
عهد الأعمال
۱٤ نوفمبر ۲۰۲۵مَحبَّةُ اللهِ الَّتي لا يَفصِلُها شَيء
ثباتُ مَحبَّةِ الله وأمانتُها يظهران في قُدرتِها على المُثابرة خلال جميع أنواع العوائق والتجارب. وأسمى تَعبير عن هذه المَحبَّة الأَمينة يتجلّى في تعليم بولس في رومية ٨:
فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟ مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ. مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا. مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:
"إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ.
قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ."
وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. (رومية 8: 31-39)
يَعرضُ الرسول بولس في هذا المقطع الكتابي المبدأ الذي استحوذ على مُصلِحي القرن السادس عشر: "الله لنا" (في اللاتينيّة Deus pro nobis). ليس مصدر التعزيّة المسيحيّة حقيقة أننا لله أو أننا في صفّه، بل حقيقة أن الله لنا وهو في صفّنا. ومعرفتنا أن الله لنا هي معرفة أن لا أحد ولا شيءٍ يستطيع أن يتغلّب علينا. واضحٌ أنّ سؤال بولس بلاغيّ: "إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟" الجواب واضح: لا أحد. طبعًا ليس معنى هذا أنّه لن يكون للمؤمن أعداء. فالواقع عكس ذلك، فنحنُ مُحاطون بالأعداء. فقد جعل كثيرون من أنفسهم أعداء لنا. ولكنْ ليست لدى هؤلاء الأعداء الكثيرين فرصة لتدميرنا إذ ارتبط الله بنا. نشبه أليشع في دوثان، حين كان مُحاطًا بملائكةٍ غير مرئيّين تحارب عنّا، إذْ هي جند الله السماويّ.
مصدر التعزية المسيحيّة هو حقيقة أن الله لنا وفي صفّنا.
ما لا يستطيع أعداؤنا أن يعملوه بصورة خاصّة هو أن يفصلونا عن محبة المسيح. معنى "الانفصال" هو خلقُ نوعٍ من الانقسام. كثيرًا ما نرى هذا كخطوةٍ تتّخذها المحكمة في العلاقات الزوجيّة في إجراءات الطلاق. يأتي الانفصال قبل الطلاق، وعادةً ما يكون نذيرًا به. ولكن في علاقة المسيح وعروسه الزوجيّة لا يوجد طلاق ولا انفصال. فـ"محبّة المسيح" التي يتكلَّم بولس عنها ليست محبّتنا نحنُ له، بل محبّته هو لنا.
يُشير الرسول بولس إلى الربّ الذي قام من الموت وصعد إلى السماء، الذي يجلس عن يمين الله ويعمل الآن شفيعًا لنا إذ هو رئيس كهنتنا. فلا يمكن أن نُفصَل عن محبّته واهتمامه. ويذكر بولس بضعة أمور تهدِّد شعورنا بالأمان في هذه المحبّة. فيتكلّم عن الضيق والشدّة والاضطهاد والجوع والعُري والخطر والسيف.
ليست هذه قائمةً شاملةً أو حصرية، ولكنّها تلفِت الانتباه إلى عدّة أمور يمكنها أن تجعلنا نخور أو نشكّ بمحبّة المسيح لنا. فحين نواجه الاضطهاد أو عواقب مجاعة، قد يتولّد لدينا ميل إلى أن نخاف مِن أن يكون المسيح قد تركنا. يرى الرسول بولس هذه الأخطار بأنّها آلامٌ تصاحب مسار تلمذتنا واتّباعنا للمسيح. ويقتبس الرسول بولس من مزمور 44 قوله: "لأَنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ" (مزمور 44: 22).
وحتى إن تعرّضنا للاستشهاد، فإنّ هذه المعاناة تعجز عن أن تفصلنا عن محبة المسيح لنا. وفي كلّ هذه الأحوال، هناك انتصار بسبب محبّة المسيح.
ويُعلِن بولس أنّنا في كلّ هذه الظروف "يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا." هذه العبارة ترجمة لكلمة واحدةٍ في اللغة اليونانيّة، هي "هوبيرنيكون" (hupernikon). يُشير الجزء الأساسيّ من أصل هذه الكلمة إلى فكرة الانتصار والفتح (كما يُشار في صواريخ "نايكي" وأحذية "نايكي" الرياضيّة). والبادئة "هوبير" تُضفي تكثيرًا وزيادةً في معنى الأصل. مقصد الرسول بولس هو أنّه بسبب محبّة المسيح، فإنّنا لسنا منتصرين فقط في مواجهة كلّ الأزمات، لكننا نصل المستوى الأسمى من الانتصار – ذروة الانتصار فيه.
التعبير اللاتينيّ المقابل للكلمة اليونانيّة "هوبيرنيكون" (hupernikon) هو "سوبرڤينسيموس" (supervincimus). يُشير هذا التعبير إلى أنّه في المسيح لسنا منتصرين فقط، بل نحنُ منتصرون فائقون.
ضروريّ أن نلاحظ أنّ ذروة الانتصار هذه تتحقَّق بالمسيح. فهي لا تتحقَّق من دونه أو بالانفصال عنه. ومَن يتكلّم بولس عنه هنا يُعرَّف بأنَّه "الّذِي أَحَبَّنَا."
وبعد ذلك، يعطي الرسول بولس قائمةً بأمورٍ هو مقتنع أنّها تعجز عن أن تفصلنا عن محبّة المسيح. ويضمّ في هذه القائمة الموتَ والحياةَ والملائكة والرياسات والقوّات والأمور الحاضرة والأمور المستقبلة والعلوّ والعمق وأيّة أشياء مخلوقة أخرى.
ومرةً أخرى نقول: إنّ القائمة التي يُورِدها بولس ليست شاملةً أو حصرية، بل هي أمثلةٌ فقط. وهو يستخدم هنا أسلوب المبالغة الأدبيّة ليوصِل حقًّا ما. فحتّى الملائكة لا تملك القدرة على أن تفصلنا عن محبّة الله في المسيح. ليس من خطر واضح حاضر أو تهديد مستقبليّ يملك القدرة على أن يفصلنا عنه. تفتقر قوى الطبيعة وقوى الحكومة وقوى الجحيم جميعًا إلى القدرة على أن تُبعِدنا عن المسيح. في ضوء محبّة الله في المسيح، تُفضَح حقيقة عجز هذه القوى المخلوقة.
مهمٌّ أن نرى أنّ هذه المحبة الَّتي لا يَفصِلُها شَيء عنا، التي يتكلّم عنها الرسول بولس في رومية 8، محبّة موجَّهة بصورة مباشرة نحو مختاري الله. المختارون هم من يتمتَّعون بضمان هذه المحبّة غير القابلة للفصل. يرد هذا الحديث عن محبة الله غير القابلة للفصل في المسيح في سياق الاختيار. فحين يُعلِن بولس أن الله لنا، فإنّ ضمير المتكلّم الجمع يُشير إلى المختارين. ونرى هذا من السؤال البلاغي الذي يطرحه الرسول بولس: "مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ" (رومية 8: 33).
"محبّة المسيح" التي يتكلّم الرسول بولس عنها ليستْ محبّتنا له، بل محبّته هو لنا.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

