الانفصال - خدمات ليجونير
الآن ولكن ليس بعد
۲۵ يناير ۲۰۲۳
العيش في الدهر الآتي
۲۷ يناير ۲۰۲۳
الآن ولكن ليس بعد
۲۵ يناير ۲۰۲۳
العيش في الدهر الآتي
۲۷ يناير ۲۰۲۳

الانفصال

ملاحظة المُحرِّر: المقالة 6 من سلسلة "بين عالمين"، بمجلة تيبولتوك.

أنا الآن على أتم استعداد لمغادرة كاليفورنيا. كانت هذه الولاية فيما سبق أعظم ولاية في الاتحاد، لكنَّ الأحوال تغيَّرت. فمؤخرًا، صُنِّفت كاليفورنيا الأخيرة من حيث جودة ونوعية الحياة. فالطرق السريعة صارت مزدحمة بشكل زائد عن الحد، ويطالَب سكانها بضرائب باهظة، وبلغت تكاليف المعيشة أعلى مستوياتها على الإطلاق. أودُّ الانتقال إلى أيداهو، وشراء مزرعة، والعيش في أرض زراعية بعيدًا عن الناس والمشاكل.

استخدمتُ هنا بعض المبالغة لأوضح فكرة معيَّنة. فإن التوجُّه الذي وصفتُه أعلاه هو الطريقة التي يُفكِّر بها الكثير من المؤمنين بشأن العالم. فكلُّ ما يمكن أن أفعله هو أن أضع كلمة "العالم" محل كلمة "كاليفورنيا"، وسيكون التطبيق واحدًا. فالمؤمنون اليوم يشعرون بإحباط شديد ممَّا يرونه من حولهم في العالم. وأصبح من الصعب للغاية أن تكون مؤمنًا حقيقيًّا، وأن تعيش في هذا العالم مع أناسٍ غير مؤمنين. وكثيرًا ما يفكِّر المؤمنون في الانفصال والانعزال، ولا تبدو فكرة شراء مزرعة للابتعاد عن كلِّ شيء فكرة سيئة بالنسبة لهم.

من المؤكَّد أنه توجد أسباب مشروعة تدعو إلى الانتقال إلى مكان آخر. لكن المشكلة تكمن في أن الكثير من المؤمنين يحاولون تقديم مبرِّرات لخطوة الانتقال، وذلك لأنهم يريدون الهروب من المشكلات التي يعانون منها في العالم. ففي النهاية، ألم يَدعُ الرب المؤمنين إلى أن يعتزلوا عن العالم (2كورنثوس 6: 14-18)؟ ما معنى ذلك؟ وهل نحن مدعوون إلى الانسحاب من العالم، دون أن يكون لنا أيُّ نوع من التواصل مع غير المؤمنين؟

يظن بعض المؤمنين أن هذه الدعوة تعني أننا يجب أن نعيش حياة الرهبنة والنُّسُكِ. لكنَّ الابتعاد عن العالم ومشكلاته يُمكن أن يكون نسخة خاصة من الرهبنة. تَكمُن المفارقة العجيبة في أنه يمكن لهذا النوع من الانفصال أن يكون مسعًى دنيويًّا للغاية. فهو يفترض أن المرء يستطيع أن يبلغ في هذه الحياة أمجاد ما هو موعود به فقط في السماوات الجديدة والأرض الجديدة. كذلك، يبعث هذا الانفصال بهذه الطريقة برسالة سيئة إلى العالم، مفادها أننا غير مكترثين بهم، وفقط نرغب في الابتعاد. ماذا سيكون مصير الإرسالية العظمى أمام هذا النوع من الانفصال؟ من أجل ذلك، نحن بحاجة إلى دراسة سليمة لما يعنيه أن نكون منفصلين عن العالم.

ٱخْرُجُوا وَٱعْتَزِلُوا

لطالما صارع المؤمنون لفهم معنى الدعوة إلى يكونوا شعبًا منفصلًا عن العالم. كان هناك دائمًا الذين، على حد تعبيرات ريتشارد نيبور (Richard Niebuhr) الكلاسيكية، إما وضعوا المسيح في مقابل المجتمع، وإما دمجوه في المجتمع. فإننا يُمكن أن ننغمس في العالم بالسهولة نفسها التي قد نرغب بها في الاعتزال عنه. إذن، إلى أيِّ نوع من الانفصال يدعو الله المؤمن في هذا العالم؟

يمدُّنا التأمل السريع في وصية بولس إلى مؤمني كورنثوس بالإجابة عن ذلك. فقد كان هؤلاء المؤمنون يسمحون لمحبة العالم والتوجُّهات الدنيوية بالدخول دون فحص إلى الكنيسة. واشتملت بعض أعراض ذلك على الانقسامات، واستخدام الأساليب الدنيوية في الخدمة، والممارسات الوثنية في العبادة، وإساءة استخدام المواهب الروحية، والفجور الجنسي، والتساهل مع التعليم الكاذب.

وكان هدف بولس من مواجهة هذه المشكلات هو دعوة الكنيسة إلى الانفصال السليم عن العالم، بصفتهم شعب الله. في 1كورنثوس 5: 1، تحدث بولس عن تلقِّيه تقريرًا بأن خطية جنسية جسيمة يُجرَى التساهل معها داخل الكنيسة. وإذ رفضت الكنيسة تولِّي أمر هذه المشكلة بممارسة التأديب الكنسي، كانوا بهذا يقوِّضون من مكانتهم بصفتهم جماعة الله المقدَّسة.

وبدعوة بولس الكنيسة إلى الانفصال، صنع رابطًا مثيرًا للدهشة مع العهد القديم قائلًا: "إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا" (1كورنثوس 5: 7). فقد أسَّس بولس دعوته إلى الانفصال على قصة خلاص شعب إسرائيل من أرض مصر. كان كلٌّ من عيد الفصح وعيد الفطير بمثابة احتفالٍ بخلاص شعب إسرائيل من الموت، وانفصالهم عن أرض مصر. وكلُّ ما كانوا يسترجعونه من طريقة حياتهم السابقة كان يشكِّل تهديدًا على انفصالهم بصفتهم شعب الله. ونظير إسرائيل، تلقَّت الكنيسة الدعوة التالية: "اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا" (2كورنثوس 6: 17). فقد كان على الكنيسة أن تخرج من مصر، وألا تسمح لمصر بالعودة في وسطهم ثانيةً.

أدرك بولس جيدًا أن الكنيسة في كورنثوس كانت تعاني من بعض الخلط بشأن موضوع الانفصال. فيبدو أنهم اعتبروا أن دعوته إياهم إلى الانفصال هي دعوة غير منطقية. وربما طرحوا أسئلة من هذا القبيل: "ما الذي من المفترَض أن نفعله؟ هل علينا أن نكوِّن جماعة طائفية صغيرة بحسب مبادئنا الأخلاقية الخاصة؟ وماذا عن خلافاتنا مع المؤمنين الآخرين؟" واليوم، يشترك الكثير من المؤمنين معهم في هذا الخلط عينه.

وتُعَد إجابة بولس عن ذلك مفيدةً للغاية. فقد أوضح أن الدعوة إلى الانفصال ليس معناها ألا يكون لهم أيُّ نوع من التواصل مع الخطاة في العالم. فإنهم لم يُدعَوا إلى ترك العالم مثلما حاول الرهبان قبلًا أن يتركوا العالم. فالانفصال لا يتحقَّق عن طريق تجنُّب الخطاة في العالم، لكن المؤمن مدعوٌّ إلى الانفصال من خلال الشركة. ثمة نوع من الشركة في جسد المسيح قاصر على المؤمنين وحدهم. ومن ثَمَّ، كان بولس يدعو الكنيسة إلى التفكير في العالم بطريقة تختلف عن طريقة تفكيرهم في كنيسة المسيح.

سيظل العالم دائمًا كما هو. فهو يعمل طبقًا لنظامه الخاص من قيم، وأمور جاذبة، وحكمة، عادة ما تكون مخالفة لبرِّ الله. فعندما نصير مؤمنين، نخرج من شركة هذا العالم، وننضم إلى شركة أخرى. فإن محبتنا السابقة للعالم تحلُّ محلها محبة تجاه المسيح. لكنَّ هذه الحقائق جميعها لا يترتب عليها انسحاب من العالم، أو رفض الاختلاط بالناس في العالم. من أجل ذلك، أوضح بولس لمؤمني كورنثوس أننا نعيش في العالم، ولذلك، لا توجد وسيلة مُمكنة لتجنُّب الاختلاط بغير المؤمنين في الحياة اليومية. فللمؤمنين جنسية أرضية أيضًا، طالما هم على هذه الأرض.

لكننا كمؤمنين منفصلون عن العالم لأننا نرفض اتِّباع نمط الحياة الذي يتعارض مع جنسيتنا (سيرتنا) السماوية. فنحن مدعوون إلى الانفصال عن العالم عن طريق رفض الدخول في شركة مع أولئك الذين يتبعون نمط الحياة الذي خلصنا منه. فنحن منفصلون في مكانتنا السماوية، بصفتنا جسد المسيح، وفي الطريقة التي نسلك بها أمام العالم.

هذا ما أخفق فيه مؤمنو كورنثوس. فقد قبلوا داخل شركتهم شخصًا زعم أنه مؤمن، لكنه كان يعيش في فجور جنسي. وكان لرفض الكنيسة الانفصال عن نمط حياتهم السابق عاقبته، وهي الخلط بين الكنيسة والعالم. من أجل ذلك، دعاهم بولس إلى الانفصال عن أي شخص "مَدْعُوٌّ أَخًا" (1كورنثوس 5: 11)، لكنه يعيش بطريقة تتعارض مع هويتهم الجديدة بصفتهم شعب الله المفدى. يدعونا الرب إلى الانفصال عن أولئك الذين يزعمون أنهم مؤمنون، لكنهم يعيشون بطريقة تتعارض مع الإيمان المسيحي والحياة المسيحية، ممارسين الخطية دون توبة عنها. وإننا ننفصل عنهم عن طريق قطع الشركة معهم. فالحميمية، والرعاية المتبادلة، والمشاركة الموجودة بين المؤمنين يجب ألا تمارَس أيضًا مع الذين يرفضون التوبة والإيمان بالإنجيل.

كان على الكنيسة في كورنثوس أن تُحَقِّق هذا الانفصال عن طريق التأديب الكنسي. فبردِّ هذا الرجل مرة أخرى إلى العالم، كانوا بذلك يحافظون على حالتهم المُنفصلة، بصفتهم شعب المسيح. وهل كان من شأن هؤلاء أن يلتقوا ثانيةً بهذا الرجل بمحض الصدفة؟ أجل بالتأكيد. لكن الآن، لم يَعُد لهم شركة مسيحية معه. وإن استعدادهم للحفاظ على نقاء كنيسة المسيح، بصفتهم مؤمنين يعيشون في العالم، هو كل ما ينطوي عليه معنى الانفصال الكتابي.

كيف ينبغي إذن أن ننفصل؟

بوضع هذه المبادئ نصب أعيننا، توجد بعض الطرق التي يجب على المؤمنين أخذها بعين الاعتبار فيما يتعلَّق بموضوع الانفصال الكتابي.

أولًا، تحتاج الكنيسة اليوم إلى أن تتوب عن عدم أخذها الدعوة إلى الانفصال على محمل الجد. في كتاب Christianity and Liberalism ("المسيحية والليبرالية")، رثا ج. جريشام ماكين حال الكنيسة، بسبب خيانتها للمسيح، وسماحها لعشرات من غير المؤمنين بالانضمام إلى عضويتها، ثم إقامة الكثير منهم في مناصب تعليمية في الكنيسة. وكتب ماكين يقول:

أكبر تهديد يقع على الكنيسة المسيحية اليوم نابعٌ ليس من الأعداء الذين في الخارج، بل من الأعداء الذين في الداخل. فهو نابع من وجود نوع من الإيمان والممارسات المتعارضة حتى النخاع مع المسيحية داخل الكنيسة ... والفصل بين هذين الفريقين داخل الكنيسة هو الحاجة الملحة تمامًا في الوقت الحالي.

وهذا الانفصال، كما وصفه بولس لمؤمني كورنثوس، هو الحاجة الملحة تمامًا في الوقت الحالي بالنسبة لنا أيضًا. ولأن الدعوة إلى الانفصال لم تُؤخَذ على محمل الجد في الكنيسة، فقدت الكنيسة اليوم هويتها وسط العالم. يجب أن تبدو الكنيسة مختلفة تمامًا عن العالم سواء في إيمانها أو في ممارساتها. ويُمكن للعديد من الكنائس أن تبدأ في حلِّ هذه المشكلة عن طريق طرد "عخان" من وسطها (انظر يشوع 7).

ثانيًا، المؤمنون بحاجة إلى وضع الأولويات الصحيحة في أثناء سعيهم إلى الانفصال. فعادة ما ينفصل المؤمنون بعضهم عن البعض وعن العالم للأسباب غير الصحيحة. يلزم أن يتحد المؤمنون معًا حول أهم القضايا، متجنِّبين أن يكونوا منفِّرين في قناعاتهم، وقابلين وجود اختلافات في الرأي، دون الانفصال بعضهم عن البعض بسبب أمورٍ تخص حرية الضمير. ثمة حاجة قصوى في الوقت الحالي إلى مؤمنين ثابتين على قناعاتهم، يكونون على استعداد للوقوف معًا مدافعين عن حق الإنجيل، والخضوع لتشكيل كلمة الله، وقادرين أيضًا على تمييز تلك المسائل ذات الأهمية الدائمة في أثناء دفاعهم عن الحق.

أخيرًا، يحتاج المؤمنون إلى أن يأخذوا شهادتهم أمام العالم بعين الاعتبار. في صلاة يسوع الشفاعية كرئيس الكهنة، صلَّى إلى أبيه تحديدًا لأجل ألا يُؤخَذ المؤمنون من العالم (يوحنا 17: 15). فقد تركنا الرب في العالم كي نكون شهودًا له. يحتاج غير المؤمنين إلى الإنجيل، ولهذا السبب نحن موجودون هنا. هل يرى العالم ذلك فينا؟ هل يرون أننا مكترثون بهم بما يكفي لمساعدتهم كي يختبروا النعيم الذي لنا في المسيح؟ إننا نحمل الحلَّ في رسالة الصليب. لكن إذا كان الانطباع الذي نتركه لدى غير المؤمنين هو أننا نهرب منهم، فلمَ يمكن أن نظن أنهم قد يرجعون إلى يسوع، ويرغبون في الدخول في شركة معنا؟ فبممارستنا للانفصال السليم، نذهب إلى غير المؤمنين برسالة الإنجيل، متذكِّرين أن شهادتنا هي سبب إبقاء الرب علينا في العالم.

ربما أغادر كاليفورنيا يومًا ما، لكنَّ الأمر قد يختلف تمامًا عن كلِّ ما توقعتُه وخططتُ له. لذلك، أعتقد في الوقت الحالي أنني سأحاول ممارسة الانفصال، دون أن أغادر مكاني. فأينما كان المؤمنون منفصلين بحقٍّ بصفتهم جسد المسيح، يمكن التمتُّع في ذلك المكان تحديدًا بلمحةٍ من السماء على الأرض. وهذا تحديدًا هو ما يحتاج إليه كلُّ مكان في يومنا هذا.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

كريستوفر جوردون
كريستوفر جوردون
القس كريستوفر جوردون قس الوعظ بكنيسة إسكونديدو المتحدة المُصلَحة في مدينة إسكونديدو بولاية كاليفورنيا. ومُعلِّم بارز في برنامج (Abounding Grace Radio).