المحاضرة 3: محبة الله الوفية

مُنْذُ 25 سَنَةً، كُنْتُ قَدْ حَجَزْتُ تَذْكِرَةَ سَفَرٍ مِنْ بِتْسْبِيرغ إِلَى سانْ فْرانْسِيسْكُو، وَحِينَ وَصَلْتُ إِلَى الْمَطارِ اكْتَشَفْتُ أَنَّ الْمَقاعِدَ مَحْجُوزَةٌ بِالْكَامِلِ، وَنَتِيجَةَ ذَلِكَ صُدِمْتُ. أَمَّا شَرِكَةُ الطَّيَرَانِ، وَلِكَيْ تُعَوِّضَ عَنِ الإِزْعاجِ الَّذِي سَبَّبَتْهُ لِي، قامَتْ بِبَعْضِ الأُمُورِ اللَّطِيفَةِ. أَوَّلًا، أَرْجَعَتْ إِلَيَّ الْكُلْفَةَ الْكامِلَةَ لِتَذْكِرَةِ الذَّهابِ وَالْعَوْدَةِ، ثَانِيًا، حَجَزَتْ لِي عَلَى مَتْنِ الطَّائِرَةِ الْمُتَّجِهَةِ إِلَى سانْ فْرَانْسِيسْكُو، الَّتِي كانَتْ سَتُقْلِعُ بَعْدَ ثَلاثِ ساعاتٍ. وَبِمَا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى عَجَلَةٍ مِنْ أَمْرِي لَمْ يُسَبِّبْ لِيَ الأَمْرُ إِزْعاجًا كَبِيرًا، لَكِنَّ تِلْكَ الرِّحْلَةَ إِلَى سَانْ فْرَانْسِيسْكُو كانَتْ مَجَّانِيَّةً.

وَالأَمْرُ التَّالِي الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ إِعْطائِي مَكانًا فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى لِلْقِيامِ بِتِلْكَ الرِّحْلَةِ. كانَتْ تِلْكَ الْمَرَّةَ الأُولَى الَّتِي تَتَسَنَّى لِي فِيهَا فُرْصَةُ الْجُلُوسِ فِي جَناحِ الدَّرَجَةِ الأُولَى مَعَ شَرِكَةِ طَيَرانٍ كُبْرَى. وَلَمَّا جَلَسْتُ فِي مَكانِي، تَعَرَّفْتُ عَلَى الرَّجُلِ الْجَالِسِ بِالْقُرْبِ مِنِّي، لأَنَّهُ كانَ مُدِيرًا بَارِزًا لِشَرِكَةٍ صِناعِيَّةٍ أَمِيرِكِيَّةٍ. وَأَنَا مُتَأَكِّدٌ مِنْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ لِتَتَعَرَّفُوا عَلَى اسْمِهِ إِنْ كَشَفْتُهُ لَكُمْ، لَكِنِّي لَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. إنَّما فَتَحْتُ حَدِيثًا مَعَهُ. وَأَثْناءَ تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْجَوِّيَّةِ الطَّوِيلَةِ إِلَى سَانْ فْرَانْسِيسْكُو كُنَّا نَتَكَلَّمُ عَنْ تَعْيِينِ أَشْخَاصٍ فِي مَناصِبَ تَنْفِيذِيَّةٍ فِي شَرِكاتِنا وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَفِي سِياقِ الْحَدِيثِ، قُلْتُ لَهُ "ما هِيَ أَوَّلُ صِفَةٍ تَبْحَثُ عَنْها لَدَى مُوَظَّفٍ تَنْفِيذِيٍّ فِي شَرِكَتِكَ؟" وَلَمْ يَتَرَدَّدْ وَفاجَأَنِي بِرَدِّهِ، قالَ إِنَّ أَوَّلَ ما يَبْحَثُ عَنْهُ هو: الْوَفَاءُ. فَقُلْتُ "هَذَا غَرِيبٌ"، لأَنَّ كُتُبَ التَّدْرِيسِ تَقُولُ إِنَّهُ لا يَجْدِرُ بِكَ أَنْ تُحِيطَ نَفْسَكَ بِأَشْخَاصٍ يَقُولُونَ فَحَسْبُ "نَعَمْ سَيِّدِي"، وَيَفْعَلُونَ الْمُسْتَحِيلَ لأَجْلِكَ، وَلا يُمْكِنُكَ أَنْ تَكُونَ عَدِيمَ الشُّعُورِ بِالأَمانِ لِدَرَجَةِ أَنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَشْخَاصٍ أَوْفِياءَ بِالْقُرْبِ مِنْكَ. أَوَّلُ أَمْرٍ يَجِبُ أَنْ تَبْحَثَ عَنْهُ هُوَ الْكَفاءَةُ وغيرُها. لَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَرْتَبِكْ، قالَ "لا يُمْكِنُنِي أَنْ أَعْمَلَ كَمُدِيرٍ لِشَرِكَتِي إِنْ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَثِقَ بِالْمُساعِدِينَ الْمُباشِرِينَ لَدَيَّ الَّذِينَ أَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي عَمَلِنا". فَعَلِقَ كَلامُهُ فِي ذِهْنِي لاحقًا، لأَنِّي فَكَّرْتُ كَمْ أَنَّ الْوَفاءَ أَصْبَحَ نَادِرًا فِي نَواحٍ عِدَّةٍ.

وَمُنْذُ بِضْعِ سَنَواتٍ، شَاهَدْتُ فِيلْمَ "بْرَايْفْ هَارْت"، وَهْوَ تَصْوِيرُ هُولِيوُود لِوَقائِعِ حَيَاةِ "وِيلْيام وُولِيس" ونِضَالِهِ لأَجْلِ اسْتِقْلالِ اسْكُتْلَنْدا. وأَذْكُرُ تِلْكَ اللَّحْظَةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْفِيلْمِ، حِينَ قامَ حَلِيفُ "وِيلْيَام وُولِيس" الْمَوْثُوقُ "رُوبِرْت دي برُوس" بِخِيانَتِهِ. وَلَمْ تَكُنْ لِتَكْشِفَ فَوْرًا هُوِيَّةَ الْخَائِنِ. لَكِنْ حِينَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَلِيفُهُ الْمَوْثُوقُ "روبِرْت دِي بْرُوس" تَجَمَّدْتُ فِي مَقْعَدِي، وَنَظَرْتُ إِلَى الشَّاشَةِ، وَرَأَيْتُ صُورَةَ الرَّجُلِ الَّذِي كانَ يُؤَدِّي دَوْرَ "رُوبِرْت دِي بْرُوس"، فَتَحَوَّلَ وَجْهُهُ إِلَى وَجْهِ صَدِيقٍ لِي، وَثِقْتُ بِهِ كَثِيرًا فِي حَيَاتِي، وَخَانَنِي. فَانْتَابَنِي شُعُورٌ رَهِيبٌ فِي مِعْدَتِي، ذَلِكَ الشُّعُورُ الَّذِي يَتَرافَقُ مَعَ إِدْراكِكَ أنَّكَ تَعَرَّضْتَ لِلْخِيانَةِ. وأَنا مُتَأَكِّدٌ مِنْ أَنَّ كُلَّ إِنْسانٍ بِدُونِ اسْتِثْناءَ اخْتَبَرَ ذَلِكَ الأَلَمَ الْعَمِيقَ النَّاتِجَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخِيانَةِ. كَمْ يُشْعِرُكَ الأَمْرُ بِالْيَأْسِ، عَلَى الأَقَلِّ عَلَى الْمَدَى الْقَصِيرِ.

أَذْكُرُ أَيْضًا، أَنِّي مُنْذُ سَنَواتٍ عِدَّةٍ قَرَأْتُ سِيرَةَ حَيَاةِ الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينوسَ. وَذَكَرَ أُوغُسْطِينوسُ قُبَيْلَ نِهَايَةِ حَيَاتِهِ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْخِيانَةِ مِرارًا عِدَّةً مِنْ أَقْرَبِ الأَصْدِقاءِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ تَوَصَّلَ إِلَى مَرْحَلَةٍ، بِدُونِ سُخْرِيَةٍ وَبِدُونِ مَرَارَةٍ بِرَأْيِي، قَرَّرَ فِيهَا أَنْ يَأْتَمِنَ الْمَسِيحَ وَحْدَهُ عَلَى حَيَاتِهِ. فَعِنْدَما تَحِينُ سَاعَةُ الْحَقِيقَةِ، قِلَّةٌ هُمُ الأَشْخاصُ الَّذِينَ يَقِفُونَ إِلَى جَانِبِكَ فِي وَقْتِ الضِّيقِ الشَّدِيدِ. السَّبَبُ الَّذِي يَدْفَعُنِي إِلَى التَّكَلُّمِ عَنِ الأَمْرِ هُوَ أَنَّ أَحَدَ الأُمُورِ الَّتِي يُعْلِنُها الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ عَنْ شَخْصِ اللهِ...سَبَقَ أَنْ رَأَيْنا أَنَّ الْمَحَبَّةَ الَّتِي يُظْهِرُهَا هِيَ مَحَبَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، إِنَّهَا مَحَبَّةٌ دَائِمَةٌ، إِنَّهَا مَحَبَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، لَكِنْ عَلَيْنا أَنْ نَفْهَمَ أَيْضًا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ هِيَ مَحَبَّةٌ وَفِيَّةٌ. فِي الْوَاقِعِ، إِنَّهَا الْمَحَبَّةُ الأَكْثَرُ وَفاءً الَّتِي يُمْكِنُ لأَحَدِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَها، وَهْوَ وَفاءٌ يَفُوقُ كُلَّ فَهْمٍ بَشَرِيٍّ.

أَوَدُّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْوَقْتِ الْيَوْمَ لِلتَّأَمُّلِ فِي الْجُزْءِ الْمُعاكِسِ لِمَحَبَّةِ اللهِ الْوَفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ نَتَأَمَّلَ فِي الْبُعْدِ الإِيجابِيِّ لِلأَمْرِ، عَبْرَ التَّرْكِيزِ مُجَدَّدًا عَلَى أَعْمَالِ خِيانَةٍ وَعَواقِبِها كَمَا نَجِدُهَا فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ. إِنْ كُنْتُ أَتَذَكَّرُ مَا حَدَثَ فِي رِحْلاتِي، مُنْذُ بِضْعِ سَنَواتٍ تَسَنَّتْ لِي فُرْصَةُ السَّفَرِ إِلَى إِيطالْيا، حَيْثُ أَمْضَيْتُ وَقْتًا طَوِيلًا فِي رومَا، وَتَسَنَّتْ لِي فُرْصَةُ زِيارَةِ مَوَاقِعَ شَهِيرَةٍ فِي الْمَدِينَةِ الْقَدِيمَةِ هُنَاكَ، وَهْيَ الْمَدْرَجُ وَالْفَاتِيكان وَكَنِيسَةُ لاتِيران، وَجِميعُ تِلْكَ الأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَطْلالُ مَعْبَدِ قَيْصَر. لَكِنْ فِي تِلْكَ الزِّيارَةِ كُلِّها، أَهَمُّ اخْتِبارٍ كانَ لِي كانَ زِيارَةَ مَوْقِعٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ الْوُقُوفُ فِي الصَّفِّ لأَنَّ الْكُلَّ كانَ يَتَجاهَلُهُ، وَهْوَ الْمَوْقِعُ التَّقْلِيدِيُّ حَيْثُ سُجِنَ الرَّسُولُ بُولُسُ لِلْمَرَّةِ الأَخِيرَةِ قَبْلَ إِعْدامِهِ فِي عَهْدِ نَيْرُونَ، وَهْوَ يُدْعَى "سِجْنَ مارِيتِين"، الَّذِي يَقَعُ مُقابِلَ أَطْلالِ الْمُنْتَدَى الرُّومانِيِّ، حَيْثُ كانَ مَجْلِسُ الشُّيوخِ يَجْتَمِعُ فِي إِمْبْرَاطُورِيَّةِ رُومَا.

وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ السِّجْنُ سِوَى خَزَّانٍ قَدِيمٍ تَمَّ قَطْعُهُ مِنَ الصُّخورِ الصَّلْبَةِ، وَهْوَ عِبارَةٌ عَنْ غُرْفَةٍ بِارْتِفاعِ 8 أَوْ 9 أَوْ 10 أقْدَامٍ، وَعَرْضُها حَوالِي 15 قَدَمًا. وَهْوَ كانَ تَحْتَ الأَرْضِ لأَنَّهُ كانَ يَتِمُّ اسْتِعْمالُهُ أسَاسًا لِتَخْزِينِ الْمَاءِ، وَكانَ عَلَيْكَ النُّزُولُ إِلَيْهِ. فَدَخَلْتُ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ الَّذِي يُشْبِهُ الصَّرْحَ، وَهْوَ صَخْريٌّ، صَلْبٌ، وَقَاتِمٌ، وَرَطْبٌ، ومَعْزُولٌ. وَتَخَيَّلْتُ الرَّسُولَ بُولُسَ وَهْوَ يُمْضِي أَيَّامَهُ الأَخِيرَةَ وَساعاتِهِ الأَخِيرَةَ فِي ذَلِكَ الْمَكانِ الرَّهِيبِ بِانْتِظارِ سَيْفِ الإِعْدامِ. وَأَظُنُّ، وَرَغْمَ أَنَّنَا لَسْنَا مُتَأَكِّدِينَ، أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْمَوْقِعِ كَتَبَ الرَّسُولُ بُولُسُ آخِرَ رِسالَةٍ لَهُ تَمَّ إِدْراجُهَا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَهْيَ رِسالَةُ وَدَاعٍ لِصَدِيقِهِ وَتِلْمِيذِهِ الْحَبِيبِ تِيمُوثَاوُسَ.

وَنَقْرَأُ فِي رِسَالَةِ تِيمُوثَاوُسَ الثَّانِيَةِ، وَفِي آخِرِ السِّفْرِ، الْكَلِماتِ الآتِيَةَ. فِي الأَصْحَاحِ الرَّابِعِ يَقُولُ بُولُسُ لِتِيمُوثاوُسَ، فِي الآيَةِ 6: "فَإِنِّي أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا". والآنَ اسْمَعُوا جَيِّدًا مَا يَقُولُهُ، وَيَجِبُ الْقَوْلُ إِنَّ مُحَرِّرِي النُّسْخَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْكتابِ الْمُقَدَّسِ غالِبًا ما يَضَعُونَ عَناوِينَ فَرْعِيَّةً فِي النَّصِّ. إذًا، فِيمَا تَتَصَفَّحُونَ النَّصَّ وَتَبْحَثُونَ عَنْ مَقْطَعٍ مُحَدَّدٍ ولا تَعْرِفُونَ مَكانَهُ تَحْدِيدًا، فَإِنَّ هَذِهِ الْعَناوِينَ الْفَرْعِيَّةَ تُعْطِيكُمْ فِكْرَةً عَنْ مَضْمُونِ الْمَقْطَعِ التَّالِي. وَالْعُنْوَانُ الْفَرْعِيُّ لِلآياتِ 9 وما يَلِيها هُوَ الآتِي: "الرَّسُولُ الْمَهْجُورُ"، هكَذَا تَمَّ تَلْخِيصُ جَوْهَرِ مَا سَيَقُولُهُ بُولُسُ.

فِي الآيَةِ 9 يَقُولُ لِتِيمُوثَاوُسَ "بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعًا". تَعالَ سَرِيعًا يَا تِيمُوثَاوُسَ، فَوَقْتُهُ يَنْفُدُ. والآنَ ما زَالَ تِيمُوثاوُسُ فِي أَفَسُسَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَلَقَّى تِلْكَ الرِّسَالَةَ وَيُبادِرَ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ لِيَقِفَ إِلَى جَانِبِ بُولُسَ. لَكِنِ اسْمَعُوا مُعاناةَ هَذَا الطَّلَبِ... "بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعًا، لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ. لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ. أَمَّا تِيخِيكُسُ فَقَدْ أَرْسَلْتُهُ إِلَى أَفَسُسَ. اَلرِّدَاءَ الَّذِي تَرَكْتُهُ فِي تَرُواسَ عِنْدَ كَارْبُسَ، أَحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ، وَالْكُتُبَ أَيْضًا وَلاَ سِيَّمَا الرُّقُوقَ. إِسْكَنْدَرُ النَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُورًا كَثِيرَةً. لِيُجَازِهِ الرَّبُّ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. فَاحْتَفِظْ مِنْهُ أَنْتَ أَيْضًا، لأَنَّهُ قَاوَمَ أَقْوَالَنَا جِدًّا. فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، (لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي) بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي، لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ".

قَبْلَ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ هُنَا، فَلْنَتَأَمَّلْ مُجَدَّدًا فِي مَا يَقُولُهُ: "بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعًا لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي". إنْ قَرَأْتُمْ رَسائِلَ الرَّسُولِ بُولُسَ بِانْتِباهٍ، فَسَتَرَوْنَ أَنَّ دِيماسَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةٍ عَابِرَةٍ لِبُولُسَ، فَلَقَدْ تَمَّ ذِكْرُهُ فِي رِسالَتَيْنِ مِنْ رَسائِلِ بُولُسَ عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ. لَقَدْ كانَ أَحَدَ مُسَاعِدِي بُولُسَ، وَقَدْ رَافَقَهُ فِي رِحْلاتِهِ التَّبْشِيرِيَّةِ، وَوَقَفَ إِلَى جَانِبِهِ حِينَ كانَ بُولُسُ يُبَشِّرُ، وَعَايَنَ إِخْلاصَ الرَّسُولِ بُولُسَ، وَرَأَى كَيْفَ أَنَّ بُولُسَ عانَى بِشِدَّةٍ عَلَى يَدِ أَعْدائِهِ، وَكَيْفَ أَنَّ بُولُسَ بَقِيَ ثَابِتًا. حِينَ يَقُولُ بُولُسُ "قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَان"، كانَ دِيماسُ عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ. دِيماسُ رَأَى ذَلِكَ كُلَّهُ، لَكِنْ حِينَ دَقَّتْ ساعَةُ الْحَقِيقَةِ، قالَ بُولُسُ "دِيمَاس قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ". هَلْ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَتَخَيَّلُوا كَيْفَ شَعَرَ بُولُسُ حِينَ مَضَى دِيماسُ وَتَرَكَهُ فِي ذَلِكَ الْخَزَّانِ بِانْتِظارِ إِعْدامِهِ؟

ثُمَّ يُتابِعُ قَائِلًا إِنَّ الآخَرِينَ قَدْ تَرَكُوهُ... "وَكِرِيسْكِيسَ ذَهَبَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ. لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي". لُوقَا هُوَ الْوَحِيدُ، لُوقَا الَّذِي رَافَقَهُ فِي رِحْلاتِهِ التَّبْشِيرِيَّةِ، لُوقَا الَّذِي سَرَدَ أَحْدَاثَ خِدْمَةِ بُولُسَ فِي سِفْرِ أَعْمالِ الرُّسُلِ، كانَ لُوقَا وَفِيًّا لِبُولُسَ حَتَّى النِّهايَةِ. لَكِنَّهُ يُتَابِعُ قائِلًا "خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ". أَلَيْسَ الأَمْرُ مُذْهِلًا؟ كانَ بُولُسُ قَدْ طَرَدَ مَرْقُسَ مِنْ رِحْلاتِهِ التَّبْشِيرِيَّةِ. وَعَلى الرَّغْمِ مِنْ طَرْدِهِ إِيَّاهُ، لأنَّ مَرْقُسَ لَمْ يَكُنْ مُناسِبًا لِتِلْكَ الْخِدْمَةِ بِالذَّاتِ، كانَ لا يَزَالُ يَمْلِكُ الْكَثِيرَ مِنَ الأُمُورِ النَّافِعَةِ ليُسْهِمَ بِهَا فِي الْخِدْمَةِ الرَّسُولِيَّةِ. والآنَ فِي ساعَتِهِ الأَخِيرَةِ يَقُولُ بُولُسُ "خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ إِلَى هُنَا".

"أَمَّا تِيخِيكُسُ فَقَدْ أَرْسَلْتُهُ إِلَى أَفَسُسَ. اَلرِّدَاءَ الَّذِي تَرَكْتُهُ فِي تَرُواسَ عِنْدَ كَارْبُسَ، أَحْضِرْهُ". فَلَقَدْ كانَ بُولُسُ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ الزِّنْزَانَةِ الرَّطْبَةِ وَهْوَ يَشْعُرُ بِالْبَرْدِ، أَحْضِرْ رِدَائِي. "وَالْكُتُبَ أَيْضًا وَلاَ سِيَّمَا الرُّقُوقَ". ثَمَّةَ قِصَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَيْصَرٍ قَدِيمٍ يَمْلِكُ مَجْمُوعَةً قَيِّمَةً مِنَ الْكُتُبِ، وَهْوَ كَانَ هَارِبًا مِنَ الأَعْداءِ وَكانَ عَلَيْهِ الْقَفْزُ فِي النَّهْرِ واجْتِيازُهُ سِبَاحَةً. وَهْوَ كانَ يَرْتَدِي ثِيابًا مُلُوكِيَّةً فَخْمَةً، لَكِنَّهُ لَمْ يَكْتَرِثْ لَهَا، بَلْ تَمَسَّكَ بِكُتُبِهِ وغَاصَ فِي الْمَاءِ، وَحَمَلَ كُتُبَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ وَهْوَ يَشُقُّ طَرِيقَهُ عَبْرَ الْقَناةِ، فَتَمَزَّقَتْ ثِيابُهُ، لَكِنَّهُ أَنْقَذَ كُتُبَهُ. وَاشْتَهَرَ بِكَوْنِهِ إِمْبْراطُورًا أَحَبَّ التَّعَلُّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَخامَةِ مَلابِسِهِ. ها إِنَّ الرَّسُولَ بُولُسَ يَقُولُ وَهْوَ عَلَى وَشَكِ الْمَوْتِ "أَحْضِرْ رُقُوقِي، أُرِيدُ الْكَلِمَةَ".

"إِسْكَنْدَرُ النَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُورًا كَثِيرَةً. لِيُجَازِهِ الرَّبُّ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. فَاحْتَفِظْ مِنْهُ أَنْتَ أَيْضًا".  ثُمَّ قالَ "فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ". لَكِنِ اسْمَعُوا الآنَ ما يَقُولُهُ بُولُسُ "وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي الْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ الأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ الأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ السَّماوِيِّ. الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ". الْكُلُّ تَرَكَنِي، الْكُلُّ هَرَبَ فِي احْتِجاجِي الأَوَّلِ، إِلَّا يَسُوعَ. لَقَدْ كانَ هُناكَ، كانَ مَعِي مِثْلَمَا وَعَدَ بِأَنْ يَفْعَلَ، كَانَ وَفِيًّا وَقَوَّاني. وَالآنَ انْتَقَلَ بُولُسُ مِنْ إِحْباطِهِ، إِذَا جازَ التَّعْبِيرُ، إِلَى حَالَةِ تَمْجِيدٍ وَشُكْرٍ، حَيْثُ بَدَأَ يُسَبِّحُ مَجْدَ رَبِّهِ الَّذِي قَوَّاهُ، الَّذِي وَعَدَ بِأَلَّا يَتْرُكَهُ، وَالَّذِي سَيَكُونُ مَعَهُ وَيُدْخِلَهُ إِلَى مَلَكُوتِهِ الأَبَدِيِّ. وَمَا قَوَّى الرَّسُولَ بُولُسَ خِلالَ حَياتِهِ، هِيَ ثِقَتُهُ الْكامِلَةُ بِمَحَبَّةِ الْمَسِيحِ الْوَفِيَّةِ، الْمَحَبَّةِ الَّتِي لا تُفارِقُهُ.

الآن، لَقَدْ مَرَّ الْمَسِيحُ فِي الاخْتِبارِ نَفْسِهِ، الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ بُولُسُ بِطَرِيقَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، فِي آخَرِ أَيَّامِهِ. إِنْ رَجَعْنَا إلى الأَصْحاحِ 14 مِنْ إِنْجِيلِ مَرْقُسَ، فَإِنَّنَا نَرَى يَسُوعَ يَدْخُلُ مَرْحَلَةَ الآلامِ فِي بُسْتَانِ جَثْسَيْمانِي، حِينَ يَتَحاجَجُ مَعَ الآبِ بِشَأْنِ الْكَأْسِ الْمَوْضُوعَةِ أَمامَهُ، كَأْسِ الدَّيْنُونَةِ الإِلَهِيَّةِ. وَالْتَمَسَ مِنَ الآبِ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْكَأْسَ تَعْبُرُ عَنْهُ. وَجَمَعَ أَصْدِقاءَهُ الْمُقَرَّبِينَ، وَتَلامِيذَهُ، وَقالَ "اسْهَرُوا مَعِي". وَدَعاهُمْ لِلْمَجِيءِ وَالْبَقاءِ مَعَهُ بَيْنَمَا يَخْتَبِرُ عَذَابَ الصِّراعِ فِي جَثْسَيْمانِي. وَنَقْرَأُ مَا يَلِي، في الآيَةِ 32 مِنَ الأصْحَاحِ 14 مِنْ إِنْجِيلِ مَرْقُسَ: "وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «اجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: "نَفْسِي..." إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ يَقُولُ ذَلِكَ لأَصْدِقائِهِ الْمُقَرَّبِينَ... «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! امْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَامًا". طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَسْهَرُوا، لَكِنَّهُمْ نَامُوا أَثْناءَ السَّهَرِ. "فَقَالَ لِبُطْرُسَ «يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ».

وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى قَائِلًا ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ". أَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تَتَخَيَّلُوا الإِحْراجَ الْكَبِيرَ وَالإِذْلالَ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ وَوَجَدَ سِمْعَانَ بُطْرُسَ نَائِمًا؟ فَأَيْقَظَهُ قَائِلًا "يا بُطْرُسُ، هَلْ أَنْتَ نَائِمٌ؟ أَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَسْهَرَ مَعِي ساعَةً وَاحِدةً؟ أَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تَتَخَيَّلُوا كَمْ شَعَرَ بُطْرُسُ بِالذَّنْبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ فَاسْتَيْقَظَ بِسُرْعَةٍ، وَقَالَ "لَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ أَبَدًا. مُجَدَّدًا يَا رَبُّ يُمْكِنُكَ الاعْتِمادُ عَلَيَّ، وَأَنَا سَأَسْهَرُ". "ثُمَّ رَجَعَ (يَسُوعُ) وَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا لِنَذْهَبَ، (فَلْنَنْطَلِقْ). هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ!» وأَشَارَ إِلَى اقْتِرابِ يَهُوذَا، الَّذِي وَفي عَمَلِ الْخِيانَةِ النِّهائِيِّ، سَيُعْطِي يَسُوعَ قُبْلَةَ الْمَوْتِ.

وتَعْرِفُونَ بَاقِي الْقِصَّةِ. كَيْفَ أَنَّهُ حِينَ تَمَّ تَوْقِيفُ يَسُوعَ وَنَقْلُهُ إِلَى قَاعَةِ الْمَحْكَمَةِ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِيلاطُسُ، التَّلامِيذُ الَّذِينَ كانُوا قَدْ هَرَبُوا وَتَرَكُوهُ، تَبِعُوهُ عَنْ بُعْدٍ آمِنٍ، كانَ الْمَسَاءُ بارِدًا، ثُمَّ وَجَدُوا بَعْضَ الْجَوارِي كُنَّ قَدْ تَجَمَّعْنَ خَارِجًا حَوْلَ النَّارِ وَجِئْنَ لِيَتَدَفَّأْنَ أَمامَ النَّارِ، وَسَمِعَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ بُطْرُسَ يُكَلِّمُ أَصْدِقاءَهُ وَمَيَّزَتْ لَهْجَتَهُ، فَعَلِمَتْ أَنَّهُ مِنَ الْجَلِيلِ. فَقَالَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ لِبُطْرُسَ، وَهْيَ لَمْ تَكُنْ مِنَ الضُّبَّاطِ أَوِ الْمَسْؤُولِينَ، قالَتْ "هَلْ أَنْتَ مَعَ الْجَلِيلِي؟" "لَيْسَ أَنَا." لَقَدْ أَنْكَرَ الْمَسِيحَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ عَلَنًا. وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لَعَنَ وَحَلَفَ "لَمْ أَعْرِفْ يَوْمًا ذَلِكَ الرَّجُلَ الْبَائِسَ. لا تَرْبُطُونِي بِه". وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي أَنْكَرَ فِيهَا يَسُوعَ، فَجْأَةً ظَهَرَ يَسُوعُ وَهْوَ يَعْبُرُ فِي السَّاحَةِ، وَيَقُولُ لَنَا الْكِتابُ الْمُقَدَّسُ إِنَّ عَيْنَيْهِ وَقَعَتا عَلَى بُطْرُسَ. لا أَظُنُّ أَنَّهُ فِي تارِيخِ الْعالَمِ تَمَّ لِقاءٌ أَكْثَرُ إِيلامًا لِلْعُيُونِ مِمَّا جَرَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَيْنَ يَسُوعَ وَبُطْرُسَ. لَمْ يَقُلْ يَسُوعُ شَيْئًا، بَلِ اكْتَفَى بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، فَانْهارَ بُطْرُسُ. مِنَ الْجَيِّدِ طَبْعًا أَنَّ بُطْرُسَ تَابَ وعادَ إِلَى صَوَابِهِ، وَسَلَكَ بِحَسَبِ لَقَبِهِ، أَيِ الصَّخْرَةِ. لَكِنْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ تَكُنِ الصَّخْرَةُ سِوَى رِمالٍ مُغَرْبَلَةٍ، لأَنَّهُ أحَبَّ الْعَالَمَ الْحاضِرَ أَكْثَرَ مِنْ مُخَلِّصِهِ.

لَكِنْ إنْ أَرَدْتُمُ التَّكَلُّمَ عَنِ الْخِيانَةِ، فَإِنَّ أَسْوَأَ اخْتِبارِ خِيانَةٍ وَشُعورٍ بِالْغَدْرِ كانَ عَلَى الصَّلِيبِ، حِينَ أَعْطَى اللهُ تِلْكَ الْكَأْسَ لابْنِهِ الْحَبِيبِ لِيَشْرَبَهَا، وَأَدارَ لَهُ ظَهْرَهُ، وَأَرْسَلَ الْمَسِيحَ إِلَى الْجَحِيمِ عَلَى الصَّلِيبِ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ كامِلَ اللَّعْنَةِ. وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الرَّهِيبَةِ صَرَخَ الْمَسِيحُ مُتَعَذِّبًا "إِلَهِي، إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" إِنَّهُ لَأَمْرٌ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكًا مِنْ بُطْرُسَ، وَهْوَ أَمْرٌ آخَرُ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكًا مِنْ دِيماسَ، لَكِنْ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكًا مِنَ اللهِ؟ لَكِنْ بِالطَّبْعِ، كانَ يَسُوعُ عَلَى عِلْمٍ بِمَا يُوجَدُ فِي تِلْكَ الْكَأْسِ. عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أَرادَ تَتْمِيمَ مُخَطَّطِ الْفِداءِ، فَلا بُدَّ للآبِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ عِقَابَ الْخَطِيَّةِ، لأَنَّ الْعِقابَ النِّهائِيَّ لِلْخَطِيَّةِ يَقْضِي بِانْفِصالِ اللهِ عَنِ الْخَاطِئِ.

قَرَأْنَا فِي الأصْحَاحِ 53 مِنْ إِشَعْيَاءَ "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ". يَكادُ الأَمْرُ يَبْدُو وَحْشِيًّا، أَنْ يُسَرَّ الرَّبُّ بِسَحْقِ الْخَادِمِ. لَكِنَّ السُّرُورَ الْمَقْصُودَ هُنَا لا يَعْنِي أَنَّ الآبَ سُرَّ بِأَلَمِ الابْنِ بِهَدَفِ رُؤْيَةِ الابْنِ يَتَأَلَّمُ، لَكِنَّ الآبَ سُرَّ بِأَنْ يَضْرِبَ الابْنَ لأَجْلِكَ وَلِأَجْلِي. بِدَافِعِ الْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا الآبُ بِهَا، وَالْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا الابْنُ بِهَا، كانَ عَلَى الابْنِ أَنْ يُضْرَبَ مِنَ الآبِ، وَأَنْ يُسَحَقَ عَلَى يَدِهِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَلَقَّى اللَّعْنَةَ، كانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ مَتْرُوكًا. لَكِنْ لاحِظُوا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نِهايَةَ الْقِصَّةِ. اجْتَازَ يَسُوعُ عَمَلِيَّةَ التَّرْكِ الَّتِي لَدَيْهَا مَرْحَلَةٌ نِهَائِيَّةٌ، أَخِيرًا قالَ "قَدْ أُكْمِلَ. فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي". لأَنَّهُ عَرَفَ مَحَبَّةَ الآبِ الْوَفِيَّةَ. هَذَا مَا يَعْنِيهِ أَنْ تَكُونَ مَحْبُوبًا مِنَ اللهِ، فَهْوَ لَنْ يَتْرُكَ شَعْبَهُ أَبَدًا فِي النِّهايَةِ.