المحاضرة 4: هَرْطَقاتُ القَرْنِ الْخَامِسِ
بَيْنَمَا نُتَابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنا لِلثَالُوثِ، نُلْقِي لَمْحَةً تَارِيخِيَّةً عَلَى تِلْكَ التَطَوُّرَاتِ الْحَاسِمَةِ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ حَيْثُ كَانَتْ عَقِيدَةُ الثَالُوثِ عَلَى الْمِحَكِّ. وَكَمَا ذَكَرْتُ، خِلالَ السَنَواتِ الثَلاثِمِئَةِ الأُولَى فِي التَارِيخِ الْمَسِيحِيِّ كَانَ يَتِمُّ التَرْكِيزُ عَلَى مَفْهُومِ يُوحَنَّا للُوجُوسْ، أَوِ الْكَلِمَةِ الَذِي صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنا. وَرَأَيْنَا الأَزْمَةَ الَتِي نَشَأَتْ فِي الْقَرْنِ الثَالِثِ مِنْ خِلالِ نَظَرِيَّةِ تَعَدُّدِ أَشْكَالِ اللهِ التَابِعَةِ لِـ"سَابِيلْيُوس"، وَالَذِي تَمَّتْ إِدَانَتُهُ فِي أَنْطَاكِيَةَ فِي الْعَامِ 267. وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَتْ أَزْمَةٌ أَكْبَرُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِنْكَارِ أَرْيُوسَ لأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ الْكَامِلَةِ، فِي السَنَوَاتِ الأُولَى مِنَ الْقَرْنِ الرَابِعِ، وَالَتِي بَلَغَتْ أَوْجَها فِي مَجْمَعِ نِيقِيَّةَ وَتَدْوِينِ قَانُونِ الْإِيمَانِ النِّيقَاوِيِّ فِي الْعَامِ 325. مِنْ نَاحِيَةٍ، كَانَ مَجْمَعُ نِيقِيَّةَ لَحْظَةً فَاصِلَةً بِالنِسْبَةِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، فَهُوَ وَضَعَ حَدًّا لِلْجُزْءِ الأَكْبَرِ، وَبِشَكْلٍ مُؤَقَّتٍ عَلَى الأَقَلِّ، لِمَفْهُومِ التَبَنِّي، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ نِهَايَةَ الصِرَاعَاتِ فِي إِطَارِ فَهْمِ الْكَنِيسَةِ لِشَخْصِ الْمَسِيحِ.
لَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ تَارِيخِيًّا، مَرَّتْ أَرْبَعَةُ قُرُونٍ حَيْثُ كَانَ مَفْهُومُ الْكَنِيسَةِ لِطَبِيعَةِ الْمَسِيحِ، وَلِشَخْصِ الْمَسِيحِ يَمُرُّ فِي أَكْثَرِ الْمَرَاحِلِ خُطُورَةً. وَتِلْكَ الْقُرُونُ الأَرْبَعَةُ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ هِيَ الْقَرْنُ الرَابِعُ، وَالَذِي سَبَقَ لَنَا أَنْ أَلْقَيْنَا نَظْرَةً عَلَيْهِ؛ الْقَرْنُ الْخَامِسُ الَذِي سَنَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ لاحِقًا؛ وَمِنْ ثَمَّ الْقَرْنَانِ التَاسِعَ عَشَرَ وَالْعِشْرونَ. أَنَا أُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ لأَنَّنَا نَعِيشُ الآنَ بَعْدَ مِئَتَيْ سَنَةٍ مِنَ الْهَجَمَاتِ الْمُدَمِّرَةِ ضِدَّ مَفْهُومِ الْكَنِيسَةِ الْقَوِيمِ لِشَخْصِ الْمَسِيحِ. لِذَا مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا فِي أَيَّامِنَا أَنْ نُعِيدَ النَظَرَ فِي مَفْهُومِ الثَالُوثِ بِرُمَّتِهِ.
لَكِنْ بَعْدَ نِيقِيَّةَ وَالأَزْمَةِ الأَرْيُوسِيَّةِ، وَاجَهَتِ الْكَنِيسَةُ أَزْمَةً جَدِيدَةً. وَالأَزْمَةُ الْجَدِيدَةُ فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكْرِيسْتُولُوجْيَا هِيَ أَزْمَةٌ كَانَ عَلَى الْكَنِيسَةِ فِيهَا أَنْ تَخُوضَ حَرْبًا عَلَى جَبْهَتَيْنِ. سَبَقَ أَنْ قُلْتُ فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ إِنَّ الْمَيْلَ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ هُوَ أَنَّهُ بَعْدَ اكْتِشَافِ هَرْطَقَةٍ مَا، وَفِي إِطَارِ السَعْيِ إِلَى تَصْحِيحِهَا، كَانَتِ الْكَنِيسَةُ تَمِيلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي التَطَرُّفِ مِنَ النَاحِيَةِ الأُخْرَى، وَالْمُغَالاةِ فِي تَصْحِيحِها. وَبِدَافِعِ التَحَمُّسِ لِتَجَنُّبِ هَرْطَقَةٍ مَا، كَانَ يَتِمُّ التَطَرُّفُ مِنَ النَاحِيَةِ الأُخْرَى وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الاتِّجَاهِ أَيْضًا.
أَذْكُرُ أَنِّي تَابَعْتُ دَوْرَةً دِرَاسِيَّةً خَاصَّةً حِينَ كُنْتُ أَقُومُ بِدِراسَاتِ الدُكْتُورَاه فِي هُولَنْدَا، حَيْثُ أَعْطَى الأُسْتَاذُ بْرِكَاوِير سِلْسِلَةَ مُحَاضَرَاتٍ عَلَى مَدَى سَنَةٍ حَوْلَ تَارِيخِ الْهَرْطَقَةِ. كَانَتِ الدُرُوسُ قَيِّمَةً جِدًّا، لأَنَّ إِحْدَى أَفْضَلِ الطُرُقِ لِتَعَلُّمِ الْعَقِيدَةِ الْقَوِيمَةِ تَقْضِي بِتَعَلُّمِ مَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ. فِي الْوَاقِعِ، مُهِمَّةُ الْهَرْطَقَةِ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ تَقْضِي بِإِرْغَامِ الْكَنِيسَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مُحَدَّدَةً، وَإِرْغَامِ الْكَنِيسَةِ عَلَى تَحْدِيدِ عَقَائِدِهَا وَإِبْعَادِ حَقَائِقِهَا عَمَّا يُحْدِقُ بِهَا مِنْ تَحْرِيفِ هَذَا الْحَقِّ وَإِفْسَادِهِ. إِذًا، هَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ بَيْنِ الْفَوَائِدِ الضَئِيلَةِ لِلْهَرْطَقَةِ.
لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، وَكَمَا ذَكَرْتُ، الْكَنِيسَةُ تَخُوضُ الآنَ مَعْرَكَةً عَلَى جَبْهَتَيْنِ فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَرْطَقَتَيْنِ بَارِزَتَيْنِ؛ الأُولَى هِيَ هَرْطَقَةٌ وَضَعَهَا رَجُلٌ يُدْعَى أُوطَاخِي. وَاسْمُ "أُوطَاخِي" مُرْتَبِطٌ بِالْهَرْطَقَةِ التَارِيخِيَّةِ الَتِي تُدْعَى "الْمُونُوفِيزِيَّةُ"، أَوِ هَرْطَقَةُ الطَبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ. سَأُدَوِّنُ ذَلِكَ: الهَرْطَقَةُ الْمُونُوفِيزِيَّةُ، الَتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ جِيلٍ. وَمُصْطَلَحُ "مُونُوفِيسَايْت" يَعْنِي حَرْفِيًّا "مُونُو" – الْبَادِئَةُ الَتِي نُصَادِفُهَا دَائِمًا وَالَتِي تَعْنِي "وَاحِدًا"؛ وَكَلِمَةُ "فِيسَايْت" أَوْ فِيزْيَاءُ تَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "فْيُوسِيس"، وَمَعْنَاهَا طَبِيعَةٌ، طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ.
تَذَكَّرُوا الصِيغَةَ الَتِي اتَّبَعَتْهَا الْكَنِيسَةُ عَلَى مَدَى عُصُورٍ لِتَحْدِيدِ الثَالُوثِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ أَوِ الْكِيَانِ أَوِ الطَبِيعَةِ، وَثَلاثَةُ أَقَانِيمَ. لَكِنَّ الْعَكْسَ يَنْطَبِقُ عَلَى عَقِيدَةِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشَخْصِ الْمَسِيحِ. مِنَ الْمُعْتَرَفِ بِأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ لَكِنْ لَدَيْهِ طَبِيعَتَانِ، طَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ وَطَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ. وَالآنَ، الْمُشْكِلَةُ الْكَامِنَةُ لَدَى أُوطَاخِي وَالْهَرْطَقَةِ الْمُونُوفِيزِيَّةِ، هِيَ أَنَّ الْهَرْطَقَةَ الْمُونُوفِيزِيَّةَ تُعَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَدَى يَسُوعَ طَبِيعَتَانِ، طَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَطَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ؛ إِنَّمَا كَانَتْ لَدَيْهِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ. أُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ. طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْأَقْنُومِ الواحِدِ بِحَسَبِ أُوطَاخِي.
إِنَّ مَفْهُومَهُ لِطَبِيعَةِ الْمَسِيحِ الْوَاحِدَةِ يُمْكِنُ وَصْفُهُ عَلَى أَنَّهُ الاعْتِبَارُ أَنَّ يَسُوعَ يَمْلِكُ طَبِيعَةً "ثِيَانْثْرُوبِيَّةً" وَاحِدَةً. تِلْكَ الْكَلِمَةُ "ثِيَانْثْرُوبِيّ" لَيْسَتْ مَأْلُوفَةً فِي لُغَتِنَا الْعَادِيَّةِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ رُبَّمَا كَلِمَةُ "فِيلانْثْرُوبِيّ"، (أَيْ إِنْسَانِي، مَعْرُوفَة). عِنْدَمَا نَتَكَلَّمُ عَنْ وُجُودِ مُنَظَّمَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ أَوْ أَشْخَاصٍ إِنْسَانِيِّينَ، فَمَاذَا نَقْصِدُ بِذَلِكَ؟ كَلِمَةُ "أَنْثْرُوبِي" تَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "أَنْثْرُوبُوس"، وَمَعْنَاهَا "إِنْسَانٌ أَوْ بَشَرِيَّةٌ". نَحْنُ نَدْرُسُ الأَنْثْرُوبُولُوجْيَا فِي الْجَامِعَةِ، وَهِيَ دِرَاسَةُ الأَشْخَاصِ أَوِ الْبَشَرِ. وَكَلِمَةُ "فِيلانْثْرُوبِي" – تَعْلَمُونَ أَنَّ كَلِمَةَ "فِيلادِلْفْيا" تَعْنِي "مَحَبَّةَ الأَخِ"، مَدِينَةَ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ؛ "فِيلانْثُورْبِي" هِيَ مَحَبَّةُ الْبَشَرِيَّةِ. إِذًا عِنْدَمَا نَتَكَلَّمُ عَنْ أَشْخَاصٍ فِيلانْثْرُوبِيِّينَ فَنَحْنُ نَقْصِدُ أَنَّهُمْ يَهْتَمُّونَ بِالبَشَرِ وَيُحِبُّونَهُمْ. الآنَ، نَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ عَنْ "فِيلانْثْرُوبِي"، بَلْ نَتَكَلَّمُ عَنْ "ثِيَانْثْرُوبِي". رُبَّمَا خَمَّنَ الْبَعْضُ مِنْكُمْ مَعْنَى بَادِئَةِ الْكَلِمَةِ "ثِيَا" لأَنَّهَا بَادِئَةٌ مَأْلُوفَةٌ فِي اللَاهُوتِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ الَتِي تَعْنِي "اللهَ". إِذًا، مَا لَدَيْنَا هُنَا هُوَ كَلِمَةٌ مُصَاغَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُهَجَّنَةٌ، حَيْثُ يَتِمُّ جَمْعُ كَلِمَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ لِخَلْقِ كَلِمَةٍ جَدِيدَةٍ. هُنَا تَمَّ جَمْعُ الْكَلِمَةِ الَتِي تَعْنِي "إِنْسَانًا" وَالْكَلِمَةُ الَتِي تَعْنِي "اللهَ".
إِذًا، مَا كَانَ أُوطَاخِي يَقُولُهُ هُوَ إِنَّ الْمَسِيحَ يَمْلِكُ طَبِيعَةً وَاحِدَةً فَقَطْ، وَهِيَ ثِيَانْثْرُوبِيَّةُ، أَيْ طَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، أَوْ يُمْكِنُكَ فَهْمُهَا بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَلَى أَنَّها طَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ بَشَرِيَّةٌ. لَكِنْ لَيْسَتْ لَدَيْهِ طَبِيعَتَانِ، وَاحِدَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَأُخْرَى بَشَرِيَّةٌ، بَلْ لَدَيْهِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ. فِي الْوَاقِعِ، مَا تَجِدُهُ هُنَا – وَهَذَا مَا أَدْرَكَتْهُ الْكَنِيسَةُ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ – هُوَ مَفْهُومٌ عَنِ الْمَسِيحِ، يُفِيدُ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَهًا وَلا إِنْسانًا، إِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ إِنْسَانٍ وَأَقَلُّ مِنْ إِلَهٍ؛ هَذَا نَوْعٌ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ الْمُؤَلَّهَةِ أَوِ الأُلُوهِيَّةِ الْمُؤَنْسَنَةِ. إِذًا التَمْيِيزُ بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ مَحْجُوبٌ وَقَاتِمٌ فِي هَذَا النَوْعِ مِنَ التَفْكِيرِ، لأَنَّ مَا يَجْرِي هُنَا فِي الْهَرْطَقَةِ الْمُونُوفِيزِيَّةِ هُوَ دَمْجُ طَبِيعَتَيْ يَسُوعَ أَوِ الْخَلْطُ بَيْنَهُما.
كَمَا قُلْتُ، فِي خَلْقِيدُونِيَّةِ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي الْعَامِ 451 لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَنِيسَةِ أَنْ تُحَارِبَ أُوطَاخِي وَبِدْعَتَهُ الْمُونُوفِيزِيَّةَ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَخُوضَ حَرْبًا عَلَى جَبْهَتَيْنِ. وَالْجَبْهَةُ الشَرْقِيَّةُ، إِذَا صَحَّ التَعْبِيرُ، هِيَ الْبِدْعَةُ النَسْطُورِيَّةُ التَوْأَمُ، الَتِي تَحْمِلُ اسْمَ مُؤَسِّسِها نَسْطُور. قَالَ نَسْطُور أَسَاسًا إِنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَدَيْه طَبِيعَتَانِ، فَلا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أُقْنُومَيْنِ. إِذًا، فِي الْمَسِيحِ، لَدَيْنَا طَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَطَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ، لَكِنْ لَدَيْنَا أَيْضًا أُقْنُومٌ إِلَهِيٌّ وَأُقْنُومٌ بَشَرِيٌّ مُتَعَايِشَانِ مَعًا. إِذًا، مَا يَجْرِي هُنَا هُوَ عَكْسُ التَشْوِيهِ الْمُونُوفِيزِي. فِي الْبِدْعَةِ النَسْطُورِيَّةِ لَمْ يَتِمَّ التَمْيِيزُ فَحَسْبُ بَيْنَ طَبِيعَتَيِ الْمَسِيحِ، بَلْ فِي الْوَاقِعِ، تَمَّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا.
أَنَا أُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَ التَمْيِيزَ لِتَلامِيذِي فِي كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ، لأَنَّ اللَاهُوتَ يَتَعَلَّقُ بِالْقِيَامِ بِالتَمْيِيزِ. إِنَّهُ حَقُّ اللَاهُوتِيِّ أَنْ يَقُومَ بِتَمْيِيزٍ دَقِيقٍ، الأَمْرُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَدَى قُرُونٍ. وَأَنَا أَقُولُ لَهُمْ "وَاحِدَةٌ مِنْ أَهَمِّ حَالاتِ التَمْيِيزِ الَتِي سَتَتَعَلَّمُونَ يَوْمًا الْقِيَامَ بِهَا هِيَ التَمْيِيزُ بَيْنَ التَمْيِيزِ وَالْفَصْلِ". إِنْ قُلْنَا عَنْكَ إِنَّكَ مُزْدَوِجٌ، فَهُنَاكَ وَحْدَةٌ فِي الازْدِوَاجِيَّةِ، أَيْ أَنَّكَ كَإِنْسَانٍ، أَنْتَ مُؤَلَّفٌ مِنْ بُعْدٍ مَادِّيٍّ وَمِنْ بُعْدٍ غَيْرِ مَادِّيٍّ. وَهَذَا مَا يَتِمُّ تَسْمِيَتُهُ بِلُغَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِالْجَسَدِ وَالنَفْسِ. إِنْ مَيَّزْتُ بَيْنَ جَسَدِكَ وَنَفْسِكَ، فَأَنَا لَمْ أُسَبِّبْ لَكَ الأَذَى، لَكِنْ إِنْ فَصَلْتُ جَسَدَكَ عَنْ نَفْسِكَ، أَكُونُ قَدْ قَتَلْتُكَ. إِذًا، عَلَيْنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْفَرْقَ بَيْنَ التَمْيِيزِ وَالْفَصْلِ.
وَهَذَا مَا نَقَعُ فِيهِ دَائِمًا عِنْدَمَا نَتَكَلَّمُ عَنْ يَسُوعَ، حَيْثُ يَقُولُ يَسُوعُ مَثَلًا إِنَّ ثَمَّةَ أُمُورًا لا يَعْرِفُها. وَتَارِيخِيًّا، نَحْنُ نَقُولُ إِنَّ الطَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَيْسَتْ كُلِّيَّةَ الْعِلْمَ، الطَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ لا تَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ. بِالطَبْعِ، الطَبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ كُلِّيَّةُ الْعِلْمِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ عِنْدَمَا يَتَكَلَّمُ يَسُوعُ عَنْ أَمَرٍ لا يَعْرِفُهُ فَهْوُ يُظْهِرُ فِي هَذَا الإِطَارِ مَحْدُودِيَّةَ طَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةَ. يُصَارِعُ الْبَعْضُ فِي هَذَا الأَمْرِ وَيَقُولُونَ: "مَهْلًا!" مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَعَرَّقُ يَسُوعُ، وَعِنْدَمَا يَجُوعُ يَسُوعُ، وَعِنْدَمَا يُطْعَنُ جَنْبُ يَسُوعَ، لَنْ نُصَدِّقَ أَنَّهُ بِطَبِيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ طُعِنَ جَنْبُهُ، لأَنَّ الطَبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ لا تَمْلِكُ جَسَدًا، وَالطَبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ لا تَتَعَرَّقُ، وَالطَبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ لا تَجُوعُ. هَذِهِ كُلُّهَا مَظاهِرٌ لِطَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ. إِذًا، نَحْنُ نَقُولُ هُنَا إِنَّ اللهَ-الإِنْسَانَ الَذِي يَمْلِكُ طَبِيعَتَيْنِ، طَبِيعَةً إِلَهِيَّةً وَطَبِيعَةً بَشَرِيَّةً، يُظْهِرُ جَانِبَهُ الْبَشَرِيَّ أَحْيَانًا، وَجَانِبَهُ الإِلَهِيَّ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى. وَنَحْنُ نُمَيِّزُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ مِنْ دُونِ أَنْ نَفْصِلَ بَيْنَهُمَا. لَكِنْ عِنْدَمَا تَتَعَرَّقُ الطَبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَهَذِهِ الطَبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ تَظَلُّ مُتَّحِدَةً بِالطَبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ الَتِي لا تَتَعَرَّقُ. هَذَا الْمَبْدَأُ مُهِمٌّ جِدًّا عِنْدَمَا تُفَكِّرُ فِي الصَلِيبِ. الطَبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ تَمُوتُ، لَكِنَّ الطَبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ لا تَمُوتُ. وَالآنَ الطَبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ مُتَّحِدَةٌ بِالْجِسْمِ الْبَشَرِيِّ. الْوَحْدَةُ لا تَزَالُ قَائِمَةً، لَكِنَّ التَغْيِيرَ الَذِي تَمَّ، حَدَثَ ضِمْنَ الطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ لا الإِلَهِيَّةِ. مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا فَهْمُ ذَلِكَ.
لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، النَسْطُورِيَّةُ لَمْ تُمَيِّزْ فَحَسْبُ، بَلْ فَصَلَتْ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ. ضِدَّ هَاتَيْنِ الْهَرْطَقَتَيْنِ التَوْأَمَيْنِ، اجْتَمَعَ مَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةُ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي الْعَامِ 451 لِمُعَالَجَةِ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ. حَاوَلَ الْبَعْضُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ بِرُمَّتِهِ، الْمَجْمَعُ الأَخِيرُ حَوْلَ الْكْرِسْتُولُوجْيَا هُوَ مَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةَ، مَا يَعْنِي أَنَّ الْكَنِيسَةَ لَمْ تَتَمَكَّنْ أَبَدًا مِنْ تَجَاوُزِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى فَهْمِنَا لِشَخْصِ الْمَسِيحِ، وَالَتِي تَمَّ التَكَلُّمُ عَنْهَا بِوُضُوحٍ فِي مَجْمَعِ خَلْقِيدُونِيَّةَ. وَبِصَراحَةٍ، أَنَا أُوَافِقُ عَلَى الأَمْرِ. مِنَ الْمُمْكِنِ نَظَرِيًّا أَنْ يَتِمَّ عَقْدُ مَجْمَعٍ آخَرَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ أَوِ الثَانِي وَالْعِشْرِينَ أَوِ الثَلاثِينَ، يُعْطِينَا بَصِيرَةً جَدِيدَةً لَمْ نَكُنْ نَمْلِكُهَا فِي الْمَاضِي، لَكِنِّي لَمْ أرَ شَيْئًا فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ يَتَجَاوَزُ أَوْ يُحَسِّنُ الْحُدُودَ الَتِي تَمَّ وَضْعُهَا عَلَى تَفْكِيرِنَا فِي مَجْمَعِ خَلْقِيدُونِيَّةَ.
وَمَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةَ اشْتَهَرَ بِأُمُورٍ عِدَّةٍ؛ الأَوَّلُ هُوَ التَأْكِيدُ أَوِ الاعْتِرَافُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ "فِيرَا دِيُوس، فِيرَا هُومُو". دَعُونِي أَغْتَنِمُ الْفُرْصَةَ لِأَطْلُبَ مِنْكُمْ أَنْ تُفَكِّرُوا مَلِيًّا هُنَا. مَا يَعْنِيهِ هَذَانِ الْمُصْطَلَحانِ التَوْأَمَانِ هُنَا هُوَ مَا يَلِي: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَبِاتِّحَادِ طَبِيعَتَيْهِ، شَخْصَ الْمَسِيحِ، إِلَهٌ حَقًّا وَإِنْسَانٌ حَقًّا، وَلَدَيْهِ طَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَطَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالآنَ دَعُونِي أُطْلِعُكُمْ عَلَى التَفْسِيرِ الَذِي أَسْمَعُهُ غَالِبًا عَلَى لِسَانِ أَشْخَاصٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكونَ مَعْرِفَتُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فِي ثَقَافَتِنَا الْيَوْمَ، يَقُولُونَ: "مَا أَقَرَّتْهُ الْكَنِيسَةُ فِي خَلْقِيدُونِيَّةَ هُوَ أَنَّ يَسُوعَ كَانَ إِلَهًا كَامِلًا وَإِنْسَانًا كَامِلًا". وَلَكِنْ يُوجَدُ تَنَاقُضٌ فِي الأَمْرِ. إِنْ كُنْتَ تَقُولُ إِنَّ الأُقْنومَ إِلَهٌ كُلِّيًّا وَتَمَامًا، فَبِالتَالِي لَدَيْنَا طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ. لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الأُقْنومُ إِلَهًا تَمَامًا وَإِنْسانًا تَمَامًا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ وَفِي الإِطَارِ نَفْسِهِ. هَذَا مُنَافٍ لِلْعَقْلِ. لا، لَيْسَتْ هَذِهِ الْحَالَ، فَهُوَ يَمْلِكُ طَبِيعَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ إِلَهِيَّةٌ. الْمَقْصُودُ حِينَ يَتَكَلَّمُ النَاسُ مُسْتَعْمِلِينَ كَلِمَةَ "كُلِّيًّا" أَوْ "تَمامًا" هُوَ أَنَّهُ هُنَا تَكْمُنُ الدِّقَّةُ. الطَبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ إِلَهِيَّةٌ بِكَامِلِهَا، فَهِيَ لَيْسَتْ نِصْفَ إِلَهِيَّةٍ، بَلْ إِنَّهَا إِلَهِيَّةٌ كُلِّيًّا. وَطَبِيعَةُ الْمَسِيحِ الإِلَهِيَّةُ تَتَمَتَّعُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الأُلُوهِيَّةِ، وَلا تَفْتَقِرُ إِلَى أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، طَبِيعَةُ الْمَسِيحِ الْبَشَرِيَّةُ، بَشَرِيَّةٌ بِكَامِلِها، وَلَيْسَتْ بَشَرِيَّةً حَقًّا فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّهَا بَشَرِيَّةٌ بِكَامِلِها، بَشَرِيَّةٌ بِكَامِلِها مِنْ حَيْثُ الْبَشَرِيَّةُ الْمَخْلُوقَةُ. الأَمْرُ الْوَحِيدُ الَذِي يُمَيِّزُهَا عَنَّا هُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَدَيْهَا خَطِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ. فَاَلْمَسيحُ يُشْبِهُنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا الْخَطِيَّةَ. لَكِنْ فِي هَذَا الإِطَارِ، هُوَ آدَمِيٌّ حَقًّا، إِنَّهُ بَشَرِيٌّ تَمَامًا مِثْلَمَا كَانَ آدَمُ فِي الْخَلْقِ. جَمِيعُ نِقَاطِ الْقُوَّةِ وَالْمَحْدُودِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي طَبِيعَةِ يَسُوعَ الْبَشَرِيَّةِ.
الأَمْرُ الثَانِي الَذِي اشْتَهَرَ بِهِ مَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةَ، وَرُبَّمَا أَكْثَرُ أَمْرٍ اشْتَهَرَ بِهِ، هُوَ مَا يُعْرَفُ بِالْعِبَارَاتِ السَلْبِيَّةِ الأَرْبَعِ، الْعِبَارَاتِ السَلْبِيَّةِ الأَرْبَعِ فِي الْمَجْمَعِ. عِنْدَمَا أَعْلَنَ الْمَجْمَعُ عَنْ وُجُودِ وَحْدَةٍ كَامِلَةٍ بَيْنَ طَبِيعَتَيْ الْمَسِيحِ، الطَبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ وَالطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فَهْمُهَا عَلَى ضَوْءِ كَوْنِ الاتِّحَادِ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ الإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ اتِّحَادٌ خَالٍ مِنَ الامتزاجِ، أَوِ الْاخْتِلاطِ، أَوِ الانْقِسَامِ، أَوْ الانْفِصالِ؛ أَيْ أَنَّ الْكَنِيسَةَ عَيَّنَتْ حُدُودَ الْكْرِسْتُولُوجْيَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، عَبْرَ الْقَوْلِ إِنَّنَا عَلَى الرُغْمِ مِنْ أَنَّنَا نَفْهَمُ مُعْضِلَةَ التَجَسُّدِ وَشَخْصَ الْمَسِيحِ وَالْعَلاقَةَ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ الإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ، لا يُمْكِنُكَ التَفْكِيرُ بِأَنَّ الطَبِيعَتَيْنِ الْبَشَرِيَّةَ وَالإِلَهِيَّةَ مُمْتَزِجَتَانِ أَوِ مُخْتَلِطَتَانِ، بِحَيْثُ إِنَّكَ تَتَوَصَّلُ إِلَى طَبِيعَةٍ بَشَرِيَّةٍ مُؤَلَّهَةٍ أَوْ إِلَى طَبِيعَةٍ إِلَهِيَّةٍ مُؤَنْسَنَةٍ. لا يُمْكِنُكَ الْخَلْطُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ. وَهَذِهِ هِيَ هَرْطَقَةُ الْمُونُوفِيزِيِّين، فَهُمْ أَخْطَؤُوا بِالْخَلْطِ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ. وَاعْتِبَارُ أُوطَاخِي وُجُودَ طَبِيعَةٍ ثِيَانْثْرُوبِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أيْ طَبِيعَةٍ بَشَرِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، شَكَّلَ خَرْقًا لِهَذَا الْمَبْدَأِ. فَهُوَ خَلَطَ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ، مُعْتَبِرًا أَنَّ طَبِيعَةَ يَسُوعَ الْبَشَرِيَّةَ اتَّخَذَتْ فَجْأَةً صِفَاتٍ إِلَهِيَّةً. يَتَمَتَّعُ الأقنومُ بِصِفَاتٍ إِلَهِيَّةٍ، لَكِنْ لَيْسَ الطَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَهَا هَذِهِ الصِّفاتُ.
فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، وَمَعَ رَفْضِ الْعِبَارَتَيْنِ السَلْبِيَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لِلْهَرْطَقَةِ الْمُونُوفِيزِيَّةِ، وَضَعَتِ الْعِبَارَتَانِ السَلْبِيَّتَانِ التَالِيَتَانِ النَسْطُورِيَّةَ فِي إِطَارِ الدِرَاسَةِ، حِينَ حَاوَلَتَا رَفْضَ الْهَرْطَقَةِ النَسْطُورِيَّةِ، عَبْرَ الْقَوْلِ إِنَّ الطَبِيعَتَيْنِ مُتَّحِدَتَانِ تَمامًا، يُمْكِنُكَ التَمْيِيزُ بَيْنَهُمَا لَكِنْ لا يُمْكِنُكَ التَفْرِقَةُ بَيْنَهُما، وَلا يُمْكِنُكَ الْفَصْلُ بَيْنَهُما. إِذًا، عَلَيْكَ بِالْحَذَرِ الشَّديدِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَلْطِ وَالْفَصْلِ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُكَوِّنَ فَهْمًا سَلِيمًا عَنْ شَخْصِ الْمَسِيحِ.
وَأَنَا أُؤْمِنُ بِصَرَاحَةٍ بِأَنَّ بَعْضًا من أَعْظَمِ العُقولِ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، بِمَا فِيهَا اثْنَانِ مِنَ اللَاهُوتِيِّينَ الْمُفَضَّلِينَ لَدَيَّ عَلَى الإِطْلاقِ، كَانُوا أساسًا مُونُوفِيزِيِّينَ فِي فَهْمِهِمْ لِلْمَسِيحِ. عَلَى الأَقَلِّ، كَانَتْ لَدَيْهِمْ عَنَاصِرُ مُونُوفِيزِيَّةُ فِي تَفْكِيرِهِمْ. وَالآنَ تُرِيدُونَ مِنِّي جَمِيعًا أَنْ أُطْلِعَكُمْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ: تُومَا الأَكْوِينِي، وَسَتُصَابُونَ بِالذُهُولِ الشَدِيدِ عِنْدَمَا تَعْلَمُونَ أَنِّي مُعْجَبٌ بِمَارْتِنْ لُوثَر. لَدَيَّ أَصْدِقَاءُ وَلاهُوتِيُّونَ لُوثِرِيُّونَ أُكَلِّمُهُمْ طَوَالَ الْوَقْتِ، وَأَنَا أُشِيرُ إِلَيْهِمْ دَائِمًا عَلَى أَنَّهُمْ أَصْدِقَائِي الْمُونُوفِيزِيُّونَ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيَّ عَلَى أَنِّي صَدِيقُهُمْ النَسْطُورِيُّ. لَكِنْ قُلْتُ آنَذَاكَ: "لا، لا، لا أَنَا لا أَفْصِلُ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ، أَنَا أُمَيِّزُ بَيْنَهُما فَحَسْبُ". لَكِنْ هَذَا جَاءَ عَنْ طَرِيقِ جِدَالاتٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالأُمُورِ الْمُقَدَّسَةِ عَبْرَ التَارِيخِ، حَيْثُ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِمَفْهُومِ انتقالٍ – وَهَذَا يَعُودُ إِلَى رُومَا – انتقالِ الصِفَاتِ الإِلَهِيَّةِ إِلَى الطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، مَا يُتِيحُ لِجَسَدِ الْمَسِيحِ الْبَشَرِيِّ الإِمْكَانِيَّةَ أَنْ يَتَواجَدَ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، لأَنَّ الْمَحْدُودِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ، تَارِيخِيًّا وَفَلْسَفِيًّا، تُعْتَبَرُ دَائِمًا وَاحِدَةً مِنْ مَحْدُودِيَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ. وَلا يُمْكِنُ لِلطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي ثَلاثَةِ أَمَاكِنَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. يُمْكِنُهَا الاتِّحَادُ بِطَبِيعَةٍ تَقْدِرُ أَنْ تَتَوَاجَدَ فِي ثَلاثَةِ أَمَاكِنَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، يُمْكِنُ لِلطَبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي بِيتِسْبُرْجْ وَبُوسْطِن وَوَاشَنْطُنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. لَكِنْ كَانَ يَتِمُّ التَجَادُلُ تَارِيخِيًّا بِشَأْنِ مَا إِذَا كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ الْمَادِّيُّ، الَذِي يَنْتَمِي إِلَى طَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ، أَنْ يَتَوَاجَدَ فِي ثَلاثَةِ أَمَاكِنَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. وَجَاءَ جَوَابُ الأَشْخَاصِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي النِقَاشِ كَالآتِي: يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُتَوَاجِدًا، لأَنَّهُ تَسَلَّمَ صِفَةَ كُلِّيَّةِ الْوُجُودِ الإِلَهِيَّةِ، انْتَقَلَتِ الصِفَةُ الإِلَهِيَّةُ إِلَى الطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ. إِنَّهُ لأَمْرٌ أَنْ تَنْقُلَ الطَبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ مَعْلُومَاتٍ لِلطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ لأَمْرٌ آخَرُ أَنْ تَنْقُلَ لَهَا صِفَاتٍ، لأَنَّكَ إِنْ نَقَلْتَ صِفَةً إِلَهِيَّةً إِلَى الطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّكَ تَكُونُ قَدْ أَلَّهْتَهَا فِي هَذَا الإِطَارِ. هُنَا، عَلَتْ وَتِيرَةُ الْجِدالاتِ فِي كَنِيسَتِنا. وَلا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ قَائِمًا حَتَّى الْيَوْمِ. وَعِنْدَمَا يَعْتَرِضُ النَاسُ عَلَى الأَمْرِ، يَتِمُّ اتِّهَامُهُمْ بِالنَسْطُورِيَّةِ.
وَالآنَ، دَعُونِي أُطْلِعُكُمْ عَلَى الْعُنْصُرِ الثَالِثِ الْمُهِمِّ جِدًّا فِي هَذَا الْمَجْمَعِ. بَعْدَ الْعِبَارَاتِ السَلْبِيَّةِ الأَرْبَعِ، أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُوجَدُ نُقْطَةٌ وَفَاصِلَةٌ أَوْ رُبَّمَا نُقْطَتَانِ، جَاءَ فِي الْجُمْلَةِ الأَخِيرَةِ "كُلُّ طَبِيعَةٍ تَحْتَفِظُ بِصِفَاتِهَا"، أَيْ أَنَّهُ فِي التَجَسُّدِ، لَمْ يَتَخَلَّ اللهُ عَنْ أَيٍّ مِنْ صِفَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ لَمْ تَتَخَلَّ عَنْ أَيٍّ مِنْ صِفَاتِهَا فِي التَجَسُّدِ. لِذَا نَقُولُ إِنَّ جَسَدَ يَسُوعَ الْبَشَرِيَّ، طَبِيعَةَ يَسُوعَ الْبَشَرِيَّةَ لا تَزَالُ خَاضِعَةً لِلْحُدُودِ الْجُغْرَافِيَّةِ. لَكِنَّ إِحْدَى أَكْبَرِ الْهَرْطَقَاتِ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ هِيَ مَا يُعْرَفُ بِهَرْطَقَةِ الْـ"كِينُوسِيس"، (أَيْ إِخْلاءِ الذَاتِ)، وَالَتِي تَعْتَبِرُ أَنَّهُ فِي التَجَسُّدِ تَخَلَّتِ الأُلُوهِيَّةُ عَنْ بَعْضِ صِفَاتِهَا لِتَتَّحِدَ بِالطَبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، مَا يُشَكِّلُ خَرْقًا لِمَجْمَعِ خَلْقِيدُونِيَّةِ.
بِالْمُنَاسَبَةِ، يَجِبُ أَنْ أَقُولَ مَا يَلِي. هَذَا الأُسْبُوعَ تَلَقَّيْتُ رِسَالَةً ثَانِيَةً مِنْ شَخْصٍ قَرَأَ كِتَابِي "جَدِّدْ ذِهْنَكَ"، وَقَدْ صَدَرَ الآنَ بِعُنْوَانِهِ الثَالِثِ وَبِالطَبْعَةِ الثَالِثَةِ. وَكَانَ قَدْ تَمَّ تَنْقِيحُ آخِرِ طَبْعَةٍ لَهُ وَتَجْدِيدُهَا عَلَى يَدِ مُحَرِّرٍ فِي دَارِ النَشْرِ. وَبَعْدَ أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ وَبَعْدَ أَنْ أَجْرَى التَغْيِيراتِ، وَطَلَبَ مِنِّي أَنْ أَقُومَ بِالتَصْحِيحَاتِ النِهَائِيَّةِ. وَفَعَلْتُ الأَمْرَ بِسُرْعَةٍ. كَانَ قَدْ فَاتَنِي أَمْرٌ قَرَأَهُ أَحَدُهُمْ وَبَلَّغَنِي بِشَأْنِهِ قَائِلًا: "لا أُصَدِّقُ أَنَّكَ تُعَلِّمُ هَرْطَقَةَ إِخْلاءِ الذَاتِ"، لأَنِّي فِي إِحْدَى صَفَحاتِ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَقولُ إِنَّهُ فِي التَجَسُّدِ، تَخَلَّى يَسُوعُ عَنْ طَبِيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ. عِنْدَمَا رَأَيْتُ ذَلِكَ، كَادَ أَنْ يُغْمَى عَلَيَّ، فَاتَّصَلْتُ بِرَئِيسِ دَارِ النَشْرِ، وَقُلْتُ: "لا بُدَّ أَنِّي أَنَا الْمُخْطِئُ. أَنَا لَمْ أَنْتَبِهْ إِلَى ذَلِكَ"، لَكِنِّي قُلْتُ: "مَا كُنْتُ لأَقُولَ ذَلِكَ حَتَّى فِي أَسْوَأِ يَوْمٍ فِي حَيَاتِي!" وَقُلْتُ: "مَاذَا عَسَانَا أَنْ نَفْعَلَ؟" أَتَعْلَمُونَ مَاذَا فَعَلَ؟ سَحَبَ كُلَّ نُسْخَةٍ كَانَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى الرَفِّ، وَأَعَادَ طَبْعَهَا لِيُصَحِّحَ الْخَطَأَ. وَبِرَأْيِي، هَذا أمرٌ هائِلٌ يَقُومُ بِهِ النَاشِرُ. لَكِنِّي الْيَوْمَ الْمَاضِي تَلَقَّيْتُ رِسَالَةً مِنْ شَخْصٍ آخَرَ كَانَ قَدْ قَرَأَ الأَمْرَ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الطَبْعَةِ. أَعْنِي، هَكَذَا يَتِمُّ ارْتِكَابُ الأَخْطَاءِ، وَالأَمْرُ رَهِيبٌ. لَكِنْ حَتَّى فِي يَوْمِنَا هَذَا، نَجِدُ أَشْخَاصًا يَجُولُونَ مِنْ دُونِ تَكَلُّفٍ قَائِلِينَ إِنَّهُ فِي التَجَسُّدِ، لَمْ يَعُدِ اللهُ يَحْتَفِظُ بِصِفَاتِهِ الإِلَهِيَّةِ. خَلْقِيدُونِيَّة "إِلَهٌ حَقًّا، وإِنْسَانٌ حَقًّا، بدُونِ اخْتِلاطٍ أَوْ امْتزاجٍ أَوْ انْفِصالٍ أَوِ انْقِسَامٍ؛ كُلُّ طَبِيعَةٍ تَحْتَفِظُ بِصِفَاتِهَا".