ضبط النفس - خدمات ليجونير
العالم
٦ نوفمبر ۲۰۲۰
البركة
۱۰ نوفمبر ۲۰۲۰
العالم
٦ نوفمبر ۲۰۲۰
البركة
۱۰ نوفمبر ۲۰۲۰

ضبط النفس

في الغالب يتحدَّد مدى نمو قداسة الفرد بمدى تقدُّمه في ضبط النفس. فبدون هذا الضبط التأسيسي، لن يتحقَّق أي نمو في النعمة. وقبل المقدرة على تحقيق أي انضباطات أخرى، سواء في المنزل أو الكنيسة، يأتي في المقدمة ضبط النفس.

من المُسلَّم به أن ضبط النفس لم يعد من الموضوعات الشائعة اليوم. ففي مجتمعنا، أي إصرار عل ضبط النفس يُقَاوَم بشدة حتى وسط مسيحيِّين كثيرين. فهم يصيحون بأنها فريسيَّة، ويدافعون عن حقوقهم في الحريَّة المسيحيَّة. يُصر هؤلاء المؤمنون، ذوو الأرواح المُتحرِّرة، على أن ضبط النفس يقيِّد حريتهم في المسيح، ويلزمهم بسترة تقييد روحيَّة.

لكن الكثير من هؤلاء المؤمنين أساءوا استخدام حريتهم في المسيح لدرجة غياب الانضباط الروحي من حياتهم تقريبًا. لقد شطحوا وزاغوا بالحريَّة المسيحيَّة حتى اختل ميزان حياتهم الروحيَّة. يعود سبب هذا الإهمال لضبط النفس إلى عدم النضج الروحي الذي يبقيهم بقليل من ضبط النفس لمقاومة الإغواء والخطيَّة.

لنكن واضحين، بدون انضباط، ما من تلمذة. إن لم نضبط أنفسنا، فإن الله بذاته سيؤدبنا (عبرانيين 12: 5-11). بطريقة أو بأخرى، سيتحقَّق الانضباط في حياتنا. بالنظر إلى ميلنا إلى الخطيَّة، لا بد أن نضبط أنفسنا بهدف التقوى، كيلا يؤدبنا الله.

ما هو ضبط النفس؟

إن الكلمة اليونانيَّة (enkrateia) المُترجمة إلى "انضباط" مُشتقَّة من الجذر krat، الذي يشير إلى السُلطة أو السيادة. فضبط النفس تعني ممارسة السُلطة على الذات. وهي القدرة على إخضاع الذات تحت السيطرة. تشير الكلمة إلى سيادة النفس على أهواء المرء الداخليَّة وأفكاره وأفعاله وأقواله. إنه التحكُّم الذي ينبغي على المؤمن فرضه على حياته (غلاطية 5: 23).

وهي الكلمة ذاتها المُستخدمة في 1 كورنثوس 7: 9 للإشارة إلى "الانضباط" الذي ينبغي على المرء إظهاره أمام الشهوات الجنسيَّة. وبالمثل، على الشيوخ التحلي "بضبط النفس" (تيطس 1: 8)، منضبطين في أهوائهم الداخليَّة وأفعالهم الخارجيَّة. إن إتقان ضبط النفس سمة غير قابلة للمُساومة في القيادة الروحيَّة.

إن نقيض ضبط النفس هو أسلوب الحياة المُتساهلة الذي يُثمر "أعمال الجسد" (غلاطية 5: 19-21). فأي تقصير في ضبط النفس يثمر حتمًا أعمالًا شريرة. لكن حينما يتواجد ضبط النفس، تنشط مقاومة قويَّة للشهوات الحسيَّة والاختيارات الشريرة. إن ضبط النفس يستأثر كل فكر، وكل كلمة، وكل فعل إلى طاعة المسيح (2 كورنثوس 10: 5). فأي نمو في حياة القداسة يتطلَّب ضبط النفس.

ما الذي لا يعنيه ضبط النفس؟

لفهم أفضل لما يعنيه ضبط النفس، علينا معرفة ما الذي لا يعنيه. هناك وجهتا نظر خاطئتان عن الحياة المسيحيَّة، البيلاجيَّة وشبه البيلاجيَّة، تشوِّهان الحق الكتابي عن ضبط النفس.

في القرن الرابع الميلادي، نادى زاهد بريطاني يُدعى بيلاجيوس (354-420) بتعليم زائف يقول إن الإنسان يمتلك قدرة داخليَّة على أن يخلِّص نفسه وأن يقدِّسها. وزعم أن بقوة إرادة الإنسان المُجرَّدة، يستطيع تحقيق الإرادة الإلهيَّة. بقوله هذا، أنكر بيلاجيوس الخطيَّة الأصليَّة والفساد التام للجنس البشري. وأصرَّ على أن مجرَّد معرفة الناموس الإلهي هو كل ما نحتاجه. إذ أن بحريَّة إرادة الإنسان، يستطيع أن يضبط نفسه بتقرير مصيره.

وقد أعلن مجمع قرطاج بيلاجيوس مُهرطقًا بسبب هذا التعليم الزائف (418 م.). لكن للأسف، ظلَّت البيلاجيَّة وسطنا. يفترض كثيرون اليوم خطأً أنهم يستطيعون ببساطة أن يكونوا أي ما يريدون أن يكونوه. نجد هذا الشعار الطائش اليوم في حركة المساعدة الذاتيَّة وإنجيل الرخاء، إذ يهتفون: "ما يمكن أن يتخيَّله العقل، يمكن للإرادة تحقيقه". ويزعمون أن قدرة ضبط النفس قابعة داخلنا.

تتمثَّل وجهة النظر الخاطئة الثانية في شبه البيلاجيَّة. يفترض هذا النهج التوفيقي أن الإنسان لديه بعض القدرة على خلاص نفسه وتقديسها. ينبغي على الإنسان تعضيد قوة إرادته بالمشاركة مع الله. في هذه العمل المُشتَرك، يساهم كل من الله والإنسان في ضبط النفس. يمد الله الإنسان بقدرٍ من النعمة، بينما على الإنسان القيام بالباقي.

شبه البيلاجيَّة هي مجرَّد نصف المسيحيَّة. وأيضًا أُعلن من قبل الكنيسة الغربيَّة أن هذا الرأي هرطقة في مجمع أورانج الثاني (529 م.). ولكن للأسف، لا يزال هذا التراث الفاسد حتى يومنا هذا في اللاهوت الأرميني المتمحور حول الإنسان وفي أساليب تعاليم تشارلز فيني المتعجرفة.

في المقابل، نادى بالحق معلم آخر من القرن الرابع يُدعى أوغسطينوس (354-430 م.). أكَّد هذا القائد الموهوب على أن الله هو الصانع الوحيد لخلاص الإنسان وتقديسه. فبنعمته السياديَّة، يُولد الله بعملٍ منفردٍ الخطاة الأموات روحيًّا.

نعم على كل مسيحي السعي وراء القداسة، ولكن الله هو من يعمل فينا لثمر تقوانا (فيلبي 2: 13-14). تدرك تعاليم أوغسطينوس صوابًا أن الله وحده القادر على خلق ضبط للنفس حقيقي لدى المؤمن.

من الذي يخلق ضبط النفس؟

تعتبر فضيلة ضبط النفس أو "التعفُّف" من ثمار الروح القدس (غلاطية 5: 22-23). وكما أن الكرمة تنتج أثمارًا، كذلك الروح القدس وحده هو مَن يخلق ضبط النفس. فضبط النفس لا يُخلق من ذاته؛ بل هو من عمل النعمة داخلنا. وعلى الرغم من نشاط سلوكنا فيه، نحن مجرد حاملين لهذا الثمر من ضبط النفس. إننا لا نخلقه قط.

لقد أكَّد الرب يسوع قائلًا: "بِدُونِي لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا" (يوحنا 15: 5). فبقدرتنا البشريَّة لا نستطيع فعل أي شيء يُسر الله. بنعمة الله القادرة وحدها، نستطيع السلوك بضبط النفس في حربنا المستمرة ضد الخطيَّة. ويؤكِّد بولس الرسول: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي 4: 13). بمعنى أن المسيح لا بد أن يكون عاملًا بقوَّة فينا.

كما تسير العُصارة إلى الغصن ليثمر، ينبغي أن تملأ النعمة الإلهيَّة المؤمن، لتثمر ضبط النفس. لا تستطيع الذات إطلاقًا أن تخلق ضبط النفس. وعندما يعيش المسيحيُّون خاضعين لسلطان الروح القدس، حينها سيثمرون ضبط النفس في حياتهم.

نقرأ في غلاطية 5: 22-23 تسع ثمار للروح القدس. ويظهر ضبط النفس (التعفُّف) في أسفل هذه القائمة، مما يوحي بأن لضبط النفس أهميَّة استراتيجيَّة. في الواقع، يعتبر ضبط النفس (التعفُّف) إجمالًا لثمار الروح القدس الثماني السابقة. فعمل الروح القدس يصل إلى اكتماله عند التعفُّف (ضبط النفس). وتمكِّننا هذه الفضيلة من إدراك كل ثمر آخر من ثمار الروح القدس.

كيف يبدو ضبط النفس؟

شبَّه الرسول بولس ضبط النفس في الحياة المسيحيَّة بتدرب الرياضي في الألعاب الرياضيَّة القديمة ومنافسته فيها، إذ يقول: "وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ" (1 كورنثوس 9: 25). إذا فاز عدَّاء بالجعالة، فحتمًا عاش حياته كلها بانضباط صارم للتدريب الجاد. يتطلَّب التمرين الشاق للرياضي تقييدًا صارمًا لحريَّاته الشخصيَّة. إذا أراد أن ينتصر، فعليه أن يرفض العديد من الحريَّات الشخصيَّة. فالحريَّات إلى حدٍ كبير للمشاهدين، لا للبطل الرياضي. ينبغي عليه اتباع نظام غذائي مناسب، وراحة كافية، وتدريبات شاقة. ولا بد من السيطرة على كل مجال من مجالات حياته.

الأمر ذاته ينطبق على الحياة المسيحيَّة. يحث بولس تيموثاوس قائلًا: "وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى" (1 تيموثاوس 4: 7). لطلب القداسة، ينبغي على المؤمن سماع الوعظ والتعليم الكتابيِّين والمشاركة في العبادة الجماعيَّة، وعشاء الرب، وقراءة الكتاب المُقدَّس، والتأمل، والصلاة، والشركة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي له التنازل عن الكثير من الملذَّات المشروعة إذا أراد الفوز بالجعالة.

يعد هذا النوع من ضبط النفس توبيخًا للمسيحيِّين الفاترين الذين لا يبذلون جهدًا للتدرُّب على الغلبة الروحيَّة. إنهم مؤمنون غير لائقين بإيمان متراخ. أرواحهم خاملة قعيدة مُتَّخمة بأطعمة بدون قيمة. وحياتهم غارقة في الذات، لافتقارهم إلى التعفُّف.

يضيف بولس فيقول: "هَكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لَا أَضْرِبُ الْهَوَاءَ" (1 كورنثوس 9: 26). ينبغي أن يكون للملاكم البطل هدفًا مُحدَّدًا واضحًا في الحلبة. لكن الملاكم غير المنضبط يتلقَّى اللكمات القاضية، ولا يلكم خصمه حتى بلكمه واحدة أبدًا. كذلك المؤمن غير المنضبط، يتلقَّى هزائم كبيرة في مباراته ضد الخطيَّة. على النقيض، ينبغي للمؤمن أن يعيش بضبط النفس في محاربة الخطيَّة.

ينبغي للبطل الرياضي إقماع جسده. إن لم يكن كذلك، فسيُرفض ويخسر السباق. يحذِّر بولس قائلًا: "بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلْآخَرِينَ لَا أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا" (آية 27). يحثنا الرسول على أن نقمع أجسادنا ونقاوم أهواءنا الشريرة. إن لم نفعل ذلك، سنخسر الجعالة.

ما الثمن؟

يحظى المؤمنون بالحريَّة في المسيح لطلب ما لا ينهى عنه الكتاب المُقدَّس. لكننا نفتقر إلى ما يمنحنا ضبط أنفسنا. دومًا ما يكون للانتصار ثمن. والحياة المسيحيَّة لا تختلف عن ذلك.

هذا يستلزم منَّا ممارسة ضبط النفس في مجالات مثل الطعام، والشراب، والنوم، والوقت، والمال. لا بد أن نحيا بتعفُّف في أنشطة الترفيه والتسلية التي ننخرط فيها. ويجب علينا أن نقيِّد حريَّاتنا في كل ما يمنعنا من الفوز بالجعالة.

إذا أردنا الحياة بضبط النفس، ينبغي أن نترك السيطرة على حياتنا للرب يسوع المسيح. وهذه إحدى مفارقات الحياة المسيحيَّة: ينبغي أن نتخلَّى عن السيطرة على الذات إذا كنَّا سنربح ضبط النفس. فليعيننا الله على الحياة بضبط النفس الذي يعد ضرورة قصوى للانتصار على الخطيَّة.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

ستيفن لوسان
ستيفن لوسان
الدكتور ستيفن لوسان هو مؤسس هيئة خدمات وانباشون (OnePassion). وهو عضو هيئة التدريس في خدمات ليجونير، ومدير برنامج الدكتوراه في الخدمة في كلية لاهوت (The Master’s Seminary)، ومدير لمعهد الوعظ التفسيري. وقد كتب أكثر من عشرين كتابًا.