المحاضرة 24: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ

"بدون المسيح، بدون رجاء"، نستمد هذا التصريح من كاتب سفر الجامعة، "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ". في هذا الجزء من السلسلة يتحدث د. سبرول عن المعنى المقصود من هذه الآية في العهد القديم، بشكل رئيسي — أنه إذا لم يكن هناك إله، إذن، بالطبع، ما نواجهه هو باطل الأباطيل.

بَيْنَمَا نُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِعِلْمِ الدِّفَاعِ عَنْ إِيمَانِنَا - أَيْ عَلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ - تَذْكُرُونَ أَنَّنِي تَنَاوَلْتُ فِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ، بِإِيجَازٍ، الْحُجَّةَ الْأَخْلَاقِيَّةَ الْمُؤَيِّدَةَ لِوُجُودِ اللَّهِ، الَّتِي قَدَّمَهَا الْفَيْلَسُوفُ إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ. وَذَكَرْتُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَنْظُورٍ عَمَلِيٍّ، مُسْتَنْتِجًا أَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَعِيشَ كَمَا لَوْ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ. كَانَ كَانْطْ، مِنْ مَنْظُورٍ مَنْطِقِيٍّ، وَعِلْمِيٍّ، وَنَظَرِيٍّ، لَا أَدْرِيًّا، فَقَالَ إِنَّنَا، بِأَسَالِيبِنَا الطَّبِيعِيَّةِ لِلْبَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ، لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ بِوُجُودِ إِلَهٍ. وَإِنَّمَا لِأَغْرَاضٍ عَمَلِيَّةٍ، يَجِبُ أَنْ نُسَلِّمَ بِوُجُودِ إِلَهٍ، كَيْ يَكُونَ لِلْحَيَاةِ مَعْنًى، وَكَيْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَمَعِ مُمْكِنًا. وَنَظَرْنَا إِلَى صِيَاغَتِهِ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، انْطِلَاقًا مِنْ وَعْيِهِ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ الْحَتْمِيَّةِ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَشَرُ حَوْلَ الْعَالَمِ مَعًا.

وَفِي خِتَامِ تِلْكَ الْمُحَاضَرَةِ، ذَكَرْتُ أَنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ فِي الْمَجَالِ الْفَلْسَفِيِّ وَافَقُوا عَلَى اسْتِنْتَاجِ كَانْطْ بِأَنَّنَا يَنْبَغِي أَنْ نَعِيشَ كَمَا لَوْ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُمْ بِالسَّاخِرِينَ أَوْ الشُّكُوكِيِّينَ الْأَقْوِيَاءِ، فَقَالُوا: "مُجَرَّدُ كَوْنِ الْبَدَائِلِ الْأُخْرَى لِوُجُودِ اللَّهِ غَيْرَ جَذَّابَةٍ لَيْسَ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ. فَهَذَا أَشْبَهُ بِسِينَارْيُو أَلِيسْ فِي بِلَادِ اَلْعَجَائِبِ، حَيْثُ تَأْخُذُ نَفَسًا عَمِيقًا، وَتُغْمِضُ عَيْنَيْكَ، وَتَرْجُو بِكُلِّ مَا فِيكَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَيَاةِ مَعْنًى وَأَهَمِّيَّةٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مَوْجُودًا بِالْأَعْلَى لِيُجْرِيَ الْعَدْلَ فِي النِّهَايَةِ، جَاعِلًا مِنْ ذَلِكَ أَسَاسًا لِإِيمَانِكَ".

دَعُونِي أَقُولُ مَا يَلِي قَبْلَ أَنْ نُتَابِعَ: فِي تَارِيخِ الْفَلْسَفَةِ وَالْفِكْرِ النَّظَرِيِّ، أَعْتَقِدُ أَنَّنَا نَسْتَطِيعُ قَطْعًا رَصْدَ أَلْفِ فَلْسَفَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى الْأَقَلِّ - مِنْهَا نَظَرِيَّاتٌ فَلْسَفِيَّةٌ، وَحَرَكَاتٌ فَلْسَفِيَّةٌ، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنَّ هَذِهِ النُّظُمَ الْفَلْسَفِيَّةَ تَتْبَعُ تَسَلْسُلًا. فَهِيَ تَقَعُ فِي مَكَانٍ مَا بَيْنَ قُطْبَيْنِ أَوْ طَرَفَيْ نَقِيضٍ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا أُسَمِّيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُتَكَامِلِ بِوُجُودِ اللَّهِ. وَالطَّرَفُ الْآخَرُ هُوَ الْعَدَمِيَّةُ. وَالْعَدَمِيَّةُ لَا تَعْنِي فَقَطْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَهٌ، لَكِنَّهَا تَذْهَبُ مِنْ هَذَا الِاسْتِنْتَاجِ أَيْضًا إِلَى فِكْرَةِ عَدَمِ وُجُودِ مَعْنًى، أَوْ أَهَمِّيَّةٍ، أَوْ هَدَفٍ لِلْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ. وَكُلُّ اَلْفَلْسَفَاتِ تَقَعُ فِي مَكَانٍ مَا عَلَى هَذَا الْخَطِّ، بَيْنَ هَذَيْنِ الْقُطْبَيْنِ.

إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَى الْمَسِيحِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ - وَالْيَهُودِيَّةِ أَيْضًا - وَرَجَعْتُمْ إِلَى أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، سَتُلَاحِظُونَ أَنَّ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ صَارَعَتْ مَعَ هَذَيْنِ الْمَوْقِفَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا فِي سِفْرِ الْجَامِعَةِ، حَيْثُ عُرِضَ مَنْظُورَانِ مُخْتَلِفَانِ. لَدَيْنَا الْحَيَاةُ مِثْلَمَا تُعَاشُ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَالْحَيَاةُ مِثْلَمَا تُعَاشُ تَحْتَ السَّمَاءِ. وَإِذَا أَمْكَنَنِي تَرْجَمَةُ ذَلِكَ إِلَى اللُّغَةِ الْحَدِيثَةِ، سَنَعُودُ إِلَى كَانْطْ، وَإِلَى نَقْدِهِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعَالَمِ النَّوْمِينِيِّ - أَيْ عَالَمِ اللَّهِ - وَالْعَالَمِ الظَّاهِرِيِّ - أَيِ الْعَالَمِ الَّذِي نُعَايِنُ فِيهِ الْأَشْيَاءَ عِلْمِيًّا بِحَوَاسِّنَا. وَرَأَى الْجِدَارَ الْفَاصِلَ بَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ وَالْعَالَمِ الْمُتَسَامِي.

إِذَا تَنَاوَلْنَا نَظَرِيَّةَ كَانْطْ، ثُمَّ عُدْنَا لِتَطْبِيقِهَا عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْعَالَمِ النُّوْمِينِيِّ وَالْعَالَمِ الظَّاهِرِيِّ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَيَاةِ تَحْتَ السَّمَاءِ، أَيِ الْعَالَمِ النُّوْمِينِيِّ، وَالْحَيَاةِ تَحْتَ الشَّمْسِ، أَيِ الْعَالَمِ الظَّاهِرِيِّ. وَجَوْهَرُ الصِّرَاعِ الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ الْجَامِعَةُ فِي السِفْرِ هُوَ أَنَّ الْحَيَاةَ تَحْتَ الشَّمْسِ تَنْتَهِي فِي النِّهَايَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَهٌ - أَيْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَيَاةٌ تَحْتَ السَّمَاءِ- بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ قَاصِرَةً عَلَى هَذَا الْجَانِبِ، تَحْتَ الشَّمْسِ، أَيْ عَلَى الْعَالَمِ الظَّاهِرِيِّ، فَالِاسْتِنْتَاجُ الَّذِي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ فَيْلَسُوفُ ذَلِكَ الْعَصْرِ تَجَلَّى فِي عِبَارَةِ "بَاطِلُ الْأَبَاطِيلِ الْكُلُّ بَاطِلٌ".

تَعْبِيرُ "بَاطِلِ الْأَبَاطِيلِ" هُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعْظِيمِ الْمَسِيحِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، عِنْدَ وَصْفِهِ بِالْمَلِكِ. وَمَاذَا دُعِيَ؟ مُلْكَ الْمُلُوكِ وَرَبَّ الْأَرْبَابِ. هَذَا أُسْلُوبٌ عِبْرِيٌّ نَقُولُ بِهِ: "الْمَلِكُ الْأَعْلَى، وَالرَّبُّ الْأَعْلَى"، لِأَنَّهُ مَلْكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الْأَرْبَابِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَعْبِيرِ "بَاطِلِ الْأَبَاطِيلِ". فَإِنَّهَا لَمُبَالَغَةٌ أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّ الْكُلَّ بَاطِلٌ.

الْمَقْصُودُ بِكَلِمَةِ "vanity" هُنَا لَيْسَ كِبْرِيَاءَ أَحَدِهِمْ، حِينَ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ مَغْرُورٌ (vain) وَنَرْجِسِيٌّ، لِأَنَّهُ يَجْلِسُ لِلتَّزَيُّنِ فِي غُرْفَةِ وَضْعِ مُسْتَحْضَرَاتِ التَّجْمِيلِ، وَيَضَعُ كُلَّ مُسْتَحْضَرَاتِ التَّجْمِيلِ، لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ جِدًّا. لَيْسَ هَذَا مَعْنَى أَوْ دَلَالَةَ كَلِمَةِ vanity هُنَا. فَالْكَلِمَةُ مُرَادِفَةٌ لِلْعَبَثِ. إِذَنْ، مَا الَّذِي يَقْصِدُهُ كَاتِبُ سِفْرِ الْجَامِعَةِ؟ أَنَّهُ مِنْ زَاوِيَةِ الْعَالَمِ الظَّاهِرِيِّ، دُونَ وُجُودِ إِلَهٍ، مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ مَا سَنُوَاجِهُهُ فِي النِّهَايَةِ هُوَ عَبَثُ الْعَبَثِ. فَكُلُّ مَا نَفْعَلُهُ عَبَثٌ. وَنَحْنُ مَسْجُونُونَ فِي دَائِرَةٍ، وَحَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، بِلَا بِدَايَةٍ، أَوْ هَدَفٍ، أَوْ مَعْنًى، أَوْ غَايَةٍ مُهِمَّةٍ. فَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغِيبُ. ثُمَّ كَمَا قَالَ هِيمِنْجْوَايْ، الشَّمْسُ تُشْرِقُ مِنْ جَدِيدٍ وَتَغِيبُ مِنْ جَدِيدٍ، وَلَا تَذْهَبُ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ. هَذِهِ هِيَ الْفَلْسَفَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْعَدَمِيَّةِ. "فَالْحَيَاةُ مُمَثِّلٌ رَدِيءٌ يَتَبَخْتَرُ، وَيُؤَدِّي دَوْرَهُ سَاعَةً عَلَى الْمَسْرَحِ، ثُمَّ لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ فِيمَا بَعْدُ". وَهِيَ "قِصَّةٌ يَرْوِيهَا أَحْمَقُ، مَلِيئَةٌ بِالضَّجِيجِ وَالْحَنَقِ، وَلَا تَعْنِي شَيْئًا"، أَيْ إِنَّهَا عَدَمِيَّةٌ وَبِلَا مَعْنًى.

قِلَّةٌ هُمُ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَتَمَادَوْنَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. فَمُعْظَمُ الْفَلَاسِفَةِ عَبْرَ التَّارِيخِ الَّذِينَ رَفَضُوا الْإِيمَانَ الْمُتَكَامِلَ بِوُجُودِ اللَّهِ حَاوَلُوا اخْتِرَاعَ نَظْرَةٍ إِلَى الْعَالَمِ، أَوْ نِظَامٍ فَلْسَفِيٍّ، يَقَعُ في مَكَانٍ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقُطْبَيْنِ. لَكِنْ مِنْ نَاحِيَةٍ، أَيْنَمَا وَجَدْتَ نَفْسَكَ عَلَى الْخَطِّ، سَتَقْتَبِسُ أَفْكَارًا مِنْ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ أَوْ الْآخَرِ. لَطَالَمَا قِيلَ عَنِ الْحَرَكَةِ الْإِنْسَانَوِيَّةِ، الشَّهِيرَةِ لِلْغَايَةِ، إِنَّهَا فِي النِّهَايَةِ قِمَّةٌ فِي السَّذَاجَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَوِيَّ يُخْبِرُنَا بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَهٌ، وَبِأَنَّنَا أَتَيْنَا مِنَ الْعَدَمِ، أَوْ بِالْمُصَادَفَةِ، مِنْ حَدَثٍ بِلَا مَعْنًى؛ وَبِأَنَّ حَيَاتَنَا مُتَّجِهَةٌ لَا مَحَالَةَ صَوْبَ الْفَنَاءِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ قُطْبَيْ الْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ هُمَا اللَّا مَعْنًى مِنْ حَيْثُ مَنْشَأُنَا، وَاللَّا مَعْنًى مِنْ حَيْثُ مَصِيرُنَا. وَمَعَ ذَلِكَ، يُكَافِحُ الْإِنْسَانَوِيُّ لِأَجْلِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَةِ الْإِنْسَانِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقُطْبَيْنِ. وَأَقُولُ دَائِمًا لِلْإِنْسَانَوِيِّ: "إِنَّ كِلْتَا قَدَمَيْكَ مُثْبَتَتَانِ فِي الْهَوَاءِ. وَكَمَا اِعْتَادَ فْرَنْسِيسْ شِيفَرْ أَنْ يَقُولَ، أَنْتَ عَلَى مَتْنِ قِطَارِ الْمَلَاهِي، دُونَ كَوَابِحَ، لِأَنَّكَ تُرِيدُ إِيجَادَ مَعْنًى بَيْنَ قُطْبَيْ اللَّا مَعْنَى. وَفِي النِّهَايَةِ، أَنْتَ تُعَلِّقُ آمَالَكَ عَلَى الْمَشَاعِرِ، وَفَقَطْ لَا تَتَحَلَّى بِالشَّجَاعَةِ لِلذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ يَقُودُكَ إِلْحَادُكَ، أَيْ نَحْوَ الْعَدَمِيَّةِ التَّامَّةِ".

هَذَا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِكَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ النُّظُمِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْقُطْبَيْنِ مِنَ الْقُطْبَيْنِ. فَلَا أَسَاسَ لِلْإِيمَانِ بِكَرَامَةِ الْإِنْسَانِ لَوْ كُنَّا حَوَادِثَ كَوْنِيَّةً. لَكِنَّ الْإِنْسَانَوِيِّينَ يُحَارِبُونَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَبِذَلِكَ، يَخْتَلِسُونَ مِنَ الْمَسِيحِيَّةِ، وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ-الْمَسِيحِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَرْفُضُونَ تَمَامًا مَصْدَرَ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ. هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي أُحَاوِلُ تَوْضِيحَهَا، وَهِيَ أَنَّهُ ثَمَّةَ مُسَاوَمَاتٌ بَيْنَ الْقُطْبَيْنِ.

أُحَاوِلُ الْآنَ تَقْدِيمَ الْخُطُوطِ الْعَرِيضَةِ، وَتَبْسِيطَ الْأَمْرِ بِأَقَلِّ حَدٍّ مُمْكِنٍ مِنَ التَّحْرِيفِ. لَكِنَّ هَذَا مَا رَآهُ كَانِطْ فِي حُجَّتِهِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَهَذَا مَا رَآهُ دُوسْتُويِفْسْكِي حِينَ قَالَ: "إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ هُنَا، يَكُونُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ مُحِقًّا فِي فَرْضِيَّتِهِ. تَذَكَّرُوا تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ: ‘بِدُونِ مَسِيحٍ، لَا رَجَاءَ لَكُمْ’. وَحِينَ كَتَبَ الرَّسُولُ بُولُسُ لِأَهْلِ كُورِنْثُوسَ قَالَ: ‘إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ’، وَإِنْ كَانَ ‘ٱلِذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلِمَسِيحٍ أَيْضًا هَلَكُوا، ... فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ’. فَإِنْ لَمْ يَرُقْ لَكُمْ أَنَّنَا مُؤْمِنُونَ، لَا تَغْضَبُوا مِنَّا، وَلَا تُعَادُونَا، بَلْ أَشْفِقُوا عَلَيْنَا. فَكِّرُوا فِي كُلِّ الْمَرَحِ الَّذِي فَاتَنَا، وَالَّذِي تَنْعَمُونَ بِهِ. فَإِنَّنَا نَجُولُ فِي الْأَنْحَاءِ، مُوَجِّهِينَ أَعْيُنَنَا بِسَذَاجَةٍ إِلَى اللَّهِ، وَمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ، إِلَى آخِرِهِ، بَيْنَمَا الْمَسِيحُ رَجُلٌ مَيِّتٌ. وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَرَّسْتُ حَيَاتِي لِرَجُلٍ مَيِّتٍ، فَيَا لَهَا مِنْ مَضْيَعَةٍ لِطَاقَتِي وَحَيَاتِي. وَإِنْ كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ مَعَ قَنَاعَاتِي، فَلَا تَغْضَبُوا مِنِّي، بَلْ أَشْفِقُوا عَلَيَّ". قَالَ بُولُسُ إِنَّنَا سَنَكُونُ مُثِيرِينَ لِلشَّفَقَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْكَ أَسَاسٌ تَبْنِي عَلَيْهِ ثِقَتَكَ فِي إِلَهِ الْكَوْنِ، فَلَا أَسَاسَ لَدَيْكَ لِأَيِّ رَجَاءٍ، وَسَيَؤُولُ بِكَ الْأَمْرُ إِلَى الْيَأْسِ.

لَمْ يَصِلْ كَانْطْ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ، بَلْ قَالَ إِنَّ نَسِيجَ بَشَرِيَّتِنَا بِرُمَّتِهِ، وَكُلَّ عَظْمَةٍ فِي أَجْسَادِنَا تَصْرُخُ إِلَيْنَا، مُنْذُ اللَّحْظَةِ الْأُولَى الَّتِي نَعِي فِيهَا مَا حَوْلَنَا، بِأَنَّ حَيَاتَنَا مُهِمَّةٌ، وَبِأَنَّ لِحَيَاتِنَا مَعْنًى، وَبِأَنَّ التَّعَبَ الَّذِي نَتْعَبُهُ - أَيِ الْعَرْقَ، وَالدَّمَ، وَالدُّمُوعَ الْمُنْهَمِرَةَ بِسَبَبِ آلَامِنَا - لِكُلِّ ذَلِكَ مَعْنًى. وَإِذَا اعْتَقَدْنَا عَكْسَ ذَلِكَ، فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَضَعَ حَدًّا لِهَذَا التَّعَبِ، وَنَضَعَ نِهَايَةً لِبُؤْسِنَا. إِلَى هَذَا الْحَدِّ وَصَلَتِ الْفَلْسَفَةُ. أَلْبِيرْ كَامُو، الْفَيْلَسُوفُ الْوُجُودِيُّ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، تَوَصَّلَ إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْجَادَّ الْوَحِيدَ الَّذِي يَتَبَقَّى عَلَى الْفَلَاسِفَةِ أَنْ يُفَكِّرُوا فِيهِ هُوَ الِانْتِحَارُ. وَيَقْصِدُ كَامُو بِبَسَاطَةٍ أَنَّكَ إِذَا تَنَبَّهْتَ إِلَى حَقِيقَةِ عَدَمِ وُجُودِ إِلَهٍ، وَعَدَمِ وُجُودِ مُطْلَقَاتٍ، سَتُدْرِكُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَعْنًى مُطْلَقٌ. قَدْ يَرُوقُ لَكَ الْأَمْرُ لِبَعْضِ الْوَقْتِ. فَقَدْ تُسْعِدُكَ الْعُطْلَةُ الْمَدْرَسِيَّةُ، وَأَلَّا يَرْمُقَكَ الْمُعَلِّمُونَ بِنَظَرَاتِهِمْ الِانْتِقَادِيَّةِ بَعْدَ الْيَوْمِ، إِلَى آخِرِهِ. فَلَدَيْنَا عُطْلَةٌ مِنْ إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ سَيُحَاسِبُنَا عَلَى كُلِّ أَفْعَالِنَا. وَحِينَ نَكْتَشِفُ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، نَقْفِزُ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْتَفِلُ قَائِلِينَ: "أَنَا حُرٌّ. حَمْدًا لِلَّهِ. أَنَا حُرٌّ. أَسْتَطِيعُ فِعْلَ مَا يَحْلُو لِي. يُمْكِنُنِي أَنْ أَعِيشَ بِطَرِيقَتِي". يَبْدُو ذَلِكَ رَائِعًا إِلَى أَنْ تَرَاهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَتُدْرِكَ ثَمَنَهُ. وَهَذَا مَا قَالَهُ كَامُو. فَمَثَلًا، لَوْ كُنْتَ لَنْ تُحَاسَبَ فِي النِّهَايَةِ، فَمِنَ السَّهْلِ أَنْ تُدْرِكَ أَنَّكَ فِي النِّهَايَةِ بِلَا قِيمَةٍ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ بِلَا أَهَمِّيَّةٍ. وَإِذَا فَكَّرْتَ فِي الْأَمْرِ مَلِيًّا، سَتُدْرِكُ سَبَبَ قَوْلِ كَامُو إِنَّ الْأَمْرَ الْوَحِيدَ الْمُتَبَقِّيَ هُوَ الِانْتِحَارُ.

لِهَذَا، جَانْ بُولْ سَارْتَرْ، فِي كِتَابِهِ الصَّغِيرِ بِعُنْوَانِ "الْغَثَيَانُ" - وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْكِتَابِ عُنْوَانَ "الْغَثَيَانُ" لِأَنَّ هَذَا كَانَ تَعْلِيقَهُ النِّهَائِيَّ عَلَى حَالَةِ الْإِنْسَانِ. وَقَدْ عَرَّفَ الْإِنْسَانَ بِأَنَّهُ عَاطِفَةٌ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ. هَذَا مَفْهُومٌ مُفْعَمٌ بِالْمَعَانِي بِالنِّسْبَةِ لِسَارْتَرْ، لِأَنَّ سَارْتَرْ لَاحَظَ أَنَّنَا نَحْنُ الْبَشَرَ لَسْنَا آلَاتٍ، أَوْ أُنَاسًا آلِيِّينَ، أَوْ أَشْيَاءَ خَامِلَةً. لَكِنَّنَا بَشَرٌ نَعِيشُ، وَنَتَنَفَّسُ، وَنُفَكِّرُ، وَنَخْتَارُ، وَنَهْتَمُّ. فَالْحَيَاةُ الْبَشَرِيَّةُ حَيَاةُ اهْتِمَامٍ. وَالْحَيَاةُ الْبَشَرِيَّةُ حَيَاةٌ عَاطِفِيَّةٌ. وَمَاذَا لَوْ كَانَتْ كُلُّ الْأُمُورِ الَّتِي تُحِبُّهَا، وَتَكْتَرِثُ بِهَا، عَدِيمَةَ الْقِيمَةِ؟ مَاذَا لَوْ كَانَتْ كُلُّ الْأُمُورِ الَّتِي تَهْتَمُّ بِهَا وَتُحِبُّهَا بِلَا مَعْنًى؟ عِنْدَئِذٍ، تَكُونُ مَشَاعِرُكَ وَرَغَبَاتُك بَاطِلَةً. هَذَا مَا قَالَهُ سَارْتَرْ. فَإِنَّكَ عَاطِفَةٌ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ. فَكُلُّ اهْتِمَامَاتِكَ تَؤُولُ إِلَى لَا شَيْءَ.

هَذَا مَا أَرَادَ نِيتْشِهْ الْوُصُولَ إِلَيْهِ بِعَرْضِ مَفْهُومِهِ عَنِ الْعَدَمِيَّةِ، بَعْدَ كَانْطْ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، الْفَلَاسِفَةُ الْوُجُودِيُّونَ - الْفَلَاسِفَةُ الْوُجُودِيُّونَ الْمُلْحِدُونَ، أَيِ الْعَدَمِيُّونَ - قَالُوا الْآتِي: "إِذَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ، فَلَا يَكْفِي أَنْ نَبْنِيَ إِيمَانَنَا عَلَى أَمَلٍ فِي وُجُودِ أَحَدِهِمْ فِي مَكَانٍ مَا فِي السَّمَاءِ. فَلَوْ دَلَّتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى النَّقِيضِ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا حَقًّا أَنَّ الْحَيَاةَ انْبَثَقَتْ دُونَ مُبَرِّرٍ مِنَ الطِّينِ، فَيَجِبُ أَنْ نَتَحَلَّى بِالشَّجَاعَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ لِنُوَاجِهَ النَّتَائِجَ النِّهَائِيَّةَ الْكَئِيبَةَ، وَنُحَدِّقَ فِيهَا مُبَاشَرَةً قَائِلِينَ: ‘حَسَنًا، أَنْتَ عَلَى حَقٍّ. أَنَا مِنَ الطِّينِ وَإِلَى الطِّينِ أَعُودُ. أَنَا جُرْثُومَةٌ كَبِيرَةٌ فَوْقَ تُرْسٍ وَاحِدٍ لِعَجَلَةٍ كَوْنِيَّةٍ ضَخْمَةٍ تَدُورُ مُتَّجِهَةً صَوْبَ الْعَدَمِ. هَذَا وَاقِعِيٌّ وَيَجِبُ أَنْ أُوَاجِهَهُ، وَلَنْ أَلْجَأَ إِلَى الدِّينِ لِلْهُرُوبِ مِنْهُ’".

لَاحِظُوا أَنَّ الْعَاطِفَةَ الَّتِي تُحَرِّكُ الثَّقَافَةَ الْمُعَاصِرَةَ هِيَ الْهُرُوبُ، بِاتِّبَاعِ مَذْهَبِ الْبَحْثِ عَنِ الْمُتْعَةِ. وَفَلْسَفَةُ الْبَحْثِ عَنِ الْمُتْعَةِ بِرُمَّتِهَا تَقُولُ إِنَّنَا نَجِدُ الْمَعْنَى مِنْ خِلَالِ الْمُتْعَةِ. ضَاعِفْ مُتْعَتَكَ، وَسَيَتَنَاقَصُ أَلَمُكَ. هَذِهِ فَلْسَفَةُ تِيمُوثِي لِيرِي - زِدْ مِنْ وَعْيِكَ الدَّاخِلِيِّ، وَانْسَجِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ، وَانْفَصِلْ عَنْ وَاجِبَاتِكَ. فَلْنَحْتَفِلْ وَنَنْثُرِ الْوُرُودَ، وَنَنْطَلِقْ فِي رِحْلَةٍ إِلَى أَرْضِ الْأَحْلَامِ، حَيْثُ لَا نُضْطَرُّ بَعْدُ لِلتَّفْكِيرِ. هَذَا هُرُوبٌ مِنَ الْأَلَمِ، وَمِنَ التَّفْكِيرِ فِيمَا تُخْبِرُنَا بِهِ الْأَغَانِي الشَّهِيرَةُ، وَالْأَفْلَامُ، وَآبَاءُ الْعِلْمِ، أَنَّنَا وُحُوشٌ فِي ثِيَابِ بَشَرٍ، بِلَا أَهَمِّيَّةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ يُبَوَّقُ بِهَا فِي آذَانِ الْأَوْلَادِ مِرَارًا، وَلِهَذَا يَطْرُدُونَهَا عَنْهُمْ بِصَوْتِ الْمُوسِيقَى، أَوِ الْمُخَدِّرَاتِ، أَوْ أَيَّةِ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْإِدْمَانِ، كَوَسِيلَةِ هُرُوبٍ. قَالَ نِيتْشِهْ وَالْمُشَكِّكُونَ إِنَّ هَذَا لَيْسَ الْمُخَدِّرَ الْوَحِيدَ. فَالْمُخَدِّرُ الْأَسْمَى لِلْهُرُوبِ مِنَ الْعَدَمِيَّةِ، بِحَسَبِ مُلْحِدِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، هُوَ أَفْيُونُ الدِّينِ.

إِذَا كُنْتَ مُؤْمِنًا، فَإِنَّنِي عَلَى قَنَاعَةٍ بِأَنَّهُ فَقَطْ بَعْدَ إِيمَانِكَ بِأُسْبُوعَيْنِ قَالَ لَكَ أَحَدُهُمْ: "السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِكَوْنِكَ مُؤْمِنًا هُوَ أَنَّكَ تَسْتَخْدِمُ إيمَانَكَ عُكَّازًا. فَالْعُكَّازُ هُوَ شَيْءٌ تَسْتَخْدِمُهُ لِيُسَاعِدَكَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالتَّحَرُّكِ، فِيمَا أَنْتَ مُقْعَدٌ". هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْعُكَّازِ. وَنَحْنُ نُتَّهَمُ بِاسْتِخْدَامِ الدِّينِ كَعُكَّازٍ نَفْسِيٍّ، لِأَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْتَمِلَ الرِّسَالَةَ الَّتِي نَسْتَقْبِلُهَا مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَلِهَذَا نَلْجَأُ إِلَى الدِّينِ كَأَفْضَلِ وَسِيلَةٍ لِلْهُرُوبِ، وَأَنْسَبِ مُخَدِّرٍ، وَأَفْضَلِ عُكَّازٍ، مَا وَصَفَهُ مَارْكْسْ بِأَنَّهُ أَفْيُونُ الشُّعُوبِ، أَيِ الْمُخَدِّرُ الَّذِي يُخَدِّرُ حَوَاسَّنَا لِلتَّخْفِيفِ مِنْ آلَامِنَا. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، لَيْسَ الْمُتَدَيِّنُونَ سِوَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ مُعْتَنِقِي مَذْهَبِ الْبَحْثِ عَنِ الْمُتْعَةِ، يَبْحَثُونَ عَنْ مُتْعَتِهِمْ فِي الْهُرُوبِ مِنْ وَاقِعِ الْعَوَاطِفِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّعَبِ الْعَبَثِيِّ، وَالْمَوْتِ.

فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، حِينَ نَدْرُسُ أَفْكَارَ مُلْحِدِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، نُلَاحِظُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْذُلُوا جُهْدًا كَبِيرًا لِدَحْضِ وُجُودِ اللَّهِ، بَلْ كَانَ افْتِرَاضُهُمْ الْأَوَّلِيُّ هُوَ "لَا يُوجَدُ إِلَهٌ". وَالْمُشْكِلَةُ الْكُبْرَى الَّتِي كَانَ مَارْكْسْ، وَفُوِيرْبَاخْ، وَنِيتْشِهْ، وَسِيجْمُونْدْ فْرُويْدْ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَكِّرِينَ الْعَمَالِقَةِ وَالشُّكُوكِيِّينَ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، أَوْ السُّؤَالُ الْأَهَمُّ الَّذِي حَاوَلُوا الْإِجَابَةَ عَنْهُ هُوَ: "بِمَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَهٌ، لِمَ الْبَشَرُ مُتَدَيِّنُونَ عَلَى نَحْوٍ لَا شِفَاءَ مِنْهُ؟ لِمَ يُوصَفُ الْإِنْسَانُ فَقَطْ بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، بَلْ يُوصَفُ الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ بِأَنَّهُ مُتَدَيِّنٌ؟ فَأَيْنَمَا ذَهَبْنَا حَوْلَ الْعَالَمِ، نَجِدُ أَنَّ الْأَغْلَبِيَّةَ السَّاحِقَةَ مِنَ الْبَشَرِ مُنْخَرِطُونَ فِي نَشَاطٍ دِينِيٍّ مِنْ نَوْعٍ مَا. وَمِنَ الْمَنْظُورِ الْمَسِيحِيِّ، يُمْكِنُ لِتِلْكَ الدِّيَانَةِ أَنْ تَكُونَ وَثَنِيَّةً بِالْكَامِلِ، لَكِنَّهَا تَظَلُّ دِيَانَةً. وَبِالتَّالِي، الْجَوَابُ الْأَكْثَرُ شُيُوعًا الَّذِي قَدَّمَهُ أُنَاسٌ مِثْلُ مَارْكْسْ، وَفُوِيرْبَاخْ، وَفْرُويْدْ، وَغَيْرِهِمْ، هُوَ أَنَّ الظَّاهِرَةَ الَّتِي تُفَسِّرُ عُمُومِيَّةَ التَّدَيُّنِ هِيَ الْخَوْفُ النَّفْسِيُّ، أَيْ إِنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسِيَّ لِإِيمَانِ الْبَشَرِ بِاللَّهِ هُوَ خَوْفُهُمْ مِنْ عَوَاقِبِ عَدَمِ وُجُودِ إِلَهٍ. "السَّبَبُ الرَّئِيسِيُّ الَّذِي يَجْعَلُنَا نَخْلُقُ اللَّهَ عَلَى صُورَتِنَا"، حَسْبَمَا قَالَ فُوِيرْبَاخْ، "هُوَ أَنَّنَا نُدْرِكُ أَنَّهُ دُونَ إِلَهٍ، نَحْنُ ضَائِعُونَ، وَفِي حَالَةٍ مَيْؤُوسٍ مِنْهَا. وَنُصْبِحُ بِالْفِعْلِ عَاطِفَةً غَيْرَ مُجْدِيَةٍ. وَلَنْ نَسْتَطِيعَ تَحَمُّلَ كَآبَةِ الْعَدَمِيَّةِ". إِذَنْ، لِلْهُرُوبِ مِنَ الْعَدَمِيَّةِ، نَتَجَاوَزُ كُلَّ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْوَسَطِ، وَنَعْتَرِفُ بِوُجُودِ اللَّهِ كَمُخَدِّرٍ، لِتَخْدِيرِ حَوَاسِّنَا وَتَخْفِيفِ آلَامِنَا. إِذَنْ، كَانَتِ الْحُجَّةُ الْأُولَى ضِدَّ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ هِيَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِوُجُودِ اللَّهِ هُوَ نِتَاجُ احْتِيَاجٍ نَفْسِيٍّ لِأَشْخَاصٍ سَاذَجِينَ.

فِي الْمُحَاضَرَةِ الْقَادِمَةِ، سَأَدْرُسُ الْأَمْرَ مِنْ مَنْظُورٍ مَسِيحِيٍّ، لِنَرَى مَا إِذَا كَانَ الْعَكْسُ صَحِيحًا، أَوْ مَا إِذَا كَانَ يُمْكِنُ لِلْعُكَّازِ أَنْ يَصْلُحَ لِلْقَدَمِ الْأُخْرَى.