لاهوتيٌّ لكلِّ العصور: جون كالفن - خدمات ليجونير
عالم اللاهوت العهدي: هينريتش بولينجر
۲۰ ديسمبر ۲۰۲۲
هل انتهى الإصلاح؟
۲۹ ديسمبر ۲۰۲۲
عالم اللاهوت العهدي: هينريتش بولينجر
۲۰ ديسمبر ۲۰۲۲
هل انتهى الإصلاح؟
۲۹ ديسمبر ۲۰۲۲

لاهوتيٌّ لكلِّ العصور: جون كالفن

يمكن القول بسهولة إن جون كالفن (1509-1564) يُعَد أهم عالم لاهوت بروتستانتي لكل زمنٍ وعصرٍ، وإنه يظلُّ واحدًا من الرجال العظماء بحقٍّ الذين أتوا إلى الحياة على الإطلاق. وهو لاهوتيٌّ من الطراز العالمي، ومُعلِّم شهير، ورجل دولة كنسي، ومُصلِح باسل. ولذلك، يعتبر كثيرون أنه كان الرجل الأشد تأثيرًا في الكنيسة منذ القرن الأول. وباستثناء كُتَّاب الأسفار الكتابية أنفسهم، يُحسَب كالفن أشد خدام الكلمة تأثيرًا الذين شهدهم العالم على الإطلاق. وكان فيليب ميلانكثون يكنُّ له تبجيلًا باعتباره المُفسِّر الأبرع للكتاب المقدس في الكنيسة، ولهذا دعاه ببساطة باسم "اللاهوتي". وقال تشارلز سبرجن إن كالفن "نطق بالحق بأشد وضوح من أيِّ إنسان آخر عاش في عالمنا على الإطلاق، وعرف الكتاب المقدس أكثر من الجميع، وشرحه بأوضح صورة".

وُلِد كالفن في 10 يوليو عام 1509، لوالديه جيرارد وجين كوفين، في مدينة نويون الفرنسية، بكاثدرال سيتي، التي تقع على بعد نحو ستين ميلًا شمال باريس. كان جيرارد كاتب عدل، أو مسئولًا ماليًّا، يعمل لدى الأسقف الكاثوليكي الروماني لأبرشية نويون، وبالتالي كان ينتمي إلى الطبقة المهنية. وعندما بلغ جون الرابعة عشر من عمره، التحق بالمؤسسة التعليمية الرائدة في أوروبا، وهي جامعة باريس، لدراسة علم اللاهوت، استعدادًا للانضمام إلى الكهنوت. وهناك، غاص في دراسة مبادئ عصر النهضة، والمذهب الإنساني، والدراسات الأكاديمية. وكان شابًا جادًّا ومثقفًا على نحو لافت للنظر، فتخرج هناك بدرجة الماجستير (عام 1528).

بعد تخرُّج كالفن بفترة وجيزة، شبَّ نزاع بين جيرارد وأسقف نويون. وهذا الخلاف مع الكنيسة دفع جيرارد إلى أن يعيد توجيه ابنه المتفوِّق إلى دراسة القانون بجامعة أورليان (عام 1528)، ثم في جامعة بورج (عام 1529). تعلَّم كالفن هناك اللغة اليونانية، وصقل مهاراته في التفكير التحليلي، وكيفية تقديم حُجة مقنعة، وهي المهارات التي استخدمها لاحقًا بفاعلية شديدة على منبر جنيف. لكن عندما توفي جيرارد بغتةً (عام 1531)، عاد كالفن، البالغ من العمر آنذاك واحد وعشرين عامًا، إلى باريس لملاحقه شغفه الأكبر، أي لدراسة الأدب الكلاسيكي. ثم عاد لاحقًا إلى جامعة بورج، ليستكمل دراسته للقانون، فحصل على درجته العلمية في القانون عام 1532.

اختبار تجديد فجائي

وبينما كان كالفن يدرس بجامعة أورليان، تَعَرَّض لبعض أفكار الإصلاح المبكِّرة من خلال كتابات مارتن لوثر، التي كانت تُناقَش على نطاق واسع في الأوساط الأكاديمية. ونتيجةً لذلك، أقبل كالفن إلى الإيمان بالمسيح، وكتب عن اختبار إيمانه، في مقدِّمة كتابه عن تفسير سفر المزامير (الذي صدر عام 1557)، قائلًا:

حاولتُ الاجتهاد في هذا المجال [أي دراسة القانون] بأمانة وإخلاص، طاعةً مني لرغبة والدي. لكنَّ الله، من خلال توجيه سري من عنايته الإلهية، وجَّه مسار حياتي في اتجاه مختلف. ففي البداية، كنتُ مصرًّا في عناد على اعتناق الخرافات البابوية، لدرجة جعلت مهمة إنقاذي من هُوَّة المستنقع العميقة هذه مهمة مستحيلة. ولذلك، قام الله، عن طريق فعل تجديد فجائي، بإخضاع ذهني، محوِّلًا إياه إلى ذهنٍ قابل للتعلُّم، بعدما كان ذهنًا متحجرًا ومتصلِّبًا، على نحو يفوق ما يمكن توقُّعه من شخص خلال هذه الفترة المبكرة من حياته. وإذ ذقتُ عيِّنة من التقوى الحقيقية، وتلَّقيت بعض المعرفة بها، اشتعلتُ في الحال برغبة شديدة في إحراز مزيد من التقدُّم في هذا الأمر. ومع أنني لم أتخلَّ تمامًا عن دراسة المجالات الأخرى، لكنني واصلتُها في حماس أقل.

وفي نوفمبر عام 1533، ألقى نيكولاس كوب (Nicolas Cop)، رئيس جامعة باريس، وصديق كالفن، الخطاب الافتتاحي للفصل الدراسي الشتوي بالجامعة. وكان مضمون الرسالة عبارة عن مناشدة بالإصلاح، مبنية على العهد الجديد، بالإضافة إلى هجوم جريء على اللاهوتيين السكولاستيِّين (المدرسيِّين) في ذلك الوقت. واجه كوب مقاومة عنيفة لآرائه "الشبيهة بآراء لوثر". ويُعتَقَد أن كالفن تعاون مع كوب في صياغة هذا الخطاب، لأنه توجد نسخة من نص هذا الخطاب مكتوبةً بخط يد كالفن. ونتيجةً لذلك، أُجبِر كالفن على مغادرة باريس قبل أن يُلقَى القبض عليه، وانعزل في قصر لوي دو تيليه (Louis du Tillet)، وهو رجل ميسور الحال كان داعمًا لقضية الإصلاح. وهناك، داخل مكتبة دو تيليه اللاهوتية المكتظَّة، قرأ كالفن الكتاب المقدس، بالإضافة إلى كتابات آباء الكنيسة، وأبرزهم أوغسطينوس. وبسبب عمل كالفن الجاد وذكائه، وبالنعمة أيضًا، تطور ليصبح عالم لاهوت علَّم نفسه بنفسه، وصار يحتل مكانة ليست بقليلة.

في عام 1534، انتقل كالفن إلى بازل في سويسرا، التي كانت قد أصبحت آنذاك معقلًا بروتستانتيًا، كي يقضي وقتًا من العزلة بهدف الدراسة. وفي بازل، أصدر كالفن الطبعة الأولى من الكتاب الذي أصبح بعد ذلك تحفته اللاهوتية، والكتاب الأهم على الإطلاق خلال فترة الإصلاح، وهو الكتاب بعنوان "أسس الدين المَسِيحِيّ" (Institutes of the Christian Religion). وفي هذا الكتاب، عرض كالفن أساسيات الإيمان البروتستانتي، وقدَّم حجة مقنعة تؤيِّد التفسير المصلَح للكتاب المقدس. ومن العجيب والمذهل أن كالفن بدأ هذا العمل وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أي بعد تجديده بعام واحد فحسب، ونشره وهو في السادسة والعشرين من عمره.

في عام 1536، قرَّر كالفن أن ينتقل إلى ستراتسبرج، الواقعة في جنوب غرب ألمانيا، لمواصلة دراسته كباحثٍ منعزلٍ. لكنَّ الحرب التي نشبت بين فرنسيس الأول وتشارلز الخامس، إمبراطور روما المقدَّس، منعته من سلوك الطريق المباشر إلى هناك، فأُجبِر على الانعطاف إلى جنيف، حيث كان ينوي قضاء ليلة واحدة فحسب. لكن عندما دخل المدينة، تعرَّف عليه سكانها في الحال، بأنه المؤلف الشاب لكتاب أُسُس الدين المسيحي. واصطحبه الداعمون للإصلاح لمقابلة ويليام فاريل (William Farel)، الذي كان قد قاد الحركة البروتستانتية في جنيف لمدة عشر سنوات. كانت جنيف قد صوَّتت مؤخرًا لصالح الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، لتصير مدينة مُصلحة. لكنها كانت في حاجة ماسة إلى مُعلِّم يستطيع صياغة الحقائق المُصلحة. وحثَّ فاريل الناري كالفن على تولِّي هذه المهمة. وعندما تردَّد كالفن بشأن قبول ذلك، لجأ فاريل إلى أسلوب التهديد غير اللائق. وعندما كتب كالفن عن ذلك، قال:

فاريل، الذي كان مُشتعلًا بغيرة استثنائية على تقدُّم الإنجيل، لم يَدَّخر أيَّ جهد لاحتجازي هناك. وبعدما علم أن قلبي مائلٌ أكثر إلى تكريس نفسي للدراسة الشخصية المنعزلة، الأمر الذي لأجله كنتُ أرغب في التفرُّغ من أيِّ مهام أخرى، وبعدما اكتشف أنه لم يحقِّق شيئًا باستخدام أسلوب التوسُّل، شرع يهدِّدني بأن الله سيلعن عزلتي، وسكينة الدراسة التي كنتُ أنشدها، إذا ما انسحبتُ ورفضتُ تقديم المساعدة، بينما الضرورة مُلحَّة للغاية. أصابني هذا التهديد بالرعب لدرجة أنني تخليتُ عن القيام بالرحلة التي كنتُ قد شرعتُ في القيام بها.

بدأ كالفن خدمته في جنيف محاضرًا، ثم راعيًا للكنيسة. ومع فاريل، ابتدأ كالفن يمارس مهمة توفيق حياة الكنيسة وممارساتها مع تعاليم الكتاب المقدس. وكان تطبيق التأديب الكنسي عند مائدة العشاء الرباني هي أحد الإصلاحات التي مارسها. لم يلقَ هذا قبولًا لدى مواطني جنيف البارزين، الذين كان كثيرون منهم يعيشون في الخطية. وبلغت هذه الأزمة نقطة الغليان يوم أحد عيد القيامة في 23 أبريل عام 1538، عندما رفض كالفن منح العشاء الرباني لبعض الأشخاص البارزين في المدينة، الذين كانوا يعيشون في خطية صريحة وعلنية. وازداد التوتر إلى حد كبير، لدرجة أن كالفن وفاريل أُجبِرا على مغادرة جنيف.

النفي والعودة

ذهب كالفن بعد ذلك إلى ستراسبرج، حيث كان ينوي الذهاب قبل ذلك بعامين. وكان غرضه هو الهروب عن أعين الناس. لكن مارتن بوسر (Martin Bucer)، كبير المُصلِحين في ستراسبرج، أصرَّ على أن يواصل كالفن خدمة المنبر العلني، وهدَّده مثلما فعل فاريل في وقت سابق. استسلم كالفن لبوسر، وأصبح راعيًا لما يقرب من خمسمئة لاجئًا بروتستانتيًّا من فرنسا.

لكن، أتيح لهذا اللاهوتي في منفاه في ستراسبرج أيضًا الوقت والحرية للكتابة، فكتب تفسيره لرسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، وأضاف إلى محتوى كتاب "أسس الدين المسيحي"، كما ترجمه إلى اللغة الفرنسية. وفي هذا الوقت نفسه، كتب كالفن المؤلَّف الذي أشيد به، ووُصِف بأنه أعظم دفاعٍ عن الإصلاح، وهو كتاب A Reply to Sadoleto ("ردٌّ على سادوليتو"). فبعد مغادرة كالفن لجنيف، كتب الكاردينال جاكوبو سادوليتو (Jacopo Sadoleto) رسالة عامة إلى سكان المدينة، يدعوهم فيها إلى العودة إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فناشد كبار رجال المدينة كالفن أن يقوم بالردِّ عليه، الأمر الذي فعله كالفن، مقدِّمًا الرد الذي كان بمثابة دفاع مُقنع عن مجد الله في إنجيل النعمة. وخلال وجود كالفن في ستراسبرج، تزوَّج أيضًا من إيديليت دي بور (Idelette de Bure)، وهي أرملة كان لديها طفلان، استطاعت أن تضفي الكثير من السعادة على حياة كالفن.

وبعدما قضى كالفن ثلاث سنوات سعيدة في ستراسبرج، كتب إليه كبار رجال مدينة جنيف يطلبون منه العودة ليكون راعيًا لهم. ففي أثناء غيابه، تدهور الوضع الديني والسياسي للمدينة. في البداية، لم يكن لدى كالفن أيُّ نية للعودة. وفي رسالة منه إلى فاريل في 29 مارس عام 1540، قال: "أُفضِّل أن أخضع للموت مئة مرة على أن أخضع لذلك الصليب، الذي عليه يضطر المرء أن يموت في اليوم ألف مرة". لكن كالفن غَيَّر رأيه في النهاية، رغم المخاطر العديدة التي كان يَعلَم جيدًا أنها تنتظره في جنيف. فقد رأى كالفن أن حياته في المسيح مسلَّمة لله بالكامل وطواعية. وهذا هو التوجُّه القلبي المعبَّر عنه في ختم كالفن الشخصي، الذي كان في شكل يدٍ تحمل قلبًا، وتحتها شعار يقول: "هوذا قلبي أعطيكَ يا رب، في توقٍ وجدية". وبالتالي، خضع كالفن لما رأى أنها مشيئة الله، وعاد إلى تولِّي وظيفته الرعوية في سويسرا.

وصل كالفن إلى جنيف في 13 سبتمبر عام 1541، بعد غياب دام ثلاث سنوات ونصف. وفي عظته الأولى، استأنف شرحه للكتاب المقدس من الآية التالية لآخر آية كان قد تناولها قبل نفيه. وكان هدفه من هذا الاستئناف هو أن يصرِّح بجرأة بأن الوعظ بالكلمة آية تلو الأخرى سوف يشغل المكانة الأساسية في خدمته.

قُسِّم تولِّي كالفن وظيفته الرعوية للمرة الثانية في جنيف إلى فترتين. الفترة الأولى تمثَّلت في سنوات المعارضة (1541-1555)، التي فيها قاسى كالفن الكثير من المقاومة والصعوبات. بدأت هذه المعارضة من الوطنيين، وهم أعرق العائلات وأكثرها نفوذًا في جنيف. فلم يكن كالفن يروق لهم إلى حدٍّ كبير لأنه كان أجنبيًا. كما واجه كالفن مقاومة من المتحرِّرين، وهم أشخاص في جنيف كانوا رافضين الخضوع للشريعة، ويعيشون في الخطية والزنا بشكل صريح وعلني. لكن أصعب مشكلة على الإطلاق تمثَّلت في الأزمة التي تسبب فيها مايكل سيرفيتوس (Michael Servetus) في عام 1553. فقد قام قبل كبار رجال المدينة بإعدام هذا المهرطق المعروف حرقًا على العمود، بعدما استدعوا كالفن ليكون شاهدًا خبيرًا على المحاكمة. ومن بين الضيقات الأخرى التي عانى منها كالفن خلال هذه الفترة هي وفاة جاك، ابنه، بعد أسبوعين فقط من ميلاده، في عام 1542، وكذلك وفاة إيديليت، زوجته، في عام 1549، بعد زواج دام فقط تسع سنوات.

وأخيرًا، هدأت هذه المعارضة الاستنزافية. ويُمكن وصف السنوات التسع الأخيرة من حياة كالفن (1555-1564) بسنوات الدعم. فبعد طول انتظار، حصل كالفن على دعم وتأييد كبار رجال المدينة. وبهذا الدعم، استطاع تأسيس أكاديمية جنيف في عام 1559، مستندًا في ذلك إلى النموذج الذي رآه في ستراسبرج. وفي هذه الأكاديمية، كانت هناك مدرسة خاصة للتعليم الابتدائي، ومدرسة حكومية تقدِّم دراسات أكثر تقدمًا في لغات الكتاب المقدس وعلم اللاهوت، بهدف تدريب القساوسة، والمحامين، والأطباء. كذلك، في عام 1559، أُصدِرت الطبعة الخامسة والأخيرة من كتاب "أُسُس الدين المسيحي". وفي عام 1560، أُصدِر كتاب جنيف المقدس، الذي يُعَد أول ترجمة إنجليزية للكتاب المقدس تحوي ملاحظات لاهوتية في الهوامش. وإن هذا العمل الضخم والهائل، الذي أصدره رجال تعلَّموا على يد كالفن، قدم فلسفة ومنظورًا حياتيًّا عن سيادة الله على كلِّ الخليقة.

أرسل كالفن رُعاة ناطقين باللغة الفرنسية، كان قد درَّبهم على خدمة الإنجيل، من جنيف إلى مقاطعات أخرى ناطقة باللغة الفرنسية في أوروبا. ذهب غالبية هؤلاء إلى فرنسا، حيث توسَّعت الحركة المصلَحة لتشمل نحو عُشر عدد السكان. وفي النهاية، ذهب ثلاثمئة مُرسل ممَّن تلقوا تدريبهم في جنيف إلى فرنسا. وبحلول عام 1560، زُرِع ما يزيد على مئة كنيسة تحت الأرض في فرنسا على يد رجال أُرسِلوا من جنيف. وبحلول عام 1562، تضاعف عدد الكنائس إلى نحو 2150 كنيسة، تضم أكثر من ثلاثة ملايين عضوًا. وبلغ عدد أعضاء البعض من هذه الكنائس الآلاف. نتج عن هذا النمو تأسيس كنيسة هوجوينوت، التي استطاعت أن تتغلَّب تقريبًا على الإصلاح الكاثوليكي المضاد في فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، قام مُرسلون تدرَّبوا في جنيف بزرع كنائس في إيطاليا، والمجر، وبولندا، وألمانيا، وهولندا، وإنجلترا، واسكتلندا، وراينلاند، بل وفي البرازيل أيضًا.

خطاب وداعي 

في أوائل عام 1564، أصيب كالفن بمرض خطير. وفي يوم الأحد 6 فبراير، وعظ للمرة الأخيرة فوق منبر كاتدرائية القديس بطرس. وبحلول شهر أبريل من هذا العام نفسه، بدا واضحًا أنه لم يتبقَّ الكثير في حياته. وقد واجه كالفن الموت، وهو في الرابعة والخمسين من عمره، بالطريقة نفسها التي واجه بها المنبر طوال حياته، أي في ثبات وعزم شديد. وإن قوة إيمانه، المؤسَّسة على سيادة الله، تجلَّت في شهادته ووصيته الأخيرة. ففي 25 أبريل عام 1564، نطق كالفن بالكلمات التالية:

أشكر الله، ليس فقط لأنه أشفق عليَّ، أنا المخلوق المسكين، مخرجًا إياي من هاوية عبادة الأوثان التي كنتُ غارقًا فيها، كي  يحضرني إلى نور إنجيله، ويجعلني شريكًا في عقيدة الخلاص، التي لستُ أستحقها على الإطلاق؛ وليس فقط على رحمته المستمرة، التي بها دعمني وساندني رغم خطاياي وتقصيراتي الكثيرة جدًا، التي كان من شأنها أن تجعلني أستحق أن يرفضني مئة ألف مرة؛ بل أشكره بالأكثر لأنه بسط إليَّ رحمته إلى هذا اليوم، مستخدمًا إياي، ومستخدمًا تعبي وخدمتي، حتى يعلِن حقَّ إنجيله.

وبعد ذلك بثلاثة أيام، في 28 أبريل عام 1654، دعا كالفن زملاءه من القساوسة، والرعاة، والخدام إلى غرفة نومه، وألقى عليهم خطابه الوداعي، محذرًا إياهم من أن معارك الإصلاح لم تنتهِ بعد، بل كان كلُّ ما يحدث مجرد البداية، فقال: "ستواجهون صعوبات بعدما يأخذني الرب إليه ... لكن تحلُّوا بالشجاعة، وحَصِّنوا أنفسكم، لأن الله سيستخدم هذه الكنيسة، ويحفظها، وهو يطمئنكم بأنه سيحميها". وبهذا، سلم كالفن الراية من يديه الواهنتين إلى أيديهم.

فارق كالفن الحياة في 27 مايو عام 1564، بين ذراعي ثيودور بيزا (Theodore Beza)، الذي صار خليفته. وكانت كلمات كالفن الأخيرة، القائلة "حتى متى يا رب؟"، هي كلمات الكتاب المقدس نفسه (مزمور 79: 5؛ 89: 46). فقد مات وهو يقتبس من الكتاب المقدس الذي وعظ منه طوال حياته. ودُفن هذا الخادم المتواضع دفنًا لائقًا في مقبرة عامة، في قبرٍ بلا حجر شاهد، وذلك بناءً على طلبه.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

ستيفن لوسان
ستيفن لوسان
الدكتور ستيفن لوسان هو مؤسس هيئة خدمات وانباشون (OnePassion). وهو عضو هيئة التدريس في خدمات ليجونير، ومدير برنامج الدكتوراه في الخدمة في كلية لاهوت (The Master’s Seminary)، ومدير لمعهد الوعظ التفسيري. وقد كتب أكثر من عشرين كتابًا.