كيف تبدو التوبة؟ - خدمات ليجونير
بما أنّ الله سيّد مُتسلّط، فكيف يكون البشرُ أحرارًا
۹ مارس ۲۰۲۳
هل ليسوع طبيعةٌ واحدة أم طبيعتَيْن؟
۱٦ مارس ۲۰۲۳
بما أنّ الله سيّد مُتسلّط، فكيف يكون البشرُ أحرارًا
۹ مارس ۲۰۲۳
هل ليسوع طبيعةٌ واحدة أم طبيعتَيْن؟
۱٦ مارس ۲۰۲۳

كيف تبدو التوبة؟

المزمور 51 هو أحد مزامير الندامة والتوبة الذي كتبه داود بعد أنْ واجهه النبيّ ناثان. أعلنَ ناثان أنّ داود ارتكبَ خطيئة فظيعة ضدّ الله، عندما أخذَ بثشبع زوجةً له وقتل زوجَها، أوريّا.

من المهمّ أنْ نشعر بالألم والندم القلبيّ الذي عبَّر عنه داود، لكن علينا أيضًا أنْ نُدركَ أنّ توبةَ القلبِ هي عملُ الله الروح القدس. تابَ داود بسبب تأثير وعمل الروح القدس فيه. ليس ذلك فحسب، بل بينما كان يكتبُ هذه الصلاة، كان يكتبُها بوحيٍ من الروح القدس. يُظهر لنا الروح القدس في مزمور 51 كيف يُنتجُ توبةً في قلوبنا. تذكّر هذا بينما نتأمّل في هذا المزمور.

يبدأ المزمور 51 بهذه الكلمات: "اِرْحَمْنِي يَا ٱللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ ٱمْحُ مَعَاصِيَّ" (مزمور 51: 1). نرى هنا عنصرًا جوهريًّا للتوبة. بالعادة، عندما يدركُ الإنسانُ خطيئَته ويتحوّل عنها، فإنّه بذلك يلقي بنفسه على رحمةِ الله. الثمار الأولى للتوبة الحقيقيّة، هي الاعتراف بحاجتنا العميقة إلى رحمة الله. لم يطلبْ داود تحقيقَ العدالة من الله، فهو يعلم تمامًا أنّه لو أرادَ الله أنْ يتعاملَ معه وفقًا لعدالته، فسيكون مصيره الهلاك حالًا. نتيجةً لذلك، بدأ داود اعترافَه بطلب الرحمة.

عندما يلتمس داود من الله أنْ يمحو معاصيه، فإنّه يطلب منه أنْ يزيلَ اللطخةَ من روحه، وأن يغطّي إثمَه، وأنْ يطهّره من الخطيئة التي أصبحت الآن جزءًا لا يتجزّأ من حياتِه. فيقول له: "ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي!" (مزمور 51: 2).

الغفران والتطهير مترابطان، لكنّهما ليسا الشيء نفسه. يكتب الرسول يوحنّا في العهد الجديد: "إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنّا 1: 9). نتقدّم أمام الله بروح التوبة، ونعترف بخطايانا، ولا نطلب الغفرانَ فحسب، بل أيضًا القوّةَ للتوقّف عن ارتكاب الخطيئة نفسها. وكما فعل داود في هذا المزمور، نطلُب من الله أن يقضي على ميلنا إلى الشرّ.

يتابع داود قائلًا: "لِأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا" (مزمور 51: 3). هذا ليس مُجرّد اعتراف عابر بذنبه. إنّه يتعذّب ويقول: "أعلم أنّني مذنب." إنّه لا يحاول التخفيفَ من ذنبه، ولا يحاول تبريرَ نفسه. أمّا نحن، فغالبًا ما نلجأ إلى المنطق ونُسرع إلى تقديم شتّى أنواع الأسباب لتبرير سلوكنا المشين. لكن في هذا النصّ، أوصلَتْ قوّةُ الروح القدس داود إلى مرحلةٍ كان فيها صادقًا أمام الله، فاعترفَ بذنبه، مُدركًا أنّ خطيئته ستكون حاضرة أمامه بشكل دائم. لن يقدر أنْ يتخلّصَ منها بعد اليوم، وسيبقى هذا الأمر يُطاردُه.

ثمّ يصرخ قائلًا: "إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ" (مزمور 51: 4). استخدمَ داود صيغة المبالغة هنا، فقد أخطأ بشكل مروّع ضدّ أوريا، وعائلتِه، وأصدقائِه، وزوجتِه بثشبع، وأمّةِ شعبِ الله بأكملها. لكنّ داود أدركَ أنّ الخطيئة في النهاية هي تعدٍّ على الله، لأنّ الله هو وحده الكامل في الكون. بما أنّ الله هو ديّان السماء والأرض، يُصبح تعريفُ كلّ الخطايا بأنّها تعدٍّ على شريعة الله وعلى قداسته. أدركَ داود هذا الأمر واعترفَ به. وهو لا يقلّل من واقع خطيئته التي ارتكبَها ضدّ بشرٍ آخرين، بل يعترفُ بأنّ خطيئَته كانت في النهاية ضدّ الله.

ثمّ أدلى داود بتصريح غالبًا ما يتمّ تجاهله. هذا التصريح موجود في الجزء الثاني من الآية 4، وهو أحد أقوى تعابير التوبة الحقيقيّة في الكتاب المقدّس: "لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ" (مزمور 51: 4). يقول داود بشكل أساسيّ: "يا الله، يحقّ لكَ أنْ تدينَني، ومن الواضح أنّني لا أستحقّ أكثر من دينونتِك وغضبِك". اعترفَ داود أنّ الله بلا لوم، وله كامل الحقّ في أنْ يدينَه. لا مكانَ للمساومة ولا للتفاوض مع الله.

"هَأَنَذَا بِٱلْإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ، فَفِي ٱلسَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً" (مزمور 51: 5-6). لا يريدُ الله أنْ نعترفَ بالحقيقة فحسب، بل يريدها أنْ تنبعَ من أعماقنا. يُقرّ داود بأنّه فشل في فِعْلِ ما أوصى به الله، وأنّ طاعته غالبًا ما هي مُجرّد طقوس خارجيّة، بدلًا من أن تكون أفعالًا نابعة من أعماقِ كيانِه.

ثمّ صرخ داود مرّة أخرى طالبًا تطهيره: "طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ" (مزمور 51: 7). يمكننا أنْ نسمعَ في صوت داود عجزَه المطلق، فهو لم يقلْ: "يا إلهي، انتظر لحظة. قبلَ أن أُكمِلَ هذا الحوار معك في الصلاة، عليّ أن أطهّر يديّ. يجب أن أغتسل ". أدركَ داود أنّه غير قادر على إزالة لطخة ذنبه من داخله. لا يستطيع التعويض عنها. ينبغي علينا أنْ نضمّ صوتنا إلى داود ونعترف بأنّنا لا نستطيع التكفير عن خطايانا.

في وقت لاحق، أعطى الله هذا الوعد من خلال النبي إشعياء:

"هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ" (اشعياء 1: 18). يُسرّ الله بتطهيرنا عندما يجدنا مُلطّخين بالأوحال.

ثمّ يقول داود: "أَسْمِعْنِي سُرُورًا وَفَرَحًا" (مزمور 51: 8أ). التوبةُ اختبارٌ مؤلم. مَنْ منّا يستمتع بالاعتراف بخطاياه والإقرار بذنبه؟ الذنب هو المدمّر الأقوى للبهجة. مع أنّ داود لم يكن سعيدًا جدًّا خلال هذه اللحظة، إلّا أنّه يطلب من الله أن يشفيَ روحه، وأنْ يجعلَه يشعر بالبهجة والفرح مرّة أخرى. أوضح ذلك عندما قال: "فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا" (مزمور 51: 8ب). أليست هذه عبارة شيّقة؟ إنّه يقول:

"يا الله، لقد سحقتني. عظامي مُهشّمة؛ وهذا ليس من فعل الشيطان ولا ناثان، بل أنتَ مَن فعل هذا عندما بكّتني على ذنوبي. لذلك، أنا أقفُ أمامك كرجل مُحطّم، والطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها أن أستمرّ في حياتي، هي بأنْ تشفيني وتعيدَ لي الفرح والابتهاج.

بعد ذلك يقول: "ٱسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ، وَٱمْحُ كُلَّ آثَامِي. قَلْبًا نَقِيًّا ٱخْلُقْ فِيَّ يَا ٱللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي" (مزمور 51: 9-10). الطريقة الوحيدة للحصول على قلب طاهر هي عندما يخلق الله قلبًا جديدًا. أنا غير قادر أنْ أخلقَ ذلك بنفسي. الله وحده قادر أنْ يخلقَ قلبًا طاهرًا، وهو يخلق قلوبًا طاهرة عندما يمحو خطايانا.

ثمّ يصرخ داود بعد ذلك قائلًا: "لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي" (مزمور 51: 11). أدركَ داود أنّ هذا أسوأ ما يُمكن أنْ يحدثَ لأيّ خاطئ. إنّه في الواقع يعلم أنّ الله سيطردنا من محضره إنْ لم نتوقّف عن عصياننا. يحذّر يسوع أنّ الذين يرفضونه سينفصلون عن الله إلى الأبد. لكن صلاة التوبة هي ملجأ للمؤمن. إنّها استجابة تقيّة لمن يعلم أنّه في الخطيئة. يجب أنْ يكونَ هذا النوع من الاستجابة علامة مميّزة في حياة كلّ الذين تجدّدوا.

يتابع داود: "رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ ٱعْضُدْنِي. فَأُعَلِّمَ ٱلْأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَٱلْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ" (مزمور 51: 12-13). كثيرًا ما نسمع أنّ الناسَ لا يحبّون التواجدَ مع المسيحيّين لأنّهم يُظهرون تعجرفًا وبرًّا ذاتيًّا، أو كما لو أنّهم يتمتّعون بأخلاقٍ عالية، أو بقداسة أكثر من الآخرين. لكن لا ينبغي أنْ تكونَ الأمور على هذه الحال، لأنّه ليس عند المسيحيّين ما يدعوهم للعجرفة، فنحن لسنا أبرارًا نحاول تصحيح الأشرار. وكما قال أحدُ الوعّاظ: "الكرازة هي مُجرّد متسوّل يُخبر متسوّلًا آخر أين الخبزُ موجود." الفرق الرئيسيّ بين المؤمن وغير المؤمن هو الغفران، والأمر الوحيد الذي يؤهّل الشخص ليُصبح خادمًا باسم المسيح، هو اختباره للغفران، ورغبتُه في إخبار الآخرين عن هذا الغفران.

"يَارَبُّ ٱفْتَحْ شَفَتَيَّ، فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ. لِأَنَّكَ لَا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لَا تَرْضَى. ذَبَائِحُ ٱللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا ٱللهُ لَا تَحْتَقِرُهُ" (مزمور 51: 15-17). هنا نجدُ قلبَ وروحَ التوبة النبويّة كما هي ظاهرة في الإصحاح الأخير. إنّ الطبيعة الحقيقيّة للتوبة الورعة موجودة في عبارة "ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا ٱللهُ لَا تَحْتَقِرُهُ". ما يقوله داود هو أنّه لو كان قادرًا أن يُكفّر خطاياه بنفسه، لفعلَ ذلك؛ أمّا واقع الحال، فأمله الوحيد هو في قبولِ الله له بحسب رحمته.

يُخبرنا الكتاب المقدّس بشكل صريح ويُظهر لنا ضمنيًّا أنّ الله يقاومُ المُستكبرين، وأمّا المتواضعون فيُعطيهم نعمة. يعرف داود صحّة هذه الحقيقة. وعلى الرغم من شعوره بالانكسار، إلّا أنّه يعرفُ الله ويعرف كيف يتعامل مع التائبين. إنّه مُدرك بأنّ الله لا يكره ولا يحتقر أبدًا القلب المنكسر والتائب. هذا ما يريده الله منّا، وهذا ما كان يُفكّر به يسوع في التطويبات عندما قال: "طُوبَى لِلْحَزَانَى، لِأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ" (متّى 5: 4). لا تتعلّق هذه الآية بالحزن على فُقدان شخص تُحبّه فحسب، بل أيضًا بالحزن الذي نختبره عندما نشعر بتبكيت خطيئتنا. يؤكّد لنا يسوع أنّه عندما نحزن على خطايانا، فإنّ الله سيعزّينا بواسطة روحه القدّوس.

أنا أنصح جميع المسيحيّين أنْ يحفظوا المزمور 51 عن ظهر قلب، فهو نموذج عن التوبة الصادقة. لقد تقدّمت من الربّ مرّات عديدة في حياتي لأقولَ له: " قَلْبًا نَقِيًّا ٱخْلُقْ فِيَّ يَا ٱللهُ،" أو " ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي". لقد صلّيْت مرّات عديدة: "رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ"، وصرختُ: "إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ." عندما نشعر بثقل شعورنا بالذنب، تخوننا الكلمات عندما نحاول التعبير عمّا يُخالجنا خلال توبتنا أمامَ الله. إنّها حقًا بركة عظيمة أنْ تكونَ كلماتُ الكتاب المقدّس نفسُها على شفاهنا في تلك المناسبات.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

آر. سي. سبرول
آر. سي. سبرول
د. آر. سي. سبرول هو مؤسس خدمات ليجونير، وهو أول خادم وعظ وعلّم في كنيسة القديس أندرو في مدينة سانفورد بولاية فلوريدا. وأول رئيس لكلية الكتاب المقدس للإصلاح. وهو مؤلف لأكثر من مئة كتاب، من ضمنها كتاب قداسة الله.