المحاضرة 1: الْجَوْقَةُ السَمَاوِيَّةُ

سَنَبْدَأُ الْيَوْمَ سِلْسِلَةً جَدِيدَةً. وَهَذِهِ السِلْسِلَةُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ سَتُرَكِّزُ عَلَى طَبِيعَةِ وَوَظِيفَةِ الْمَلائِكَةِ وَالشَيَاطِينِ، كَمَا تَتَجَلَّى عَبْرَ أَسْفَارِ وَصَفَحَاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.

أَتَذَكَّرُ أَنِّي حِينَ كُنْتُ حَدِيثَ الإِيمَانِ، وَكُنْتُ طَالِبًا بِالْجَامِعَةِ، كُنْتُ أَدْرُسُ مَادَّةَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَذَاتَ يَوْمٍ، وَفِي مُنْتَصَفِ الصَفِّ، رَفَعْتُ يَدِي، وَقُلْتُ لِلأُسْتَاذِ بِجُرْأَةٍ: "مَا كُلُّ هَذَا الَذِي أَقْرَأُهُ بِاسْتِمْرَارٍ عَنِ الْمَلائِكَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ؟" فَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لَمْ يَكُونُوا جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنَ اخْتِبَارِي الدِينِيِّ. لَكِنَّ الأُسْتَاذَ تَجَاهَلَ سُؤالِي بِشَكْلٍ مَا، وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الأَسَاتِذَةُ عَادَةً أَمَامَ أَسْئِلَةٍ كَهَذِهِ، فَقَالَ: "إِذَا كُنْتَ مُهْتَمًّا هَكَذَا بِالْمَلائِكَةِ، فَلِمَ لا تَكْتُبُ وَرَقَتَكَ الْبَحْثِيَّةَ لِهَذَا الْفَصْلِ الدِرَاسِيِّ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ؟" فَعَلْتُ ذَلِكَ، وَلا دَاعِيَ لِلْقَوْلِ إِنَّهَا كَادَتْ تَصِلُ لِحَجْمِ رِسَالَةِ دُكْتُورَاه. وَفِي نِهَايَةِ الْفَصْلِ الدِرَاسِيِّ، لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ عَنِ الْمَلائِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُ أَعْرِفُهُ حِينَ طَرَحْتُ سُؤالِي عَلَى الأُسْتَاذِ.

لَكِنْ مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ، صِرْتُ مُدْرِكًا تَمَامًا لِلْمَسَافَةِ بَيْنَ الْمَنْظُورِ الْعِلْمَانِيِّ الَذِي نَتَبَنَّاهُ فِي عَصْرِنَا، وَالْمَنْظُورِ الْمُقَدَّمِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. بِالطَّبْعِ، فِي النِصْفِ الثَانِي مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينِ، كَانَ أَحَدُ أَبْرَزِ عُلَمَاءِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي الْعَالَمِ، وَالْمَعْرُوفِ بِتَحْلِيلِهِ النَّقْدِيِّ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، هُوَ رُودُلْف بُولْتْمان. وَفِي كِتَابِ بُولْتْمَانِ الصَّغِيرِ بِعُنْوَانِ "الْكْرِيجْمَا وَالأُسْطُورَةِ" (Kerygma and Myth)، دَعَا الْكَنِيسَةَ إِلَى الاشْتِرَاكِ فِي مُمَارَسَةِ تَجْرِيدِ مُحْتَوَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الأَسَاطِيرِ. وَقَالَ: "لأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ هُوَ مَزِيجٌ مِنْ" - مِمَّا أَسْمَاهُ - "الأَسَاطِيرَ وَالتَارِيخَ"، وَإِنَّ هُنَاكَ نَوَاةً مِنَ الْحَقِّ التَارِيخِيِّ فِي صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، مَثَلًا، لَكِنَّهَا مُغَلَّفَةٌ فِي أَغْلَبِهَا بِقِشْرَةٍ مِنَ الأَسَاطِيرِ الْبِدَائِيَّةِ. لِذَا، إِنْ أَرَادَ الْبَشَرُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ اسْتِخْلاصَ أَيِّ شَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ مِنْ صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَجِبُ أَنْ يَخْتَرِقُوا تِلْكَ الْقِشْرَةَ مِنَ الأَسَاطِيرِ، لِيَصِلُوا إِلَى الْجَوْهَرِ، أَوِ النَّوَاةِ، مِنَ الْحَقِّ التَّارِيخِيِّ.

وَفِي ذَلِكَ الْكِتَابِ بِالذَّاتِ الَذِي ذَكَرْتُهُ، أَبْدَى بُولْتْمَان هَذِهِ الْمُلاحَظَةَ: "لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَعِيشَ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، وَيَسْتَفِيدَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ، بِاسْتِخْدَامِهِ لِلْكَهْرَبَاءِ، وَالطَاقَةِ الذَرِّيَّةِ، وَالمُضَادَّاتِ الْحَيَوِيَّةِ الْحَدِيثَةِ؛ وَالاسْتِمَاعِ إِلَى الْمِذْيَاعِ، وَمُشَاهَدَةِ التِلْفَازِ، وَإِضَاءَةِ الأَنْوَارِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَيَظَلَّ يَرَى أَنَّ الْكَوْنَ مُكَوَّنٌ مِنْ ثَلاثِ طَبَقَاتٍ، هِيَ السَّماءُ مِنْ فَوْقُ، وَالْجَحِيمُ فِي الأَسْفَلِ، وَالأَرْضُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤْمِنُ بِعَالَمٍ مَأْهُولٍ بِالْمَلائِكَةِ وَالشَيَاطِينِ". فَبُولْتْمَان، كَمَا ذَكَرْتُ، كَانَ نَاقِدًا حَادًّا لِلْمُحْتَوَى الأُسْطُورِيِّ لِلْكِتابِ الْمُقَدَّسِ. وَمِنَ الأَبْعَادِ الَتِي احْتَكَمَ إِلَيْهَا لِلتَوَصُّلِ إِلَى هَذَا الاسْتِنْتَاجِ هُوَ الإِشَارَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ إِلَى ظُهُورِ كَائِنَاتٍ مَلائِكِيَّةٍ وَعَمَلِها.

مُؤَخَّرًا فِي عَامِ 2002، حَبَسَ شَعْبُ أَمْرِيكا أَنْفَاسَهُمْ لأَيَّامٍ عِدَّةٍ، لَدَى وُرُودِ أَخْبَارٍ عَنْ عُمَّالِ مَنَاجِمَ حُوصِرُوا تَحْتَ الأَرْضِ نَتِيجَةَ حَادِثِ انْهِيَارٍ، قُرْبَ سُومَرْسِتْ فِي بِنْسِلْفَانْيَا. وَنَتَذَكَّرُ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ عَلَى التِلْفَازِ، حِينَ أُنْقِذَ الْعُمَّالُ أَخِيرًا، وَأُصْعِدُوا إِلَى السَطْحِ. وَتَنَفَّسَ الْجَمِيعُ الصُعْدَاءَ. حِينَ شَاهَدْتُ ذَلِكَ، تَذَكَّرْتُ حَادِثَةً مُمَاثِلَةً وَقَعَتْ مِنْ سَنَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ عَنْ سُومَرْسِت، فِي مِنْطَقَةِ التَعْدِينِ غَرْبَ بَنْسِلْفَانْيَا، قَرِيبًا مِنْ مَكَانِ نَشْأَتِي. فِي الْوَاقِعِ، بُنِيَ مَنْزِلِي فَوْقَ مَنْجَمِ فَحْمٍ تَحْتَ الأَرْضِ. وَكَانَتْ مَدِينَتُنَا تُدْعَى التِلالَ الْجَذَّابَةَ. لَكِنْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَانَتْ تُعْرَفُ بِبَسَاطَةٍ بِالرَقْمِ 5، إِذْ مِنْهَا كَانَتِ الْمَعَادِنُ تُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَرْضِ.

لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَقَعَ انْهِيَارٌ رَهِيبٌ آخَرُ، وَكَارِثَةٌ مَنْجَمِيَّةٌ فِي غَرْبِ بَنْسِلْفَانْيَا. كَانَ هَذَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ 40 سَنَةً، رُبَّمَا أَقْرَبُ إِلَى 50 سَنَةً. حُوصِرَ رَجُلانِ تَحْتَ سَطْحِ الأَرْضِ لِفَتْرَةٍ أَطْوَلَ حَتَّى مِنَ الْحَادِثَةِ الأَخِيرَةِ. وَظَلُّوا تَحْتَ الأَرْضِ لِمُدَّةِ أُسْبُوعَيْنِ، وَكَانَ صَوْتُ نَقْرٍ خَفِيفٍ يُسْمَعُ، وَمُجَدَّدًا انْتَظَرَ النَّاسُ لأَيَّامٍ وَأَيَّامٍ فِي تَرَقُّبٍ وَقَلَقٍ، وَتَضَاءَلَتْ آمَالُهُمْ فِي نَجَاةِ أَحَدٍ. وَأَتَذَكَّرُ يَوْمَ إِنْقَاذِ الرَجُلَيْنِ اللَذَيْنِ عَلِقَا تَحْتَ الأَرْضِ كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَكَانَا بِحَالَةٍ جَيِّدَةٍ عِنْدَ انْتِشَالِهِمَا إِلَى السَطْحِ. وَالْجَرِيدَةُ الصَبَاحِيَّةُ "بيتْسْبِيرْج بُوسْت جَازِتْ" (Pittsburgh Post-Gazette) كَتَبَتْ يَوْمَ إِنْقَاذِهِمَا عَنَاوِينَ بِالْخَطِّ الْعَرِيضِ تَقُولُ: "إِنْقَاذُ عَامِلَيْ مَنْجَمٍ بِمُعْجِزَةٍ". لَمْ تَتَرَدَّدِ الصَحَافَةُ الْعِلْمَانِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ نَجَاةِ هَذَيْنِ الرَجُلَيْنِ، بَعْدَ قَضَائِهِمَا كُلَّ تِلْكَ الْفَتْرَةِ تَحْتَ الأَرْضِ دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، بِالْمُعْجِزَةِ. وَفِيمَا كُنْتُ أَقْرَأُ الْمَقَالَةَ، وَجَدْتُ عُنْوَانًا فَرْعِيًّا يَقُولُ: "عَامِلا الْمَنْجَمِ يُعَانِيَانِ مِنْ هَلاوِسَ". كَانَ اسْمُ الرَجُلَيْنِ فِيلُونْ وَثْرُونْ. وَالسَبَبُ الْوَحِيدُ أَنَّنِي أَتَذَكَّرُ اسْمَهُمَا هُوَ أَنَّنَا أَلَّفْنَا مُزْحَةً تَقُولُ إِنَّ أَحَدَهُمَا "فِيلْ إِنْ"، أَيْ سَقَطَ، وَالآخَرُ "ثْرُون" أَيْ طُرِحَ. لَكِنْ عِنْدَمَا أُصْعِدَ هَذَانِ الرَجُلانِ لِلسَطْحِ وَحَاوَرَتْهُمَا وَسائِلُ الإِعْلامِ، أَوْضَحَا أَنَّهُمَا تَمَكَّنَا مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ تَحْتَ الأَرْضِ كُلَّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لأَنَّ مَلاكًا اعْتَنَى بِهِمَا. وَشَهِدَ كِلاهُمَا عَنْ ذَلِكَ. وَأَصْبَحَ أَحَدُ الرَجُلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ قِسًّا، وَقَضَى بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ يَجُولُ الْوِلايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ مُخْبِرًا النَاسَ بِقِصَّةِ نَجَاتِهِ، وَبِاعْتِنَاءِ مَلاكٍ بِهِ.  قَرَأْتُ ذَلِكَ وَقُلْتُ لِنَفْسِي: "أَلَيْسَ غَرِيبًا هَذَا التَنَاقُضُ الَذِي نَقْرَأُهُ هُنَا؟ فَمِنْ نَاحِيَةٍ، نَسَبَتِ الْمَقَالَةُ نَجَاتَهُمْا إِلَى تَدَخُّلٍ فَائِقٍ لِلطَبِيعَةِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، عِنْدَمَا قَالَ الرَجُلانِ إِنَّ مَلاكًا زَارَهُمَا، رُفِضَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ هَلْوَسَةً".

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَهَذَا الْعَصْرِ، كَمَا أَشَارَ بُولْتْمان بِشَكْلٍ وَافٍ، لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْمَلَائِكَةِ جُزْءًا مِنْ فَلْسَفَةِ الْحَيَاةِ الْحَدِيثَةِ. فَهُمْ لَيْسُوا جُزْءًا مِنَ التَصَوُّرِ الْعِلْمَانِيِّ عَنِ الْوَاقِعِ.

وَلِذَا، حِينَ نَأْتِي إِلَى نَصِّ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، الْمُنْغَمِسِ فِي مَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ، وَالْفَائِضِ بِالْمُعْجِزَاتِ، الَتِي تَكَثَّفَتْ بِالأَخَصِّ فِي فَتْرَةِ خِدْمَةِ يَسُوعَ وَحَيَاتِهِ، نَجِدُ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةَ. وَمُجَدَّدًا، يَقْتَضِي الْفِكْرُ الْحَدِيثُ رَفْضَ وُجُودِ الْمَلائِكَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُجَرَّدُ عَنَاصِرَ عَرَضِيَّةٍ مِنَ الشَهَادَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَمَا يَهُمُّ فِعْلًا هُوَ التَعْلِيمُ عَنِ الْخَطِيَّةِ وَعَنْ مَحَبَّةِ اللهِ.

مِنَ الأَشْيَاءِ الَتِي أَتَذَكَّرُهَا مِنْ دِرَاسَتِي الأَوَّلِيَّةِ لِمَوْضُوعِ الْمَلائِكَةِ، حِينَ كُنْتُ مُجَرَّدَ طَالِبٍ بِالْجَامِعَةِ، هُوَ أَنِّي بَحَثْتُ عَنِ الإِشَارَاتِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فِي "الْقَامُوسِ اللَاهُوتِيِّ لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ"، وَاكْتَشَفْتُ أَنَّ كَلِمَةَ "أَنْجِيلُوس"، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ الَتِي تُتَرْجَمُ إِلَى "angel" فِي الإِنْجْلِيزِيَّةِ (أَيْ "مَلاكٍ")، أَدْهَشَنِي أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَلِمَةِ الَتِي تُتَرْجَمُ "خَطِيَّةً". كَمَا وَرَدَتْ كَلِمَةُ "أَنْجِيلُوس" فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَةِ "أَجَابِي"، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الرَئِيسِيَّةُ الَتِي تُتَرْجَمُ "مَحَبَّةً". فَقُلْتُ: "مَهْلًا، لا يُمْكِنُنِي الاسْتِخْفافُ بِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَوْضُوعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْكَمِّ مِنَ الإِشَارَاتِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ إِلَى هَذِهِ الْكَائِنَاتِ الَتِي تُوصَفُ بِأَنَّهَا مَلائِكَةٌ. فَهُمْ جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ مِنَ الرِسَالَةِ الْكِتَابِيَّةِ مُنْذُ الْبَدْءِ، أَيْ مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ وَحَتَّى سِفْرِ الرُؤْيَا. وَلَيْسَ فَقَطْ أَنَّ النَشَاطَ الْمَلائِكِيَّ تَكَثَّفَ فِي صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ خِلالَ حَيَاةِ يَسُوعَ، لَكِنَّنَا نَلْتَقِي بِهِمْ عَبْرَ تَارِيخِ الْفِدَاءِ بِرُمَّتِهِ".

كَلِمَةُ "أَنْجِيلُوس"، الَتِي ذَكَرْتُها قَبْلًا، تَعْنِي بِبَسَاطَةٍ بِحَسَبِ تَعْرِيفِهَا الأَسَاسِيٍّ "مَبْعُوثًا". وَجَاءَتْ كَلِمَةُ "أَنْجِيلُوسْ" فِي اللُغَةِ الْيُونَانِيَّةِ أَحْيَانًا لِلإِشَارَةِ إِلَى رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ. فَكُلُّ مَنْ يَحْمِلُ خَبَرًا يُمْكِنُ أَنْ يُدْعَى "مَلاكًا". إِذَنْ، يَجِبُ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْكَائِنَاتِ السَمَاوِيَّةِ الَتِي نَدْعُوهَا مَلائِكَةً، وَالأَشْخَاصِ الأَرْضِيِّينَ الَذِينَ بِبَسَاطَةٍ يَنْقُلُونَ الرَسَائِلَ. لَكِنْ بِشَكْلٍ يَكَادُ يَكُونُ حَصْرِيًّا، حِينَ يَسْتَخْدِمُ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ لَفْظَ "أَنْجِيلُوس"، يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى كَائِنٍ فَائِقٍ لِلطَبِيعَةِ أَوْ سَمَاوِيٍّ، وَلَيْسَ إِلَى مُجَرَّدِ رَسُولٍ أَرْضِيٍّ. وَمَيَّزَتِ اللُغَةُ اللاتِينِيَّةُ بَيْنَ الْمَلاكِ وَكَلِمَةِ "نُونْسْيُو"، أَوْ رَجُلِ التَوْصِيلِ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ.

وَحِينَ نَفْحَصُ اسْتِخْدَامَ هَذَا اللَفْظِ، سَوَاءَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَوِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، نَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْدِيدِ مَوْقِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يُمَارِسُ الْمَلائِكَةُ نَشاطَهُمْ فِيهِمَا. يُؤَدِّي الْمَلائِكَةُ وَظَائِفَ مُخْتَلِفَةً فِي كِلا هَذَيْنِ الْمَوْقِعَيْنِ. لَكِنْ أَوَّلًا، دَعُونَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مَوْقِعَيِ الْمَلائِكَةِ. الأَوَّلُ هُوَ الْمَوْقِعُ السَمَاوِيُّ لِلْمَلائِكَةِ. جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنْ حَدِيثِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَنِ الْمَلائِكَةِ لا يُشِيرُ إِلَى نَشَاطِهِمْ عَلَى الأَرْضِ، بِقَدْرِ نَشَاطِهِمْ فِي السَمَاءِ. وَأَوَدُّ أَنْ أَقْضِيَ بَعْضَ الْوَقْتِ الْيَوْمَ لِتَنَاوُلِ بَعْضِ النُصُوصِ الشَهِيرَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ لَدَيْنَا، الَتِي تَصِفُ الْمَهَامَّ السَمَاوِيَّةَ لِلْمَلائِكَةِ.

دَعُونِي أَبْدَأُ أَوَّلًا بِوَاحِدٍ مِنَ النُصُوصِ الْمُفَضَّلَةِ لَدَيَّ، الَتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى لأَغْرَاضٍ أُخْرَى، وَهُوَ الأَصْحَاحُ السَادِسُ مِنْ سِفْرِ إِشَعْيَاءَ، حَيْثُ نَقْرَأُ عَنْ رُؤْيَا إِشَعْيَاءَ لِلْهَيْكَلِ السَمَاوِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ إِنَّهُ "فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ" رأى السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. وَبَعْدَمَا قَدَّمَ هَذَا الْوَصْفَ الْمُوجَزَ لِرُؤْيَاهُ لِلرَبِّ مُرْتَفِعًا فِي بَهَاءِ مَجْدِهِ، تَابَعَ قَائِلًا فِي الآيَةِ الثَانِيَةِ: "فَوْقَهُ" - أَيْ فَوْقَ الْعَرْشِ - "السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ ... لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ"".

يَعْلَمُ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ أَنِّي قَدَّمْتُ سِلْسِلَةً طَوِيلَةً عَنْ مَوْضُوعِ قَدَاسَةِ اللهِ، وَإِلَيْكُمْ أَحَدَ أَهَمِّ النُصُوصِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ، لأَنَّنَا نَجِدُ فِيهِ أَوَّلَ ظُهُورٍ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِمَا يُسمَّى "تْرايْزَاجْيُون" - أَيِ الْقُدُّوسَ الثُلاثِيَّةَ، حَيْثُ تَتَكَرَّرُ صِفَةُ اللهِ هَذِهِ فِي رَدٍّ تَجَاوُبِيٍّ فِي مَحْضَرِ اللهِ عَلَى فَمِ كَائِنَاتٍ مَلائِكِيَّةٍ. فَمَا فَعَلَهُ الْمَلائِكَةُ هُنَا هُوَ عِبَادَةُ اللهِ. فَهُمْ، إِنْ جازَ التَعْبِيرُ، الْجَوْقَةُ السَمَاوِيَّةُ الَتِي تُمَجِّدُ عَظَمَةَ الْخَالِقِ الْفَائِقَةَ، مُتَغنِّيَةً بِعَظَمَتِهِ قَائِلَةً: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ". وَتِلْكَ الثُلاثِيَّةُ هِيَ وَاحِدَةُ مِنْ أَنْدَرِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، حَيْثُ تَتَكَرَّرُ عَادَةً صِفَةٌ أَوْ شَيْءٌ مَا مَرَّتَيْنِ. لَكِنْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عِبْرِيٌّ مُهِمٌّ جِدًّا لِلتَوْكِيدِ.

تَذكُرُونَ أَنَّهُ حِينَ كَانَ رَبُّنَا يُعَلِّمُ، وَكَانَ يَوَدُّ التَشْدِيدَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ أَمْرٍ مَا، كَانَ يَقُولُ لِتَلامِيذِهِ: "آمِين، آمِين أَقُولُ لَكُمْ"، أَوِ "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ". هَذا التَكْرَارُ هُوَ أُسْلُوبُ تَوْكِيدٍ اسْتَعْمَلَهُ الْيَهُودُ أَحْيَانًا. لَكِنْ نَادِرًا مَا كَانَ شَيْءٌ يُرفَعُ إِلَى مُسْتَوَى الأَهَمِّيَّةِ الْقُصْوَى فَيَتَكَرَّرُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. نَجِدُ ذَلِكَ فِي خِطَابِ إِرْمْيَا فِي الْهَيْكَلِ، حِينَ قَالَ إِنَّ رِيَاءَ الشَعْبِ بَلَغَ أَقْصَاهُ، إِذْ جَاؤُوا قَائِلِينَ: "هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ هُوَ". وَنَجِدُهُ أَيْضًا فِي صِيغَةٍ سَلْبِيَّةٍ فِي سِفْرِ الرُؤْيَا، حِينَ أُعْلِنَ نُزُولُ غَضَبِ اللهِ، وَجَاءَ الْمَلائِكَةُ قَائِلِينَ: "وَيْلٌ! وَيْلٌ! وَيْلٌ"، مُشِيرِينَ بِهَذَا إِلَى أَعْلَى مُسْتَوًى يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ، أَوْ إِلَى أَسْوَأِ مَظَاهِرِ الْبُؤْسِ الْمُمْكِنَةِ. إِذَنْ، فِي إِشْعَيَاءَ 6، رُفِعَتْ قَدَاسَةُ اللهِ إِلَى الدَرَجَةِ الثَالِثَةِ، مِنْ قِبَلِ الْمَلائِكَةِ، الَذِينَ وَظِيفَتُهُمْ أَنْ يَخْدُمُوا فِي مَحْضَرِ اللهِ.

تُثِيرُ اهْتِمَامِي طَرِيقَةُ وَصْفِ السَرَافِيمِ جِسْمَانِيًّا فِي نَصِّ إِشَعْيَاءَ. فَفِي هَذَا الْوَصْفِ لِلسَرَافِيمِ، قِيلَ إِنَّ لَهُمْ سِتَّةَ أَجْنِحَةٍ. يُسْتَخْدَمُ جَنَاحَانِ لِلطَيَرَانِ. قَدْ تَظُنُّونَ أَنَّ الأَرْبَعَةَ الأُخْرَى هِيَ مُجَرَّدُ زَوَائِدَ بِلا فَائِدَةٍ. لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ حِينَ يَخْلُقُ اللهُ، فَالْمَخْلُوقَاتُ الَتِي يُصَمِّمُهَا يَجْعَلُهَا مُلائِمَةً لِبِيئَتِهَا. فَحِينَ خَلَقَ الأَسْمَاكَ، أَعْطَاهَا خَيَاشِيمَ وَقُشُورَ وَزَعَانِفَ، لأَنَّ بِيئَتَهَا هِيَ الْمِيَاهُ. وَحِينَ خَلَقَ الطُيُورَ، أَعْطَاهَا هَيْكَلًا عَظْمِيًّا خَفِيفَ الْوَزْنِ، وَرِيشًا، وَأَجْنِحَةً، حَتَّى يَحْمِلَهَا الْهَوَاءُ، وَتَتَحَرَّكَ فِي الْجَوِّ دُونَ عَائِقٍ.

وَحِينَ خَلَقَ اللهُ الْمَلائِكَةَ لِهَذَا الْغَرَضِ، أَيْ لِلْخِدْمَةِ فِي مَحْضَرِهِ، أَعْطَاهُمْ سِتَّةَ أَجْنِحَةٍ - اثْنَيْنِ لِتَغْطِيَةِ وُجُوهِهِمْ، وَهَذَا مُهِمٌّ – فَحَتَّى الْمَلائِكَةُ، تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتُ السَمَاوِيَّةُ، عِنْدَمَا يَقِفُونَ فِي حَضْرَةِ قَدَاسَةِ اللهِ الْفَائِقَةِ، يَجِبُ أَنْ يَحْمُوا عُيُونَهُمْ مِنْ مَجْدِهِ، لأَنَّ لَمَعَانَ مَجْدِهِ سَاطِعٌ - كَمَا يُخْبِرُنَا الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ - لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يُعْمِي عُيُونَ الْمَخْلُوقَاتِ، مِثْلَمَا أَعْمَى النُورُ عَيْنَيْ بُولُسَ فِي الطَرِيقِ إِلَى دِمَشْقَ. إِذَنْ، زَوَّدَ اللهُ الْمَلائِكَةَ بِمَا يُغَطُّونَ بِهِ عُيُونَهُمْ مِنَ الرُؤْيَا السَمَاوِيَّةِ الَتِي يَسْتَمْتِعُونَ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ. وَنَقْرَأُ كَثِيرًا فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَنْ بَرِيقِ مَجْدِ اللهِ، حَتَّى إِنَّنَا حِينَ نَصِلُ إِلَى خِتَامِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، عِنْدَ إِعْلانِ نُزُولِ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ مِنَ السَمَاءِ، نَقْرَأُ أَنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، الْمَدِينَةِ السَمَاوِيَّةِ، لا تُوجَدُ شَمْسٌ أَوْ قَمَرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لا تُوجَدُ ظُلْمَةٌ، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ وَالْحَمَلِ يُضِيءُ الْمَدِينَةَ. وَأَمَامَ هَذَا الْبَرِيقِ الْمُبَاشِرِ وَالشَدِيدِ لِلْمَجْدِ الإِلَهِيِّ، دُعِيَ الْمَلائِكَةُ لِيَخْدُمُوا بِتَرَانِيمِ الْحَمْدِ وَالتَعَبُّدِ.

دَعُونِي أَقُولُ إِنَّنَا نَغْفَلُ أَحْيَانًا عَنْ كَوْنِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ يُعَلِّمُنَا بِأَنَّ عِبَادَتَنَا كَقِدِّيسِينَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فِي اجْتِمَاعَاتِنَا لِلْعِبَادَةِ، تَنْطَوِي عَلَى سُمُوٍّ رُوحَانِيٍّ. فَشَرِكَةُ الْقِدِّيسِينَ تَعْنِي أَنَّنَا لَمْ نَعُدْ مُنْفَصِلِينَ عَنْ مَحْضَرِ اللهِ، كَمَا كَانَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، حِينَ دُعُوا لِلاقْتِرَابِ مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ، حِينَ نَزَلَ اللهُ لِيَفْتَقِدَ شَعْبَهُ وَيُعْطِيَهُمْ شَرِيعَتَهُ. وَلَمْ يُسْمَحْ سِوَى لِمُوسَى فِي الْبِدَايَةِ بِالصُعُودِ إِلَى الْجَبَلِ، فِي حِينِ نُهِيَ بَقِيَّةُ الشَعْبِ حَتَّى عَنْ لَمْسِ الْجَبَلِ، لِئَلَّا يُقْتَلُوا فِي الْحَالِ. لَكِنَّ كَاتِبَ الرِسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ يُخْبِرُنَا بِأَنَّنَا لَسْنَا، أَوْ بِأَنَّنَا لَمْ نَعُدْ فِي هَذَا الْوَضْعِ. فَنَحْنُ لا نَأْتِي الْيَوْمَ إِلَى جَبَلٍ لا يُمْكِنُ لَمْسُهُ بِالأَيْدِي، لَكِنَّنَا نَصْعَدُ إِلَى دَاخِلِ الْمَقْدِسِ السَمَاوِيِّ، إِلَى دَاخِلِ أُورُشَلِيمَ السَمَاوِيَّةِ، بِحَيْثُ حِينَ نَجْتَمِعُ مَعًا لِلْعِبَادَةِ، نَشْتَرِكُ بِشَكْلٍ رُوحَانِيٍّ فِي الْوُجُودِ فِي مَحْضَرِ اللهِ، وَمَحْضَرِ الْمَسِيحِ مَعَ جَمَاعَةِ الْقِدِّيسِينَ، وَأَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَمَعَ مَنْ أَيْضًا؟ الْمَلائِكَةِ. إِذَنْ، نَحْنُ نَكُونُ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ الْجَوْقَةِ حِينَ نَجْتَمِعُ لِلْعِبَادَةِ صَبَاحَ الأَحَدِ. لَكِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُهِمَّةُ الَتِي تَشْغَلُ السَرَافِيمَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ: تَسْبِيحُ اللهِ فِي مَقْدِسِهِ.

نَرَى أَيْضًا أَنَّهُ بِالإِضَافَةِ إِلَى الْجَنَاحَيْنِ اللَذَيْنِ يُغَطِّيَانِ الْوَجْهَ، قِيلَ لَنَا إِنَّهُمْ بِجَنَاحَيْنِ يُغَطُّونَ أَرْجُلَهُمْ، دُونَ تَقْدِيمِ تَفْسِيرٍ مُحَدَّدٍ لِهَذَا فِي النَصِّ. لَكِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُمْكِنُنَا اسْتِخْلاصُ اسْتِنْتَاجَاتٍ مَشْرُوعَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِشَأْنِ سَبَبِ تَزْوِيدِ اللهِ السَرَافِيمَ بِمَجْمُوعَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الأَجْنِحَةِ لِتَغْطِيَةِ أَرْجُلِهِمْ. تَذَكَّروا وَاقِعَةَ اقْتِرَابِ مُوسَى مِنَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ، عِنْدَمَا رَأَى الْعُلَّيْقَةَ تَتَوَقَّدُ بِالنَارِ دُونَ أَنْ تَحْتَرِقَ. فَعِنْدَمَا مَالَ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا، كَلَّمَهُ صَوْتٌ مِنَ الْعُلَّيْقَةِ قَائِلًا: "مُوسَى، مُوسَى! ... اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لانَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ" - ماذا؟ - "أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ". وَمَا الَذِي جَعَلَهَا مُقَدَّسَةً؟ لَمْ يَكُنْ مُوسَى هُوَ مَنْ جَعَلَهَا مُقَدَّسَةً. بَلْ عَلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنَ الأَرْضِ نَزَلَ اللهُ لِيُكَلِّمَ مُوسَى فِي هَذَا الْحَدَثِ الْخَاصِّ. إِذَنْ، كَانَ حُضُورُ اللهِ هُوَ مَا قَدَّسَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ. وَيَقُولُ - وَأَمَرَ اللهُ مُوسَى بِأَنْ يَخْلَعَ حِذَاءَهُ. مَا أَمْرُ الرِجْلَيْنِ؟ إِذَا فَحَصْنَا الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، نَجِدُهُ يَقُولُ إِنَّنَا مِنْ تُرَابٍ. فَنَحْنُ مِنَ الأَرْضِ -تُرَابِيُّونَ- وَأَقْدَامُنَا مِنْ طِينٍ. وَأَقْدَامُنَا هِيَ الَتِي تَرْبِطُنَا، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ، بِالْخَلِيقَةِ، أَيْ بِالْمَجَالِ الَذِي نَعِيشُ فِيهِ أَيَّامَنَا، الَذِي مِنَ الأَرْضِ. فَنَحْنُ مِنَ الأَرْضِ، تُرَابِيُّونَ.

وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السَمَاءِ. وَهُمْ لا يَزَالُونَ مَخْلُوقَاتٍ، وَعَلامَةُ طَبِيعَتِهِمِ الْمَخْلُوقَةِ، تَمَامًا مِثْلُ عَلامَةِ طَبِيعَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ، هِيَ الأَرْجُلُ. فَحِينَ يَمْثُلُونَ فِي مَحْضَرِ اللهِ، مَعَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا خِصِّيصًا لِهَذَا الْغَرَضِ، لا يُغَطُّونَ عُيُونَهُمْ فَقَطْ مِنْ مَجْدِ اللهِ، بَلْ يُغَطُّونَ طَبِيعَتَهُمُ الْمَخْلُوقَةَ عَنْ عَيْنَيِ اللهِ، وَهُمْ يُحَلِّقُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ، مُرَنِّمِينَ بِاسْتِمْرَارٍ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ".

هَذِهِ مُجَرَّدُ إِشَارَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى نَشَاطِ الْمَلائِكَةِ السَمَاوِيِّ. وَسَنَتَنَاوَلُ الْمَزِيدَ مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ مِنْ نَشَاطِهِمْ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْقَادِمَةِ.