قلعة الحق: مارتن لوثر - خدمات ليجونير
الإصلاح والرجال المسؤولون عنه
۷ ديسمبر ۲۰۲۲
ثائر زيورخ: أولريش زوينجلي
۱۳ ديسمبر ۲۰۲۲
الإصلاح والرجال المسؤولون عنه
۷ ديسمبر ۲۰۲۲
ثائر زيورخ: أولريش زوينجلي
۱۳ ديسمبر ۲۰۲۲

قلعة الحق: مارتن لوثر

كان مارتن لوثر عملاقًا من عمالقة التاريخ. ويعتقد البعض أنه كان أهم شخصية أوروبية في الألفية الثانية. وقد كان هو المُصلح الريادي، وأول من استخدمه الله في إشعال شرارة تحوُّل جذري في المَسِيحِيَّة، وفي العالم الغربي بأكمله. وهو كان زعيم الإصلاح الألماني دون منازع. وفي عصرٍ من الفساد والارتداد الكنسي، كان بطلًا باسلًا في الدفاع عن الحق. وقد أسهم تأثير وعظه وقلمه في استعادة الإنجيل النقي. وكُتِبت عنه كتب أكثر من أيِّ رجل آخر في التاريخ، باستثناء يسوع المسيح، وربما أوغسطينوس.

جاء لوثر من سلالة تتميَّز بالعمل الكادح. فقد وُلد في مدينة أيسلبن الصغيرة في ألمانيا، في 10 نوفمبر عام 1483. وكان والده، هانز، عاملًا في مناجم النحاس، نجح في النهاية في تكوين ثروة نتيجة شراكات له في المناجم، والمصاهر، وغيرها من المشاريع التجارية. وكانت والدته سيدة تقية، لكنها كانت تؤمن بالخرافات الدينية. ونشأ لوثر تحت الضوابط والتدريبات الصارمة التي تفرضها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وأعدَّه والده المجتهد ليكون محاميًا ناجحًا. وفي سبيل بلوغ هذه الغاية، تلقَّى لوثر تعليمه في آيزناخ (1498-1501)، ثم في جامعة إيرفرت، في مجال الفلسفة. وفي هذه الجامعة، حصل على درجة البكالوريوس في الآداب في عام 1502، ودرجة الماجستير في الآداب في عام 1505.

ثم سلكت حياة لوثر منعطفًا غير متوقَّع في يوليو عام 1505، عندما كان في الحادية والعشرين من عمره. فقد حوصِر في وسط عاصفة رعدية شديدة، وطُرِح أرضًا بسبب ضربة برق كانت على مقربةٍ منه. وفى وسط رعبه الشديد، صرخ إلى القديسة آنا، الشفيعة الكاثوليكية لعمال المناجم، قائلًا: "أنقذيني أيتها القديسة آنا، وأعدك بأن أصبح راهبًا". وبالفعل، نجا لوثر من العاصفة، وأوفى بنذره الغريب. فبعد تلك الحادثة بأسبوعين، التحق بالدير الأوغسطيني في إيرفرت. أثار هذا غضب والده، لما رآه في ذلك من إهدار واضح للسنوات التي قضاها لوثر في التعلمُّ، لكن لوثر كان عازمًا على الوفاء بنذره.

تائهٌ في برِّه الذاتي

داخل الدير، كان لوثر مدفوعًا بمحاولة نوال قبول الله بأعماله، فكتب يقول:

عذَّبتُ نفسي بالصلاة، والصوم، والسهر، والتجمُّد في البرد الشديد. كان الصقيع وحده كافيًا لقتلي ... لم أكن من خلال أفعالي هذه أطلب شيئًا آخر غير الله، الذي كان من المفترَض أن يلاحظ التزامي الصارم بالنظام الرهباني وتقشُّفي الشديد. كنتُ طوال الوقت وكأني أعيش في حلم، وكنتُ أمارس عبادة حقيقية للأوثان، لأني لم أكن أؤمن بالمسيح. فقد كنتُ أعتبره مجرد قاضٍ وديَّان قاس ومُخيف، جالسًا على قوس قزح.

وفي موضع آخر، تذكَّر لوثر حياته الماضية، وقال: "عندما كنتُ راهبًا، أنهكتُ نفسي بالتضحيات اليومية لمدة نحو خمسة عشر عامًا، وعذَّبت نفسي بالأصوام، والسهر، والصلوات، وغير ذلك من الأعمال القاسية جدًا. وكنت أظن بصدق أن باستطاعتي نوال البرِّ بأعمالي".

وفي عام 1507، رُسِم لوثر كاهنًا. وفي أثناء إقامة أول قداس له، وعندما حمل الخبز والكأس للمرة الأولى، أصابه الذهول والرعب الشديد من فكرة استحالة عنصري الخبز والخمر، لدرجة أنه كاد يفقد وعيه. وقد اعترف بعد ذلك قائلًا: "أصبتُ بالخدر والرعب، وقلتُ لنفسي: من أنا لأرفع عينيَّ أو يديَّ إلى الله العلىِّ والمهوب؟ لأني تراب ورماد، ومليء بالخطية، وقد شرعتُ أكلم الإله الحقيقي والحي والسرمدي". وقد ضاعف هذا الخوف من صراعه الشخصي لأجل نوال قبول الله.

في عام 1510، أُرسِل لوثر إلى روما، حيث أمكنه أن يشاهد بعينيه مدى فساد كنيسة روما. وهناك، صعد "الدرج المقدس" (Scala Santa)، الذي كان يُزعَم أنه هو الدرج نفسه الذي صعد عليه يسوع عندما مثل أمام بيلاطس للمحاكمة. وبحسب الأساطير، نُقِل هذا الدرج من أورشليم إلى روما، وادَّعى كهنة روما أن الله يغفر خطايا الذين يتسلقون هذا الدرج وهم جاثون على ركبهم. وقد فعل لوثر ذلك، مردِّدًا الصلاة الربانية، ومقبِّلًا كل درجة كان يصعدها، إذ كان ينشد السلام مع الله. لكن عندما وصل إلى الدرجة الأخيرة، نظر وراءه وقال لنفسه: "مَن يدري ما إذا كان هذا صحيحًا أم لا؟" فهو لم يشعر بأن هذا جعله أقرب إلى الله.

حصل لوثر على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت من جامعة فيتنبرغ في عام 1512، وتم تعيينه معلِّمًا للكتاب المقدس هناك. ومن اللافت للنظر أن لوثر احتفظ بهذا المنصب التعليمي طوال السنوات الأربع والثلاثين التالية، حتى وفاته في عام 1546. وقد استحوذ عليه طوال الوقت سؤال واحد، هو: كيف يُمكن للإنسان الخاطئ أن يتبرَّر أمام إله قدوس؟

في عام 1517، ابتدأ رحَّالة دومينيكاني يُدعَى جون تيتزل (John Tetzel) يبيع صكوك الغفران في موضع قريب من فيتنبرغ، مقابل غفران الخطايا. بدأت هذه الممارسة السخيفة خلال الحملات الصليبية، بهدف جمع التبرعات المالية للكنيسة. وكان بإمكان عامة الشعب شراء خطابٍ من الكنيسة يُزعَم أنه ينقذ أحباءهم الذين ماتوا من المطهر. وقد استفادت روما بشكل كبير من هذه الخدعة. وكانت العائدات تهدف إلى مساعدة البابا ليو العاشر على دفع تكاليف إنشاء كنيسة القديس بطرس الجديدة في روما.

هذه الإساءة الرهيبة أثارت غضب لوثر، فقرَّر أنه ينبغي عقد مناظرة علنية حول هذه المسألة. وفي 31 أكتوبر 1517، سمَّر لوثر قائمة من خمس وتسعين أطروحة تتعلَّق بصكوك الغفران على الباب الأمامي لكنيسة القلعة في فينتبرغ. وكان تسمير هذا النوع من الأطروحات على باب الكنيسة ممارسة شائعةً في الجدالات والمناظرات الأكاديمية آنذاك. وكان لوثر يأمل في أن يحفِّز ذلك على فتح مناقشة هادئة ومتعقلة بين أعضاء هيئة التدريس، وليس أن يثير ذلك ثورة شعبية. لكنَّ نسخة من أطروحاته وقعت في يد صاحب مطبعة، الذي حرص على طباعتها، ممَّا أدى إلى انتشارها في غضون أسابيع قليلة في كلِّ أنحاء ألمانيا وأوروبا. وأصبح لوثر بطلًا بين ليلة وضحاها. وبهذا الحدث، وُلِد الإصلاح.

اختبار البرج  

من المحتمَل أن لوثر لم يكن حتى ذلك الوقت قد خلص بعد. وفي خضم صراعاته الروحية، أصبح مهووسًا بنص رومية 1: 17، الذي يقول: "لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»". ففيما سبق، كان لوثر يفهم برَّ الله المشار إليه في هذا النص على أنه برُّ الله الفاعل والإيجابي، أي عدل الله المنتقم، الذي به يعاقب الخطية. وعلى هذا الأساس، أقر لوثر بأنه كان يبغض برَّ الله. لكن، بينما كان لوثر جالسًا في برج كنيسة القلعة في فيتنبرغ، تأمَّل في هذا النص مرة أخرى، وصارع ليفهم معناه، فكتب يقول:

مع أنني عشتُ راهبًا بلا لوم، كنتُ أشعر بأنني خاطئ في نظر الله، وكان ضمير يعاني من الاضطراب الشديد. ولم أستطع أن أصدِّق أن تضحياتي كانت ترضي الله. أجل، لم أكن أحب هذا الإله البار الذي يعاقب الخطاة، بل كنت أبغضه. وفي الخفاء، وربما في نوع من التجديف أيضًا، كنتُ شديد التذمر، وكنتُ غاضبًا من الله، وكنتُ أقول: ‘كأنه لم يكن كافيًا أن يُسحَق الخطاة الأشقياء، الهالكون أبديًّا بفعل الخطية الأصلية، تحت كل أنواع البلايا من قبل ناموس الوصايا العشر، حتى يضيف الله ألمًا إلى ألمهم برسالة الإنجيل، مهدِّدًا إيانا من خلالها ببرِّه وغضبه!’. وهكذا، كنتُ أشتعل غضبًا نابعًا من ضمير مضطرب. ومع ذلك، صارعتُ مع بولس بإلحاح لفهم هذا الأمر، راغبًا بشدة في معرفة ما كان القديس بولس يقصده تحديدًا.

أخيرًا، وبرحمة الله، وبعد التأمل نهارًا وليلًا في هذه الكلمات، انتبهتُ إلى سياقها: "لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»". وهنا بدأت أفهم أن برَّ الله المشار إليه هنا هو البر الذي به يحيا البار، بواسطة عطية من الله، هي الإيمان. وبالتالي، كان المعنى المقصود هو: "إن برَّ الله مُعلَن في الإنجيل، وهذا هو البر السلبي الذي به يبرِّرنا الله الرحيم، بالإيمان، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»". وهنا شعرتُ بأنني ولدتُ من جديد كلية، ودخلتُ إلى الفردوس عينه من أوسع أبوابه. وهناك، انكشف أمامي وجه مختلف تمامًا من الكتاب المقدس بأكمله. وبعد ذلك، قمت باستحضار الكتاب المقدس من الذاكرة، فوجدتُ في مفردات كتابية أخرى تشابهًا مع ذلك، مثل عمل الله، أي ما يعمله الله فينا؛ وقوة الله، التي بها يجعلنا الله أقوياء؛ وحكمة الله التي بها يجعلنا الله حكماء؛ وقدرة الله، وخلاص الله، ومجد الله.

يُعَد توقيت تجديد لوثر مثار جدل، حيث يعتقد البعض أنه حدث في وقت مبكر، في عام 1508؛ لكن لوثر نفسه كتب أنه آمن بالمسيح في عام 1519، أي بعد نشره أطروحاته الخمسة والتسعين بعامين. لكنَّ حقيقة تجديده أهم من توقيتها. فقد أدرك لوثر أن الخلاص عطيَّة للمذنبين، وليس مكافأة للأبرار. فالإنسان لا يخلص بأعماله الصالحة، بل باتكاله على عمل المسيح المكتمل. وهكذا، صار التبرير بالإيمان وحده هو العقيدة المركزية للإصلاح.

الهجوم على السلطة البابوية 

تصادم التبرير بالإيمان وحده مع تعليم روما عن التبرير بالإيمان والأعمال معًا. ولذلك، شجب البابا تعليم لوثر، بتهمة ترويج "عقائد خطيرة"، واستدعاه إلى روما. وعندما رفض لوثر الذهاب إلى هناك، جرى استدعاؤه إلى ليبزج في عام 1519، لإجراء مناظرة علنية مع جون إيك، وهو عالم لاهوت كاثوليكي بارز. وفي هذه المناظرة، أكَّد لوثر أن مجمع الكنيسة قابل أن يخطئ، وهي الفكرة التي أثارها أيضًا كلٌّ من جون ويكليف وجون هس.

ثم تابع لوثر حديثه في تلك المناظرة مشيرًا إلى أن سلطة البابا هي اختراع حديث، ومعلنًا بقوة أن مثل هذه الخرافات الدينية تتعارض مع كلٍّ من مجمع نيقية وتاريخ الكنيسة، والأسوأ من ذلك أنها تتعارض مع الكتاب المقدس. وباتخاذ لوثر هذا الموقف، أغضب العصب الرئيسي لروما، أي السلطة البابوية.

في صيف عام 1520، أصدر البابا نشرة بابوية، أي مرسومًا مختومًا بالختم البابوي أو الختم الأحمر. وبدأت هذه الوثيقة كالتالي: "قم يا ربُّ واقضِ في دعواك. فقد اجتاح خنزير بري كرمك". وبتلك الكلمات، كان البابا يصف لوثر بأنه حيوان بلا كابح، يسبِّب الخراب. وحُكِم على واحد وأربعين تعليمًا من تعاليم لوثر بأنها هرطقة، أو تعاليم مخزية، أو كاذبة.

وبذلك، أتيح للوثر ستون يومًا كي يتوب، وإلا حُكم عليه بالعزل الكنسي. لكن، ردَّ لوثر على ذلك بحرق المرسوم البابوي علانيةً. لم يكن هذا سوى تحديًا صريحًا. وكتب توماس ليندسي (Thomas Lindsey) عن ذلك يقول: "من الصعب علينا، نحن الذين نعيش في القرن العشرين، أن نتخيَّل الهرج الذي ساد في أنحاء ألمانيا، بل وفي أنحاء أوروبا كلها، عندما ذاع خبرٌ بأن راهبًا بسيطًا أحرق مرسوم البابا". صار لوثر موضوع حديث الكثيرين، لكنه ظلَّ رجلًا بارزًا في أعين الكنيسة.

اجتماع فورمس: وقفة لوثر 

في عام 1521، قام الإمبراطور تشارلز الخامس، إمبراطور روما المقدَّس الصغير في العمر، باستدعاء لوثر للمثول أمام اجتماع فورمس الذي انعقد بمدينة فورمس بألمانيا، حتى يتوب ويتراجع رسميًّا عن آرائه. ووُضِعت كتابات هذا الراهب المنشق أمامه على طاولة، ثم سُؤِل ما إذا كان مستعدًّا أم لا للتراجع عن التعاليم الواردة في تلك الكتابات. وفي اليوم التالي، ردَّ لوثر بالكلمات التالية التي تحظى اليوم بشهرة واسعة، قائلًا:

"ما لم يقنعني برهانُ الكتاب المقدس أو المنطق الجليُّ (لأني لا أثق سواء في البابا أو في المجامع وحدها، إذ من المعروف جيدًا أنها كثيرًا ما أخطأت وناقضت نفسها)، سأظل مقيَّدًا بالكتاب المقدس الذي اقتبستُ منه في كتاباتي، وضميري أسير كلمة الله. لا أستطيع، بل ولن، أتراجع عن شيء، لأنه ليس من الآمن ولا من الصواب أن أخالف ضميري. لا يمكنني فعل غير ذلك، هنا أقف، وليساعدني الله، آمين".

وأصبحت هذه الكلمات المليئة بالتحدي بعد ذلك هي صرخة معركة الإصلاح.

أدان تشارلز الخامس لوثر، وحكم عليه بأنه مُهرطقٌ، ورصد مكافأة كبيرة لمَن يقدر أن يقتله. وعندما غادر لوثر فورمس، كان أمامه واحد وعشرون يومًا للعبور الآمن إلى فيتنبرغ، قبل أن يصير الحكم ساريًا. وبينما كان لوثر في طريقه، اختطفه بعض أنصاره، خوفًا على حياته، وذهبوا به إلى قلعة فارتبورج. وهناك، ظل لوثر متواريًا عن الأنظار لمدة ثمانية أشهر. وخلال هذه الفترة من العُزلة، بدأ لوثر مشروع ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية، أي لغة عامة الشعب. وبهذا العمل، انتشرت نيران الإصلاح على نحو أسرع.

في 10 مارس عام 1522، أوضح لوثر في إحدى عظاته سبب النجاح المتزايد للإصلاح. ففي ثقة قوية منه في كلمة الله، قال: "ببساطة، أنا عَلَّمتُ كلمة الله، ووعظتُ بها، وكتبتُها، وفيما عدا ذلك، لم أفعل شيئًا آخر. وبينما كنتُ نائمًا ... أضعفت كلمة الله من البابوية كثيرًا حتى لم يستطع أي أمير أو إمبراطور أن يَلحَق بها أية خسائر. لم أفعل شيئًا، بل إن كلمة الله هي التي فعلت كلَّ شيء". فقد رأى لوثر أن الله استخدمه بوقًا للحق.، وأن الإصلاح لم يتأسَّس عليه هو أو على تعاليمه، بل على الكتاب المقدس وحده الذي لا يتزعزع.

في عام 1525، تزوَّج لوثر من كاثرين فون بورا. كانت هذه السيدة المدهشة راهبة منشقة، كرَّست نفسها لدعم قضية الإصلاح. وقد تخلَّى الاثنان عن نذور الرهبنة كي يتزوجا. كان لوثر آنذاك في الثانية والأربعين من عمره، وكانت كاثي في السادسة والعشرين من عمرها. وقد أثمر زواجهما عن ستة أولاد. وعاش لوثر حياة عائلية سعيدة للغاية، سهَّلت عليه أداءه متطلبات خدمته.

ظلَّ لوثر، حتى نهاية حياته، يعمل باجتهاد شديد في تقديم المحاضرات، والوعظ، والتعليم، والكتابة، والمناظرة. وكان ثمن هذا الجهد الذي بُذِل في سبيل الإصلاح باهظًا سواء جسديًا أو معنويًا. وكانت كلُّ معركة يخوضها تجرِّده من شيء، وتتركه أضعف من المعركة التي قبلها. وبالتالي، سرعان ما أصبح عُرضة للإصابة بالأمراض. وفي عام 1537، اشتدَّ مرض لوثر، لدرجة أن أصدقاءه خشوا أن يموت. وفي عام 1541، أصابه المرض ثانيةً، وصار في حالة خطيرة. وفي تلك المرة، اعتقد لوثر نفسه أنه على وشك الرحيل عن هذا العالم، لكنه تعافى مرة أخرى. ثم أصيب بالعديد من الأمراض المختلفة طوال سنواته الأربعة عشر الأخيرة، منها حصوات بالمرارة، بل وفقدان إحدى عينيه للبصر.

أمين إلى المنتهي

في أوائل عام 1546، سافر لوثر إلى أيسلبن، مسقط رأسه، ووعظ هناك، ثم ذهب إلى مانسفيلد. كان شقيقان، هما نبيلا مدينة مانسفيلد، قد طلبا منه أن يحكم بينهما في خلاف عائلي. وقد سُرَّ لوثر جدًا عندما تصالح هذان الشقيقان.

وفي ذلك المساء نفسه، مرض لوثر. وخلال هذه الليلة، سهر أبناء لوثر الثلاثة – جوناس، ومارتن، وبول - وبعض الأصدقاء الآخرين إلى جانبه؛ ثم سألوه قائلين: "أبانا المُوقَّر، هل لا زلتَ متمسكًا بالمسيح وبالتعليم الذي قدَّمتَه؟" وكان جواب هذا المُصلح هو "نعم" واضحة وصريحة. ثم توفي لوثر في الساعات الأولى من يوم 18 فبراير 1546، على مسافة قريبة جدًا من جرن المعمودية الذي اعتمد فيه وهو طفل رضيع.

ثم نُقِل جثمان لوثر إلى فيتنبرغ، فيما اصطف آلاف المشيِّعين على الطريق، وقُرِعت أجراس الكنيسة. ودُفِن لوثر أمام منبر كنيسة القلعة في فيتنبرغ، وهي الكنيسة نفسها التي كان قد سمَّر على بابها، قبل ذلك بتسعة وعشرين عامًا، أطروحاته الخمسة والتسعين الشهيرة.

ولدى وفاة لوثر، كتبت زوجته كاثرين عن تأثيره الدائم والكبير على العالم المَسِيحِيّ قائلة: "من ذا الذي قد لا يحزن أو يتألم إثر فقدان رجل عظيم مثل زوجي العزيز؟ فقد حقق هذا الرجل أمورًا عظيمة ليس فقط لأجل مدينة أو أرض واحدة، بل لأجل العالم بأسره". كانت كاثرين على حق؛ فقد دوى صوت لوثر في كلِّ أنحاء القارة الأوروبية في أيامه، وتردَّد صداه أيضًا في كلِّ أنحاء العالم عبر القرون منذ ذلك الحين.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.

ستيفن لوسان
ستيفن لوسان
الدكتور ستيفن لوسان هو مؤسس هيئة خدمات وانباشون (OnePassion). وهو عضو هيئة التدريس في خدمات ليجونير، ومدير برنامج الدكتوراه في الخدمة في كلية لاهوت (The Master’s Seminary)، ومدير لمعهد الوعظ التفسيري. وقد كتب أكثر من عشرين كتابًا.