَلَى تَحَدِّي أنَّ كَلِمَةَ اللهِ لَمْ تَعُدْ قَابِلَةً لِلتَّطْبِيقِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ أَصْبَحَتْ بِلا سُلْطَانٍ وَعَدِيمَةَ النَّفْعِ لِلْوُجُودِ الْبَشَرِي. بِلا أَدْنَى شَكٍّ هَذَا مَا نَتَحَدَّثُ عَنْهُ.
فَهَذَا وَقْتٌ للشَّجَاعَةِ، وَوَقْتٌ لِلاقْتِنَاعِ، لَكِنِّي أَعْتَقِدُ حَقًّا أَنَّهُ وَقْتٌ لِلثِّقَةِ-بِأَنَّ لا بُدَّ أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا فِي اللهِ. انْطَوَى تَارِيخُ إِسْرَائِيلَ عَلَى لَحْظَةٍ -أُرِيدُ أَنْ أَجْذُبَ انْتِبَاهَنَا إِلَى هَذَا النَّصِّ الْمُقَدَّسِ- انْطَوَى تَارِيخُ إِسْرَائِيلَ عَلَى لَحْظَةٍ حِينَ كَانَتِ السَّمَاءُ تَسْقُطُ. كَانَتْ بَابِلُ تُضَيِّقُ عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَلا أَملَ ليَهُوذَا بِالتَّغَلُّبِ عَلَى جَيْشِ بَابِل. وَإِرْمِيَا عَلِمَ ذَلِكَ. عَلِمَ أَنَّ الأَمْرَ لا يَتَعَلَّقُ بِمَدَى قُوَّةِ بَابِل. بَلْ يَتَعَلَّقُ بِكَسْرِ إِسْرَائِيلَ لِلْعَهْدِ. وَقَد أَوْضَحَ اللهُ ذَلِكَ إِذْ قَالَ: "احْفَظُوا النَّامُوسَ، وَسَتَتَبَارَكُونَ فِي الأَرْضِ. وَإِنْ وَضَعْتُمُوهُ جَانِبًا وَتَعَدَّيْتُم عَلَيْهِ، سَتُعَاقَبُونَ. وَسَتَجِدُونَ أَنْفُسَكُمْ، حَتْمًا، خَارِجَ الأَرْضِ". كَانَتْ مَمْلَكَةُ الشَّمَالِ، إِسْرَائِيلُ، عِبْرَةً لِمَمْلَكَةِ الْجَنُوبِ، يَهُوذَا. لَقَدْ رَأتِ الأَمْرَ يَحْدُثُ. رَأَتْ أَشُّورَ تَسْبِي أَسْبَاطَ الشَّمَالِ. وَمَعَ ذَلِكَ تَمَادَتْ يَهُوذَا فِي عِصْيَانِهَا وَتَمَرُّدِهَا وَازْدِرَائِهَا بِنَامُوسِ اللهِ. لِذَا، ظَهَرَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ فِي الْمَشْهَدِ. كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ الْهَزِيعَ الرَّابِعَ، حِينَ خَطَّ إِرْمِيَا سِفْرَهُ. يَقُولُ فِي الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الأَصْحَاحِ التَّاسِعِ: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لَا يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ". فَالأَمْرُ الْمُثِيرُ هُنَا هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ سِمَةٌ صَالِحَةٌ. اقْرَؤُوا سِفْرَ الأَمْثَالِ. كَمْ مَرَّةً أَوْصَانَا فِيهِ بِالتَّحَلِّي بِالْحِكْمَةِ؟ لَكِنْ فِي الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الأَصْحَاحِ التَّاسِعِ يَقُولُ إِرْمِيَا: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لَا يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ"، لِذَا تَتَحَتَّمُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ مَاذَا يَجْرِي هُنَا. ثُمَّ يُكْمِلُ: "وَلَا يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلَا يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ". أَعْتَقِدُ أَنَّ مَا نَقْرَأُهُ هُنَا هُوَ أَحَدُ الأُمُورِ "الْعَابِرَةِ" الَّتِي يُمْكِنُنَا رُؤْيَتُهَا، إِنَّهَا الأُمُورُ الْعَابِرَةُ عَلَى الْمُسْتَوَى الأُفُقِي، الأُمُورِ الزَّائِلَةِ الَّتِي نَرَاها وَنَرْغَبُ، كَرَدِّ فِعْلٍ غَالِبًا، أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا بِهَا. فَلِي الْحِكْمَةُ، وَلِي الْقُدْرَةُ، وَلِي الْغِنَى. هَاتِي مَا عِنْدَكِ يَا بَابِلُ! لَنْ يَنْفَعَ أَيٌّ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ. "بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلًا فِي الْأَرْضِ، لِأَنِّي بِهَذِهِ أُسَرُّ". كَانَ إِرْمِيَا وَاضِحًا فِيمَا يَقُولُهُ لِسَامِعِيهِ. أَنْتُمْ تَضَعُونَ ثِقَتَكُمْ فِي الْأشْيَاءِ الْخَطَأِ. الأَمْرُ يُشْبِهُ الذَّهَابَ لِلامْتِحَانِ النِّهائِيِّ وَأَنْتَ مُسْتَعِدٌّ جَيِّدًا، لَكِنَّكَ قَدْ ذَاكَرْتَ لِلامْتِحانِ الْخَطَأِ. وَمَا ذَاكَرْتَهُ لَنْ يُعِينَكَ عَلَى إِجَابَةِ هَذَا الامْتِحَانِ. كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلامْتِحانِ الْخَطَأِ، وَكَانُوا يَضَعُونَ ثِقَتَهُمْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ وَضْعُ إِيمَانِهِمْ وَثِقَتَهُمْ فِي اللهِ.
كَانَ عامُ 1527 سَنَةً قَاسِيَةً عَلَى مَارْتِنْ لُوثَر. رُبَّمَا تَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ عَامًا عَظِيمًا. كَانَتِ الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةَ الْعَاشِرَةَ لِتَعْلِيقِ الْبُنُودِ الْخَمْسَةِ وَالتِّسْعِينَ، كَانَتِ الْكَنِيسَةُ الْوَلِيدَةُ قَائِمَةً وَتَخْطُو سَرِيعًا، وَالطُّلَّابُ مُلْتَحِقُونَ بِكُلِّيَّةِ وِيتِنْبِيرْج. كَانَتْ بَدَاءَةَ أُمُورٍ جَدِيدَةٍ عَظِيمَةٍ. لَكِنَّهَا كَانَتْ سَنَةً قَاسِيَةً عَلَى لُوثَر. إِذْ ضَرَبَ الطَّاعُونُ وِيتِنْبِيرْج، وَشَعَرَ أَفْرَادُ أُسْرَتِهِ بِالْمَرِضِ، فَأَمَرَهُ فْرِيدِرِيك وَايْز بِالْمُغَادَرَةِ هُوَ وَهَيْئَةَ التَّدْرِيسِ. لَكِنَّ لُوثَرَ قَرَّرَ الْبَقَاءَ لِلاعْتِناءِ بِالْمَرْضَى. وَفَقَدَ مَارْتِنْ وَزَوْجَتُهُ كَايْتْ رَضِيعَتَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. كَمَا كَانُوا لا يَزَالُونَ فِي أَجِيجِ الْحَرْبِ، ثَوْرَةِ الْفَلَّاحِينَ، فَحَاوَلَ لُوثَرُ التَّوَسُّطَ. لَكِنْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَرْبِ، اعْتَقَدَ كُلٌّ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَالنُّبَلاءِ أَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَيْهِمَا. لَقَدِ انْتَهَى بِهِ الْحَالُ كَمَا لَوْ أَنَّهُ خَسِرَ الطَّرَفَيْنِ. كَانَتْ سَنَةً قَاسِيَةً عَلَى لُوثَر. فَكَتَبَ تَرْنِيمَةً. أَنْتُمْ تَعْرِفُونَهَا. إِنَّها تَرْنِيمَةُ لُوثَرَ الَّتِي نُحِبُّهَا. بِعُنْوَانِ "إِلَهُنا، حِصْنٌ مَنِيعٌ" (A Mighty Fortress is Our God). مِنْ كُلِّ الضِّيقِ الَّذِي مَرَّ عَلَى حَيَاتِهِ كَتَبَ: "هَذَا الْعَالَمُ تَمْلَؤُهُ الشَّيَاطِينُ" –"هَذَا الْعَالَمُ تَمْلَؤُهُ الشَّيَاطِينُ". التَّرْنِيمَةُ مُمْتَلِئَةٌ بِعَدَمِ الرَّاحَةِ وَالتَّوَتُّرِ وَالْقَلَقِ وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالأَرْضِ تَحْتَ الأَرْجُلِ.
فَإِلَى أَيْنَ الْتَجَأَ لُوثَرُ؟ كَمَا يَقُولُ الْمَزْمُورُ الَّتِي اقْتُبِسَتْ مِنْهُ هَذِهِ التَّرْنِيمَةُ-المَزْمُورُ 46-"مَلْجَأُنَا إِلَهُ يَعْقُوبَ"-الْتَجَأَ إِلَى اللهِ. وَوَضَعَ ثِقَتَهُ فِي اللهِ. وَضَعَ ثِقَتَهُ فِي اللهِ، عَالِمًا أَنَّهُ يَضَعُ ثِقَتَهُ فِي الْمَسِيحِ أَيْضًا. بِأَنَّهُ الْكَلِمَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي سَتُسْقِطُ جَمِيعَ أَعْدَائِنَا. الْكَلِمَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي سَتُسْقِطُ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَقِفُ أَمَامَنَا. "الْكَلِمَةُ الْوَحِيدَةُ فَوْقَ كُلِّ الْقِوَى الأَرْضِيَّةِ"-فَلا نَنْسَ هَذَا-"فَلا فَضْلَ لَهُمْ، لِثَبَاتِ الْكَلِمَةِ". فَهَكَذَا يَقُولُ لُوثَرُ يَنْبَغِي أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا فِي اللهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا فِي كَلِمَةِ الله، وَيَنْبَغِي أَنْ نَضَعَ ثِقَتَنا فِي الْمَسِيحِ، وَفِي قُوَّةِ إِنْجِيلِهِ. أَتَعْلَمُونَ كَيْفَ أَنْهَاهَا؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلُوا الْجَسَدَ". كَيْفَ نُرَنِّمُ هَذَا عَفَوِيًّا؟ أَتَعْلَمُونَ، عِنْدَمَا أُرَنِّمُ هَذَا الشَّطْرَ أَخَالُ أَنَّ "لُوثَرَ لَطَالَمَا كَانَ مُتَطَرِّفًا". لُوثَرُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا اسْمُهُ مُنْتَصَفُ الطَّرِيقِ. فَهْوَ لَمْ يَقُلْ "وَإِنْ أَذُونِي". لا، بَلْ "إِنْ قَتَلُوا الْجَسَدَ". أَهَذَا حَقِيقِيٌّ؟ أَهَذَا حَقِيقِيٌّ وُجُودِيًّا؟ لأَنَّ "حَقَّ اللهِ ثَابِتٌ وَبَاقٍ". وَهَا هُوَ الْحَقُّ الْوَحِيدُ الثَّابِتُ الْبَاقِي، الْحَقُّ عَيْنُهُ الَّذِي اعْتَصَمَ بِهِ أُوغُسْطِينُوسُ حِينَمَا كَانَتْ رُومَا تَسْقُطُ، وَالْحَقُّ ذَاتُهُ الَّذِي أَعْلَنَهُ إِرْمِيَا، صَوْتُ اللهِ، إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ؛ كَانَ الْوَاقِعَ الْوَحِيدَ الَّذِي نَسَوْا أَمْرَهُ. الْحَقُّ الْوَحِيدُ هو أَنَّ مَلَكُوتَهُ أَبَدِيٌّ. هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ. لِذَا، لا نَخْشَى حَوَادِثَ زَمَنِنَا، إِنَّهُ وَقْتٌ لِلثِّقَةِ.
فِي الْمُحَاضَرَةِ الْقَادِمَةِ، سَوْفَ نَتَمَعَّنُ فِي مَعْنَى وَضْعِ ثِقَتِنَا فِي اللهِ.