المحاضرة 15: إِثْبَاتُ وُجُودِ اللهِ

هل الله موجود؟ إذا كانت إجابتك نعم، فهل يمكنك إثبات ذلك؟ كثير من المسيحيين لا يعرفون من أين يبدأون ذلك. ينابع د. سبرول سلسلة "علم الدفاعيات" وينظر إلى بعض الأساليب المختلفة لعلم الدفاعيات، وكيف يحاول كل منها إظهار وجود الله، وهو يشرع في مهمة شاقة تتمثل في "إثبات وجود الله".

فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمَاضِيَةِ، تَحَدَّثْنَا بِاخْتِصَارٍ عَنْ لَحْظَةٍ فَاصِلَةٍ فِي تَارِيخِ الْفِكْرِ النَظَرِيِّ، حِينَ كَتَبَ إِيمَانُوِيل كَانْطْ كِتَابَهُ "نْقَدُ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ"، مُقَدِّمًا نَقْدًا شَامِلًا لِلْحُجَجِ التَقْلِيدِيَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللهِ. وَبَعْدَ نَقْدِ كَانْطْ، وَانْهِيَارِ التَوْفِيقِ الْكْلاسِيكِيِّ، وَاجَهَتِ الْكَنِيسَةُ السُؤالَ التَالِي: "كَيْفَ يُمْكِنُنَا الآنَ تَنَاوُلُ عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُنَا إِثْبَاتُ وُجُودِ اللهِ بِشَكْلٍ مَشْرُوعٍ دُونَ الْوُقُوعِ فِي الْمُشْكِلَاتِ الَتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَانْطْ؟" وَصَرَاحَةً، قُدِّمَتْ مَنْهَجِيَّاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لِتَناوُلِ الأَمْرِ.

إِحْدَى الْمَنْهَجِيَّاتِ الرَئِيسِيَّةِ هِيَ الَتِي عَرَّفْتُها بِالإِيمَانِيَّةِ، حَيْثُ يُحَاوِلُ النَاسُ الْوَثْبَ فَوْقَ الْهُوَّةِ، أَوِ الْقَفْزَ مِنْ فَوْقِ الْجِدَارِ، أَوِ الدَوَرَانَ حَوْلَهُ، أَوِ الْحَفْرَ أَسْفَلَهُ، بِالإِيمَانِ، قَائِلِينَ: "لا نَسْتَطِيعُ تَقْدِيمَ بَرَاهِينَ مُقْنِعَةٍ عَلَى وُجُودِ اللهِ، فَهَذَا أَمْرٌ عَلَيْكَ قَبُولُهُ بِالإِيمَانِ". وَهَذَا هُوَ الطَرِيقُ الَذِي اتَّبَعَهُ لَيْسَ فَقَطِ الْكَثِيرُ مِنَ اللاهُوتِيِّينَ، بَلِ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا قَالُوا لِلنَّاسِ، لَدَى إِبْدَائِهِمْ اعْتِرَاضَاتٍ عَلَى إِيمَانِهِمْ الشَخْصِي، قَائِلِينَ: "لِمَاذَا تُؤْمِنُونَ بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ؟" مُجِيبِينَ: "فَقَطْ عَلَيْكُمْ قَبُولُ الأَمْرِ بِالإِيمَانِ". بَلْ وَالْبَعْضُ تَمَادَوْا إِلَى حَدِّ الْقَوْلِ: "عَلَيْكُمُ الْقِيَامُ بِقَفْزَةِ إِيمَانٍ فِي الظَلامِ، رَاجِينَ أَنْ تَجِدُوا مَنْ يَلْتَقِطُكُمْ".

يُذَكِّرُنِي ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنَ الأَمْثِلَةِ الْمُفَضَّلَةِ لَدَيَّ الَتِي اعْتَدْتُ سَمَاعَهَا مِنْ جِيمْ بُوِيس، حَيْثُ رَوَى قِصَّةَ مُتَسلِّقِ جَبَالٍ، كَانَ أَعْلَى الْجَبَلِ عَلَى ارْتِفَاعِ أَلْفَيْ قَدَمٍ عَنِ السَفْحِ، ثُمَّ فَجْأَةً، انْقَطَعَ بِهِ الْحَبْلُ وَابْتَدَأَ يَسْقُطُ. فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِغُصْنٍ صَغِيرٍ كَانَ نَابِتًا بَيْنَ الصُخُورِ، فَتَمَسَّكَ بِهِ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى ارْتِفَاعِ أَلْفَيْ قَدَمٍ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ شَعَرَ بِأَنَّ الْغُصْنَ ابْتَدَأَ يَنْكَسِرُ عِنْدَ جَانِبِ الصَخْرَةِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَمَاءِ وَصَرَخَ: "هَلْ مِنْ أَحَدٍ بِالأَعْلَى يُمْكِنُ أَنْ يُسَاعِدَنِي؟" وَفَجْأَةً، سَمِعَ صَوْتًا عَمِيقًا بَيْنَ السُحُبِ يَقُولُ لَهُ: "يُمْكِنُنِي مُسَاعَدَتُكَ. ثِقْ بِي، وَأَفْلِتْ غُصْنَ الشَجَرَةِ، وَتَحَلَّ بِالإِيمَانِ". فَنَظَرَ مُتَسَلِّقُ الْجِبَالِ إِلَى أَعْلَى إلى السُّحُبِ، ثُمَّ إِلَى أَسْفَلَ إِلى السَّفْحِ، ثُمَّ عَادَ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْلَى نَحْوَ السُحُبِ وَقَالَ: "هَلْ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ بِالأَعْلَى يُمْكِنُ أَنْ يُسَاعِدَنِي؟"

هَذَا جُزْءٌ مِنْ مَسَاوِئِ الاتِّكَالِ عَلَى إِيمَانٍ أَعْمَى. وَمَعَ أَنَّ كَلِمَةَ "إِيمَانٍ" قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فِي الْمَسِيحِيَّةِ الْكِتَابِيَّةِ، ثَمَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ الإِيمَانِ وَبَيْنَ السَذَاجَةِ وَالْحَمَاقَةِ. لَكِنْ مُجَدَّدًا، يَقُولُ النَاسُ إِنَّ طَرِيقَ الْعَالِمِ الْمَسِيحِيِّ هُوَ طَرِيقُ الإِيمَانِ، لا طَرِيقُ الْمَنْطِقِ. وَطَرَحَ تِرْتِلْيَانُ، أَحَدُ آباءِ الْكَنِيسَةِ الْقُدَامَى، السُؤَالَ الْبَلاغِيَّ التَالِي: "مَا لأُورُشَلِيمَ بِأَثِينَا؟" وَقَالَ: "أُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِيَّةِ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ". وَإِذَا كَانَ يَقْصِدُ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ مِنْ مَنْظُورِ الْعَالَمِ، فَهَذَا يَخْتَلِفُ تَمَامًا عَمَّا إِذَا كَانَ يَقْصِدُ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، لِأَنَّ هَذَا سَيَكُونُ طَعْنًا كَبِيرًا فِي شَخْصِيَّةِ اللَّهِ، وَشَخْصِيَّةِ الرُّوحِ الْقُدْسِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْحَقِّ.

يَرَى آخَرُونَ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى إِعَادَةِ بِنَاءِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ هُوَ الِاحْتِكَامُ إِلَى التَّارِيخِ. لَدَيَّ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ مِنَ الدِّفَاعِيِّينَ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ هَذَا الْمَنْحَى، مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْحُجَجَ الْمُسْتَمَدَّةَ مِنَ التَّارِيخِ لَا تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تُقَدِّمَ بَرَاهِينَ قَاطِعَةً، بَلْ فَقَطْ دَرَجَةً عَالِيَةً مِنَ الْأَرْجَحِيَّةِ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ التَّجْرِيبِيِّ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ مِنَ الْأَرْجَحِيَّةِ تَمُدُّ بِمَا يُسَمَّى بِالْيَقِينِ الْأَخْلَاقِيِّ. فَصَدِيقِي جُونْ وَارْوِيكْ مُونْتْجُومِيرِي، مَثَلًا، يُفَضِّلُ هَذَا الْأُسْلُوبَ – أَيِ الِاسْتِنَادَ إِلَى التَّارِيخِ، وَلَا سِيَّمَا الرُّجُوعُ مِنْ يَسُوعَ التَّارِيخِيِّ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ، قَائِلًا إِنَّ الْحُجَجَ الْمُسْتَمَدَّةَ مِنَ التَّارِيخِ الْكِتَابِيِّ قَدْ لَا تَمُدُّكَ بِيَقِينٍ رَسْمِيٍّ، كَذَلِكَ الْمُسْتَمَدَّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمَنْطِقِيِّ، لَكِنَّهَا قَطْعًا تَكُونُ وَاضِحَةً لِدَرَجَةٍ تَتْرُكُ الشَّخْصَ بِلَا مَهْرَبٍ أَخْلَاقِيٍّ. نَقُولُ فِي الْمَحْكَمَةِ الْيَوْمَ إِنَّهُ حِينَ يُتَّهَمُ أَحَدُهُمْ بِجَرَائِمَ خَطِيرَةٍ، يَقَعُ عِبْءُ الْإِثْبَاتِ عَلَى عَاتِقِ جِهَةِ الِادِّعَاءِ، الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّ الشَّخْصَ مُذْنِبٌ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ. وَبِالتَّالِي، فَالَّذِينَ يُسَمَّوْنَ "الْإِثْبَاتِيِّينَ"، أَيْ الَّذِينَ يَحْتَكِمُونَ إِلَى التَّارِيخِ، يُحَاوِلُونَ إِظْهَارَ أَنَّ الْبَرَاهِينَ التَّارِيخِيَّةَ تُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ لِدَرَجَةٍ لَا تُفْسِحُ مَجَالًا لِلشَّكِّ الْمَنْطِقِيِّ، وَأَنَّ الْبَرَاهِينَ هَائِلَةٌ فِي أَرْجَحِيَّتِهَا، لِدَرَجَةِ أَنَّ الْجَاهِلَ وَحْدَهُ هُوَ مَنْ سَيَرْفُضُ مَا تُظْهِرُهُ بِوُضُوحٍ.

يَكْمُنُ اعْتِرَاضِي عَلَى هَذِهِ الْمَنْهَجِيَّةِ فِي اعْتِقَادِي بِأَنَّهُ تُوجَدُ مَنْهَجِيَّةٌ أَفْضَلُ، وَأَنَّهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ لَدَيْنَا أَرْجَحِيَّةٌ سَاحِقَةٌ، لَا تَزَالُ لَدَى الْخَاطِئِ ثَغْرَةٌ يَفِرُّ مِنْهَا، قَائِلًا: "أَنْتَ لَمْ تُثْبِتِ الْأَمْرَ بِمَا لَا يَدَعُ أَدْنَى مَجَالٍ لِلشَّكِّ. رُبَّمَا لَيْسَ مِنَ الْمَنْطِقِيِّ أَنْ أَشُكَّ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّكَ لَمْ تُثْبِتْ حُجَّتَكَ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ".

كَذَلِكَ، فَيْلَسُوفٌ يُدْعَى لِيسِينْجْ أَشَارَ، تَمَثُّلًا بِنَقْدِ إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ لِلْحُجَجِ التَّقْلِيدِيَّةِ، إِلَى هُوَّةٍ كَبِيرَةٍ تَفْصِلُ هَذَا الْعَالَمَ عَنْ عَالَمِ اللَّهِ، وَقَالَ إِنَّ الْأُمُورَ التَّصَادُفِيَّةَ فِي أَحْدَاثِ التَّارِيخِ لَا يُمْكِنُهَا الْبَتَّةَ أَنْ تُثْبِتَ الْأُمُورَ الْأَبَدِيَّةَ. كَانَتْ هَذِهِ حُجَّتَهُ الشَّبِيهَةَ لِلْغَايَةِ، كَمَا ذَكَرْتُ، بِحُجَّةِ كَانْطْ.

لَكِنَّ مُجَدَّدًا، هَذِهِ إِحْدَى الْأَسَالِيبِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ بِهَا الْبَعْضُ الْمَسْأَلَةَ، أَيِ التَّفْكِيرُ اسْتِنَادًا إِلَى التَّارِيخِ وَالْبَرَاهِينِ. وَفِي الْوَاقِعِ، أُوصَفُ كَثِيرًا فِي مَجَالِ الدِّفَاعِيَّاتِ بِأَنِّي إِثْبَاتِيٌّ. وَحَاوَلْتُ مِرَارًا أَنْ أُوَضِّحَ أَنَّنِي لَسْتُ كَذَلِكَ، إِلَى أَنِ اسْتَسْلَمْتُ، وَتَرَكْتُ النَّاسَ يَدْعُونَنِي إِثْبَاتِيًّا، لِأَنَّنِي أَعْلَمُ مَا يَقْصِدُونَهُ بِذَلِكَ. فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوجَدُ فَقَطْ نَوْعَانِ مِنَ الدِّفَاعِيِّينَ: إِمَّا الِافْتِرَاضِيُّونَ أَوْ الْإِثْبَاتِيُّونَ. لَكِنْ تُوجَدُ أَنْوَاعٌ أُخْرَى أَيْضًا. وَرُبَّمَا يُمْكِنُ تَصْنِيفِي ضِمْنَ مَدْرَسَةِ الْفِكْرِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْكِلَاسِيكِيَّةِ - الْمَدْرَسَةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ لِلدِّفَاعِيَّاتِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَدْرَسَةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ وَالْمَدْرَسَةِ الْإِثْبَاتِيَّةِ هُوَ الْآتِي: يَقُولُ الْإِثْبَاتِيُّونَ إِنَّ الْبَرَاهِينَ الْمُسْتَمَدَّةَ مِنَ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ تُقَدِّمُ دَرَجَةً عَالِيَةً مِنْ أَرْجَحِيَّةِ وُجُودِ اللَّهِ، فِي حِينِ يَقُولُ الْكْلَاسِيكِيُّونَ إِنَّ الْبُرْهَانَ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ قَاطِعٌ، أَيْ مُقْنِعٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بُرْهَانٌ حَقِيقِيٌّ، يَتْرُكُ النَّاسَ بِلَا أَدْنَى عُذْرٍ. يَصْعُبُ جِدًّا ادِّعَاءُ ذَلِكَ - أَيْ إِنَّكَ تَسْتَطِيعُ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ - لِأَنَّكَ إنْ أَخْفَقْتَ فِي ذَلِكَ، سَيُغَطِّيكَ الْخَجَلُ لِأَنَّكَ ادَّعَيْتَ بِكُلِّ جُرْأَةٍ أَنَّ بُرْهَانَكَ مُقْنِعٌ. لَكِنَّنِي أَعْتَقِدُ حَقًّا أَنَّ الدِّفَاعِيَّاتِ الْكِلَاسِيكِيَّةَ تُحَقِّقُ هَدَفَ تَقْدِيمِ بُرْهَانٍ مُقْنِعٍ.

لَكِنْ قَبْلَ دِرَاسَةِ الْمَدْرَسَةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ، دَعُونِي أَذْكُرُ مَنْهَجِيَّةً أُخْرَى لِتَنَاوُلِ الدِّفَاعِيَّاتِ، أَصْبَحَتْ هِيَ الْمَنْهَجِيَّةَ السَّائِدَةَ فِي اللَّاهُوتِ الْمُصْلَحِ، وَهِيَ مَدْرَسَةُ الدِّفَاعِيَّاتِ الْمَعْرُوفَةُ بِاسْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ الِافْتِرَاضِيَّةِ. وَيُوجَدُ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ مِنْهَا، كَالِافْتِرَاضِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَمُؤَيِّدُهَا جُورْدُونْ كْلَارْكْ. لَكِنَّ الرَّأْيَ الِافْتِرَاضِيَّ الْأَشْهَرَ هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ الرَّاحِلُ كُورْنِيلْيُوسْ فَانْ تِيلْ، الَّذِي عَمِلَ فِي كُلِّيَّةِ وِسْتْمِنِسْتَرْ اللَّاهُوتِيَّةِ بِفِيلَادِلْفِيَا لِعِدَّةِ عُقُودٍ، وَنَشَرَ الْكَثِيرَ مِنَ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْمَجَالِ، وَكَانَ عِمْلَاقًا حَقِيقِيًّا مِنْ عَمَالِقَةِ الْإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ.

وَالْكِتَابُ الَّذِي شَارَكْتُ فِي تَأْلِيفِهِ مَعَ جُونْ جِيرْسْتْنَرْ (John Gerstner) وَلِينْدْزْلِي (Lindsley)، بِعُنْوَانِ "الدِّفَاعِيَّاتُ الْكِلَاسِيكِيَّةُ"، يَحْوِي ثُلُثُهُ نَقْدًا شَامِلًا لِلِافْتِرَاضِيَّةِ. وَبِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي شَارَكْتُ فِي تَأْلِيفِهِ مَعَ آرْتْ لِينْدْزْلِي وَجُونْ جِيرْسْتْنَرْ، خُضْنَا حِوَارًا مُسْتَمِرًّا دَاخِلَ الْحَقْلِ الْمُصْلَحِ، يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْهَجِيَّةِ الْمُفَضَّلَةِ لِتَنَاوُلِ الدِّفَاعِيَّاتِ. وَلِأَنَّ د. فَانْ تِيلْ (Van Til) كَتِبَ بِاللُّغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لُغَتَهُ الْأُمَّ (فَقَدْ كَانَ هُولَنْدِيَّ الْأَصْلِ)، كَانَ يَكْتُبُ أَحْيَانًا بِأُسْلُوبٍ يَصْعُبُ فَهْمُهُ نَوْعًا مَا. وَلِهَذَا، لَا يَخْتَلِفُ نُقَّادُهُ وَحْدَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَوْلَ مَا يَقْصِدُهُ، بَلْ الْبَعْضُ مِنْ أَبْرَزِ تَلَامِيذِهِ أَيْضًا يَخْتَلِفُونَ مَعًا فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ. فَبَعْضُهُمْ يَعْتَبِرُ فَانْ تِيلْ "إِيمَانِيًّا"، غَيْرَ أَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُفَسِّرَ الْأَقْدَرَ لِكِتَابَاتِهِ، وَهُوَ الرَّاحِلُ جْرِيجُورِي بَانْسِنْ (Gregory Bahnsen)، لَمْ يَعْتَبِرْ فَانْ تِيلْ إِيمَانْيًّا، بَلْ رَأَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ إِثْبَاتًا مَنْطِقِيًّا لِوُجُودِ اللَّهِ.

لَنْ أَخُوضَ الْآنَ فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ عَنِ الِافْتِرَاضِيَّةِ، لَكِنْ سَأَكْتَفِي بِالْقَوْلِ، عَلَى سَبِيلِ التَّمْهِيدِ، إِنَّ الْمَنْهَجِيَّةَ الِافْتِرَاضِيَّةَ تَقُولُ مَا يَلِي: كَيْ تَتَوَصَّلَ إِلَى اَلِاسْتِنْتَاجِ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ، أَيْ كَيْ تُثْبِتَ وُجُودَ اللَّهِ، يَجِبُ أَنْ تَبْدَأَ مِنَ الْفَرْضِيَّةِ الْأَوَّلِيَّةِ، أَوْ الْفَرْضِيَّةِ الْأُولَى، أَيْ مِنَ الِافْتِرَاضِ الْمُسْبَقِ بِوُجُودِ اللَّهِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، مَا لَمْ تَبْدَأْ بِافْتِرَاضِ وُجُودِ اللَّهِ مُسْبَقًا، لَنْ تَصِلَ الْبَتَّةَ إِلَى اسْتِنْتَاجِ وُجُودِ اللَّهِ.

قَطْعًا، الِاعْتِرَاضُ الَّذِي يُبْدَى فِي الْحَالِ ضِدَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي التَّفْكِيرِ هُوَ أَنَّ الْبَدْءَ مِنْ فَرْضِيَّةِ وُجُودِ اللَّهِ ثُمَّ اسْتِنْتَاجَ وُجُودِ اللَّهِ يَنْطَوِي عَلَى مُغَالَطَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ مَعْرُوفَةٍ تُسَمَّى "مُغَالَطَةَ بِيتِيسِيُو بْرِينْكِيبِي" (petitio principii fallacy)، أَوْ مُغَالَطَةَ التَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ. وَتَحْدُثُ مُغَالَطَةُ التَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ حِينَ يَبْدُو الِاسْتِنْتَاجُ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ فِي إِحْدَى الْفَرَضِيَّاتِ. فَالِاسْتِنْتَاجُ مُفْتَرَضٌ هُنَا بِالْفِعْلِ. وَبِالتَّالِي، هَذِهِ طَرِيقَةُ تَفْكِيرٍ خَاطِئَةٌ، تُبْطِلُ الْحُجَّةَ. وَهَذَا أَبْرَزُ اعْتِرَاضٍ عَلَى الدِّفَاعِيَّاتِ الِافْتِرَاضِيَّةِ. لَكِنَّ الدِّفَاعَ الَّذِي قَدَّمَهُ د. فَانْ تِيلْ عَنْ ذَلِكَ - لِأَنَّهُ كَانَ يَعِي تَمَامًا أَنَّ هَذَا اَلِاتِّهَامَ سَيُوَجَّهُ لِهَذِهِ اَلْمَنْهَجِيَّةِ - فَدَافَعَ قَائِلًا إِنَّ أَيَّةَ طَرِيقَةِ تَفْكِيرٍ تَسْلُكُ حَرَكَةً دَائِرِيَّةً، لِأَنَّ نُقْطَةَ بِدَايَتِهَا، وَمُنْتَصَفَهَا، وَاسْتِنْتَاجَاتِهَا جَمِيعَهَا مُتَّصِلَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا بَدَأْتَ بِفَرْضِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ، ثُمَّ فَكَّرْتَ بِاسْتِمْرَارٍ بِطَرِيقَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ، سَيَكُونُ اسْتِنْتَاجُكَ مَنْطِقِيًّا. وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ، بَرَّرَ د. فَانْ تِيلْ اسْتِخْدَامَهُ لِلْمَنْطِقِ الدَّائِرِيِّ، قَائِلًا إِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّةِ طَرِيقَةِ تَفْكِيرٍ أُخْرَى، لِأَنَّ كُلَّ تَفْكِيرٍ هُوَ دَائِرِيٌّ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ. وَالَّذِينَ لَا يَتَبَنَّوْنَ هَذِهِ الْمَنْهَجِيَّةَ الدِّفَاعِيَّةَ يَجِدُونَ فِي هَذَا التَّبْرِيرِ لِلْمَنْطِقِ الدَّائِرِيِّ مُغَالَطَةً ثَانِيَةً مُمِيتَةً بِقَدْرِ الْأُولَى تَمَامًا.

الْمُغَالَطَةُ الْأُولَى هِيَ مُغَالَطَةُ التَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ الَّتِي، بِحَسَبِ مُفْرَدَاتِ الْمَنْطِقِ الْمَعْرُوفَةِ، تُبْطِلُ الْحُجَّةَ. وَيَنْطَوِي تَبْرِيرُ اسْتِخْدَامِ الْمَنْطِقِ الدَّائِرِيِّ عَلَى الْمُغَالَطَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ مُغَالَطَةُ الِالْتِبَاسِ اللَّفْظِيِّ، حَيْثُ يَتَغَيَّرُ مَعْنَى لَفْظٍ مَا فِي مُنْتَصَفِ الْحُجَّةِ. فَتَبْرِيرُ التَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ بِالْقَوْلِ إِنَّ كُلَّ تَفْكِيرٍ هُوَ دَائِرِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّ نُقْطَةَ بِدَايَتِهِ وَاسْتِنْتَاجِهِ هُمَا مِنَ النَّوْعِ ذَاتِهِ، لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ بِالتَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ. نُدْرِكُ جَمِيعًا أَنَّهُ كَيْ تَكُونَ أَيَّةُ حُجَّةٍ مَنْطِقِيَّةً، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَنْطِقِيَّةً طَوَالَ الْوَقْتِ. وَلِمَ نَدْعُو ذَلِكَ دَائِرِيًّا فِي حِينِ أَنَّهُ فِي الْوَاقِعِ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ؟ فَإِنَّكَ تَبْدَأُ بِفَرْضِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ، ثُمَّ تَسْتَخْدِمُ فَرْضِيَّةً مَنْطِقِيَّةً أُخْرَى، ثُمَّ تَتَحَرَّكُ لِتَصِلَ إِلَى اسْتِنْتَاجٍ مِنَ النَّوْعِ الْمَنْطِقِيِّ دُونَ أَنْ تَدُورَ فِي دَائِرَةٍ.

نَعْتَرِفُ بِأَنَّ ثَمَّةَ افْتِرَاضًا مُسْبَقًا فِي الْحُجَجِ الْمَنْطِقِيَّةِ، مِثْلَ افْتِرَاضِ الْمَنْطِقِ، وَافْتِرَاضِ قَانُونِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ، وَافْتِرَاضِ السَّبَبِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الِافْتِرَاضَاتِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا فِي هَذَا الصَّفِّ، بِمَا فِي ذَلِكَ الْمَوْثُوقِيَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، وَالِاسْتِخْدَامُ التَّشَابُهِيُّ لِلُّغَةِ.

يَقُولُ الْمُدَافِعُونَ عَنْ د. فَانْ تِيلْ، مِثْلِ جْرِيجْ بَانْسِنْ: "يَقْصِدُ فَانْ تِيلْ حَقًّا شَيْئًا أَعْمَقَ مِنْ مُجَرَّدِ مُمَارَسَةٍ سَطْحِيَّةٍ لِلتَّفْكِيرِ الدَّائِرِيِّ. فَهُوَ يَقْصِدُ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ افْتِرَاضَ الْمَنْطِقِيَّةِ، سَيُوَرِّطُكَ هَذَا بِالضَّرُورَةِ فِي افْتِرَاضِ وُجُودِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ دُونَ اللَّهِ، لَا أَسَاسَ لِلْمَنْطِقِيَّةِ، وَلَا أَسَاسَ لِلْوُثُوقِ بِقَانُونِ السَّبَبِيَّةِ، وَلَا أَسَاسَ لِلْوُثُوقِ بِالْمَوْثُوقِيَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ. إِذَنْ، حَتَّى وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، فَإِنَّكَ حِينَ تُؤَيِّدُ الْمَنْطِقَ، تَفْتَرِضُ بِالْفِعْلِ وُجُودَ أَسَاسٍ لِذَلِكَ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ". إِذَنْ، لِنَكُنْ صُرَحَاءَ وَنَقُولُ جِهَارًا إِنَّ كُلَّ مَنْ يَفْتَرِضُ الْمَنْطِقِيَّةَ يَفْتَرِضُ بِالتَّالِي وُجُودَ اللَّهِ، وَبِبَسَاطَةٍ يُخْفِي ذَلِكَ.

أَشْعُرُ بِمَدَى أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ، لِأَنَّنَا نُوَافِقُ حَتْمًا، بِصِفَتِنَا كْلَاسِيكِيِّينَ، عَلَى أَنَّنَا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْطِقِيَّةِ مَعْنًى، وَإِذَا كَانَتْ افْتِرَاضَاتُ نَظَرِيَّةِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي تَحَدَّثْتُ عَنْهَا سَلِيمَةً، فَهِيَ تُؤَيِّدُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وُجُودَ اللَّهِ. لَكِنَّ هَذَا تَحْدِيدًا هُوَ مَا تُحَاوِلُ الدِّفَاعِيَّاتُ الْكِلَاسِيكِيَّةُ إِثْبَاتَهُ، وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَنْطِقِيًّا، عَلَيْكَ أَنْ تُؤَكِّدَ وُجُودَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمَنْطِقَ نَفْسَهُ الَّذِي تَفْتَرِضُهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ اللَّهِ. لَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نُوَضِّحَ ذَلِكَ لِلْآخَرِينَ. وَلَسْنَا نَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْجَيِّدِ التَّشْوِيشُ عَلَى الْحُجَّةِ بِقَوْلِنَا: "يَجِبُ أَنْ تَبْدَأَ فِي فَرْضِيَّتِكَ وَحُجَّتِكَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ اللَّهِ، حَتَّى تُثْبِتَ وُجُودَهُ"، لِأَنَّ الْآخَرَ سَيَقُولُ: "سَأَبْدَأُ دُونَ افْتِرَاضِ وُجُودِ اللَّهِ، وَسَيَنْتَهِي بِي الْحَالُ إِلَى اللَّا مَعْنًى". وَبِذَلِكَ، تَصِيرُ النَّتِيجَةُ غَيْرَ مُرْضِيَةٍ لِلطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ مَا يُجَرِّدُ الْأَمْرَ مِنْ مَذَاقِهِ. وَلَسْنَا نُرِيدُ اجْتِيَازَ هَذِهِ الْخِبْرَةِ.

صَرَاحَةً، أَكْبَرُ اعْتِرَاضٍ لَدَيَّ عَلَى الِافْتِرَاضِيَّةِ، إِلَى جَانِبِ هَذِهِ الْأَخْطَاءِ اَلْمَنْطِقِيَّةِ، هُوَ أَنَّ لَا أَحَدَ يَبْدَأُ مِنَ اللَّهِ سِوَى اللَّهِ. فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَبْدَأَ فِي ذِهْنِكَ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، إِلَّا إِذَا كُنْتَ اللَّهَ نَفْسَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ إِنَّنَا نَبْدَأُ مِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ، وَمِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ نَصِلُ إِلَى وُجُودِ اللَّهِ. وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَبْدَأَ مِنَ الْوَعْيِ بِاللَّهِ لِتَصِلَ إِلَى وُجُودِ الذَّاتِ. فَبِالضَّرُورَةِ، عَلَى الْبَشَرِ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ بِعُقُولٍ بَشَرِيَّةٍ أَنْ يَبْدَأُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ عُقُولِهِمْ.

الِاعْتِرَاضُ الَّذِي يُبْدَى عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّنَا نَتَبَنَّى أَفْكَارًا عِلْمَانِيَّةً وَوَثَنِيَّةً. أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي نَاقَشْتُ هَذِهِ الْفِكْرَةَ مَعَ أَحَدِ مُؤَيِّدِي الِافْتِرَاضِيَّةِ، فِي لِقَاءٍ عَامٍّ مُنْذُ نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، حَيْثُ صُعِقَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ حِينَ قُلْتُ إِنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ مِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ، وَقَالَ إِنَّ هَذَا غَيْرُ كِتَابِيٍّ، لِأَنَّنِي بِهَذَا أَفْتَرِضُ اسْتِقْلَالِيَّةَ الذَّاتِ، وَلَيْسَ سِيَادَةَ اللَّهِ، وَهَذَا تَحْدِيدًا مَا فَعَلَهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، حِينَ تَمَرَّدَا عَلَى اللَّهِ. فَالْبَدْءُ مِنَ الذَّاتِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ، طَرِيقَةٌ آثِمَةٌ وَسَاقِطَةٌ وَفَاسِدَةٌ لِلتَّفْكِيرِ.

أَجَبْتُهُ: "أُوَافِقُكَ تَمَامًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوَّلُ اِفْتِرَاضَاتِي، أَيْ فَرْضِيَّتِي الرَّئِيسِيَّةُ فِي التَّفْكِيرِ، هُوَ اسْتِقْلَالِيَّةُ ذَاتِي، أَكُونُ مُذْنِبًا بِارْتِكَابِ كُلِّ مَا تَقُولُهُ، وَمُعْتَنِقًا لِلْوَثَنِيَّةِ، وَلَنْ يَنْتَهِيَ بِي الْحَالُ، إِذَا ظَلَلْتُ مُتَّسِقًا، إِلَّا بِتَأَلِيهِ الذَّاتِ وَرَفْضِ اللَّهِ". ثُمَّ قُلْتُ: "لَسْنَا نَبْدَأُ مِنِ اسْتِقْلَالِيَّةِ الذَّاتِ، بَلْ فَقَطْ مِنَ الْوَعْيِ بِالذَّاتِ". وَذَكَّرْتُ صَدِيقِي بِأَنَّ أُوغُسْطِينُوسَ نَفْسَهُ قَالَ إِنَّهُ مَعَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ يَأْتِي دَائِمًا وَبِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ وَعْيٌ بِالْمَحْدُودِيَّةِ. فَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي تَعِي فِيهَا ذَاتَكَ، تُدْرِكُ أَنَّكَ لَسْتَ اللَّهَ. وَهَذَا مَا قَالَهُ كَالْفِنْ أَيْضًا. وَأَقُولُ إِنَّ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ، أَيْ أَنْ تَكُونَ قَانُونًا لِنَفْسِكَ، لَا تَنْدَرِجُ ضِمْنَ فِكْرَةِ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ. فَلَوْ كَانَتْ تَنْدَرِجُ ضِمْنَهُ، لَكَانَ الْبَدْءُ مِنْ هَذِهِ النُّقْطَةِ خَطِيَّةً. لَكِنَّنَا نَقُولُ إِنَّ الْبَدْءَ مِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ أَمْرٌ فِي صَمِيمِ طَبِيعَةِ الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ النُّقْطَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي يُمْكِنُ لِأَيِّ ذَاتٍ أَنْ تَبْدَأَ مِنْهَا فِي التَّفْكِيرِ. لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَنْطَلِقَ فِي عَقْلِكَ مِنْ فِكْرِهِ، أَوْ مِنْ فِكْرِي، أَوْ مِنْ فِكْرِ اللَّهِ. الْأَمْرُ الْوَحِيدُ الَّذِي تَبْدَأُ مِنْهُ هُوَ وَعْيُكَ الذَّاتِيُّ، وَمِنْهُ تَتَحَرَّكُ، لِأَنَّكَ ذَاتٌ. وَسُرْعَانَ مَا سَتَكْتَشِفُ أَنَّكَ لَسْتَ مُسْتَقِلًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ. هَذَا مَا نَقُولُهُ - إِنَّكَ إِنْ بَدَأْتَ مِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ، وَفَكَّرْتَ بِطَرِيقَةٍ صَحِيحَةٍ، لَنْ تَصِلَ إِلَى الِاسْتِقْلَالِيَّةِ، بَلْ فِي الْوَاقِعِ سَتَصِلُ بِالضَّرُورَةِ إِلَى تَأْكِيدِ وُجُودِ اللَّهِ.

مُجَدَّدًا، هَذِهِ نَظْرَةٌ عَامَّةٌ مُخْتَصَرَةٌ جِدًّا، لِأَنَّ هَذَا الْجَدَلَ لَا يَتَوَقَّفُ. وَقَدْ خُضْنَا مُنَاقَشَاتٍ كَثِيرَةً فِيمَا بَيْنَنَا. وَهَذَا جَدَلٌ دَاخِلِيٌّ يَدُورُ بَيْنَ الْمُفَكِّرِينَ الْمُصْلَحِينَ الَّذِينَ، فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْمَنْهَجِيَّةَ الدِّفَاعِيَّةَ، يَتَّفِقُونَ مَعًا عَلَى كُلِّ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ الْمُصْلَحِ الْأَسَاسِيَّةِ. لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مَعًا حَوْلَ الْأُسْلُوبِ الْمُنَاسِبِ اسْتِرَاتِيجِيًّا وَلَاهُوتِيًّا لِلدِّفَاعِ عَنِ اللَّهِ. يَخْشَى الِافْتِرَاضِيُّونَ أَنْ يُقَدِّمَ الْجِدَالُ بِطَرِيقَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ وَتَجْرِيبِيَّةٍ تَنَازُلَاتٍ كَثِيرَةً لِلْعَالَمِ الْوَثَنِيِّ. وَبِالطَّبْعِ، يَخْشَى الْكْلَاسِيكِيُّونَ أَيْضًا تَقْدِيمَ الِافْتِرَاضِيِّينَ لِتَنَازُلَاتٍ كَثِيرَةٍ، مُقَدِّمِينَ لِلْوَثَنَيْنِ بِهَذَا مُبَرِّرًا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْوَثَنِيِّينَ سَيُلَاحَظُونَ بِوُضُوحٍ أَنَّ مَنْهَجِيَّتَهُمْ تَنْتَهِكُ مَبَادِئَ الْمَنْطِقِ.

لَكِنْ ثَمَّةَ أَمْرٌ نَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ هُوَ الْفَرْضِيَّةُ الْأَهَمُّ لِبِنَاءِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَنَظْرَتِهِ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْوَثَنِيُّونَ، بِحَسَبِ رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ الأوَّلِ. فَأَوَّلُ كِذْبَةٍ يَقْبَلُونَهَا هِيَ إِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ السَّرْمَدِيَّةِ وَلَاهُوتِهِ. وَعِنْدَئِذٍ، يُظْلِمُ قَلْبُهُمْ. وَكُلَّمَا ازْدَادَتْ مَهَارَتُهُمْ، ازْدَادَ ابْتِعَادُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْيِ الْأَوَّلِ بِاللَّهِ الَّذِي يَكْتَسِبُونَهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ.

إِذَنْ، نَتَّفِقُ جَمِيعًا عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْقُصْوَى لِإِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ فِي مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ مِنْ مُمَارَسَتِنَا لِلدِّفَاعِيَّاتِ. فَهَذَا أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي إِثْبَاتُهُ. وَنَتَّفِقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحْتَلُّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى فِي الْوُجُودِ. لَكِنَّ الْخِلَافَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَأْتِي أَوَّلًا فِي عَمَلِيَّةِ الْمَعْرِفَةِ. فَإِنَّنَا نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَحْتَلُّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى فِي تَرْتِيبِ الْوُجُودِ، لَكِنْ لَيْسَ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى فِي تَرْتِيبِ الْمَعْرِفَةِ.

وَفِي مُحَاضَرَتِنَا الْمُقْبِلَةِ، سَأَبْدَأُ بِتَوْضِيحِ كَيْفِيَّةِ تَقْدِيمِ الدِّفَاعِيَّاتِ الْكْلَاسِيكِيَّةِ دِفَاعَهَا عَنْ وُجُودِ اللَّهِ.