المحاضرة 8: محبة الله الراضية

فِي مُحاضَرَتِنَا السَّابِقَةِ أَشَرْتُ إِلَى أَنَّنَا فِي تَارِيخِ اللَّاهُوتِ نُمَيِّزُ بَيْنَ ثَلاثَةِ أَنْواعٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ. وَتَكَلَّمْتُ عَنِ النَّوْعَيْنِ الأَوَّلَيْنِ فِي مُحَاضَرَتِنا السَّابِقَةِ؛ مَحَبَّةِ اللهِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ، الَّتِي تُشِيرُ إِلَى مَشِيئَتِهِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُبْدِيهَا تُجَاهَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَمَحَبَّتِهِ الْمُحْسِنَةِ، الَّتِي تُشِيرُ إِلَى عَمَلِهِ الَّذِي يَفِيضُ بِمُوجَبِهِ بِالْبَرَكاتِ، أَوْ مَا يُعْرَفُ بِبَرَكاتِ النِّعْمَةِ الْعَامَّةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَكِنِّي أَبْقَيْتُ النَّوْعَ الثَّالِثَ حَتَّى هَذَا الْيَوْمِ، وَهْوَ الْجَانِبُ الأَهَمُّ مِنْ جَوانِبِ مَحَبَّةِ اللهِ، وَهْوَ مَا يُعْرَفُ بِمَحَبَّةِ اللهِ الرَّاضِيَةِ.

وَأَظُنُّ أَنِّي أَشَرْتُ إِلَى أَنِّي حِينَ أَتَكَلَّمُ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الرَّاضِيَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَمِيلُونَ إِلَى رَفْعِ حَوَاجِبِهِمْ وَتَرْتَسِمُ نَظَراتُ الارْتِباكِ عَلَى وُجُوهِهِمْ لأَنَّهُمْ حِينَ يُفَكِّرُونَ فِي الرِّضَا، يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ مَوْقِفَ اللَّامُبالاةِ أَوْ مَوْقِفَ الصَّلَفِ. لأَنَّنَا كَثِيرًا مَا نَسْتَعْمِلُ عِبارَةَ "راضٍ عَنْ نَفْسِهِ" لِلإِشارَةِ إِلَى شَخْصٍ مُسْتَرِيحٍ فِي صِهْيَوْنَ وَمُطْمَئِنٍّ فِي أَمْجادِهِ، وَلا يَقُومُ بِأَيِّ عَمَلٍ خَاصٍّ بِحَماسَةٍ. وَهَذَا وَاحِدٌ مِنَ الانْعِطافاتِ الْغَرِيبَةِ فِي تَطَوُّرِ اللُّغَةِ، لأَنَّ الْمَعْنَى الأَصْلِيَّ لِمَفْهُومِ الرِّضَا مُعاكِسٌ تَمامًا لِذَلِكَ.

فِي الْوَاقِعِ، وَبُغْيَةَ التَّأْكِيدِ عَلَى ذَلِكَ، بَحَثْتُ مُؤَخَّرًا فِي قَامُوسٍ حَدِيثٍ لأَرَى كَيْفَ يُعَرِّفُ ذَلِكَ الْقامُوسَ كَلِمَةَ "راضٍ" أو "رِضًا"، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الأَصْلَ اللَّاتِينِيَّ الَّذِي تَشْتَقُّ مِنْهُ الْكَلِمَةُ يَنْبَثِقُ مِنْ فِكْرَةِ مَا يَجِدُ فِيهِ الْمَرْءُ مُتْعَةً كَبِيرَةً أَوْ سُرُورًا، وَنادِرًا مَا يَعْنِي ذَلِكَ اللَّامُبالاةَ أَوِ الصَّلَفَ. فِي الْوَاقِعِ، فِي الطَّبْعَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ قَامُوسِ "وِيبْسْتِرْز"، التَّعْرِيفُ الرَّئِيسِيُّ والأَوَّلُ لِكَلِمَة "رِضًا" حَتَّى هَذَا الْيَوْمِ هُوَ الْبَهْجَةُ أَوْ مَا هُوَ مُسِرٌّ، وَالْمَعْنَى الثَّانَوِيُّ يُشِيرُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الاكْتِفاءِ أَوِ الصَّلَفِ. تَرَوْنَ أَنَّ مَفْهُومَ الصَّلَفِ هَذَا يَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْفِكْرَةِ: "مَا إِنْ أَسْتَمْتِعُ بِأَمْرٍ مَا، وَهْوَ يُسِرُّنِي إِلَى أَقْصَى دَرَجَةٍ مُمْكِنَةٍ، فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ وَأَعْتَزُّ بِهِ". هَكَذَا تَطَوَّرَتِ الْكَلِمَةُ فِي لُغَتِنَا.

لَكِنْ حِينَ نَتَكَلَّمُ لاهُوتِيًّا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الرَّاضِيَةِ، فَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي بِمُوجَبِهَا يَبْتَهِجُ الآبُ وَيُسَرُّ بِعَلاقَتِهِ بِالنَّاسِ. سَبَقَ أَنْ ذَكَرْنا أَنَّ الْمَوْضُوعَ الأَوَّلَ لِمَحَبَّةِ اللهِ، الْمَوْضُوعَ الْكامِلَ لِبَهْجَتِهِ وَسُرُورِهِ هُوَ ابْنُهُ. نَذْكُرُ مُجَدَّدًا أَنَّهُ حِينَ تَعَمَّدَ يَسُوعُ، وَنَزَلَتِ الْحَمامَةُ مِنَ السَّماءِ، وَسُمِعَ صَوْتُ اللهِ وهُوَ يَقُولُ "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ". إِذًا، فِي هَذَا السِّياقِ، يُعْلِنُ اللهُ مَحَبَّتَهُ الرَّاضِيَةَ تُجاهَ يَسُوعَ إِنَّهُ هُوَ مَنْ سُرَّ بِهِ الآبُ. وَحِينَ نَنَظْرُ إِلَى ذَلِكَ، حِينَ يَتِمُّ تَطْبِيقُهُ عَلَى آخَرِينَ بِمَعْزَلٍ عَنِ الْمَسِيحِ، نَرَى أَنَّها الْمَحَبَّةُ الْمُمَيِّزَةُ الَّتِي يَكُنُّها اللهُ لِلْمَفْدِيِّينَ، وَأَنَّ اللهَ يُسَرُّ وَيَبْتَهِجُ بِخَاصَّتِهِ.

فِي الْوَاقِعِ، رُبَّمَا هَذَا هُوَ مَفْهُومُ الْمَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ الَّذِي يَكْمُنُ وَراءَ هَذَا الْمَقْطَعِ الصَّعْبِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ دَرَسْناهُ فِي رُومِيَةَ 9، حَيْثُ يَقُولُ بُولُسُ مُقْتَبِسًا مِنْ سِفْرِ مَلاخِي، فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِيَعْقُوبَ وَعِيسُو "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ"، أيْ أَنَّ يَعْقُوبَ نَالَ هذهِ الْمَحَبَّةَ الرَّاضِيَةَ الْفَائِقَةَ، الْمَحَبَّةَ الَّتِي يَكُنُّها اللهُ لِمُخْتَارِيهِ، وَالَّتِي تَخْتَلِفُ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْعَامَّةِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْمَحَبَّةِ الْمُحْسِنَةِ. وَبِالطَّبْعِ نَالَ عِيسُو النَّوْعَيْنِ الأَوَّلَيْنِ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، لَكِنَّهُ مَا كانَ لِيَنالَ مَحَبَّةَ اللهِ الْمُخْلِّصَةَ، وَمَحَبَّةَ اللهِ الْفَادِيَةَ الَّتِي بِمُوجَبِها يُسَرُّ اللهُ بِشَعْبِهِ.

لَكِنْ مُجَدَّدًا، رَأَيْنا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ لا يُمْكِنُ أَنْ تَنْفَصِلَ عَنْ نِعْمَةِ اللهِ الَّتِي تَخْتَارُ. والآنَ فَلْنُخَصِّصْ بَعْضَ الْوَقْتِ لِلتَّطَرُّقِ إِلَى السِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ، وَهْيَ مُهِمَّةٌ جِدًّا لإِدْراكِنَا لِهَذا الْمَفْهُومِ كَمَا يَظْهَرُ فِي رُومِيَةَ الأصْحَاحِ 8. أَظُنُّ أَنَّنَا نَعْرِفُ جَمِيعًا مَا جَاءَ فِي رُومِيَةَ 8: 28 "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ". لاحِظُوا أَنَّهُ فِي هَذَا النَّصِّ لا يَقُولُ بُولُسُ إِنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلْجَمِيعِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِالْعِنايَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّذِي يَسْتَخْلِصُ الْخَيْرَ حَتَّى مِنَ الشَّرِّ، الَّذِي يُعْطِينَا تَعْزِيَةً كَبِيرَةً فِي وَسَطِ الْمِحْنَةِ وَفِي وَسَطِ الْمَأْساةِ، هُوَ أَنَّهُ حَتَّى أَصْعَبِ التَّجارِبِ وَالْمِحَنِ الَّتِي نُصادِفُها فِي هَذَا الْعالَمِ يَسْتَخْدِمُها اللهُ وَيَجْعَلُها تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ، لأَجْلِ مَنْ؟ لأَجْلِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ هُمْ حَتْمًا الْمَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ.

إذًا، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَالَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ بِمَحَبَّةِ الرِّضَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُمْ بِـ "الْمَدْعُوِّينَ". وَمِنْ هُنَا طَبْعًا تَنْبَثِقُ كَلِمَةُ "اخْتِيار". هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَخْتَبِرُونَ "الدَّعْوَةَ مِنْ"، "إِيكُو لِي أُو"، إِنَّهُمُ الْمَدْعُوُّونَ مِنَ الْعَالَمِ، وَهُمْ مُنْفَصِلُونَ عَنِ الْبَشَرِيَّةِ السَّاقِطَةِ لِيَنالُوا نِعْمَةَ اللهِ الْمُخَلِّصَةِ الْخَاصَّةِ. مِنْ هُنَا نَسْتَمِدُّ مَعْنَى كَلِمَةِ "كَنِيسَةٍ"، إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "إيكْلِيزْيا"، "هَؤُلاءِ الْمَدْعُوُّونَ مِنْ". وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ "كَنَسِيٍّ" أَوْ "إِكْلِيرِكِيٍّ" اسْتِنادًا إِلَى مَفْهُومِ الدَّعْوَةِ هَذَا.

لَكِنْ يُوجَدُ لَغَطٌ كَبِيرٌ بِشَأْنِ مَفْهُومِ الأَشْخاصِ الَّذِين أُحْصُوا بَيْنَ الْمَدْعُوِّينَ. وَالسَّبَبُ هُوَ أَنَّ الْكِتابَ الْمُقَدَّسَ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ "يَدْعُو" فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ بِأَكْثَرِ مِنْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. مِنْ نَاحِيَةٍ يَقُولُ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ "لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ"، وَنَرَى تَكْرَارًا فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مَثَلًا، أَنَّهُ حِينَ يُعْلِنُ الرُّسُلُ الإِنْجِيلَ، وَيُعْلِنُونَ كَلِمَةَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُسْتَمِعِينَ، وَيَدْعُونَ الأَشْخاصَ الَّذِينَ يُصْغُونَ إِلَى الإِعْلانِ إِلَى التَّجاوُبِ مَعَ رِسالَةِ الإِنْجِيلِ.

تَذْكُرُونَ مَثَلًا حِينَ كانَ الرَّسُولُ بُولُسُ فِي أَثِينَا فِي أَرْيُوس بَاغُوسَ، حَيْثُ وَاجَهَ الْفَلاسِفَةَ قائِلًا: "(إِنَّ اللهَ تَغاضَى عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ السَّابِقَةِ، لَكِنَّ اللهَ) الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ (أَنْ يُقبِلُوا إِلَى الْمَسِيحِ)، لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ"، وَهْوَ يَدْعُو هَؤُلاءِ الْقَوْمَ إِلَى التَّجَاوُبِ مَعَ الْمَسِيحِ، وَمَاذَا كَانَ رَدُّ الْفِعْلِ؟ نَقْرَأُ النَّصَّ وَنَرَى أَنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ قَبِلُوا الْمَسِيحَ هُنَاكَ فِي الْحَالِ، فِيمَا رَفَضَ آخَرُونَ فَوْرًا وَبِوُضُوحٍ الدَّعْوَةَ الَّتِي وَجَّهَها بُولُسُ، وَاعْتَبَرُوا بُولُسَ رَجُلًا مَجْنُونًا، أَمَّا الْفِئَةُ الثَّالِثَةُ فَهُمْ مَنْ قَالوا "سَنَسْتَمِعُ أَكْثَرَ إِلَى هَذَا الشَّابِّ"، أَيْ أَنَّهُمْ أَرْجَأُوا الْحُكْمَ. قَالُوا "نُرِيدُ التَّفْكِيرَ فِي الأَمْرِ، نُرِيدُ سَماعَ الْمَزِيدِ عَنِ الأَمْرِ". لَكِنْ لَمْ يَكُنْ رَدُّ فِعْلِهِمْ إِيجابِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ رَدُّ فِعْلِهِمْ سَلْبِيًّا، لَقَدْ كَانُوا مُحَايِدِينَ نَوْعًا مَا.

إِذًا، هَذَا مَثَلٌ واحِدٌ عَنِ الْمَرَّاتِ الْعَدِيدَةِ الَّتِي نَرَى فِيهَا أَنَّهُ يَتِمُّ الإِعْدادُ لِلإِنْجِيلِ، وَحَيْثُ يُدْعَى النَّاسُ لِلإِقْبالِ لَكِنَّهُمْ لا يَأْتُونَ جَمِيعًا، وَهَذَا مَا نُسَمِّيهِ الدَّعْوَةَ الْخَارِجِيَّةَ لِلإِنْجِيلِ، تِلْكَ الدَّعْوَةَ الَّتِي هِيَ ظَاهِرِيَّةٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَعِظُ بِالإِنْجِيلِ وَأُعْلِنُهُ لِمَجْمُوعَةٍ مِنَ النَّاسِ الْمَوْجُودِينَ هُناكَ وَأَدْعُوهُمْ لِلتَّجَاوُبِ، الْبَعْضُ سَيَتَجاوَبونَ وَالْبَعْضُ لَنْ يَفْعَلوا. إِذًا، لَنْ يَتَجَاوَبَ الْكُلُّ مَعَ الدَّعْوَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ مَا نُسَمِّيهِ الدَّعْوَةَ الْخَارِجِيَّةَ، هَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ.

مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يَسْتَعْمِلُ الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ كَلِمَةَ "يَدْعُو" بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، وَنُسَمِّيهَا فِي اللَّاهُوتِ الدَّعْوَةَ الدَّاخِلِيَّةَ أَوِ الدَّعْوَةَ الْبَاطِنِيَّةَ، حَتَّى إِنَّنَا نُسَمِّيها أَحْيانًا دَعْوَةَ اللهِ الْمُؤَثِّرَةَ، وَهْيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي يَتِمُّ دَاخِلَ الإِنْسانِ، وَهْيَ لَيْسَتْ مُجَرَّد دَعْوَةٍ خَارِجِيَّةٍ مَسْمُوعَةٍ بِالأُذُنَيْنِ، بَلْ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ الْفَائِقِ لِلطَّبِيعَةِ الَّذِي يُمارِسُهُ اللهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِي الْقَلْبِ أَوِ النَّفْسِ، واَّلذي بِمُوُجَبِه، هَؤُلاءِ الَّذِينَ كانُوا سَابِقًا أَمْواتًا فِي خَطاياهُمْ وَمَعاصِيهِمْ، أَصْبَحُوا الآنَ أَحْيَاءَ، تَمَ َّإِحْياؤُهُمْ وَنَالُوا آذَانًا لِيَسْمَعُوا وَعُيُونًا لِيُبْصِرُوا مَا كَانُوا غَيْرَ مُبالِينَ تُجاهَهُ سَابِقًا، هَذَا ما نُسَمِّيهِ الدَّعْوَةَ الداَّخِلِيَّةَ.

وَهَذِهِ هِيَ الدَّعْوَةُ الَّتي يُوَجِّهُهَا اللهُ إِلَى الْمُخْتَارِينَ. الْمُخْتارُونَ مَدْعُوُّونَ بِطَرِيقَةٍ مُحَدَّدَةٍ، وَنَحْنُ نَرَى ذَلِكَ فِي السِّياقِ نَفْسِهِ لِهَذَا النَّصِّ، حَيْثُ يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُسُ إنَّ "كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ"، ومَاذا يَقُولُ مُباشَرَةً بَعْدَ ذَلِكَ؟ "لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا". أَنَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَا يَتَكَلَّمُ عَنْهُ بُولُسُ هُنَا لَيْسَ دَعْوَةَ الإنْجِيلِ الْخَارِجِيَّةَ، بَلِ الدَّعْوَةُ الدَّاخِلِيَّةُ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى عَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ الْفَائِقِ لِلطَّبِيعَةِ. كَيْفَ نَعْرِفُ ذَلِكَ؟

فِي هَذَا الْمَقْطَعِ، حَيْثُ أَنَّ جَوانِبَ عِدَّةً لِمَا نُسَمِّيهِ تَرْتِيبَ الْخَلاصِ مَوْضوعَةٌ بِطَرِيقَةٍ خَطِّيَّةٍ، الَّذِي يَذْكُرُ الْمَعْرِفَةَ الْمُسْبَقَةَ، وَالتَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ، وَالدَّعْوَةَ، وَالتَّبْرِيرَ، وَالتَّمْجِيدَ. إِنْ نَظَرْنَا إِلَى طَرِيقَةِ بِناءِ ذَلِكَ فِي النَّصِّ فَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ أُسْلُوبَ اللُّغَةِ هُوَ مَا نُسَمِّيهِ الْقَطْعَ النَّاقِصَ، أَيْ أَنَّهُ إِيجازِيٌّ نَظَرًا لِوُجُودِ أَفْكَارٍ مَفْهُومَةٍ ضِمْنِيًّا لَمْ يَتِمَّ تَوْضِيحُها صَراحَةً فِي النَّصِّ. لَكِنِّي أَعْتَقِدُ فِعْلِيًّا أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ لرِسالَةِ رُومِيَةَ يُوافِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ بُنْيَةُ هَذَا النَّصِّ، حَيْثُ إنَّ مَا قِيلَ هُنَا هُوَ إِنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ سَبَقَ اللهُ فَعَرَفَهُمْ، قَدْ دَعاهُمْ أَيْضًا. إِذًا، جَمِيعُ الَّذِينَ عَرَفَهُمُ اللهُ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعالَمِ دَعاهُمْ أَيْضًا. بِأَيِّ مَعْنًى يَتَكَلَّمُ بُولُسُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ الْمُسْبَقَةِ هُنَا؟ سَأَطْرَحُ السُّؤَالَ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمْ مِنَ الأَشْخاصِ فِي الْعالَمِ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ عَرَفَهُمُ اللهُ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ؟

اللهُ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ بِالْمَعْنَى الْمَعْرِفِيِّ، بِالْمَعْنَى الْفِكْرِيِّ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعالَمِ، لَأنَّ اللهَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ كُلِّيُّ الْعِلْمِ وَهْوَ يَعْرِفُ اسْمَكَ وَاسْمِي وَأَسْماءَ الْجَمِيعِ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. تَذَكَّرُوا أَنَّنَا حِينَ نَتَنَاوَلُ عَقِيدَةَ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ وَالاخْتِيارِ الصَّعْبَةِ، النَّظْرةُ الأَكْثَرُ شُيُوعًا لِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ – لأَنِّي أُذَكِّرُكُمْ بِأَنَّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِعَقِيدَةِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كِتَابِيًّا، لأَنَّ عَقِيدَةَ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ وَارِدَةٌ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ، إِذًا لَيْسَ مِنَ الاخْتِيارِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنا مَا إِذَا كُنَّا نُؤْمِنُ بِالاخْتِيارِ أَوْ نُؤْمِنُ بِالتَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ، الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ فَهْمِنا هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ – وَالنَّظْرَةُ الأَكْثَرُ شُيُوعًا هِيَ مَا يُعْرَفُ بِنَظْرَةِ الاخْتِيارِ الْمُلِحَّةِ، أَوْ يُمْكِنُنَا تَسْمِيَتُها نَظْرَةَ الْمَعْرِفَةِ الْمُسْبَقَةِ. وَهْيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي تُفِيدُ بِأَنَّ اللهَ مُنْذُ الأَزَلِ يَعْرِفُ مُسْبَقًا مَنْ سَيَتَجاوَبُ إِيجَابِيًّا مَعَ دَعْوَةِ الإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ مُنْذُ الأَزَلِ كَانَ اللهُ يَعْرِفُ أَنَّ بُولُسَ سَيَكْرِزُ بِالإِنْجِيلِ فِي أَثِينَا فِي أَرْيُوسَ بَاغُوسَ، وَمُنْذُ الأَزَلِ يَعْرِفُ اللهُ الأَشْخَاصَ الَّذِينَ سَيَتَجاوَبُونَ وَالأَشْخاصَ الَّذِينَ سَيَرْفُضُونَ تَعْلِيمَ بُولُسَ وَعَلَى أَساسِ مَعْرِفَتِهِ قَبْلَ الأَوَانِ، مَعْرِفَتِهِ الْمُسْبَقَةِ، وَمِنْ خِلالِ النَّظَرِ بَيْنَ مَمَرَّاتِ الزَّمَنِ. إِنَّهُ يَخْتَارُ لِلْخَلاصِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْرِفُ مَسْبَقًا أَنَّهُمْ سَيَتَجاوَبُونَ إِيجابِيًّا مَعَ رِسالَةِ الإِنْجِيلِ، هَذِهِ هِيَ النَّظْرَةُ الأَكْثَرُ شُيُوعًا.

وَالنَّصُّ الَّذِي يُبَرْهِنُ تِلْكَ الْفِكْرَةَ وَارِدٌ هُنَا فِي رُومِيَةَ 8، لأَنَّ الْبُرْهَانَ هُوَ الآتِي؛ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ عَنِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ هُنَا، لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَنِ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ الْمُسْبَقَةِ. وَحْدَهُمُ الأَشْخاصُ الَّذِينَ عَرَفَهُمْ مُسْبَقًا عَيَّنَهُمْ مُسْبَقًا. لَكِنْ إِنْ أَدْخَلْنَا في هذا النَّصِّ، مَا هُوَ مَفْهُومٌ ضِمْنًا فِي النَّصِّ أَيْ أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ عَرَفَهُمْ اللهُ مُسْبَقًا عَيَّنَهُمْ مُسْبَقًا. وَإِنْ كانَ اللهُ يَعْرِفُ فِعْلًا الْجَمِيعَ مُنْذُ الأَزَلِ، فَهَذا يَعْنِي أنَّهُ عَيَّنَ الْجَمِيعَ مُسْبَقًا. وَالآنَ النَّصُّ يُثْبُتُ أَكْثَرَ مِمَّا يُرِيدُ الْقَوْمُ الْمُلِحُّونَ أَنْ يُثْبِتَ، لأَنَّهُ يُثْبِتُ بِذَلِكَ الْخَلاصَ الشَامِلَ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، أَوِ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ الشامِلَ، مَا يَتَعارَضُ بِوُضُوحٍ مَعَ تَعْلِيمِ الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ.

لَكِنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ لِي "لَكِنْ يَا أر. سِي. أَنْتَ لَمْ تَمْلَأْ جُزْءًا كافِيًا مِنَ الثَّغْرَةِ. لا تَقْتَصِرُ الثَّغْرَةُ عَلَى كَوْنِ اللهِ يَتَكَلَّمُ بِبَسَاطَةٍ عَن مَعْرِفَتِهِ مُنْذُ الأَزَلِ لِلأَشْخاصِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنَّهَا مَحْصُورَةٌ بِمَعْرِفَتِهِ لِجَمِيعِ الَّذِينَ سَيَتَجاوَبُونَ، هَذا مَا يَفْتَرِضُهُ الأَشْخاصُ الَّذِينَ يُحاوِلُونَ إِثْباتَ ذَلِكَ، حَسَنًا، لا بَأْسَ. لَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ تَتَفاقَمُ حِينَ نَتَجاوَزُ التَّعْيِينَ الْمُسْبَقَ وَنَنْتَقِلُ إلِىَ الدَّعْوَةِ. إنْ كانَ جَمِيعُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ اللهُ مُسْبَقًا بِطَرِيقَةٍ مُعَيّنَةٍ سَيَتِمُّ تَعْيِينُهُمْ مُسْبَقًا، وَجَمِيعُ الْمُعَيَّنِينَ مُسْبَقًا سَيَكُونُونَ مَدْعُوِّينَ، وَجَمِيعُ الْمَدْعُوِّيَن سَيَتَبَرَّرُونَ، فَماذا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْفِكْرَةِ الَّتِي تُفِيدُ بِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يُشِيرُ إِلَى الدَّعْوَةِ الْخَارِجِيَّةِ فَحَسْب؟ فَمِنَ الْمُؤَكِّدِ أَنَّ الْكِتابَ الْمُقَدَّسَ لا يَقْصِدُ أَنْ يُعَلِّمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ بأُذُنَيْهِ خَارِجِيًّا دَعْوَةَ الإِنْجِيلِ، يَتَبَرَّرُ فِي نِهايَةِ الْمَطافِ، الْوَاقِعُ كَوْنُ جَمِيعِ الْمَدْعُوِّينَ، بِالْمَعْنَى الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بُولُسُ عنَ ِالدَّعْوَةِ هُنَا، هُمْ مُبَرَّرونَ وَمُمَجَّدُونَ يُبَيِّنُ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ أَنَّ الرَّسُولَ يَتَكَلَّمُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ مُخْتَلِفٍ عَنِ الدَّعْوَةِ الْخَارِجِيَّةِ، إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ هَؤُلاءِ الْمَدْعُوِّينَ دَاخِلِيًا. وَهَؤُلاءِ الْمَدْعُوُّونَ دَاخِليًّا، جَمِيعُ الَّذِينَ يَعْمَلُ اللهُ فِي داخِلِهِمْ، يَتَبَرَّرُونَ.

لا شَيْءَ فِي هَذَا النَّصِّ يَقُولُ إِنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ عَرَفَ اللهُ مُسْبَقًا أَنَّهُمْ سَيَتَجاوَبُونَ مَعَ الدَّعْوَةِ الْخَارِجِيَّةِ سَيَتِمُّ تَعْيِينُهُمْ مُسْبَقًا، أَيْ أَنَّ اسْتِجابَتَهُمْ لَيْسَتْ أَسَاسَ التَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ، لَكِنَّ الْفِكْرَةَ الْوارِدَةَ فِي النَّصِّ هِيَ أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ يُعَيِّنُهُمُ اللهُ مُسْبَقًا سَيَنالُونَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الدَّاخِلِيَّةَ، وَجَمِيعَ الَّذِينَ يَنالُونَ الدَّعْوَةَ الدَّاخِلِيَّةَ سَيَنالُونَ بِدَوْرِهِمْ التَّبْرِيرَ وَالتَّمْجِيدَ. إِذًا، نَحْنُ مُعَيَّنُونَ مُسْبَقًا لَيْسَ لأَنَّنَا نَتَجاوَبُ مَعَ الدَّعْوَةِ، بَلْ نَحْنُ مُعَيَّنُونَ مُسْبَقًا لِنَتَجاوَبَ مَعَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي يُوَضِّحُها الرَّسُولُ هُنَا.

وَلِلأَشْخاصِ الَّذِينَ يَنَالُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْخَاصَّةَ قُطِعَ هَذَا الْوَعْدُ بِأَنَّ كُلَّ الأَشْياءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، الْمَدْعُوِّينَ. لأَنَّ فَحْوَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ الدَّاخِلِيَّةِ هُوَ أَنِّي قَبْلَ أَنْ أُحِبَّ اللهَ هُوَ أَحَبَّنِي بِمَحَبَّةِ الرِّضَا، وَمِنْ خِلالِ مَحَبَّةِ الرِّضَا تِلْكَ أَقَامَنِي مِنَ الْمَوْتِ الرُّوحِيِّ. لَقَدْ دَعانِي دَاخِلِيًّا، وَبَعْدَ أَنْ كانَ قَلْبِي مُعَادِيًا لَهُ قَبْلَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ الدَّاخِلِيَّةِ. الآنَ هُوَ لَمْ يُحْيِ حَياتِي الرُّوحِيَّةَ فَحَسْب، بَلْ عَاطِفَتِي الرُّوحِيَّةَ. فَبِدُونِ تِلْكَ النِّعْمَةِ الَّتِي تَخْتارُ، وَقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُجَدِّدَةِ، أَنَا بِطَبِيعَتِي فِي عَدَاوَةٍ مَعَ اللهِ، لَيْسَتْ لَدَيَّ أَيَّةُ عَاطِفَةٍ تُجَاهَهُ، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ نِلْتُ الدَّعْوَةَ الدَّاخِلِيَّةَ وتَغَيَّرَ قَلْبِي، مَا كُنْتُ أَكْرَهُهُ سَابِقًا صِرْتُ أُحِبُّهُ الآنَ، وَقَدْ أَصْبَحَ الْمَسِيحُ مَوْضِعَ عَاطِفَتِي.

تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا فَيْضُ مَحَبَّةِ الآبِ لِلابْنِ. لاحِظُوا أَنَّ الْهَدَفَ مِنْ هَذَا الاخْتِيارِ وَالتَّعْيِينِ الْمُسْبَقِ هُوَ أَنْ نُشْبِهَ صُورَةَ ابْنِهِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ سُرورَ اللهِ بِالْمُخْتارِينَ هُوَ فَيْضُ سُرُورِ الآبِ بِابْنِهِ. وَاللهُ لا يُرِيدُ أَلَّا يَكونَ ابْنُهُ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرينَ. وَكَمَا يَقُولُ لَنَا يَسُوعُ فِي الصَّلاةِ فِي الْعُلِّيَّةِ فِي يُوحَنَّا 17، إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَعْطاهُ إِيَّاهُمُ الآبُ، هَؤلاءِ هُمُ الْمُخْتَارُونَ، عَطَايَا مَحَبَّةِ الآبِ لِلابْنِ. فَبِفَضْلِ مَحَبَّةِ اللهِ الرَّاضِيَةِ تُجاهَ يَسُوعَ، أَصْبَحْنا نَحْنُ مَوْضُوعَ مَحَبَّتِهِ الرَّاضِيَةِ. إِذًا، حِينَ نَتَناوَلُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْمُسْبَقَةَ، مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ اللهُ مِنِ اخْتِيارِ أَيِّ أَحَدٍ لَمْ تَكُنْ مَراسِيمُهُ السَّرْمَدِيُّةُ مُوَجَّهَةً إِلَى "مَنْ يَهُمُّهُ الأَمْرُ"، فَلِكَيْ يَخْتارَ يَعْقُوبَ مُنْذُ الأَزَلِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِيَعْقُوبَ مُنْذُ الأَزَلِ، عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ عَنْ يَعْقُوبَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ يَعْقُوبَ لِينالَ نِعْمَةَ الاخْتِيارِ.

لَكِنَّ الْفِكْرَةَ هِيَ الآتِيَةُ؛ إِنَّ مَعْرِفَتَهُ الْمُسْبَقَةَ تَعْنِي أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ وَعْيٍ ذِهْنِيٍّ. إِنْ دَرَسْنا الْكَلِمَةَ الْفِعْلَ "يَعْرِفُ" فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْكِتابَ الْمُقَدَّسَ يَسْتَعْمِلُ الْفِعْلَ "غْنُوسِيسْ" لِلِإشَارَةِ إِلَى الْوَعْيِ الذِّهْنِيِّ، لَكِنْ يُوجَدُ أَيْضًا مَعْنًى أَعْمَقُ لِهَذَا الْفِعْلِ، أَوْ لِلاسْمِ "مَعْرِفَة" يُشِيرُ إِلَى الْمَحَبَّةِ الْحَمِيمَةِ؛ عَرَفَ إِبْراهِيمُ زَوْجَتَهُ فَحَبِلَتْ. إِذًا، هَذَا لا يَعْنِي بِبَساطَةٍ أَنَّهُ ما إِنْ عَرَفَها ذِهْنِيًّا حَتَّى حَبِلَتْ، لا، فَالْكِتابُ الْمُقَدَّسُ يَسْتَعْمِلُ الْفِعْلَ "يَعْرِفُ" كَكِنايَةٍ عَنِ الْعَلاقَةِ الْجِنْسِيَّةِ، لِلإِشارَةِ إِلَى مُسْتوًى أَعْمَقَ مِنَ الْحَمِيمِيَّةِ. لِذَا يَقُولُ بُولُسُ في رِسالَةِ رُومِيَةَ "الإِنْسانُ الطَّبِيعِيُّ يَعْرِفُ اللهَ ذِهْنيًّا"، وَيَقولُ في رسالَةِ كُورِنْثُوسَ الأُولَى "الإِنْسانُ الطَّبِيعِيُّ لا يَعْرِفُ اللهَ"، أَيْ أَنَّهُ يَعْرِفُ اللهَ بِمَعْنًى مُعَيَّنٍ، إِنَّهُ يَعِيهِ ذِهْنِيًّا، لَكِنَّهُ بِطَبِيعَتِهِ، لا يَتَمَتَّعُ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ الْعَاطِفِيَّةِ أَوْ بِهَذِهِ الْعلاقَةِ الْحَمِيمَةِ.

إِذًا، الْمَحَبَّةُ الرَّاضِيَةُ كَامِنَةٌ هُنَا فِي مَفْهُومِ مَعْرِفَةِ اللهِ الْمُسْبَقَةِ، لأَنَّ مَعْرِفَتَهُ الْمُسْبَقَةَ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ هِيَ مَحَبَّةٌ مُسْبَقَةٌ. مَتَى سُرَّ اللهُ بِكَ؟ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لِذَا فَإِنَّ اخْتِيارَكَ نَاتِجٌ عَنْ مَحَبَّتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ لَكَ، وَهَذا هُوَ الْبُرْهَانُ الأَسْمَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ لِلْبَغِيضِينَ، وَهَذَا مَا يَحْدُثُ حِينَ يُحِبُّنَا.