لماذا تُدعى الجمعةُ العظيمةُ "عظيمةً" - خدمات ليجونير
الحقّ الثابت في عالم متغيِّر
۲۸ نوفمبر ۲۰۲۵
الحقّ الثابت في عالم متغيِّر
۲۸ نوفمبر ۲۰۲۵

لماذا تُدعى الجمعةُ العظيمةُ “عظيمةً”

يُحتفَل بـ"الجمعة العظيمة"، والتي تُحيي ذكرى آلام وموت الربّ يسوع، منذُ زمنٍ بعيد في الكنيسة المسيحيّة. السجّلات التاريخيّة غير واضحة بشأن الطريقة التي صارت الكنيسة تدعو "الجمعة العظيمة" بهذا الاسم، إذ لم يُذكر هذا المصطلح في الكتاب المقدس. اقترح البعض أنّها كانت في الأصل تُدعى "جمعة الله" (God’s Friday) ثم تحرَّف لفظها ليصير "الجمعة العظيمة" (Good Friday)، ولكنّ معظم اللغويّين يجدون هذه النظريّة ضعيفة ولا يمكن الدفاع عنها. الأمر الأكثر احتمالًا هو أن هذه التسمية تأتي من المعنى القديم للكلمة "جيّد" (good)، وهو "مُقدَّس،" أي أنّها كانت تُدعى "الجمعة المُقدَّسة".

بغضّ النظر عن كيفية تطوّر هذا المصطلح تاريخيًا، تبقى حقيقة أنّ المؤمنين يرون "الجمعة العظيمة" جيّدة وصالحة وعظيمة بالطريقة التي نفهم بها هذا التعبير اليوم، وهي حقيقة قد يجدها بعض الناس مُدهِشةً ومُربِكة. فلماذا يعطي المسيحيّون صفة "العظمة" ليومٍ شهِد قائدهم فيه ظلمًّا فظيعًا مُريعًا على أيدي رؤساء وقادة دينيّين فاسدين، وقُتِل على يد الرومان على أداةِ تعذيبٍ مُخزية؟

للوهلة الأولى، لا يبدو أن هذا اليوم ينطوي على أيِّ صلاح أو عظمة. ومؤكَّد أنَّ أتباع يسوع لم يروه عظيمًا أو جيّدًا حين كانوا ينوحون على موته في تلك الجمعة والسبت الذي أعقبها. فالتلاميذ الذين تخلّوا عن أعمالهم التي كانوا يعتاشون بها، إذْ كانوا يؤمنون أنّهم سيكونون لاعبين أساسيّين في الملكوت المسيانيّ الذي سيقلب حكم روما - تحطّمت آمالهم وأحلامهم. وفي الحقيقة، لو كان موت يسوع في ذلك اليوم المُظلِم نهاية القصّة، لصحّ أن ينظر الناس إلى المسيحيّين بعين الشفقة (1 كورنثوس 15: 17-19).

فلماذا إذًا يدعو المسيحيّون الجمعة العظيمة "عظيمة"؟ الجواب هو أنّ أحد القيامة يُفسِّر الجمعة ويحوِّلها إلى جمعةٍ عظيمة. نرى في الكتاب المُقدَّس نمطًا في إعادة تفسير "ما هو غير جيد" حين يعمل الله فيه ويستخدمه بسيادته فيأتي منه ما هو جيّد وعظيم.

فمثلًا، فكِّر بقصّة يوسف في سفر التكوين. ليس من شيءٍ جيّد في تعرُّضه للخيانة والغدر من إخوته، وفي بيعه عبدًا في بلد أجنبيّ، وحين بدت الأمور أخيرًا في تحسُّن طفيف، اتُّهم كذبًا وأُلقي به في السجن، ونسيه سجينٌ آخر أُطلِق سراحه. وسيكون من الطبيعي أن تختم بـ"غير عظيم وغير جيِّد" على هذه الأجزاء من قصّة يوسف. ولكنْ في عناية الله السرّيّة والرائعة، يصنع الخير والعظمة من هذه المادة الخام "غير العظيمة وغير الجيّدة"، مُستخدِمًا يوسف ومنصب السّلطة الذي بلغه أخيرًا في مصر لا ليُنقِذ عائلة يوسف فقط من الجوع، بل كلّ المنطقة أيضًا. وبنظر يوسف إلى أحداثِ الماضي، يستطيع أن يقول عن خيانة إخوته الشرّيرة له: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا" (تكوين 50: 20).

هذا ينطبق على حدثي الصلب وموت يسوع الشرِّيرَين. فكما يوضِّح الرسول بطرس في عظته في يوم الخمسين، فإنّ يسوع "بِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أعمال 2: 23). هؤلاء الأثمة هم من قتلوا "رَئِيسَ الْحَيَاةِ" (أعمال 3: 15). كان شرًّا أن يحكم هؤلاء بالموت على إنسانٍ يعرفون أنّه بريء، الذي كان في الحقيقة الله المتجسِّد. ولكنْ خلال كلّ هذه الأحداث، كان الله يتمِّم خطّة أُنبئ بها عبر الأزمنة والأجيال بأن يأتي بأعظم خيرٍ من أعظم شرّ. ماذا كان الخير الذي كان الله يتمّمه في موت يسوع في تلك الجمعة؟

الجمعة العظيمة صالحة وعظيمة لأنّ في هذا اليوم حدثت أعظم مُبادَلة.

يوضِّح الكتاب المُقدَّس أنّ البشر في مأزق. فجميعنا أخطأنا وَأَعْوَزَنا مجد الله (رومية ٣: ٢٣). شرّ الخطيّة وبشاعتها يفصلاننا عن الله المجيد الكامل القدوس، الذي ينبغي له في برّه وعدله أن يدين الخطيّة (رومية ٢: ٥-٦؛ ٥: ٩-١٠؛ ١ تسالونيكي ١: ١٠). فما الرجاء الذي لدينا حين نسرع نحو مستقبل يتّسم بالانفصال الأبديّ عن محبّة الله، وبدلًا من اللقاء بهذه المحبّة يكون علينا مواجهة غضبه البارّ والعادل على الخطيّة؟ نحن نفتقر إلى البرّ المطلوب للوقوف في محضر الله، ولا نستطيع سداد الدين الذي ندين به بسبب خطيّتنا.

لن يكون هناك رجاء من دون خطّة الله الثالوث الأزليّة بأن يأتي إلينا بالخلاص الذي لا نستطيع أن نحقِّقه لأجل أنفسنا. فالأقنوم الثاني في الثالوث، أي الابن، اتّخذ جسدًا بشريًّا وعاش حياة بارّة بالكامل نفشل جميعًا في أن نعيشها. وبحسب خطّة الله (أعمال 2: 23)، واجه يسوع على الصليب ما يتجاوز غضب القادة اليهود والجنود الرومان بكثيرٍ جدًّا. فقد واجه وأرضى (أو "كفَّر" – أوفى بمطالب) غضب الله نفسه على خطايا كلّ الذين يخصّونه (رومية 5: 9-10؛ عبرانيّين 2: 17؛ 1 يوحنا 2: 2). وقد أشار نظام الذبائح في العهد القديم إلى يسوع، الذي هو رئيس الكهنة الكامل والذبيحة الكاملة (عبرانيّين 9: 12، 26). فأرضت حياته الكاملة وموته الذبيحيّ البديليّ غضب الله ودينونته على خطايا كلّ الذين يثقون بخلاص يسوع المسيح وحده. حمل يسوع، البارّ الكامل، عقابَ خطايانا في نفسه، ونحنُ الذين نستحقّ العقاب الأبديّ لإثمنا ننال برَّ المسيحِ الكاملَ.

ولذا، فإنّ الجمعة العظيمة صالحة وعظيمة لأنّ المسيح بموته افتدانا من لعنة الناموس إذْ صار لعنةً لأجلنا حتّى ننال التبنّي (غلاطية 3: 13-14؛ 4: 5). ولأنّ يسوع حمل خطايانا في جسده على الخشبة (1 بطرس 2: 24)، فإنّ لنا الفداء وغفران آثامنا وتعدّياتنا بدمه (أفسس 1: 7). نحنُ مفديّون بدمِ يسوع المسيح الثمين (1 بطرس 1: 18-19). نحنُ مُبرَّرون ومُخلَّصون من غضب الله، ومُصالَحون معه (رومية 5: 9-10).

تؤكِّد قيامة يسوع المسيح من الموت في اليوم الثالث على كلّ ما أنجزه في الجمعة العظيمة، إذْ تُعلِن أنّه ليس للموت حقٌّ نهائيّ بالاحتفاظ بنا (أعمال 2: 24). ويُظهِر انتصاره على الموت في قيامته أنّ له السلطة والقدرة على أن يضمن تبريرنا (رومية 4: 25). تُثبِت القيامة أنّه الله حقًّا (رومية 1: 4)، وأنّ غضب عدالة الله قد أُرضي بموت المسيح الكفّاري، وهو الموت الذي وفّى بمطالب العدالة الإلهيّة. ولأنّ يسوع تحمَّل غضب الله على خطايا كلّ الذين سيثقون بهذا التدبير الإلهي بالإيمان فقط، فإنّ المؤمنين لن يواجهوا غضب الله على خطاياهم أو ينفصلوا عن الله، لأنّهم متّحدون بالمسيح في موته وفي حياته.

وباختصار، الجمعة العظيمة صالحة وعظيمة ومُفرِحة لأنّ في هذا اليوم حدثت أعظم مبادَلة: "لأَنَّهُ (الله) جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2 كورنثوس 5: 21). ولذا أصلّي أن نُعلِن مع الرسول بولس: "فَشُكْرًا ِللهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ الَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا" (2 كورنثوس 9: 15)


تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

كاري هان
كاري هان
كاري هان (Karrie Hahn) هي محرِّرة مساعدة لدى خدمات ليجونير، وحاصلة على إجازة في تقديم المشورة. شاركتْ في كتابة "نساء يقدِّمن المشورة لنساء: إجابات كتابيّة عن مشكلات صعبة في الحياة" (Women Counseling Women: Biblical Answers to Life’s Difficult Problems).