المحاضرة 11: مَوْلُودُونَ بِالْخَطِيَّةِ؟

نَصِلُ الْآنَ فِي اسْتِطْلَاعِنَا التَارِيخِيِّ إِلَى الْجِدَالَاتِ الَتِي نَشَأَتْ حَوْلَ مَسْأَلَةِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ إِلَى الرَجُلِ الَذِي أَرَى أَنَّهُ أَبْرَعُ لَاهُوتِيٍّ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ الْقَدِيمَةَ، وَهُوَ قَطْعًا جُونَاثَانْ إِدْوَارْدْزْ. فِي عَامِ 1754، نَشَرَ إِدْوَارْدْزْ مُؤَلَّفَهُ الْكْلَاسِيكِيَّ عَنْ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ. وَإِذَا سَنَحَتْ لِبَعْضِكُمْ فُرْصَةُ قِرَاءَتِهِ، سَتَجِدُونَ أَنَّهُ تِقْنِيٌّ جِدًّا، وَنَظَرِيٌّ جِدًّا، وَفَلْسَفِيٌّ جِدًّا. فَهُوَ يَمْزِجُ بَيْنَ دِرَاسَةِ النُصُوصِ الْكِتَابِيَّةِ وَعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْحُجَجِ الْفَلْسَفِيَّةِ. وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّهُ أَعْظَمُ مُؤَلَّفَاتِ جُونَاثَانْ إِدْوَارْدْز. وَأَرَى شَخْصِيًّا أَنَّهُ أَفْضَلُ طَرْحٍ قُدِّمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَوْضُوعِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ. وَهُوَ بِرَأْيِي طَرْحٌ لَمْ يُدْحَضْ أَبَدًا. تَذَكَّرُوا أَنَّ إِدْوَارْدْز كَانَ رَاعِيًا لِكَنِيسَتِهِ فِي نُورْثَامْبْتُونْ (Northampton) لِسَنَوَاتٍ عِدَّةٍ. وَعِنْدَمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ اتِّهَامَاتٌ افْتِرَائِيَّةٌ مِنْ رَجُلٍ عَدِيمِ الضَمِيرِ فِي الْكَنِيسَةِ، أُعْفِي إِدْوَارْدْز مِنْ مَسْؤُولِيَّاتِهِ كَرَاعٍ لِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فِي وَاقِعَةٍ مُفْجِعَةٍ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ. وَعَلَيْهِ، غَادَرَ نُورْثَامْبْتُونْ، وَذَهَبَ إِلَى سْتُوكْبْرِيدْجْ، وَأَصْبَحَ مُرْسَلًا لِلْهُنُودِ. وَفِي وَقْتِ فَرَاغِهِ، فِي أَثْنَاءِ خِدْمَتِهِ لِلْهُنُودِ، صَرَفَ وَقْتًا لِتَأْلِيفِ كِتَابِ "حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ"، الَذِي كَتَبَهُ وَأَكْمَلَهُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُثِيرٌ لِلذُهُولِ.

فِي هَذَا الْمَصْدَرِ شَدِيدِ الْأَهَمِّيَّةِ لِدِرَاسَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، تَنَاوَلَ إِدْوَارْدْز السُؤَالَ التَالِيَ: "مَا هِيَ الْإِرَادَةُ؟" اعْتَادَ الْبَاحِثُونَ وَعُلَمَاءُ الْإِنْسَانِ وَالْفَلَاسِفَةُ عَبْرَ التَارِيخِ التَمْيِيزَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ مِنْ بَشَرِيَّتِنَا، وَهِيَ الذِهْنُ، وَالْعَوَاطِفُ، وَالْإِرَادَةُ. أَوْ أَحْيَانًا، الذِهْنُ، وَالْقَلْبُ، وَالْإِرَادَةُ. وَوَافَقَ إِدْوَارْدْز عَلَى ضَرُورَةِ التَمْيِيزِ بَيْنَ مَلَكَةِ التَفْكِيرِ، أَيِ الذِهْنِ؛ وَمَلَكَةِ الِاخْتِيَارِ، أَيِ الْإِرَادَةِ. وَمِنْ ثَمَّ، فَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَ الذِهْنِ وَالْإِرَادَةِ. لَكِنْ فِي إِطَارِ هَذَا التَمْيِيزِ بَيْنَ الذِهْنِ وَالْإِرَادَةِ، حَذَّرَ إِدْوَارْدْز مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ إِنَّ الذِهْنَ وَثِيقُ الصِلَةِ بِالْإِرَادَةِ. وَفِي الْوَاقِعِ، عَرَّفَ الْإِرَادَةَ بِأَنَّهَا "اخْتِيَارُ الذِهْنِ". وَهَذِهِ فِكْرَةٌ مُهِمَّةٌ، لِأَنَّ إِدْوَارْدْز، فِي إِطَارِ تَحْلِيلِهِ لِعَمَلِ الْإِرَادَةِ، وَاتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمُمَارَسَةِ الِاخْتِيَارِ -أَيْ لِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الْإِرَادَةُ، وَالْقَرَارَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ- تَنَاوَلَ الْأَمْرَ أَوَّلًا مِنْ مُنْطَلَقِ قَانُونِ السَبَبِيَّةِ، الَذِي يُعَلِّمُ بِأَنَّ كُلَّ نَتِيجَةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَهَا سَبَبٌ، وَبِأَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ تَحْدُثَ نَتِيجَةٌ مَا تِلْقَائِيًّا -مِنَ الْعَدَمِ- وَبِدُونِ سَبَبٍ. وَحِينَ تَأَمَّلَ فِي قَرَارَاتِ الْبَشَرِ، حَلَّلَهَا عَلَى أَنَّهَا نَتَائِجُ تَسْتَلْزِمُ أَسْبَابًا. وَهَذَا مَا دَفَعَهُ إِلَى التَرْكِيزِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَتِي سَبَقَ أَنْ تَطْرَّقَنَا إِلَيْهَا بِالْفِعْلِ فِي مَرَاحِلَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ دِرَاسَتِنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُيُولِ أَوِ الرَغَبَاتِ. بِمَعْنَى أَنَّ الْقَرَارَاتِ الَتِي نَتَّخِذُهَا لَهَا سَبَبٌ، وَالذِهْنُ يُقَدِّمُ السَبَبَ.

إِذَنْ، بِحَسْبِ إِدْوَارْدْز، الْقَرَارَاتُ الَتِي نَتَّخِذُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا نَحْسَبُهُ صَالِحًا لَنَا. وَبِاسْتِخْدَامِ لَفْظِ "صَالِحٍ"، لَمْ يَقْصِدْ بِالضَرُورَةِ مَا هُوَ صَالِحٌ أَخْلَاقِيًّا، وَإِنَّمَا مَا يُرْضِينَا عِنْدَ اتِّخَاذِنَا لِلْقَرَارَاتِ. فَإِنَّنِي أَحْسَبُ أَنَّ الصَالِحَ لِي فِي هَذِهِ اللَحْظَةِ هُوَ أَنْ أَخْتَارَ أَكْثَرَ مَا يُرْضِينِي، وَأَنْ أَخْتَارَ مَا أُرِيدُ.

إِذَنْ، بِبَسَاطَةٍ، تَحَدَّثَ إِدْوَارْدْز عَنِ الدَوْرِ الَذِي تَلْعَبُهُ الرَغْبَةُ فِي اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ. لَكِنْ مُجَدَّدًا، لَا يُمْكِنُ اخْتِزَالُ الرَغْبَةِ إِلَى مُجَرَّدِ شَهِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، كَالشُعُورِ بِالْجُوعِ، وَإِنَّمَا يَلْعَبُ الذِهْنُ دَوْرًا فِي الْأَمْرِ. فَإِنْ شَعَرْتُ، مَثَلًا، بِرَغْبَةٍ جَسَدِيَّةٍ مُلِحَّةٍ، وَبِإِلْحَاحٍ مِنْ جَسَدِي لِتَنَاوُلِ الطَعَامِ، وَشَعَرْتُ بِالْجُوعِ -مِنْ حَيْثُ الشَهِيَّةُ- فَإِنَّنِي عَلَى وَعْيٍ بِذَلِكَ. وَبِالنِسْبَةِ إِلَيَّ، سَبَبُ تَنَاوُلِي لِلطَعَامِ، أَوِ اخْتِيَارِي تَنَاوُلَ الطَعَامِ، هُوَ أَنَّ ذِهْنِي أَصْدَرَ حُكْمًا بِشَأْنِ مَا هُوَ صَالِحٌ لِي فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ، أَوْ مَا سَيُرْضِينِي فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ. وَبِالطَبْعِ، حُكْمُ الذِهْنِ عَلَى مَا سَيُرْضِينِي فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ قَدْ يَتَأَثَّرُ بِشَهِيَّتِي الْجَسَدِيَّةِ. لَكِنْ عِنْدَ اخْتِيَارِ تَنَاوُلِ الطَعَامِ، لَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُ الذِهْنِ. فَالذِهْنُ يَحْسَبُ، أَوْ يَعْتَبِرُ، أَنَّ فِعْلًا مَا صَالَحٌ وَمُرْضٍ لَنَا. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، يَتَّخِذُ الْقَرَارَ.

وَبِالطَبْعِ، تَوَصَّلَ إِدْوارْدْزْ أَيْضًا، فِي إِطَارِ تَحْلِيلِهِ لِعَمَلِيَّةِ اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ، إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ الَذِي مُفَادُهُ أَنَّ كُلَّ الْقَرَارَاتِ لَهَا سَبَبٌ. فَهِيَ لَا تَحْدُثُ مِنَ الْعَدَمِ، كَمَا ذُكِرَتُ. وَمَا يُسَبِّبُ الْقَرَارَاتِ فِي النِهَايَةِ هُوَ الْمُيُولُ. إِذَنْ، هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الْأُولَى الَتِي يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهَا، وَهِيَ أَنَّ الرَغَبَاتِ مَدْفُوعَةٌ أَوْ وَمُنْقَادَةٌ بِالْمُيُولِ.

كَانَ إِدْوَارْدْز يُدْرِكُ أَنَّ الْبَشَرَ مَخْلُوقَاتٌ مُعَقَّدَةٌ. فَلَدَيْنَا فِي عُقُولِنَا أَفْكَارٌ مُعَقَّدَةٌ. وَلَدَيْنَا أَحْيَانًا قِيَمٌ مُتَضَارِبَةٌ. كَمَا لَدَيْنَا دَوَافِعُ وَرَغَبَاتٌ مُعَقَّدَةٌ.

لِنَعُدْ إِلَى الرَسُولِ بُولُسَ، مَثَلًا، حِينَ عَبَّرَ عَنْ صِرَاعَاتِهِ، فِي الأَصْحَاحِ السَابِعِ مِنْ رِسَالَةِ رُومِيَةَ، وَقَالَ: "لِأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ". يَبْدُو هُنَا كَمَا لَوْ أَنَّ بُولُسَ يَقُولُ إِنَّ لَدَيْهِ الْإِمْكَانِيَّةَ، فِي ذَاتِهِ، أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُهُ. هَلْ هَذَا مَا قَصَدَهُ الرَسُولُ بُولُسُ؟ أَمْ إِنَّهُ يَقُولُ: "هُنَاكَ حَرْبٌ دَائِرَةٌ فِي دَاخِلِي بَيْنَ رَغَبَاتٍ وَمُيُولٍ مُتَضَارِبَةٍ. فَفِي الظُرُوفِ الْعَادِيَّةِ، أُرِيدُ دَائِمًا أَنْ أُطِيعَ الْمَسِيحَ. وَأُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ دَائِمًا مَا يُرْضِيهِ. لَدَيَّ رَغْبَةٌ تُجَاهَ اللَّهِ. وَأَرْغَبُ فِي إِطَاعَتِهِ. لَكِنَّ جَسَدِي يَشْتَهِي ضِدَّ الرُوحِ. وَأَحْيَانًا، أَتْبَعُ شَهَوَاتِ الْجَسَدِ، لَا شَهَوَاتِ الرُوحِ".

إِذَنْ، مِنْ هَذِهِ النَاحِيَةِ، حِينَ أَقَرَّ بُولُسُ بِأَنَّهُ يُخْطِئُ، وَيَسْتَسْلِمُ لِشَهَوَاتِ الْإِنْسَانِ الْعَتِيقِ، لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَالِيًا تَمَامًا مِنْ أَيَّةِ رَغَبَاتٍ مُخَالَفَةٍ فِي أُمُورِ اللَّهِ. كَلَّا، فَالْحَرْبُ دَائِرَةٌ. وَهَكَذَا فَهِمَ إِدْوَارْدْز وَصْفَ بُولُسَ لِلْوَضْعِ، قَائِلًا: "لَسْتُ أَفْعَلُ الصَالِحَ الَذِي أُرِيدُهُ". مَلأَ إِدْوَارْدْزْ الْفَرَاغَاتِ قَائِلًا لِلرَسُولِ: " إِنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِكَ عَنْ فِعْلِ الصَالِحِ الَذِي تُرِيدُهُ هُوَ أَنَّ لَدَيْكَ رَغْبَةً فِي لَحْظَةِ ارْتِكَابِ الْخَطِيَّةِ فِي عَدَمِ فِعْلِهِ أَقْوَى مِنْ رَغْبَتِكَ فِي فِعْلِهِ. فَهُنَاكَ تَضَارُبٌ فِي الْمُيُولِ".

شَدَّدَ إِدْوَارْدْز عَلَى فِكْرَةِ أَنَّنَا دَائِمًا، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَفِي أَيِّ مَوْقِفِ اخْتِيَارٍ نَجِدِ أَنْفُسَنَا فِيهِ، نَخْتَارُ بِحَسْبِ أَقْوَى مَيْلٍ لَدَيْنَا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ. هَذَا مُهِمٌّ. أَقْوَى مَيْلٍ لَدَيْنَا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ.

يَنْظُرُ الْبَعْضُ إِلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: "حَسَنًا، أَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّنَا مُقَيَّدُونَ؟" حَسَنًا، سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ فِي هَذِهِ الدِرَاسَةِ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الْحَتْمِيَّةِ، حَيْثُ تَتَحَكَّمُ قُوًى خَارِجِيَّةٌ فِي قَرَارَاتِنَا، وَتُرْغِمُنَا، وَبَيْنَ حَقِّ تَقْرِيرِ الْمَصِيرِ، الَذِي بِمُوجِبِهِ نُحَدِّدُ نَحْنُ الْقَرَارَاتِ الَتِي نَتَّخِذُهَا، وَلَا يُحَدِّدُهَا شَيْءٌ خَارِجَ أَنْفُسِنَا. لَكِنْ مَا يَقْصِدُهُ إِدْوَارْدْز هُوَ أَنَّ الْقَرَارَاتِ مَحْتُومَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّ لَهَا سَبَبًا، وَسَبَبُهَا هُوَ أَنْتَ وَرَغَبَاتُكَ، وَمَا يَحْسَبُ ذِهْنُكَ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ لَكَ فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ أَوْ الْأَكْثَرُ إِرْضَاءً لَكَ. إِذًا، مُجَدَّدًا، يَقُولُ إِدْوَارْدْز: "نَحْنُ نَخْتَارُ دَائِمًا بِحَسْبِ أَقْوَى مَيْلٍ لَدَيْنَا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ".

نُدْرِكُ أَنَّ الرَغْبَةَ شَيْءٌ مُتَغَيِّرٌ. وَهُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الرَغَبَاتِ فِي قُلُوبِنَا. بَعْضُ الْأُمُورِ تُوَلِّدُ فِينَا رَغَبَاتٍ قَوِيَّةً وَمُتَّقِدَةً، فِي حِينِ تُوَلِّدُ أُمُورٌ أُخْرَى مُيُولًا مُتَوَسِّطَةً. لَكِنْ حِينَ تَحِينُ لَحْظَةُ الِاخْتِيَارِ، نَتْبَعُ الرَغْبَةَ الْأَقْوَى. هَذَا لَا يُلْغِي الْحُرِّيَّةَ، بِحَسْبِ رَأْيِ إِدْوَارْدْز، لَكِنَّهُ جَوْهَرُ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ أَنْ تَتَمَتَّعَ بِالْإِمْكَانِيَّةِ أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاخْتِيَارِ بِحَسْبِ مُيُولِكَ، وَعَلَى اخْتِيَارِ مَا تُرِيدُ، وَمَا يَحْسَبُهُ الذِهْنُ صَالِحًا لَكَ فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ. فَإِنِ اعْتَبَرَ ذِهْنُكَ أَنَّ أَمْرًا مَا مُفَضَّلٌ، وَكَانَ لَدَيْكَ مَيْلٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، لَكِنَّكَ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنِ اخْتِيَارِهِ، فَحِينَئِذٍ لَنْ تَكُونَ حُرًّا. فَجَوْهَرُ الْحُرِّيَّةِ هُوَ أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنَ الِاخْتِيَارِ بِحَسَبِ مَا تُرِيدُهُ فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ.

وَالْفِكْرَةُ الْقَائِلَةُ إِنَّنَا نَخْتَارُ دَائِمًا بِحَسْبِ أَقْوَى مَيْلٍ لَدَيْنَا، تَضَعُ فِي حُسْبَانِهَا الْقَدْرَ الْكَبِيرَ مِنَ الرَغَبَاتِ. سَأُقَدِّمُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّنِي أَتْبَعُ حِمْيَةً لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ، فِي الظُرُوفِ الْعَادِيَّةِ، هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ لِي. لَيْسَ عَلَى الطَبِيبِ أَنْ يَتَجَادَلَ مَعِيَ كَثِيرًا لِيُقْنِعَنِي بِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ لِصِحَّتِي أَنْ أَخْسَرَ 15 كِيلُوجْرَامًا. وَهَذَا لَيْسَ فَقَطْ نَافِعًا لِصِحَّتِي، وَإِنَّمَا لِآلَامِ الظَهْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَحَالَتِي الْجُسْمَانِيَّةُ سَتَتَحَسَّنُ جَذْرِيًّا إِذَا خَسِرَتُ 15 كِيلُوجْرَامًا. لَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، بَلْ مِنَ النَاحِيَةِ الْجَمَالِيَّةِ، سَأَبْدُو بِشَكْلٍ أَفْضَلَ، وَسَتَكُونُ ثِيَابِي أَكْثَرَ تَنَاسُقًا. أَسْتَطِيعُ أَنْ أُقَدِّمَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْإِيجَابِيَّةِ الَتِي تُؤَيِّدُ خَسَارَتِي 15 كِيلُوجْرَامًا. إِذَنْ، إِذَا سَأَلَنِي الطَبِيبُ: "أَتُرِيدُ أَنْ تَخْسَرَ 15 كِيلُوجْرَامًا؟" سَأُجِيبُهُ: "نَعَمْ، أَرْغَبُ فِي ذَلِكَ". لَكِنَّ شِدَّةَ تِلْكَ الرَغْبَةِ تَتَغَيَّرُ مِنْ آنٍ لِآخَرَ. فَبَعْدَ أَنْ أَتَنَاوَلَ وَجْبَةً دَسِمَةً فِي عِيدِ الشُكْرِ، وَيَمْتَلِئَ بَطْنِي، وَأَكُونَ قَدْ أَشْبَعْتُ جُوعِي تَمَامًا، لَا أَشْعُرُ بِرَغْبَةٍ مُلِحَّةٍ فِي تَنَاوُلِ الطَعَامِ. وَفِي تِلْكَ اللَحْظَةِ، تَشْتَدُّ رَغْبَتِي فِي خَسَارَةِ الْوَزْنِ، فَأَمْتَنِعُ عَنْ تَنَاوُلِ الطَعَامِ طَوَالَ السَاعَاتِ السِتِّ التَالِيَةِ. لَكِنْ بَعْدَ سِتِّ سَاعَاتٍ، تَتَغَيَّرُ رَغْبَتِي فِي الطَعَامِ. فَفِي الظُرُوفِ الطَبِيعِيَّةِ، لَا أُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ وَزْنِي، بَلْ أُرِيدُ خَسَارَةَ وَزْنٍ. لَكِنْ فَجْأَةً، يَتَغَيَّرُ الْحَالُ، وَتَأْتِي لَحْظَةٌ تَصِيرُ فِيهَا رَغْبَتِي فِي تَنَاوُلِ الْحَلْوَى أَشَدَّ مِنْ رَغْبَتِي فِي خَسَارَةِ الْوَزْنِ. وَفِي هَذِهِ اللَحْظَةِ، مَاذَا أَفْعَلُ؟ أَتَنَاوَلُ الْحَلْوَى، لِأَنَّ هَذَا مَا أُرِيدُ فِعْلَهُ، وَهَذَا مَا يَبْدُو لِي صَالِحًا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ. هَكَذَا تَتَنَازَعُ الرَغَبَاتُ بِدَاخِلِنَا.

مِنَ السَهْلِ مُلَاحَظَةُ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ نِزَاعٍ كَهَذَا بَيْنَ رَغَبَاتٍ جَسَدِيَّةٍ. فَقَدْ قُمْتُمْ بِاخْتِيَارٍ. فَسَوَاءٌ كُنْتُمْ مِنَ الْجَالِسِينَ هُنَا، أَوْ كُنْتُمْ تُشَاهِدُونَنَا عَبْرَ الْفِيدْيُو، أَنْتُمْ جَالِسُونَ عَلَى الْأَرْجَحِ عَلَى مَقْعَدٍ. وَمَا سَبَبُ جُلُوسِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِالذَاتِ؟ رُبَّمَا تُجِيبُ: "كَانَ الْأَمْرُ عَشْوَائِيًّا تَمَامًا. فَلَمْ أُفَكِّرْ أَيْنَ أُرِيدُ الْجُلُوسَ، لَكِنَّنِي دَخَلْتُ وَجَلَسْتُ حَيْثُ شِئْتُ. ثُمَّ جَاءَ الْمُصَوِّرُ فَدَفَعَنِي لِلِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ. وَأَرْغَمَنِي". لَكِنْ لَمَ تَجْلِسْ فِي آخِرِ الْقَاعَةِ، أَوْ فِي آخِرِ الْمَمَرِّ، أَوْ فِي مُنْتَصَفِهِ، أَوْ فِي الصُفُوفِ الْأَمَامِيَّةِ؟ لِمَاذَا؟ لَيْسَ السَبَبُ هُوَ أَنَّكَ حَضَرْتَ إِلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ قَبْلَ بِدَايَتِهِ بِأَرْبَعِ سَاعَاتٍ، وَوَقَفْتَ بِالْخَارِجِ مُنْتَظِرًا أَنْ تُفْتَحَ الْأَبْوَابُ، لِتَحْرِصَ عَلَى الْحُصُولِ عَلَى الْمَقْعَدِ الَذِي تُرِيدُهُ. رُبَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا ذَهَبَتَ لِمُشَاهَدَةِ حَفْلَةٍ غِنَائِيَّةٍ، أَوْ مُبَارَاةٍ لِكُرَةِ السَلَّةِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ. فَإِنَّكَ تَقُومُ بِخُطُوَاتٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ لِتُشْبِعَ رَغْبَتَكَ فِي الْحُصُولِ عَلَى مَقْعَدٍ مُعَيَّنٍ. لَكِنْ فِي مُحَاضَرَةٍ كَهَذِهِ، تَدْخُلُ إِلَى الْقَاعَةِ، فَتَرَى مَقْعَدًا خَالِيًا، فَتَذْهَبُ وَتَجْلِسُ عَلَيْهِ. الْأَمْرُ بَسِيطٌ.

لَكِنَّنِي أَفْتَرِضُ هُنَا أَنَّ هُنَاكَ سَبَبًا وَرَاءَ هَذَا الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ يَكُونُ السَبَبُ مَدْفُوعًا بِرَغْبَةٍ بَسِيطَةٍ وَضَعِيفَةٍ بِدَاخِلِكَ. فَرُبَّمَا لَسْتَ تُحِبُّ الْجُلُوسَ فِي الصُفُوفِ الْأَمَامِيَّةِ، خَشْيَةَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْكَ شَيْءٌ مَا. وَلِهَذَا تَكُونُ أَكْثَرَ رَاحَةً فِي الْمَقَاعِدِ الْخَلْفِيَّةِ. أَوْ رُبَّمَا تُحِبُّ الْجُلُوسَ عِنْدَ طَرَفِ الصَفِّ لِأَنَّكَ تَشْعُرُ بِبَعْضِ الِاخْتِنَاقِ إِنْ جَلَسْتَ فِي الْوَسَطِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. تَتَعَدَّدُ أَسْبَابُ اخْتِيَارِ النَاسِ لِأَمَاكِنِ جُلُوسِهِمْ.

فِي الْوَاقِعِ، أَجْرَى الْبَعْضُ دِرَاسَاتٍ عَلَى الْمَقَاعِدِ الشَاغِرَةِ فِي سِنْتِرَالْ بَارْكْ. فَوَضَعُوا مَقْعَدًا طَوِيلًا شَاغِرًا وَكَامِيرَا خَفِيَّةً. وَرَاحُوا يُرَاقِبُونَ النَاسَ الَذِينَ يَأْتُونَ وَيَجْلِسُونَ. جَلَسَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ طَرَفِ الْمَقْعَدِ، وَجَلَسَ آخَرُونَ فِي الْوَسَطِ. ثُمَّ ابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَ النَاسَ، لِاكْتِشَافِ سَبَبِ جُلُوسِهِمْ عِنْدَ طَرَفِ الْمَقْعَدِ، بَيْنَمَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ سَبَبِ جُلُوسِهِمْ فِي الْمُنْتَصَفِ. قَالَ الشَابُّ الَذِي جَلَسَ فِي الْمُنْتَصَفِ: "حَسَنًا، كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَأْتِيَ شَخْصٌ آخَرُ وَيَجْلِسَ بِجِوَارِي، لِأَنَّنِي كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ رَفِيقٍ أَتَحَدَّثُ مَعَهُ". أَمَّا الْآخَرُ فَقَالَ: "أَرَدْتُ أَنْ أُتْرَكَ لِشَأْنِي، فَجَلَسْتُ عِنْدَ طَرَفِ الْمَقْعَدِ". هُنَاكَ أَسْبَابٌ لِقِيَامِنَا بِتِلْكَ الْأُمُورِ الَتِي تَبْدُو تِلْقَائِيَّةً. فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ الْمَيْلُ شَدِيدًا، لَكِنَّ الْفِكْرَةَ الَتِي طَرَحَهَا إِدْوَارْدْز هِيَ أَنَّهُ بِدُونِ مَيْلٍ، لَنْ يَحْدُثَ اخْتِيَارٌ.

فِي هَذَا الصَدَدِ، تَجَادَلَ إِدْوَارْدْز مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الْوَثَنِيِّينَ، وَمَعَ بَعْضِ اللَاهُوتِيِّينَ الَذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ حُرًّا بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَتُهُ حِيَادِيَّةً تَمَامًا. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْإِرَادَةُ حِيَادِيَّةً تَمَامًا، بَلْ كَانَ لَدَيْهَا مَيْلٌ أَوْ تَوَجُّهٌ مُسْبَقٌ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّهَا حُرَّةٌ حَقًّا. فَمَا لَمْ تَكُنْ لَدَيْهَا قُدْرَةٌ أَوْ فُرْصَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ لِلذَهَابِ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، لَا تَكُونُ حُرَّةً بِالْفِعْلِ.

يُذَكِّرُنَا ذَلِكَ بِقِصَّةِ "أَلِيسْ فِي بِلَادِ الْعَجَائِبِ"، حِينَ وَصَلَتْ إِلَى مُفْتَرَقِ طُرُقٍ، فَتَرَدَّدَتْ، وَلَمْ تَعْلَمْ إِنْ كَانَ عَلَيْهَا الذَهَابُ يَسَارًا أَمْ يَمِينًا. وَبَيْنَمَا كَانَتْ تُفَكِّرُ فِي وَضْعِهَا، نَظَرَتْ لِلْأَعْلَى، فَرَأَتْ قِطَّةً تَبْتَسِمُ لَهَا مِنْ أَعْلَى الشَجَرَةِ، فَسَأَلَتْهَا: "أَيَّ طَرِيقٍ أَسْلُكُ؟" أَجَابَتْهَا الْقِطَّةُ: "الْأَمْرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجْهَتِكِ". فَقَالَتْ أَلِيسْ: "لَسْتُ أَدْرِي". فَأَجَابَتْهَا الْقِطَّةُ: "إِذَنْ، لَا فَرْقَ". فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي ذِهْنِكِ غَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْكِ مَا يَدْفَعُكِ لِلذَهَابِ فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ أَوْ ذَاكَ، فَمَا الْفَارِقُ الَذِي سَيُحْدِثُهُ ذَلِكَ؟ لَنْ يَهُمَّ أَيَّ طَرِيقٍ تَسَلُكِينَ، وَيُمْكِنُكِ سُلُوكُ أَيٍّ مِنَ الطَرِيقَيْنِ.

لَكِنْ قَالَ إِدْوَارْدْز: "الْقَرَارُ الْمُحَايِدُ أَمْرٌ غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ، لِسَبَبَيْنِ. أَوَّلًا، إِنْ فَضَّلْتَ شَيْئًا عَلَى الْآخَرِ دُونَ أَيِّ سَبَبٍ، وَبِطَرِيقَةٍ عَشْوَائِيَّةٍ تَمَامًا، فَكَيْفَ تَكُونُ لِذَلِكَ أَيَّةُ أَهَمِّيَّةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ؟" أَدْرَكَ إِدْوَارْدْز أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقَصْدِ وَالتَعَمُّدِ هِيَ، مِنَ النَاحِيَةِ الْكِتَابِيَّةِ، أَسَاسِيَّةٌ لِأَيِّ قَرَارٍ أَخْلَاقِيٍّ، وَلِأَيِّ فِعْلٍ إِرَادِيٍّ. فَإِنَّنَا لَا نَخْتَارُ أَنْ تَنْبِضَ قُلُوبُنَا بِمُعَدَّلٍ مُعَيَّنٍ. فَهَذَا عَمَلٌ جَسَدِيٌّ لَا إِرَادِيٌّ. لَكِنْ كَيْ يَكُونَ الْقَرَارُ أَخْلَاقِيًّا، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ أَوْ قَصْدٌ وَرَاءَهُ.

لَكِنْ، ذَهَبَ إِدْوَارْدْز إِلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: "إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْلٌ إِلَى اتِّجَاهٍ أَوْ الْآخَرِ، سَيَكُونُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ لَيْسَ فَقَطْ أَنْ يَكُونَ الْقَرَارُ أَخْلَاقِيًّا، بَلْ أَنْ يَحْدُثَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْأَسَاسِ، إِذْ لَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ لِلِاخْتِيَارِ. فَسَتَكُونُ هُنَاكَ نَتِيجَةٌ بِلَا سَبَبٍ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ". وَلِهَذَا قَالَ إِنَّهُ مِنَ النَاحِيَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَاللَاهُوتِيَّةِ أَيْضًا، الْقَرَارُ الْحِيَادِيُّ هُوَ مَفْهُومٌ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ.

أَخِيرًا، رُبَّمَا أَكْثَرُ شَيْءٍ اشْتُهِرَ بِهِ إِدْوَارْدْز هُوَ تَمْيِيزُهُ بَيْنَ مَا دَعَاهُ بِالْقُدْرَةِ الطَبِيعِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. هَذَا التَمْيِيزُ مُشَابِهٌ جِدًّا لِتَمْيِيزِ أُوغُسْطِينُوسْ قَبْلَ ذَلِكَ بِقُرُونٍ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ. قَالَ إِدْوَارْدْز: "لَدَيْنَا الْقُدْرَةُ الطَبِيعِيَّةُ عَلَى الِاخْتِيَارِ. وَكَبَشَرٍ، أَنْ نَكُونَ مَخْلُوقَاتٍ إِرَادِيَّةً هُوَ جُزْءٌ مِنْ طَبِيعَتِنَا. فَلَدَيْنَا مَلَكَةُ الِاخْتِيَارِ، الَتِي تُسَمَّى "الْإِرَادَةَ". وَالْإِرَادَةُ لَا تُجْبَرُ أَوْ تُرْغَمُ مِنْ عَوَامِلَ خَارِجِيَّةٍ. إِذَنْ، بِقَدْرِ تَمَتُّعِنَا بِالْقُدْرَةِ بِالطَبِيعَةِ عَلَى الِاخْتِيَارِ، تَكُونُ لَدَيْنَا قُدْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ. فَلَيْسَتْ لَدَيْنَا قُدْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ عَلَى الطَيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ بِدُونِ مُسَاعَدَةِ آلَاتٍ، لِأَنَّنَا لَسْنَا مُزَوَّدِينَ بِالطَبِيعَةِ بِأَجْنِحَةٍ وَرِيشٍ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. لَكِنْ كَبَشَرٍ يَتَمَتَّعُونَ بِإِرَادَةٍ، لَدَيْنَا قُدْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ. لَكِنْ مَا يَنْقُصُنَا، بِحَسْبِ إِدْوَارْدْز، هُوَ الْقُدْرَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ عَلَى اخْتِيَارِ أُمُورِ اللَّهِ. لِمَاذَا؟ لِأَنَّنَا فِي السُقُوطِ فَقَدْنَا رَغْبَتَنَا وَمُيُولَنَا تُجَاهَ اللَّهِ. فَالْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْتَارَ اللَّهَ، مَا لَمْ يَخْتَرْهُ اللَّهُ أَوَّلًا، لِسَبَبٍ بَسِيطٍ. فَالْإِنْسَانُ لَنْ يَخْتَارَ اللَّهَ، لِأَنَّنَا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَخْتَارَ مَا لَا نُرِيدُهُ. إِذَنْ، تَكْمُنُ مُشْكِلَةُ خَطِيَّتِنَا الْأَصْلِيَّةِ، فِي رَأْيِ إِدْوَارْدْز، فِي رَغَبَاتِنَا. يَقُولُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ: "إِنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ". فَلَيْسَتْ لَدَيْنَا مُيُولٌ طَبِيعِيَّةٌ تُجَاهَ اللهِ، مَا لَمْ يُنْشِئِ الرُوحُ الْقُدُسُ ذَلِكَ دَاخِلَ نُفُوسِنَا.