المحاضرة 3: الصُدْفَةُ: الأُسْطُورَةُ الْحَدِيثَةُ

أَظُنُّ أَحْيَانًا أَنَّهَا مُهِمَّةٌ هِرَقْلِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ مَا لَا يَقِلُّ عَنْ سَيْفِ دِيمُوقْلِيسْ لِقَطْعِ سَاقَيَّ حَتَّى أُنَاسِبَ سَرِيرَ بُرُوكْرَسْتْ. مَاذَا قُلْتُ لِتَوِّي؟ اسْتَخْدَمْتُ لِتَوِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَجَمَعْتُهَا مَعًا فِي جُمْلَةٍ، لِأُبَيِّنَ أَنَّنَا مَا زِلْنَا نَقْتَبِسُ صُوَرًا مِنَ الْأَسَاطِيرِ الْقَدِيمَةِ، الَتِي لَا تَزَالُ تُؤَثِّرُ حَتَّى الْآنَ فِي أُسْلُوبِ حَدِيثِنَا. لَاحَظْتُ أَنَّهُ فِي الْمَدْرَسَةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ الَتِي أَنْتَمِي إِلَيْهَا، لَا يَزَالُ الْأَوْلَادُ يَدْرُسُونَ الْأَسَاطِيرَ الْقَدِيمَةَ. هَذَا مُهِمٌّ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِ هَذِهِ الْأَسَاطِيرِ تَتَكَرَّرُ فِي أَدَبِ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ عَبْرَ الْعُصُورِ. لَكِنَّنَا الْيَوْمَ، وَقُرْبَ نِهَايَةِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، نَمِيلُ إِلَى الِازْدِرَاءِ بِالْأَسَاطِيرِ. أَتَذَكَّرُ رُودُلْفْ بُولْتْمَانْ (Rudolf Bultmann)، أَحَدَ أَهَمِّ اللَاهُوتِيِّينَ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، الَذِي قَالَ: "إِنَّ مُهِمَّةَ الْمَسِيحِي الْعَصْرِي هِيَ تَجْرِيدُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الْأَسَاطِيرِ"، وَقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ هُوَ فِي الْأَسَاسِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْأَسَاطِيرِ يَتَخَلَّلُهَا تَارِيخٌ حَقِيقِيٌّ. وَكَيْ يَحْصُلَ الشَخْصُ الْعَصْرِيُّ عَلَى أَجْوِبَةٍ مُهِمَّةٍ تَخُصُّ الْعَالَمَ الَذِي نَعِيشُ فِيهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَرِقَ قِشْرَةَ الْأَسَاطِيرِ، لِيَصِلَ إِلَى نَوَاةِ الْحَقِيقَةِ الْكَامِنَةِ أَسْفَلَهَا. وَبِالْمُنَاسَبَةِ، وَمِنَ الْمُفَارَقَةِ، أَنَّهُ كَانَ مُقْتَنِعًا بِهَذَا الرَأْيِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقْتَنِعًا بِأَنَّ عِلْمَ كَوْنِيَّاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، أَوْ مَنْظُورَهُ عَنِ الْكَوْنِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ عِلْمِ الْكَوْنِيَّاتِ الْحَدِيثِ، فِي حِينِ أَنَّ عِلْمَ الْكَوْنِيَّاتِ نَفْسَهُ الَذِي تَبَنَّاهُ بُولْتْمَانْ أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَتِيقَ الطِرَازِ. هَذِهِ إِحْدَى مُفَارَقَاتِ التَارِيخِ. لَكِنْ أَوَدُّ الْقَوْلَ إِنَّهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَ فَقَطْ فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ، بَلْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، هُنَاكَ بَرَاهِينُ عَلَى وَفْرَةٍ مِنَ الْأَسَاطِيرِ. وَالْأَسَاطِيرُ لَيْسَتْ كُلُّهَا بِهَذِهِ الْبَشَاعَةِ، لَكِنَّهَا تُمَثِّلُ قِيمَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةً مَحْدُودَةً. حِينَ نَقْرَأُ مَثَلًا أَسَاطِيرَ الشُعُوبِ الْقَدِيمَةِ، نَقْرَأُ كَثِيرًا عَنْ عِلْمِ الْإِنْسَانِ الْقَدِيمِ، أَيْ مُحَاوَلَةِ الْإِنْسَانِ تَفْسِيرَ بِيئَتِهِ الْغَامِضَةِ. وَالشُعُوبُ الْقَدِيمَةُ الَتِي لَمْ تَفْهَمْ سَبَبَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأُمُورِ، حَاوَلَتْ تَفْسِيرَهَا، أَيْ حَاوَلَتْ إِنْقَاذَ الظَوَاهِرِ، فَابْتَكَرَتْ بَعْضَ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ. لَكِنَّ الِاكْتِشَافَاتِ اللَاحِقَةَ بَدَّدَتِ الْمُحْتَوَى الْأُسْطُورِيَّ. وَنَمِيلُ الْيَوْمَ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهَا لِسَذَاجَتِهَا وَعَدَمِ تَطَوُّرِهَا. لَكِنَّنِي أَتَسَاءَلُ كَثِيرًا أَيْنَ تَخْتَبِئُ الْأَسَاطِيرُ فِي آرَائِنَا الْحَالِيَّةِ؟ وَمَمَّ سَيَسْخَرُ عُلَمَاءُ الْقَرْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَالثَانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِمَّا نَرَى أَنَّهُ صَحِيحٌ الْيَوْمَ؟ دَعُوْنَا لَا نَكُونُ مُتَعَجْرِفِينَ لِدَرَجَةِ افْتِرَاضِ أَنَّنَا أَوَّلُ جِيلٍ خَالٍ مِنَ الْأَسَاطِيرِ.

بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَسَاطِيرِ، وَلَا سِيَّمَا مِنْ حَيْثُ مَرْجَعِيَّتُهَا التَارِيخِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ، تَكْمُنُ مُشْكِلَةُ الْأَسَاطِيرِ فِي كَوْنِهَا تَمِيلُ إِلَى حَجْبِ الْوَاقِعِ. وَنَحْنُ نُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُسْطُورَةِ وَالْوَاقِعِ تَحْدِيدًا لِأَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ لَا تَصِفُ حَقِيقَةَ الْأُمُورِ. وَأَكْثَرُ أُسْطُورَةٍ صَارِخَةٍ زَحَفَتْ إِلَى الْحَيَاةِ الْحَدِيثَةِ، وَإِلَى فَلْسَفَتِنَا الْحَيَاتِيَّةِ، بَلْ وَاخْتَرَقَتِ الْبَعْضَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُؤَسَّسَاتِ الْأَكَادِيمِيَّةِ وَمُؤَسَّسَاتِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، هِيَ أُسْطُورَةُ الصُدْفَةِ.

أَعْتَقِدُ أَنَّ الصُدْفَةَ هِيَ أَكْبَرُ أُسْطُورَةٍ فِي فِكْرِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ. فِي عَامِ 1913، عَالِمٌ فَرَنْسِيٌّ يُدْعَى بْيِيرْ دُلْبِي (Pierre Delbet)، فِي مُؤَلَّفٍ تُرْجِمَ لِلْإِنْجْلِيزِيَّةِ تَحْتَ عُنْوَانِ "الْعِلْمُ وَالْوَاقِعُ" (Science and Reality)، أَدْلَى بِالتَعْلِيقِ الْآتِي: "تَبْدُو الصُدْفَةُ الْيَوْمَ وَكَأَنَّهَا قَانُونٌ، الْقَانُونُ الْأَعَمُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهِيَ بِالنِسْبَةِ إِلَيَّ وِسَادَةٌ لَيِّنَةٌ، فَقَطِ الْجَهْلُ وَاللَّامُبَالَاةُ، حَسَبَ قَوْلِ مُونْتَانْيْ (Montaigne)، هُمَا مَا يُمْكِنُهُمَا تَوْفِيرُهَا". لَكِنَّ هَذِهِ وِسَادَةٌ عِلْمِيَّةٌ. قَالَ دُلْبِي إِنَّ الصُدْفَةَ قَانُونٌ، قَانُونٌ عِلْمِيٌّ، وَهِيَ وِسَادَةٌ لَيِّنَةٌ لِلْفِكْرِ الْحَدِيثِ. تُسْتَعْمَلُ الْوِسَادَاتُ عَادَةً لِلنَوْمِ، وَلِلنَوْمِ الْمُرِيحِ. يَحْضُرُنِي التَعْبِيرُ الْقَدِيمُ "حَتَّى هُومِيرُوسُ يَغْفُو"، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَرْتَكِبَ شَخْصٌ عَظِيمٌ وَحَكِيمٌ فِي مَوْقِفٍ مَا خَطَأً شَنِيعًا، وَكَأَنَّهُ غَفَا لِلَحْظَةٍ. وَنَقُولُ: "حِينَ يُخْطِئُ شَخْصٌ عَظِيمٌ، حَتَّى هُومِيرُوسُ نَفْسُهُ يَغْفُو". أَتَذَكَّرُ أَنَّهُ قَبْلَ كِتَابَةِ إِيمَانُوِيلْ كَانط مُؤَلَّفُهُ الْجِذْرِيُّ عَنْ نَقْدِ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ، قَالَ إِنَّ مَا حَفَّزَهُ عَلَى تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ هُوَ قِرَاءَةُ شُكُوكِ دَيْفِيدْ هِيُومْ (David Hume)، وَقَالَ إِنَّ دَيْفِيدْ هِيُومْ نَبَّهَهُ أَوْ أَيْقَظَهُ مِنْ "سُبَاتِهِ الْعَقِيدِي".

حَسَنًا، أَنَا مُقْتَنِعٌ بِأَنَّ أُسْطُورَةَ الصُدْفَةِ هِيَ "الْوِسَادَةُ اللَيِّنَةُ" الَتِي صَارَتْ مِثْلَ الْمُخَدِّرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. فَقَدْ جَعَلَتِ الْعَبَاقِرَةَ فِي غَفْلَةٍ عَنِ التَغَيُّرَاتِ فِي الْعِلْمِ. سْتَانْلِي يَاكِي (Stanley Jaki)، عَالِمُ الْكَوْنِيَّاتِ الْكَاثُولِيكِيُّ، عَلَّقَ عَلَى رَأْيِ دُلْبِي، وَقَالَ: "إِنَّ الصُدْفَةَ أَصْبَحَتِ الْوِسَادَةَ الْأَكْثَرَ لُيُونَةً فِي كُلِّ التَارِيخِ الْعِلْمِيِّ. فَهِيَ بِمَثَابَةِ أَدَاةٍ سِحْرِيَّةٍ تَجْعَلُ التَفَلْسُفَ الرَدِيءَ سُلُوكًا جَدِيرًا بِالِاحْتِرَامِ". هَذَا نَقْدٌ قَاسٍ. فَهُوَ يَقُولُ إِنَّ مَفْهُومَ الصُدْفَةِ لَيْسَ فَقَطْ بِمَثَابَةِ أُسْطُورَةٍ فِي عِلْمِ الْكَوْنِيَّاتِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ أَيْضًا كَالسِحْرِ الَذِي يُقَوِّضُ عِلْمَ الْعُلُومِ. وَمَا يُقْلِقُنِي، وَسَأَتَنَاوَلُ هَذَا بِالتَفْصِيلِ، لَيْسَ فَقَطْ خَطَرَ إِثَارَةِ هَذَا الْمَفْهُومِ لِمُشْكِلَاتٍ فِي اللَاهُوتِ، بَلْ قَلَقِي الْأَكْبَرُ هُوَ حِيَالَ مَا قَدْ يَفْعَلُهُ بِالْعِلْمِ. وَأَقُولُ إِنَّ أَهَمَّ وَقْتٍ يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَاللَاهُوتِيِّينَ أَنْ يَتَكَاتَفُوا مَعًا ضِدَّ عَدُوٍّ مُشْتَرَكٍ لِلْحَقِّ وَلِلْوَاقِعِ هُوَ الْآنَ فِي وُقُوفِهِمْ ضِدَّ تَأْثِيرِ هَذَا الْمَفْهُومِ فِي عِلْمِ الْكَوْنِيَّاتِ الْحَدِيثِ.

أَدْلَى آرْثَرْ كُوِسْتِلَرْ (Arthur Koestler) بِالتَعْلِيقِ التَالِي: "مَا دَامَتِ الصُدْفَةُ تَحْكُمُ، فَقُلْ عَلَى اللَّهِ السَلَامُ". دَعُونِي أُكَرِّرُهُ: "مَا دَامَتِ الصُدْفَةُ تَحْكُمُ، فَقُلْ عَلَى اللَّهِ السَلَامُ". عَلَيَّ أَنْ أَلُومَ كُوِسْتِلَرْ قَلِيلًا عَلَى هَذَا التَعْلِيقِ، لِأَنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ خَجُولًا قَلِيلًا. أَرَى أَنَّهُ تَصْرِيحٌ مُخَفَّفٌ، وَأَتَمَنَّى لَوْ كَانَ أَكْثَرَ جُرْأَةً. فَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ مَا دَامَتِ الصُدْفَةُ تَحْكُمُ، فَقُلْ عَلَى اللَّهِ السَلَامُ. أَظُنُّ أَنَّنَا نَفْهَمُ قَصْدَهُ. فَهُوَ يَقْصِدُ أَنَّ فِكْرَةَ وُجُودِ الصُدْفَةِ فِي كَوْنٍ يَحْكُمُهُ إِلَهٌ لَهُ سُلْطَانٌ هُمَا فِكْرَتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ. فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ سُلْطَانٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلصُدْفَةِ وُجُودٌ. وَإِذَا كَانَتِ الصُدْفَةُ تَحْكُمُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِلَهٌ لَهُ سُلْطَانٌ. وَاسْمُ أَوْ كَلِمَةُ "اللَّهِ" تُصْبِحُ عَتِيقَةَ الطِرَازِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا مَكَانٌ فِي الْمُفْرَدَاتِ الْحَدِيثَةِ. لَكِنْ إِلَيْكُمْ سَبَبَ اعْتِقَادِي أَنَّهُ كَانَ خَجُولًا. فَهُوَ يَقُولُ: "إِنْ كَانَتِ الصُدْفَةُ تَحْكُمُ، فَقُلْ عَلَى اللَّهِ السَلَامُ". لَيْسَ عَلَى الصُدْفَةِ أَنْ تَحْكُمَ كَيْ يَنْتَهِيَ أَمْرُ اللَّهِ. فَكُلُّ مَا عَلَى الصُدْفَةِ فِعْلُهُ لِجَعَلِ اللَّهِ عَدِيمَ الْأَهَمِّيَّةِ، وَمَنْعِ التَفْكِيرِ الْجَادِّ فِيهِ، هُوَ أَنْ تُوجَدَ. لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْكُمَ، أَوْ أَنْ تَكُونَ قَوِيَّةً جِدًّا. لَا يَتَطَلَّبُ الْأَمْرُ سِوَى الْقَلِيلِ مِنْهَا. كُلُّ مَا عَلَيْهَا فِعْلُهُ هُوَ أَنْ تُوجَدَ، فَلَا يُصْبِحُ اللَّهُ فَقَطْ عَتِيقَ الطِرَازِ، بَلْ يَنْتَهِي أَمْرُهُ.

لِمَ أَقُولُ ذَلِكَ؟ أَقُولُ إِنَّهُ بِوُجُودِ الصُدْفَةِ، يَنْتَهِي أَمْرُ اللَّهِ. فَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى بِالصُدْفَةِ، لِتُصْبِحَ قَانُونًا عِلْمِيًّا، تَصِيرُ لَدَيْنَا هُوَّةٌ لَا يُمْكِنُ عُبُورُهَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَاللَاهُوتِ. وَعَلَى أَحَدِهِمَا الِاسْتِسْلَامُ. وَتَكْتَسِبُ فِكْرَةُ الصُدْفَةِ أَهَمِّيَّةً فِي الصِرَاعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي عَقِيدَةِ الْخَلْقِ. أَظُنُّ أَنَّنَا جَمِيعًا عَلَى دِرَايَةٍ بِتَقَارِيرِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ عَنِ الْمَعَارِكِ الْمُسْتَمِرَّةِ الدَّائِرَةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِشَأْنِ الْمَرَاجِعِ الَتِي يَجِبُ اعْتِمَادُهَا فِي الْمَدَارِسِ الْحُكُومِيَّةِ، وَالْجَدَلِ بَيْنَ عِلْمِ الْخَلْقِ وَالْعُلُومِ الطَبِيعِيَّةِ، وَكُلِّ تِلْكَ الْأُمُورِ الَتِي سَمِعْنَا عَنْهَا، وَالْجَدَلِ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَالَمُ حَدِيثَ الْعَهْدِ، وَهَلْ عُمْرُ الْأَرْضِ سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، أَمْ عُمَرُ الْكَوْنِ مَا بَيْنَ 15-18 مِلْيَارَ سَنَةٍ؟ وَهَلْ خُلِقَ الْكَوْنُ فِي 6 أَيَّامٍ مِنْ 24 سَاعَةً؟ هَذِهِ هِيَ الْأَفْكَارُ مَحَلُّ النِزَاعِ الشَدِيدِ، وَبِكُلِّ صَرَاحَةٍ لَنْ يَسَعَنِي تَنَاوُلُهَا فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ. لَكِنْ أُرِيدُ أَنْ نَرَى أَنَّ الْمُسْتَهْدَفَ الرَئِيسِيَّ فِي هَذَا الْجَدَلِ هُوَ فِكْرَةُ الْخَلْقِ. فَأَوَّلُ تَصْرِيحٍ جَاءَ فِي الصَفْحَةِ الْأُولَى مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هُوَ: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". قَدْ نَتَجَادَلُ لِعُقُودٍ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ الْخَلْقِ، وَمَتَى حَدَثَ، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنَّ السُؤَالَ الْأَهَمَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ إِنْ كَانَ قَدْ حَدَثَ أَمْ لَا مِنَ الْأَسَاسِ. هَلْ هُنَاكَ مَا يُسَمَّى بِالْخَلْقِ؟ لِأَنَّ كُلَّ مُلْحِدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنِ اسْتَطَعْتَ تَكْذِيبَ هَذَا الْمَفْهُومِ، فَقَدْ انْتَهَى أَمْرُ الْمَسِيحِيَّةِ. وَانْتَهَى أَمْرُ الْيَهُودِيَّةِ. وَانْتَهَى أَمْرُ الْإِسْلَامِ. فَالدِيَانَاتُ الْعُظْمَى الثَلَاثُ فِي الْعَالَمِ الْيَوْمَ تَتَّفِقُ مَعًا عَلَى الْأَقَلِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذا السُلْطَانِ هُوَ الْخَالِقُ. نَخْتَلِفُ فِي الرَأْيِ حَوْلَ طَبِيعَةِ اللَّهِ، وَمَقَاصِدِ اللَّهِ، إِلَى آخِرِهِ، لَكِنَّنَا نَتَّفِقُ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ هُوَ الْعِلَّةُ الْكَافِيَةُ وَالْفَعَّالَةُ لِلْكَوْنِ بِأَكْمَلِهِ. وَتَلْعَبُ الصُدْفَةُ دَوْرَ الْأُسْطُورَةِ كَبَدِيلٍ لِلْخَلْقِ. فَهِيَ الْمَفْهُومُ الَذِي يُحْتَكَمُ إِلَيْهِ بِلَا هَوَادَةٍ لِإِنْقَاذِ ظَوَاهِرِ الْكَوْنِ دُونَ الِاحْتِكَامِ إِلَى اللَاهُوتِ. وَلِهَذَا يُرَحِّبُ الْبَعْضُ بِدُخُولِ الصُدْفَةِ إِلَى عَالَمِ الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ.

سَمِعْتُ عِظَةً مُنْذُ سَنَوَاتٍ كَانَ الْمُتَحَدِّثُ يُحَاوِلُ فِيهَا الدِفَاعَ عَنْ مِصْدَاقِيَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ ضِدَّ مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِالصُدْفَةِ. وَكَانَ قَدْ قَرَأَ فِي مَرْجِعٍ مَا الِاحْتِمَالَاتُ الَتِي تَسْتَبْعِدُ بَدْءَ الْكَوْنِ بِالصُدْفَةِ، وَقَرَأَ عَلَيْنَا الْأَرْقَامَ. لَا أَذْكُرُ الْأَرْقَامَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ ضَخْمَةً. ثُمَّ قَالَ إِنَّ هُنَاكَ احْتِمَالًا بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ عَلَى مِلْيَارَاتِ الْمِلْيَارَاتِ أَنْ يَكُونَ الْكَوْنُ جَاءَ بِالصُدْفَةِ. ثُمَّ تَابَعَ قَائِلًا إِنَّهُ مِنَ السَخَافَةِ افْتِرَاضُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الضَئِيلَ يَدْحَضُ فِكْرَةَ الْخَلْقِ. كَانَ يُحَاوِلُ تَهْدِئَةَ مُسْتَمِعِيهِ. وَوَصَلَ إِلَى الْخِتَامِ فَقَالَ: "إِذَنْ، نَرَى أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ حِسَابِيًّا أَنْ يَكُونَ الْكَوْنُ قَدْ جَاءَ بِالصُدْفَةِ". وَبَيْنَمَا هَمَمْتُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْكَنِيسَةِ، اسْتَوْقَفَنِي الْوَاعِظُ وَسَأَلَنِي بِشَيْءٍ مِنَ الْحَمَاسِ: "مَا رَأْيُكَ؟" لَمْ أَعْرِفْ مَاذَا أَقُولُ، أَرَدْتُ الْقَوْلَ: "عِظَةً جَمِيلَةً" ثُمَّ أَخْرُجُ. فَلَمْ أَشَأِ الْخَوْضَ مَعَهُ فِي جِدَالٍ. لَكِنِّي قُلْتُ: "أَظُنُّ أَنَّ حُجَّتَكَ لَمْ تَكُنْ مُوَفَّقَةً". سَأَلَنِي: "مَاذَا تَقْصِدُ؟" قُلْتُ: "لَدَيَّ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ". "أَوَّلًا، إِنْ كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ مِنْ مِلْيَارَاتِ الْمِلْيَارَاتِ لِمَجِيءِ الْكَوْنِ بِالصُدْفَةِ، وَإِذَا كَانَ الْإِطَارُ الزَمَنِيُّ لِحُدُوثِ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ وَأَبَديٍّ، فَيَبْدُو لِي أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الْوَاحِدَ سَيَتَحَقَّقُ إِنْ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا فِي الْأَبَدِ. لَيْسَ صَحِيحًا أَنَّهُ يُوجَدُ احْتِمَالٌ ضَئِيلٌ". وَقُلْتُ: "الْمُشْكِلَةُ الثَانِيَةُ بَسِيطَةٌ جِدًّا. ذَكَرْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ حِسَابِيًّا، فِي حِينِ قَدَّمَتَ لِتَوِّكَ احْتِمَالًا حِسَابِيًّا وَاحِدًا. وَبِقَدْرِ كَوْنِهِ بَعِيدًا جِدًّا، بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ عَلَى عَشَرَاتِ الْأَصْفَارِ، لَكِنَّهُ يَظَلُّ مُمْكِنًا حِسَابِيًّا. هَلْ تُوَافِقُنِي؟" أَجَابَ: "نَعَمْ". فَقُلْتُ: "سُؤَالِي الثَالِثُ هُوَ الْأَهَمُّ. مَا احْتِمَالَاتُ حُدُوثِ أَيِّ شَيْءٍ بِالصُدْفَةِ؟" أَجَابَ: "لَا أَفْهَمُ قَصْدَكَ". قُلْتُ: "الْجَوَابُ هُوَ وَلَا احْتِمَالَ". وَقُلْتُ: "لَا شَيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ بِالصُدْفَةِ". فَسَأَلَ: "لِمَ لَا؟" أَجَبْتُ: "لِأَنَّ الصُدْفَةَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا".

فِي نِقَاشٍ لِي ذَاتَ مَرَّةٍ مَعَ أُسْتَاذٍ فِي هَارْفَارْدْ، قَالَ لِي: "الْكَوْنُ خُلِقَ بِالصُدْفَةِ". ضَغَطْتُ عَلَيْهِ قَلِيلًا. وَاسْتَخْدَمْتُ عُمْلَةً مَعْدِنِيَّةً لِتَوْضِيحِ فِكْرَتِي. وَقُلْتُ: "إِذَا كَانَتْ لَدَيَّ عُمْلَةٌ مَعْدِنِيَّةٌ وَقَذَفْتُهَا فِي الْهَوَاءِ، فَمَا احْتِمَالَاتُ سُقُوطِهَا عَلَى وَجْهِ النَقْشِ؟ أَجَابَ: "خَمْسُونَ بِالْمِئَةِ". فَقُلْتُ: "حَسَنًا، مَا مَدَى تَأْثِيرِ الصُدْفَةِ عَلَى حَرَكَةِ الْعُمْلَةِ؟" سَأَلَنِي: "مَاذَا تَقْصِدُ؟" أَجَبْتُ: "حَسَنًا، إِنَّ سُقُوطَهَا عَلَى وَجْهِ النَقْشِ أَوْ الْكِتَابَةِ يَتَحَدَّدُ بِمَدَى الضَغْطِ الَذِي يُمَارَسُ عَلَيْهَا، وَكَثَافَةِ الْغِلَافِ الْجَوِّيِّ، وَعَدَدِ مَرَّاتِ دَوَرَانِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيْنَ سَتَلْتَقِطُهَا، وَهَلْ سَتَقْلِبُهَا بَعْدَ الْتِقَاطِهَا أَمْ لَا. هَذِهِ هِيَ كُلُّ الْمُتَغَيِّرَاتِ. فَمَا مَدَى تَأْثِيرِ الصُدْفَةِ؟" ظَلَّ مُتَحَيِّرًا. فَقُلْتُ: "حَسَنًا، إِنِ اسْتَخْدَمْتَ اللَفْظَ ‘صُدْفَةً’ بِمَعْنَى احْتِمَالَاتٍ حِسَابِيَّةٍ، فَسَيَكُونُ مَقْبُولًا تَمَامًا". وَسَأَتَحَدَّثُ عَنْ ذَلِكَ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمُقْبِلَةِ، حَوْلَ مَتَى يَكُونُ اللَفْظُ ‘صُدْفَةً’ كَلِمَةً ذَاتَ مَعْنًى. "لَكِنْ حِينَ نَنْسِبُ إِلَى ‘الصُدْفَةِ’ الْقُدْرَةَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مَا، فَإِنَّنَا نَقُولُ إِنَّ الصُدْفَةَ شَيْءٌ. وَمَا هَذَا الشَيْءُ؟ مَا هَذَا الْعَامِلُ الْغَامِضُ الَذِي يَجْعَلُ الْعُمْلَةَ تَسْقُطُ عَلَى نَقْشٍ أَوْ كِتَابَةٍ؟" ظَلَّ يَنْظُرُ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: "مَهْلًا". قُلْتُ: "لَا يُمْكِنُ لِلصُدْفَةِ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا لِأَنَّ الصُدْفَةَ لَيْسَتْ شَيْئًا. فَكَيْ يَفْعَلَ شَيْءٌ أَمْرًا مَا، يَجِبُ أَوَّلًا، مَاذَا؟ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. وَالصُدْفَةُ لَيْسَتْ شَيْئًا. فَهِيَ لَا شَيْءَ. وَحِينَ تُخْبِرُنِي بِأَنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِالصُدْفَةِ، فَهَذَا وَكَأَنَّكَ تَقُولُ إِنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِلَا شَيْءٍ. فَقَدْ أَخَذْتَ كَلِمَةً نَافِعَةً لِوَصْفِ احْتِمَالَاتٍ حِسَابِيَّةٍ، وَوَهَبَتَهَا قُوَّةً سِحْرِيَّةً، وَمَنَحَتَهَا وُجُودًا، وَأَعْطَيْتَهَا الْقُدْرَةَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مَا فِي حِينِ أَنَّهَا لَا شَيْءَ". هَذَا مَا قَصَدَهُ يَاكِي بِقَوْلِهِ إِنَّ "وِسَادَةَ الصُدْفَةِ اللَيِّنَةَ هِيَ الْأَكْثَرُ لُيُونَةً فِي كُلِّ التَارِيخِ. وَقَدْ صَارَتْ أَدَاةً سِحْرِيَّةً لِجَعْلِ الْفَلْسَفَةِ الرَدِيئَةِ جَدِيرَةً بِالِاحْتِرَامِ". يُعْجِبُنِي اخْتِيَارُهُ لِلْكَلِمَاتِ، حَيْثُ تَكَلَّمَ عَنْ "أَدَاةٍ سِحْرِيَّةٍ". أَحَدُ الْمَبَادِئِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ هُوَ مَبْدَأُ "إِيكْسْ نِيهِيلُو نِيهِيلْ فِيتْ" (ex nihilo nihil fit)؛ أَيْ "لَا شَيْءَ يَأْتِي مِنَ الْعَدَمِ". هَذَا يَعْنِي بِبَسَاطَةٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْءٌ مِنْ لَا شَيْءٍ. أَقُولُ لِلطُلَّابِ فِي صَفِّ اللَاهُوتِ إِنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ وَقْتٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَاذَا كَانَ لِيُوجَدَ الْآنَ؟ لَا شَيْءَ. فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا أَنْ لَا شَيْءَ يَأْتِي مِنَ الْعَدَمِ، فَالْوِسَادَةُ اللَيِّنَةُ هِيَ: "كُلُّ شَيْءٍ يَأْتِي مِنَ الصُدْفَةِ"، وَمَعْنَاهَا: "مِنَ الْعَدَمِ يَأْتِي شَيْءٌ. كُلُّ شَيْءٍ يَأْتِي مِنَ الْعَدَمِ".

وَهَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الرَئِيسِيَّةُ التِي تُسْتَخْدَمُ كَبَدِيلٍ لِلْخَلْقِ. أَعْلَمُ أَنَّ الْبَعْضَ يَقُولُونَ إِنَّ الْكَوْنَ أَزَلِيٌّ، وَإِنَّهُ لَطَالَمَا كَانَ مَوْجُودًا. هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى. لَكِنَّ الْغَالِبِيَّةَ الْعُظْمَى مِنَ النُقَّادِ الْيَوْمَ الَذِينَ يَرْفُضُونَ كَوْنَ إِلَهٍ سَرْمَدِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ يُشِيرُونَ إِلَى وُجُودِ بِدَايَةٍ لِلْوَاقِعِ بِأَكْمَلِهِ، جَاءَتْ مَنْ لَا شَيْءَ. يُشْبِهُ ذَلِكَ إِخْرَاجَ أَرْنَبٍ مِنْ قُبَّعَةٍ دُونَ قُبَّعَةٍ، وَدُونَ أَرْنَبٍ، وَدُونَ سَاحِرٍ. هَذَا أَسْوَأُ مِنَ السِحْرِ. هَذِهِ أُسْطُورَةٌ بَحْتَةٌ. وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ هَذِهِ الْأُسْطُورَةُ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ الْيَوْمَ. رُبَّمَا تُثِيرُ سُخْرِيَّتَنَا. لَكِنْ مَا هُوَ عَلَى الْمِحَكِّ مُجَدَّدًا لَيْسَ اللَاهُوتَ فَحَسْبُ بَلْ الْعِلْمُ نَفْسُهُ. وَأَرْجُو أَنْ نَرَى ذَلِكَ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمُقْبِلَةِ.