المحاضرة 6: قداسة المسيح
تَحَدَّثْتُ منذُ أيَّامٍ مع أستاذٍ، كانَ قدْ ألقى كلمَةً في إحْدى الْجامعاتِ، وفي وَسَطِ حديثِهِ قاطَعَهُ بَعْضُ الطَّلَبةِ العِدائيِّينَ. كانَ يتحدَّثُ عنِ الْمسيحِ، وصاحَ أحَدُهُمْ: "مَنْ يَكْتَرِثُ بِهَذَا؟" ثمَّ تابَعَ قائِلًا لِي: "كَمْ كانَ الْمُسْتمعُونَ عِدائِيِّينَ!" يبدُو أنَّ هناكَ عَداءً متزايدًا في بلادِنا تُجاهَ الإيمانِ الْمَسِيحي، وشُعورًا متزايدًا بالتَّشدُّدِ لدى الْمؤيِّدينَ والْمعارِضِينَ لِلْمسيحِيَّةِ. تحدَّثْنا عَنْ هذا في فترةِ الرَّاحَةِ.
وفِي بَعْضِ الأَحْيانِ أعتقدُ أنَّ غيرَ الْمُؤْمِنينَ فِي هذهِ الْبِلادِ خائِفُونَ بِشِدَّةٍ مِنْ أنْ يُحاوِلَ الْمُتشدِّدونَ الْمَسيحيُّونَ إقْحامَ الْفَرائِضِ الدِّينِيَّةِ على الْقانُونِ، وَمِنْ ثَمَّ على غَيْرِ الْمُؤْمِنينَ، وَلَهُمْ عُذْرُهُمْ فِي هَذَا. أحاوِلُ تَذْكِيرَ إِخْوَتِي وأَخَواتي بأنَّ المادَّةَ الأُولَى مِنْ دُسْتورِ الْوِلاياتِ الْمُتَّحِدَةِ يَحْمِي غيرَ الْمَسِيحيِّ بِقَدْرِ الْمَسِيحِي، وَيَجِبُ أَنْ نَكونَ حذِرِينَ جِدًّا بِشأْنِ هَذَا. لكِنْ يَنْتَشِرُ شُعورٌ بِالضِّيقِ وَالْعَداءِ تُجاهَ الْمَسِيحِيِّينَ، وَالرُّعاةِ، وَاللَّاهوتِيِّينَ، وَمُبَشِّرِي التِّلْفَازِ، وَغَيْرِهِمْ.
لكِنْ فِي وَسَطِ كُلِّ هذا، ما أَجِدُهُ نادِرًا جِدًّا هُوَ انْتِقادُ أَحَدِهِمْ عَلَنًا لاسْتِقامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ. أتَذَكَّرُ، مَثَلًا، تَعْلِيقًا مِنْ جورج بِرْنارْد شو كانَ يَنْتَقِدُ فِيهِ الرَّبَّ يَسُوعَ. لَمْ يَكُنْ مَسِيحِيًّا، كما قالَ إِنَّ الرَّبَّ يَسوعَ "فِي بَعْضِ الأَحْيانِ، لم يَسْلُكْ كَمَسِيحِيٍّ". أجِدُ مفارَقَةً هُنا، فَحِينَ أرادَ بِرْنَارْد شو انتقادَ الربِّ يَسُوعَ، لَمْ يَجِدْ مِقْياسًا أَخْلاقِيًّا ينتقِدُهُ بِهِ أسْمَى مِنْ مِقياسِ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ. حِينَ يحْتَدُّ العَداءُ الْحَقِيقِيُّ ضِدِّي، وضِدَّ الْكَنِيسَةِ، وضِدَّ تاريخِ التَّأثيرِ الْكَنَسِيِّ، يوجَدُ نَوْعٌ مِنَ التَّحَفُّظِ بِشَأْنِ الرَّبِّ يَسُوعَ.
فَمِنْ بَيْنِ جَميعِ الْبَشَرِ الَّذينَ عاشُوا يَوْمًا، أشُكُّ أنَّهُ وُجِدَ إِنْسانٌ خَلَقَ احْتِرامًا عامًّا لأجْلِ استقامَتِهِ أكْثَرَ مِنْ يَسُوعَ النَّاصِريِّ. وحَقًّا، يَمْتدِحُ الْعالَمُ الرَّبَّ يَسُوعَ بِشِدَّةٍ، فالسُّؤالُ الَّذِي لا يفارِقُني هُوَ: لِماذا قُتِلَ؟
إنْ كانَ الرَّبُّ يسوعُ شَخْصًا رَائِعًا، وَمُحِبًّا، وَلَطِيفًا، وَمُتَحَنِّنًا، واعْتَنى بِجَمِيعِ الْمَرْضَى والْمَنْبوذِينَ، مِثْلَ الأُمِّ تِيرِيزا في جِيلِهِ. فلِماذا إِذن قُتلَ؟ فهْوَ لمْ يُحكَمْ عليهِ بِالْمَوْتِ فَحَسْب، بَلْ صرَخَ الْجُمُوعُ طَالِبِينَ دَمَهُ. ما الَّذي ألْهَبَ مشاعِرَ النَّاسِ تُجاهَ يسوعَ النَّاصِرِيِّ، سواءَ فِي صَفِّهِ أمْ ضِدَّهُ؟
نائِمٌ وسَطَ الْعَاصِفَةِ:
أوَدُّ أنْ أَقرَأَ نَصًّا منْ إنجيلِ مَرْقُسَ أعتقدُ أنَّهُ يبدَأُ فِي الإجابةِ عَنْ هذا السُّؤالِ بِالتَّحْدِيدِ. الأَصحاحُ الرَّابِعُ مِنْ إِنجيلِ مَرْقُسَ، بَدْءًا مِنَ الآيةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلاثِينَ، يَقُولُ: "وَقَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الْأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا" (مرقس 4: 35-38).
تصَوَّرْتُمُ الْمَشْهَدَ؟ حدثَ هذا في بَحْرِ الْجَليلِ الَّذي هُوَ ظاهِرَةٌ طُبُوغْرافِيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي فِلَسْطِينَ، بِسبَبِ قناةِ الرِّياحِ الْواصِلَةِ بينَ صحْراءِ عَبْرِ الأُرْدُنِّ وَالْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ. ففي هذا الموقعِ الْجُغْرَافِيِّ، تُوجَدُ قناةُ رياحٍ مُوَجَّهَةٌ إلى بَحْرِ الْجَلِيلِ، ولِهَذَا يُمْكِنُ لِعواصِفَ عَنِيفَةٍ أنْ تَهُبَّ دُونَ سابِقِ إِنْذارٍ على البُحَيْرَةِ. كُنْتُ هناكَ مُنْذُ بِضْعَةِ سَنَواتٍ، وذهبْتُ في رحلةٍ بحرِيَّةٍ عبرَ بحرِ الجليلِ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ أحْدَثِ المَعَدَّاتِ البَحْرِيَّةِ، أخْبَرَنا الْبحَّارةُ بأنَّهُم لا يزالونَ يَعِيشونَ في خوفٍ مُمِيتٍ من هذه العواصِفِ النادرَةِ التي تَهُبُّ هناكَ منْ آنٍ لآخَرَ.
كانَ التلاميذُ صيَّادينَ مُحنَّكينَ. فقد خرجُوا إلى هذه الْبُحيرةِ آلافَ الْمرَّاتِ، ثمَّ هبَّتْ إحْدَى هذه الزَّوابِعِ الْعَنِيفَةِ في مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، وكانتِ الأَمْواجُ عِمْلاقَةً، والرِّياحُ تَصْفِرُ، وفي كلِّ لحْظَةٍ، كانَتِ السَّفينةُ في خَطَرٍ داهِمٍ أنْ تَنْقَلِبَ، وتُودِيَ بحياةِ الصَّيَّادينَ. وأثناءَ هذا كُلِّهِ، كانَ الرَّبُّ يسوعُ نائِمًا في السَّفينَةِ.
أُبْغِضُ هذا النَّوْعَ منَ الناسِ. فَقَدْ رأيتُ مِثْلَهُمْ على مَتْنِ الطَّائراتِ. فقدْ رَكِبْتُ طائراتٍ حيثُ كانَتِ الْمُضيفاتُ يَصْرُخْنَ في رُعْبٍ، وكانَتِ الطَّائِرَةُ تَنْحَدِرُ على مسافَةِ أَلْفِ قَدَمٍ فِي لَحْظَةٍ، في اضْطِرابٍ شَدِيدٍ، بينَما الرجُلُ الْجالِسُ بِجوارِي نائمٌ بعُمْقٍ. أرَدْتُ أنْ أَهُزَّهُ وأقولَ له: "هَلْ أنْتَ كَلْفِينِيٌّ أمْ ماذا؟ ما خَطْبُكَ؟ ألَا تُدْرِكُ أنَّنا عَلَى وَشَكِ الارْتِطامِ في أيَّةِ لَحْظَةٍ؟" هَؤلاءِ الَّذينَ يَتَمَتَّعُونَ بِالْهُدوءِ والسُّكونِ، يَنامُونَ بالرَّغْمِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ. هذا كانَ حالَ الرَّبِّ يَسوعَ، نَائِمًا بِسلامٍ فِي مُؤَخِّرَةِ الْقارِبِ.
خائِفونَ من العاصفة:
يقولُ الكتابُ الْمُقدَّسُ شيْئًا مُذْهِلًا هنا، إنَّ التلاميذَ كانُوا خَائِفِينَ. لا يُوجَدُ شَيْءٌ مُذْهِلٌ فِي هَذَا، لَكِنْ أُرِيدُ تَطْبِيقَ هذا على شيءٍ مَا.
حينَ كُنْتُ أُعَلِّمُ في كُلِّيَّةِ اللَّاهوتِ في فيلادِلْفْيا منذُ بِضْعَةِ سنواتٍ، قدَّمْتُ مادَّةً عنِ الإِلْحادِ الأَكادِيمِي، وكانَ على الطَّلَبَةِ قراءَةُ الْمَصادِرِ الأوَّلِيَّةِ، وَهْيَ كتاباتُ أبرَزِ الْمُلْحِدينَ فِي التَّارِيخِ الْغَرْبِيِّ. كما طَلَبْتُ مِنْهُمْ قِراءَةَ اعْتراضاتِ دافِيد هْيُوم وجُون سْتِيوارت مِيل؛ بالإضافَةِ إِلى كتاباتِ نِيتْشِه ولُودْفِيج فْيُورْباخ، والنَّقْدِ الذي وَجَّهَهُ مارْكْس ضدَّ الإيمانِ باللهِ في الْمسيحيَّةِ، ونَقْدِ وَالتر كُوفْمانْ وجُونْ بُولْ سارْتْر وأَلْبِير كامُو. مِنْ هَذِهِ القراءاتِ، اكتشَفْنا أنَّ الْمُلْحِدينَ – ولا سيَّما في القرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْعِشْرِينَ - كانُوا يُحاوِلونَ إجابةَ سُؤالٍ بِعَيْنِهِ. فَجوْهَرُ حدِيثِهِمْ كانَ: "نَعْلَمُ أنَّهُ ما مِنْ إِلَهٍ، لكنَّ الْمُشْكِلَةَ الَّتي لا تزالُ تُؤرِّقُنا هِيَ أنَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ قناعَتِنا بِعَدَمِ وُجودِ إِلَهٍ، لماذا يبْدُو الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ مُتَدَيِّنًا بِصُورَةٍ مُسْتَعْصِيَةٍ؟ أيْ لِماذَا نَجِدُ الْبَشَرَ في كُلِّ مكانٍ نَذْهَبُ إِلَيْهِ يُكَرِّسونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْبَحْثِ عَنِ الدِّينِ؟"
أجابَتْ مادْلِين مُوراي عَنْ هذا السُّؤالِ، قائِلَةً: "الْخُرافَةُ هِيَ ما تَسوقُ الْجماهِيرَ بِبَساطَةٍ، فلا يُفَكِّرونَ بِشَكْلٍ نَقْدِيٍّ في الأَمْرِ، كُلُّ ما نَحْتاجُهُ أَنْ نُثَقِّفَ النَّاسَ فَحَسْب". لَكِنَّ أَشْخاصًا أمْثَالَ فْرُويْد وَمَارْكْس وفيورْباخ ونِيتْشِه أَرادُوا تَفْسِيرًا أدَقَّ صِحَّةً.
اتَّفَقُوا على أنَّ الدِّينَ نَشَأَ تاريخِيًّا مِنِ احْتِياجاتِ الْبَشَرِ النَّفْسِيَّةِ، وَمِنَ الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ. فإِنَّ الشَّيْءَ الْوَحيدَ الَّذي نَشْتَرِكُ فيهِ جَمِيعًا هُوَ فَناؤُنا، وهَكَذا، كمَا افْتَرَضَ فْرُويْد (وأيَّدَهُ مَارْكْس)، كلُّ إِنسانٍ لَدَيْهِ خَوْفٌ غَرِيزِيٌّ مِنَ الْقُوَى الطَّبيعيَّةِ الَّتِي تُهدِّدُ حياتَنا. وما حدثَ عبْرَ التاريخِ هوَ أنَّ الناسَ بدأُوا فِي اخْتراعِ أدْيَانٍ؛ وكانَتِ الْخُطْوَةُ الأُولَى في هذهِ الْعَمَلِيَّةِ هُوَ فَرْضُ فِكْرَةِ وُجُودِ نَفْسٍ حَيَّةٍ داخِلَ هَذِهِ الْقُوَى، أيْ أنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ فِي الْعاصِفَةِ، وَإِلَهٌ في الزِّلْزالِ، وَإِلَهٌ فِي الْوباءِ، وَمَا إلى غَيْرِهِ. وقالَ فْرُوْيْد إنَّ الْخُطْوَةَ الأُولَى كانَتْ شَخْصَنَةَ الطَّبِيعَةِ.
تقولُ النَّظرِيَّةُ إنَّهُ في الحياةِ الْكَثيرُ منَ الأَشْياءِ الَّتِي تُهدِّدُ وُجودِي مِثْلُ السَّرطانِ، والنارِ، وَالطُّوفانِ، والْحَرْبِ، والْبَشَرِ. لكنَّني تعلَّمْتُ كإِنْسانٍ كيْفَ أَصْمُدُ، حَتَّى الآنَ عَلَى الأقَلِّ، أمامَ عَداءِ الْبَشَرِ. فَحِينَ تَهْجُمُ عَلَيَّ، وَتُصِرُّ على أَسْنانِكَ غاضِبًا، أو حِينَ تُمْسِكُ بِمُسَدَّسٍ، فقدْ تعلَّمْتُ التَّعامُلَ مَعَ هذا. فإنْ كُنْتَ غاضِبًا مِنِّي، يُمْكِنُني أنْ أتَوَسَّلَ طالِبًا الرَّحْمَةَ؛ أَوْ أنْ أَمْتَدِحَكَ قائِلًا: "أنْتَ لا تُرِيدُ حَقًّا قَتْلِي. ألَا تَعْلَمُ أنَّني مِنْ أَشَدِّ مُعْجَبِيكَ؟ إِنَّنِي أُحِبُّكَ!" وَغَيْرُ ذَلِك. أَوْ رُبَّما أحاوِلُ دَفْعَ رَشْوَةٍ لكَ، قائِلًا: إِنْ عَفَوْتَ عَنِّي، فإِنَّ نِصْفَ أَمْوالِي ستَكونُ لكَ"، وَغَيْرُ ذَلِك. نتعَلَّمُ هذه الْحِيَلَ الْبَسِيطَةَ عنْ كيْفِيَّةِ إحباطِ الْهَجَماتِ الشَّخصِيَّةِ ضِدَّنا.
اختراعٌ لِمُخَدِّرٍ:
لَكِنَّ السُّؤالَ الَّذي طرحَهُ فْرُويْد هُوَ: كَيْفَ يُمْكِنُ التَّفاوُضُ معَ بُركانٍ أوْ طُوفانٍ؟ لا تَسْتطيعُ التَّوَسُّلَ إِلى عاصِفَةٍ. ولا يُمْكِنُكَ دَفْعُ رَشْوَةٍ لِزِلزالٍ. ولا يُمكِنُكَ تَمَلُّقُ السَّرَطانِ كَيْ يَرْحَلَ عَنْكَ. هذهِ قُوًى غَيْرُ عَاقِلَةٍ، تُهَدِّدُ بِالْقضاءِ عَلَيْنا، ولِهذا قالَ فْرُويْد: "ما نَفْعَلُهُ هو أنَّنا نُسْقِطُ على الطَّبِيعَةِ صفاتٍ شَخْصِيَّةً حتَّى يُمْكِنُنا التحدُّثُ إِلَى الْعاصِفَةِ، وسُرْعانَ ما نقدِّسُ الطَّبِيعَةَ، مُتَحَدِّثِينَ عن الآلِهَةِ الْمَوْجودةِ داخلَ هَذِهِ الْقُوَى، أَوْ بِالأَعْلَى.
وفي صُورةٍ مبسَّطَةٍ لِهذا نَجِدُ التَّوْحِيدَ، حيثُ لا يَلْزَمُكَ سِوَى التَّحدُّثِ إلى إِلَهٍ واحِدٍ عَنْ كلِّ هَذهِ الْمُشْكِلاتِ". فإنْ عَبَدْتَ اللهَ، وَأَكْرَمْتَهُ، وَدَفَعْتَ الْعُشُورَ، وَالتَّبَرُّعاتِ، فإنَّ اللهَ، الأَقْوَى مِنَ الْعاصِفَةِ، سَيَحْمِيكَ مِنْ كُلِّ هذه الْمُشْكِلاتِ.
وقَدْ رَأَيْتُمْ ما يَحْدُثُ على التِّلْفازِ، فِي الْخدَماتِ الَّتي تُركِّزُ على الرَّخاءِ والصِّحَّةِ في هَذِهِ الْحَياةِ. وتقولُ إنَّ اللهَ دائِمًا يُريدُ لنا هذا، كما نَسْمَعُ فِكْرَةَ "اطْلُبْ وَامْتَلِكْ"، وَأَنَّ كُلَّ ما عَلَيْكَ فِعْلُهُ لِلتَّمَتُّعِ بِالرَّخاءِ وَالشِّفاءِ وَكُلِّ هذا هُوَ أَنْ تَطْلُبَ، وَتَثِقَ وَتُؤْمِنَ، وَسَيُعْطيكَ اللهُ إِيَّاها.
كنتُ ألعَبُ الْجُولْف مع رَجُلٍ هنا من تِكْساسْ في آخِرِ زيارةٍ لِي لِلْمَدِينَةِ. كانَ يَمُرُّ بِفَتْرةٍ عَصِيبَةٍ. وَفِي الْجَوْلاتِ التِّسْعَةِ الأُولَى، أطاحَ بِالْكُرَةِ فِي كُلِّ الأنحاءِ. وحينَ وَصَلْنا إِلَى الجَوْلَةِ الْعاشِرَةِ، وَضَعَ حَدًّا وقالَ: "حَسَنًا، مِنَ الآنَ، سَأَبْدَأُ فِي اللَّعِبِ، ولا مَزيدَ مِنَ الأَخْطاءِ". قُلْتُ لَهُ: "حَسَنًا". وَضَرَبَ الْكُرَةَ، فانْحَرَفَتْ إِلى الصُّخورِ. وَبَعْدَ سِتِّ ضَرْباتٍ أُخْرَى، دُون إِصابَةِ الْهَدَفِ، الْتَفَتَ إِلَيَّ، وقالَ: "قدِ اكْتفيتُ مِنِ اطْلُبْ وَامْتَلِكْ".
بالتأكيدِ لديْنا مقدِرَةٌ على إسقاطِ رَغَباتِنا وأمانِينا على الطبيعةِ، كما أشارَ فْرُويْد، قائِلًا: "هذا هُوَ الدِّينُ: إنَّنا بِدافِعِ الْخَوْفِ مِنَ الطَّبِيعَةِ نْخَتَرِعُ اللهَ. الأَمْرُ بهذهِ الْبَساطَةِ". وبهذا، يصيرُ اللهُ دُعامَةً أوْ مُخَدِّرًا، كمَا افْتَرَضَ مَارْكْس، لِمَنْ يَعْجُزُونَ بِبَساطَةٍ عَنْ تَحَمُّلِ الْحياةِ في كَوْنٍ عِدائِيٍّ أوْ غَيْرِ مُبالٍ".
الحضورُ المُخِيفُ لِلْقُدُّوسِ:
والآنَ سبَبُ الأَهَمِّيَّةِ الكبيرةِ لهَذا النَّصِّ الكِتابيِّ لنا، أيُّها السَّادةُ، هُوَ أنَّنا هُنا نَجِدُ تلاميذَ الرَّبِّ يسوعَ مُرْتَعِبينَ مِنْ مُواجَهَةٍ مَعَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْمُدَمِّرَةِ. كانَتْ حياتُهُمْ في خطرٍ بسببِ الزَّوْبعةِ الثَّائِرَةِ فِي الْبَحْرِ. ويقولُ الْكِتابُ الْمُقدَّسُ إِنَّهُمْ خافُوا. وماذا يفْعَلُ الْخائِفونَ في وَسَطِ أَزْمَةٍ؟ يَذْهبونَ في الحالِ إلى قائِدِهِمْ، وهكذا رَجِعُوا إلى مُؤَخِّرَةِ السَّفِينَةِ، ونَكَزُوا الرَّبَّ يسوعَ لِيُوقِظُوهُ. وقالُوا له: "يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟"
وماذا فعلَ؟ تلفَّتَ حوْلَهُ مُقَيِّمًا الْوَضْعَ، ثمَّ أَصْدَرَ الرَّبُّ الإِلَهُ الْمُتَجَسِّدُ، خالِقُ السَّماءِ والأَرْضِ، أمْرًا شَفَهِيًّا، لا إلى البشرِ بلْ إلى قُوى الطَّبيعَةِ غيرِ الْعاقِلَةِ. فقدْ خاطَبَ الْبَحْرَ وَالرِّياحَ، وأمَرَهُما بِصوتٍ عالٍ قائِلًا: "اسْكُتْ! اِبْكَمْ!" (مرقس 4: 39). وفي الْحالِ نَرَى طاعَةَ الْكَوْنِ، حَتَّى أنَّ الْبَحْرَ صارَ كَالزُّجاجِ، وهدَأَتِ الرِّيحُ تَمامًا، حَّتى لَمْ يَعُدْ هُناكَ حَتَّى صَفِيرٍ في الْهَواء.
الشيءُ الَّذي لفتَ انْتِباهِي فِي هذهِ الْقِصَّةِ هي الآيةُ التاليةُ. ماذا كانَ رَدُّ فِعْلِ التَّلاميذِ حينَ أزالَ يَسوعُ التَّهْديدَ الواضِحَ للطَّبِيعَةِ؟ هَلْ نَقْرَأُ أنَّهُمْ طَرَحُوا قُبَّعاتِهِمْ فِي الْهواءِ وَتَهَلَّلُوا قائِلِينَ: "كُنَّا نَعْلَمُ أنَّكَ ستَفْعَلُ هذا"؟ لا. بَلْ يقولُ النَّصُّ إِنَّهُمْ في تلكَ اللَّحْظَةِ خَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فبدلًا من أنْ تهدَأَ مخاوِفُهُمْ، اشْتَدَّتْ.
والشيْءُ الَّذي لمْ يَفْهَمْهُ فْرويْد هوَ، أيُّها السَّادَةُ، أنَّهُ يوجَدُ داخلَ الْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ شيءٌ نخشاهُ أكْثَرَ من قُوَى الطَّبِيعَةِ غَيْرِ الْعاقِلَةِ، وَهْوَ سُلْطَانُ شَخْصٍ قُدُّوسٍ وَحُضُورُهُ.
"مَنْ هُوَ هَذَا؟":
فقدِ ارْتَعَدَ التَّلامِيذُ، وسأَلُوا: "مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!" (مرقس 4: 41).
هل تذكُرونَ ما قُلْتُهُ في محاضَرَةٍ سابِقَةٍ عَنِ الزِّينوفوبْيا، وعَنْ تَفَرُّدِ اللهِ واخْتِلافِهِ الَّذِي يُهَدِّدُنا وَيُخِيفُنا؟ قالَ التلامِيذُ: "انْتَظِروا لحظةً، لقَدْ شَاهَدْنا لِتَوِّنا اسْتِعْلانًا لِنَوْعٍ مِنَ الْبَشَرِ لا نَدْرِي عَنْهُ شَيْئًا".
في كُلِّ مَرَّةٍ تَلْتَقِي بِشَخْصٍ جَدِيدٍ، يُجْرِي عَقْلُكَ عَمَلِيَّةَ تَصْنِيفٍ آلِيَّةً لِرُدُودِ الْفِعْلِ. فإِنِ ابْتَسَمَ هذا الشَّخْصُ، فهذا يُعَرِّفُكَ شَيْئًا. وإنْ كانَ عابِسًا، فهذا يُعَرِّفُكَ شَيْئًا آخَرَ. لدَيْنا جمِيعًا هذه التَّصْنِيفاتُ والْقوائِمُ الَّتي نَسْتَخْدِمُها مِنْ واقِعِ خِبْراتِنا كَبَشَرٍ. وإِنَّنا نتعلَّمُ كيفَ نتعامَلُ معَ الآخرينَ مِنْ خلالِ خِبْراتِنَا.
مُنْذُ بِضْعَةِ سَنَواتٍ، نَشَأَتْ فِي بِلادِنا حَرَكَةٌ عِلاجِيَّةٌ، تُطالِبُ الْجميعَ بِالتَّعرِّي، وَحَرْفِيًّا أنْ يُخْرِجُوا كُلَّ ما بِدَاخِلِهِمْ، وَيَكْشِفُوا أَعْمَقَ أَسْرارِ قُلُوبِهِمْ. وكانَتْ هُناكَ جَائِزَةٌ بِقَدْرِ الانْفِتاحِ. أَتَذكُرُونَ هذا؟ وقالَ الْجَمِيعُ: "كُونوا مَكْشُوفِينَ". وكانَتْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ قَصِيرَةَ الأَمَدِ لأَنَّ النَّاسَ تَأَذَّوْا بِشَكْلٍ عَنِيفٍ حِينَ انْفتَحُوا بِشَكْلٍ زائدٍ عَنِ الْحَدِّ.
يُذَكِّرُني هذا بِقِصَّةِ ثلاثَةِ رُعاةِ كَنائِسَ دَخَلُوا غُرْفَةَ تَغْيِيرِ الْملابِسِ بَعْدَ أَنْ لَعِبُوا الْجُولْفَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ جَلْسَةٌ تِلقائِيَّةٌ مِنَ الاعْتِرافِ بِالْخَطايا. فقالَ الراعِي الأوَّلُ: "إِنَّ ضميري يؤلِمُني حقًّا، أحاولُ أنْ أكونَ راعِيًا وبارًّا، لكنْ لديَّ ضَعْفٌ صارَعْتُ معَهُ طوالَ حياتي، يتعلَّقُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ". وقالَ: أنَا سِكِّيرٌ فِي السِّرِّ، ولَمْ أَسْتَطِعِ الانْتِصارَ على هذا". فأجابَ الاثنانِ الآخَرانِ: "حَسَنًا، سنُصَلِّي منْ أجْلِكَ". ثمَّ قالَ الثاني: "حَسَنًا، لا بدَّ أنْ أعترِفَ بأنَّ لديَّ أنَا أيْضًا صِراعًا شخصيًّا. إِنَّني أُجرَّبُ بِالشَّهْوَةِ الْجِنْسِيَّةِ طوالَ الْوَقْتِ، وَقَدِ اسْتَطَعْتُ السَّيْطَرَةَ على سُلُوكِي، لَكِنْ لمْ تَكُنْ أفْكارِي دائِمًا طاهِرةً، ولا أعْلَمُ ما يَجِبُ أنْ أَفْعَلَهُ للتَّغَلُّبِ على هذا. ألَا تصلِّيانِ لأجْلِي؟" فأجابَا: "بِالتَّأْكِيدِ". ولَمْ يَقُلِ الرَّجُلُ الثَّالثُ شيْئًا، فقالَ لَهُ الاثْنانِ الآخَرانِ: "حَسَنًا ألَا تُواجِهُ أيَّةَ تجارِبَ؟" فأجابَ: "بَلَى". فَسأَلاهُ: "ومَا هِيَ؟" قالَ: "أُعانِي مِنَ النَّمِيمَةِ الْقَهْرِيَّةِ، ولا أُطِيقُ صَبْرًا لِلْخُروجِ مِنْ هُنا". هَذا ثَمَنٌ باهِظٌ لِلانْفِتاحِ.
فإنَّ سبَبَ انْغِلاقِنا وحِرْصِنا الشَّدِيدِ على عَدَمِ كَشْفِ كُلِّ شيْءٍ عنْ أنفُسِنا لكُلِّ إنسانٍ نلتَقي بِهِ هوَ أنَّ كُلَّ شَخْصٍ في هذه القاعَةِ تعَرَّضَ لِنَبْشِ سِرٍّ لَهُ. رُبَّما فَتَحْتَ قلبَكَ ونفْسَكَ لشَخْصٍ ما، فانْتَهَكَهُما. يَحْدُثُ هذا لِلإنسانِ مرَّتَيْنِ أَوْ ثلاثَةً، ثُمَّ نتعلَّمُ أنْ نَتَسَلَّحَ قَليلًا، أليسَ كذَلِك؟ ولهذا لا نريدُ أنْ نَنْكَشِفَ، ونَنْفَتِحَ؛ ولهذا نَسْتَخْدِمُ طريقَةَ التَّصْنِيفِ الآلِيِّ الْمُتَمَعِّنِ لكلِّ شَخْصٍ. "هَلْ هذا الشَّخْصُ آمِنٌ؟ أمْ يُشَكِّلُ خَطَرًا؟"
حين رأَى التلاميذُ الرَّبَّ يَسوعَ، تَوَقَّفَتْ عُقولُهُمْ عاجِزَةً، فقالوا: "انتظِروا لحْظَةً. لَيْسَ لدَيْنا تَصْنِيفٌ لهذا الرَّجُلِ. لَمْ نَلْتَقِ قطُّ بِشَخْصٍ بهذا الاختلافِ والتميُّزِ، والانْفِصالِ عنِ الْبَشَرِ الطَّبِيعِيِّينَ، حتَّى أنَّهُ استطاعَ أَنْ يَأْمُرَ الْبَحْرَ، فَيُطِيعَهُ". أيْ أنَّ ما أرْعَبَ التَّلامِيذَ، أيُّها السَّادَةُ، هوَ أنَّهُمْ أدْرَكُوا فَجْأَةً أنَّهُمْ كانوا في مَحْضَرِ الْقُدُّوسِ، فازْدادَ خَوْفُهُمْ.
ليسَتْ هذه هي المرَّةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي يحدُثُ فيها هذا في الْعَهْدِ الْجَدِيدِ.
الانزعاجُ بالْقداسَةِ:
ففي موقِفٍ آخَرَ، نَرَى هؤلاءِ التلاميذَ أنفُسَهُمْ، في هذا البَحْرِ نَفْسِهِ، فنَقْرَأَ أنَّهُمْ كانُوا يُحاوِلُونَ الصَّيْدَ طوالَ اللَّيْلِ، وعادُوا بِشِباكٍ فارِغَةٍ. فاقْتَرَبَ الرَّبُّ يَسوعُ مِنْهُمْ، تَعْلَمُونَ الْقِصَّةَ، وقالَ لِبُطْرُسَ: "كيفَ كانَ الْحالُ؟" فأجابَهُ: "كانَتْ لَيْلَةً سَيِّئَةً. لا يُوجَدُ سَمَكٌ". فقالَ يَسوعُ: "حَسَنًا يا بُطْرُسُ، لمَ لا تأْخُذُ الشَّبَكَةَ وتُلْقِي بِها على هذا الْجانِبِ مِنَ السَّفِينَةِ؟"
تَذَكَّرُوا مَعِي أنَّ الْكِتابَ الْمُقَدَّسَ يَصِفُ بُطْرُسَ بِأَنَّهُ كانَ شَخْصيَّةً مُنْدَفِعَةً جِدًّا. هَلْ يُمْكِنُكُمْ تَخَيُّلُ ما كانَ يَدورُ في ذِهْنِ بُطْرُسَ حينَ قالَ لَهُ الرَّبُّ يَسوعُ أنْ يُلْقِيَ الشَّبَكَةَ عَلى هذا الجانِبِ مِنَ السَّفِينَةِ؟ أَسْتَطِيعُ سماعَهُ يَقولُ، وَلَوْ سِرًّا: "يا يَسُوعُ، صَحِيحٌ أنَّكَ لاهُوتِيٌّ بارِعٌ، وَمُعَلِّمٌ تَقِيٌّ، بامْتِيازٍ، لكِنْ اعْذُرْنِي إنْ صَرَخْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي وَقُلْتُ إِنَّنِي صَيَّادٌ مُحْتَرِفٌ. فَقَدْ أَلْقَيْتُ بِالشِّباكِ عَلَى كُلِّ جَوانِبِ السَّفِينَةِ، طَوالَ اللَّيْلِ. هَلْ سَتُعَلِّمُنِي الآنَ كيفَ أصْطَادُ؟ لكِنْ، أَنْتَ الْمُعَلِّمُ وأَنا التِّلْمِيذُ. حسَنًا يا رفاقُ سَنُجارِيهِ. أَلْقُوا الشَّبَكَةَ عَلى هذا الْجانِبِ".
تَعْرِفونَ ما حَدَثَ. فإنَّ كُلَّ سَمَكَةٍ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ قَفَزَتْ في الشَّبَكَةِ، وَلِهَذا اضْطُرُّوا أَنْ يَستَعِينُوا بسفينةٍ أُخْرَى، وكانُوا على وَشَكِ الْغَرَقِ لأنَّ كِلَيْهِما امْتَلأتَا بِالسَّمَكِ. ثُمَّ ماذا فَعَلَ بُطْرُسُ؟ تذَكَّروا أنَّ بُطْرُسَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ، وَرَجُلُ أعْمَالٍ. فَهْوَ لَمْ يَكُنْ يَصْطادُ لأجْلِ الْمُتْعَةِ، بلْ لأجْلِ الرِّبْحِ. أعْلَمُ ماذا كُنْتُ سأفْعَلُ لَوْ كُنْتُ مكانَ بُطْرُسَ. كُنْتُ سأَمُدُّ يَدِي فِي رِدائِي وأُخْرِجُ عَقْدًا، وأَقولُ: "حَسَنًا يا يَسُوعُ، إِلَيْكَ الاتِّفاقَ: عَقْدُ شراكَةٍ كامِلَةٍ، وسَتَأْخُذُ خَمْسِينَ بِالْمِئَةِ مِنَ الأَرْباحِ. كُلُّ ما أريدُهُ هُوَ خَمْسُ دَقائِقَ شَهْرِيًّا. فقطْ تعالَ إلى هُنا يَوْمَ سَبْتٍ واحِدٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَقُلْ لِي أَيْنَ أُلْقِي الشِّباكَ، هَذا كُلُّ شَيْءٍ. ولَكَ خَمْسُونَ بِالْمِئَةِ مِنَ الرِّبْحِ". هذا ما كُنْتُ سَأَفْعَلُهُ. لَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ بُطْرُسُ هَذَا.
أَتُصَدِّقونَ ما قالَهُ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ؟ فَقَدْ نَظَرَ إِلَيْهِ، وقالَ كَلامًا مُذْهِلًا: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لِأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!" (لوقا 5: 8). قالَ بُطْرُسُ: "يا يَسوعُ، غادِرْ، لا أسْتَطِيعُ التحمُّلَ". أتَرَوْنَ ما يحْدُثُ حِينَ يَقِفُ شَخْصٌ قُدُّوسٌ فِي وَسَطِنا؟ فَفِي الْحالِ نَشْعُرُ بِالانْزِعاجِ. فإنَّنا نَعِي عَلَى نَحْوٍ مُخِيفٍ نَجاسَتَنا، وَنُرِيدُ أن يَبْتَعِدَ ذلكَ الشَّخْصُ عنَّا بِقَدْرِ الإِمْكانِ.
الظُّلْمَةُ في حُضُورِ النُّورِ:
منذُ بِضْعَةِ سَنَواتٍ، أُقِيمَتْ بُطُولَةُ جُولْف في شَمالِ كَارُولَيْنا، وكانَ حامِلُ لَقَبِ رَابِطَةِ لاعِبِي الْجُولْف الْمُحْتَرِفِينَ هُوَ الْفائِزُ بِجَائِزَةِ "لاعِبِ الْعامِ" في الْعامِ السَّابِقِ. ولأنَّهُ كانَ سَيَتَلقَّى جائِزَةَ بُطولَةٍ هذا الْعامَ في شَمالِ كَارُولَيْنا، وكَجُزْءٍ مِنَ التَّكْرِيمِ، كانَ عَلَيْهِ أنْ يَلْعَبَ جَوْلَتَهُ الأُولَى مَعَ بِيلِي جْراهام، ورَئِيسِ الْوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ، وَجاك نيكولاس. كانَتِ الْجَوْلَةُ إِذَنْ بَيْنَ لاعِبِ الْعامِ، وَنِيكُولاس، وَبِيلِي جْراهام، ورئيسِ الْوِلاياتِ الْمُتَّحِدَةِ؛ أرْبَعُ مُبارياتٍ مِنَ الْعِيارِ الثَّقِيلِ.
وهكذا خَرَجُوا إِلَى الْمَلْعَبِ، وَلَعِبُوا جَوْلَةً تَجْرِيبِيَّةً. وحِينَ انْتَهُوا، كانَ صَدِيقٌ لِي هُناكَ، فَذَهَبَ إِلى لاعِبِ الْجُولْفِ وسَأَلَهُ: "كَيْفَ كانَ اللَّعِبُ مع بِيلِي جْراهامْ وَجَاك وَرَئِيسِ الْوِلاياتِ الْمُتَّحِدَةِ؟" كانَ اللَّاعِبُ حانِقًا، فَأجابَ فِي غَضَبٍ: "لَمْ يُعْجِبْني هذا، لَمْ أَكُنْ فِي حاجَةٍ أنْ يَحْشُرَ بيلي جراهام الدِّينَ بِالْقُوَّةِ فِي حَلْقِي لِمُدَّةِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ جَوْلَةً"، ثمَّ انْدَفَعَ فِي غَضَبٍ وَذَهَبَ إِلَى الْمَلْعَبِ، وأخَذَ مَضْرَبَهُ، وابْتَدَأَ يَضْرِبُ كُرَةً بَعْدَ الأُخْرى في حَنَقٍ مُنَفِّسًا عَنْ غَضَبِهِ. وهكذا، ذهَبَ صَدِيقِي وجَلَسَ فِي هُدُوءٍ، وشاهَدَهُ حَتَّى نَفَدَتِ الْكُراتُ، وجاءَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ ثَانِيَةً: "هَلْ فَعَلَ بِيلِي هَذا حَقًّا؟" أجابَهُ اللَّاعِبُ: "لا، في الْحَقِيقَةِ، لَمْ يَنْطِقْ بِيلِي بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ عَنِ الدِّينِ. فَقَطْ كُنْتُ أَمُرُّ بِيَوْمٍ سَيِّئٍ".
يقولُ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ: "اَلشِّرِّيرُ يَهْرُبُ وَلَا طَارِدَ" (أمثال 28: 1). وقالَ لوثَر إنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ يَرْتَعِدُ مِنْ صَوْتِ حَفِيفِ وَرَقَةِ شَجَرٍ. فَقَدْ قَضَى هَذَا الرَّجُلُ وَقْتًا مَعَ بِيلِي جْراهام، الَّذِي هُوَ مِنْ أَلْطَفِ الأَشْخاصِ الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تُقابِلَهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ عَنِ الْمَسِيحِيَّةِ، فانْزَعَجَ هذا الرَّجُلُ.
حينَ أَلْعَبُ الْجُولْفَ معَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْغُرَباءِ، أَعْلَمُ أنَّ السُّؤالَ الْحَتْمِيَّ سيكونُ: "ما وَظيفَتُكَ؟" فَكُلُّ ما عليَّ فِعْلُهُ لأُفْسِدَ جَوَّ الْمَرَحِ هُوَ أنْ أُجِيبَ: "أنا راعي كَنِيسَة". لَكِنَّنِي أُراوِغُ، قائِلًا: "أَعْمَلُ كَاتِبًا". "وعَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَكْتُبُ؟" "عن الكثيرِ مِنَ الأَشْيَاء". وَقَدْ أَقُولُ: "أعْمَلُ فِي مَجالِ التَّأْمِينِ"، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ. لا لأَنّنِي أَخْجَلُ مِمَّا أفْعَلُهُ، لَكِنْ لأنَّنِي لا أُرِيدُ أنْ أُفْسِدَ يَوْمَهُمْ. فما أنْ أُخْبِرَهُمْ بأَنِّي راعِي كَنِيسَةٍ، سَيَبْدَأُونَ فِي التراجُعِ، وَالاعْتِذارِ عَنْ لُغَةِ حَدِيثِهِمْ. فإنَّ النَّاسَ يَضْطَرِبُونَ أمامِي، تَخَيَّلُوا هذا! هذا سَخِيفٌ، لكِنَّهُمْ يَنْزَعِجُونَ في وُجُودِنَا لا لأَنَّنا مُقدَّسُونَ، بَلْ لأنَّنا نُمَثِّلُ الْقُدُّوسَ.
ومِنَ الْمُثِيرِ لِلاهْتِمامِ أنَّ ألَدَّ أَعْداءِ الرَّبِّ يسوعَ فِي حياتِهِ كانُوا الْفِرِّيسيِّينَ، الْمُكَرَّسِينَ لِحياةِ الْبِرِّ. إِذْ كانُوا مُصابِينَ بِالْبِرِّ الذَّاتِيِّ. بَيْنَما أكثرُ مَنْ شَعَرُوا بِراحَةٍ معَ الرِّبِّ يَسوعَ كانُوا الْخُطاةَ الْمَنْبُوذِينَ، لأنَّهُمْ لَمْ يَتَوَهَّمُوا بِرَّهُمُ الذَّاتِيَّ. لَكِنْ مَنْ كانُوا يَفْتَخِرُونَ بِطَهارَتِهِمْ الأَخْلاقِيَّةِ، حِينَ جاءَ الرَّبُّ يَسوعُ، فَضَحَ نَجاسَتَهُمْ، فحِينَ يَأْتِي النُّورُ لا تَتَحَمَّلُهُ الظُّلْمَةُ.
مدْعُوُّونَ لِلدُّخولِ إِلَى الْقُدُّوسِ:
أَتَذْكُرونَ قَوْلَ بُطْرُسَ لِلرَّبِّ يَسُوعَ: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي؟" لَمْ يُغادِرِ الرَّبُّ يَسُوعُ، وَلِمَصْلَحَةِ بُطْرُسَ الأَبَدِيَّةِ، لَمْ يُنَفِّذْ طَلَبَهُ. بَلْ قالَ لهُ: "تعالَ يا بُطْرُسُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". كمَا تَرَوْنَ، أيُّها السَّادَةُ، إِنَّ أَكْثَرَ سِرٍّ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجيِّدِ إِخْفاؤُهُ – فَقد أُخْفِيَ جَيِّدًا، لكِنْ مِنَ الْبَشِعِ أنَّهُ أُخْفِيَ - هُوَ أنَّنا مَدْعُوُّونَ لِلدُّخُولِ إِلَى مَحْضَرِ إِلَهٍ قُدُّوسٍ.
قالَ سارْتْر فِي كتاباتِهِ إِنَّ آخِرَ شَيْءٍ أرادَ فِعْلَهُ هُوَ أنْ يَقِفَ أمامَ الْعَيْنِ الْفاحِصَةِ لِإلَهٍ قُدُّوسٍ. ومَع ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ خَضَعَ دَاوُدُ لِفَحْصٍ دَقِيقٍ مِنَ اللهِ، قالَ لَهُ: "اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي" (مزمور 139: 23).
فإنَّ السِّرَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْمُؤْمِنُ مَعَهُ هُوَ مَعْرِفَتُهُ بِأَنَّ الْمَكانَ الْوَحِيدَ الَّذِي نَسْتَطِيعُ أَنْ نَنْكَشِفَ فِيهِ حَقًّا، وَأَنْ نَشْعُرَ فِيهِ بِالرَّاحَةِ، وَأَنْ نَتَعَرَّى دُونَ خَوْفٍ، هُوَ مَحْضَرُ اللهِ. لا بُدَّ أنْ نُدْرِكَ أنَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ هذَا النُّفورِ وَالْخَوْفِ الْغَرِيزِيِّ الذي نَشْعُرُ بِهِ تُجاهَ الّقُدُّوسِ، وَعَلى الرَّغْمِ مِنْ إدْراكِنا لِنَجاسَتِنا، فإِنَّنا فِي الْمَسِيحِ، أيُّهَا السَّادَةُ، مَوْضِعَ تَرْحِيبٍ. فإنَّ أُولى نتائِجِ تَبْرِيرِ الإِنسانِ، كما يُخبِرُنا الرَّسولُ، هُمَا أَمْرانِ: سلامٌ معَ اللهِ وَفُرْصَةُ دخولٍ إِلَى مَحْضَرِهِ.
احْسِمُوا الْمَسْأَلَةَ:
أنَا على يقينٍ أنَّهُ يُوجَدُ في هذه القاعَةِ الآنَ، وَمِنْ بَيْنِ مَنْ سيشاهِدونَ هذِهِ السِّلْسِلَةَ مُسجَّلَةً، مَنْ لَيْسُوا في سلامٍ معَ اللهِ، ولا يَزالونَ يقولُونَ مَعَ بُطْرُسْ: "يا يَسوعُ، ارْحَلْ عَنِّي. وُجودُكَ يُزْعِجُني". أقولُ لَكُمْ، وأَتَوَسَّلُ إِلَيْكُمْ، إنْ كُنْتُمْ تَسْتَمِعونَ إلى هذه السلسلَةِ عن طبيعَةِ الله،ِ أنْ تُفَكِّرُوا في أَمْرَيْنِ. أوَّلًا، لا مهرَبَ من قداسَةِ اللهِ. سيَكونُ عليكَ أنْ تتعاملَ مَعَها إمَّا الآنَ أو فِي وَقْتٍ ما.
ولهذا أناشدُكُمُ الآنَ أنْ تَحْسِمُوا الْمَسْأَلَةَ، وأنْ تُدْرِكوا أنَّهُ يوجَدُ بِرٌّ أتاحَهُ لكُمُ اللهُ في الْمَسِيحِ، وهْوَ لَيْسَ بِرَّكُمْ الشَّخْصِيَّ، بَلْ بِرٌّ خارِجِيٌّ. هُوَ بِرُّ الْمَسِيحِ الْمُقَدَّمِ لَكُمْ مَجَّانًا إنْ خَضَعْتُمْ لِسِيادَةِ الْمَسِيحِ. فإنَّ كُلَّ ما له، وكلَّ ما فَعَلَهُ يَصيرُ لَكُمْ. وأَسْوَأُ عَواصِفِ الْغَضَبِ الإِلَهِيِّ الَّتي يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا سَتَهْدَأُ إِلَى الأَبَدِ، وَسَيُعْلِنُ اللهُ السَّلامَ. وسَتَخْتَبِرُونَ ما اختبَرَهُ إِشَعْياءُ حِينَ أدْرَكَ كلِمَةَ اللهِ، الَّتِي قالَتْ لَهُ: "انْتُزِعَ إِثْمُكَ" (إشعياء 6: 7).
أنْ تكُونَ مُؤْمِنًا يَعْنِي غُفْرَانَ خطاياكَ. فَإِنَّ جَوْهَرَ الإِيمانِ الْمَسِيحِيِّ هُوَ النِّعْمَةُ. لَيْسَ جَوْهَرُ الأَخْلاقِ الْمَسِيحِيَّةِ هُوَ التَّعَجْرُفُ، بَلِ الامْتِنانُ. وإنْ كُنْتَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ، سامِحْنَا إِنْ كُنَّا أَشْعَرْناكَ بِبِرِّنا الذَّاتِيِّ، لأَنَّنِي أُؤَكِّدُ لَكَ أنَّهُ لا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ واحِدٌ فِي هَذِهِ الْقاعَةِ بارٌّ مِنْ ذاتِهِ وَفِي ذَاتِهِ. احْسِمِ الأَمْرَ، الآنَ وإِلَى الأَبَدِ.
دَعُونَا نُصَلِّي.
يا أبانا، سامِحْنا لأَجْلِ هُرُوبِنَا فِي رُعْبٍ مِنْ مَحْضَرِكَ. يا أبانا سامِحْنا لأَجْلِ اشتِراكِنا في الْعَداءِ تُجاهَكَ. يا أبانا، استُرْنَا بِبِرِّ الْمَسِيحِ، حتَّى نتمَكَّنَ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَياتِنَا أنْ نَشْعُرَ بِراحَةٍ فِي مَحْضَرِكَ. وَنَطْلُبَ هَذَا فِي اسْمِ يَسُوعَ، آمِين.
تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.