الحقّ الثابت في عالم متغيِّر - خدمات ليجونير
مَحبَّةُ اللهِ الَّتي لا يَفصِلُها شَيء
۲۱ نوفمبر ۲۰۲۵
لماذا تُدعى الجمعةُ العظيمةُ “عظيمةً”
۵ ديسمبر ۲۰۲۵
مَحبَّةُ اللهِ الَّتي لا يَفصِلُها شَيء
۲۱ نوفمبر ۲۰۲۵
لماذا تُدعى الجمعةُ العظيمةُ “عظيمةً”
۵ ديسمبر ۲۰۲۵

الحقّ الثابت في عالم متغيِّر

يُظهِر إعلانٌ تلفزيونيٌّ شخصًا كرتونيًّا يسيرُ ورأسُه غارقٌ في سحابةٍ أو ضبابٍ أو كتلةِ قطن. ثمّ يظهر الشعار: "فرحُ اليقين". وإذ تنقشعُ السحابةُ، يتابعُ الشّخصُ سيرَه بفرحٍ. وهذا الفرحُ باليقينِ يُوعَدُ به مَن يلجأ إلى أولئك الذين يَدَّعون امتلاك قُوى غيبية عبر الاتصال برقمٍ هاتفيٍّ مخصَّص.

يكشفُ مثلُ هذا الإعلانُ شيئًا من الطابعِ القَلِق والمتأرجحِ بلا جذور لعصرِنا. فكثيرون اليوم يَدَّعون أنّهم عقلانيّون وحداثيّون وعِلميّون، لكنّهم في الواقع سُذّج، يَسعَون وراءَ اليقين والحقّ في مواضعَ غريبة. غير أنّ السؤال الملحّ يظلّ: أين يُمكن أن نجد اليقين في عالَمٍ يتغيَّر باستمرارٍ ويغمرُه الاضطراب؟ نحنُ كمسيحيّين مؤمنين نتوجَّه إلى كلمةِ الله، واثقين من الحقّ الثابت الذي نَجِده فيها.

كيف يمكننا أن نساعد الآخرين في أن يصلوا إلى الثقة التي لدينا بالكتاب المُقدَّس؟ يمكننا بل يجب علينا أن نُحاجَج من أجل حقّ إيماننا، ولكنّ المعاصرين كثيرًا ما يظنّون أنّهم فكَّروا بحججنا ويعرفونها بصورة أفضل منّا. فهل هناك طرقٌ نتحدَّى بها الافتراضات المعاصرة وتقود إلى إعادة التفكير بما تدّعيه المسيحيّة؟

إحدى الطرق التي يمكن اللجوء إليها هي التشديد على جمال الحقّ بدلًا من التركيز على حقيقة الحقّ فقط. يمكن إيجاد جمال الحقّ في محتوى وشكل الحقّ الذي نجده في كلمة الله. ونقصد بكلمة "جمال" توازن الحقّ واتّساقه، جاذبيّة الحقّ وإقناعه. يُشير الجمال إلى الإشباع العاطفي للحقّ بالإضافة إلى الاقتناع العقلي.

يمكننا أن نرى هذا الجمال في مواقع كثيرة من الكتاب المُقدَّس، وأحد الأمثلة على هذه المواقع مزمور 103. المزمور 103 هو أحد أحبّ المزامير عند المنتمين للكنائس المُصلَحة الهولنديّة، فهو مزمور تسبيح لله على صلاحه مع شعبه. يبدأ هذا المزمور وينتهي بكلمات تسبيح وبركة للربّ على أعماله، وعلى سدّه الاحتياجات الشخصيّة والفرديّة (الآيات 1-4)، وعلى حكمه الشامل في كلّ الأشياء (الآيات 20-22).

وفي منتصف المزمور يأتي اعتراف جميل بطبيعة الله وصفاته التي منها تنبثق أعمال محبّته. والآية 13، الواقعة في قلب المزمور، تُعلِن: "كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ." محبّة الربّ ورحمته تجاه شعبه تشبهان اهتمام أبٍ بأولاده ورعايته لهم. الله أبونا السماويّ. لا نعيش في كونٍ مادّي غير شخصيّ، بل نحنُ محاصَرون باهتمامٍ ومحبّةٍ شخصيّين.

ستكون الحياة بلا معنى تمامًا من دون دعم محبّة الله الأبديّة لنا.

تركّز رأفة الله في المزمور 103 على أعظم احتياجَين بشريّين. إن عملنا استبيانًا سألنا فيه الناس عن أعظم احتياجاتهم، فستكون إجابات كثيرين بعيدة تمامًا عن الحاجة الحقيقيّة. فجزءٌ من تيه الحالة الإنسانيّة هو عدم معرفة ما يحتاجون إليه. يَرى هذا المزمور بحكمةٍ أنّ أعظم احتياجاتِنا تكمن في طبيعتِنا الخاطئةِ والمائتة. تفصلنا خطيّتنا عن الله، وتعرِّضنا لدينونته. وتلقي طبيعتنا المائتة الفانية بظلالٍ على كلّ الحياة ومواردها، مُعلنةً أنّ نهايتَها الموت..

يدعونا هذا المزمور إلى أن نتذكَّر كلّ بركات وإحسانات الله "الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ" (الآية 3). ورأفة الله بالخطاة والمائتين، المُعلَنة في الآيات 1-5، تُفحَص في شعر الآيات 8-12 و14-17 الجميل.

تبدأ رأفة الله تجاه الخطاة باقتباسٍ من خروج 34: 6. فقد كان موسى قد طلب من الله أن يُريه مجدَه، فاستجاب الله بأن وعده بأن يريه إحسانه بمروره بجانب موسى بينما موسى مختبئٌ في شقّ صخرة (خروج 33: 18-23). وبينما كان الله يمرّ بجانب موسى، تكلّم بالكلمات المُقتبَسة في مزمور 103: 8 ليُظهِر إحسانه: "الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ." وبسبب تلك الرحمة العظيمة، يعد الله بأنّه لن يعاملنا بحسب ما تستحقّه خطايانا (الآية 10). فخطايانا لا تستحقّ سوى الدينونة والعقاب. ولكنّ محبّة الله العظيمة، المرتفعة "مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ" (الآية 11)، تنزع خطايانا بعيدًا "كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ" (الآية 12).

لا يُخبِرنا المزمور 103 بالطريقة التي بها ينزع خطايانا ويبعِدها، ولكنّ إشعياء 53 يُخبِرنا بوضوح بأنَّ عبد الله المتألّم سيرفع خطايانا ويحملها. تُوجِّهنا نبوّة إشعياء تلك إلى يسوع، الذي حمل على الصليب خطايانا وتحمَّل عقوبتها لنتحرَّر منها إلى الأبد.

تأمُّل المزمور 103 يأخذنا إلى رأفة الله تجاه المائتين، وهو ما يُشير أيضًا إلى خروج 34: 6. فمحبّة الله أبديّة، ولذا فإن الموت لا يستطيع أن يهزمها أو يوقِفها: "أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ" (مزمور 103: 17). المحبّة الأبديّة تخصّ الذين سيعيشون في تلك المحبّة إلى الأبد.

نحتاج إلى المحبّة الأبديّة، فإنْ تُركِنا لأنفسنا سنعود إلى التراب الذي منه أُخِذنا وصُنِعنا. يعرف الربّ هذا. وهو يتذكَّر أنَّ أيّام حياتنا تمرّ سريعًا، وأنّنا مثل زهور الحقول سريعة الزوال. ستكون الحياة بلا معنى تمامًا من دون دعم محبّة الله الأبديّة لنا، ومن دون الوعد بأن الله هو "الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ" (الآية 4). نرى أنّ قيامة يسوع هي الوعد المعطى لنا بالحياة الأبديّة في محبّة الله. لدينا هنا حقٌّ جميلٌ حقًّا.

يسمع البعض في العالم عن رحمة الرب، ويفترضون أنّهم آمنون من الغضب الآتي. ولكنّ هذا المزمور يوضِّح أنَّ رأفة الله هي لكلّ الذين هم في عهدٍ معه (الآية 18)، الذين يخافونه (الآيات 11، 13، 17). فلا بُدَّ أن تُعلَن لنا مراحمُ الله العهديّة (الآية 79، ولكنْ حين نقبل ذلك الإعلان نعرف الحقّ الجميل – حقّ الإنجيل.


تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

روبرت جودفري
روبرت جودفري
الدكتور روبرت جودفري هو عضو هيئة التدريس في خدمات ليجونير والرئيس الفخري لكليَّة وستمنستر للاهوت في كاليفورنيا والأستاذ الفخري لتاريخ الكنيسة بها. وهو الأستاذ المُميَّز في سلسلة ليجونير التعليميَّة المُكوَّنة من ستَّة أجزاء بعنوان "مسح شامل لتاريخ الكنيسة" A Survey of Church History. تشمل كتبه العديدة "رحلة غير مُتوقَّعة" An Unexpected Journey، و"تعلَّم أن تُحبَّ المزامير" Learning to Love the Psalms.